الفصل التمهيدى
فى
مقدمات الوصية
تمهيد :
قدمنا أن الوصية خلافة اختيارية مؤجلة يقررها الشخص فى ماله بغير عوض، فهى من قبيل العطايا المضافة إلى ما بعد الموت، غير أنها – على التحقيق – أعم من ذلك.
وفى بياننا لمقدمات الوصية نعرف بها، ثم نعرض بإيجاز للتطور التاريخى لهذا التصرف، ثم نبين حكم الوصية وحكمه مشروعيتها، ثم نبرز أهم أوجه الافتراق بين الوصية والإرث.
وقد أبرزنا فيما سبق أوجه التمايز بين الوصية والهبة والوقف – وأخيرا نورد تعليقا موجزا على القانون المطبق على الوصية فى مصر.
المبحث الأول
التعريف بالوصية
1- الوصية فى اللغة :
الوصية اسم فعله وصى، والأصل فيه وصل شئ بشئ يقال وصيت الشئ وصلته، فكأن الموصى لما أوصى بها وصل ما بعد الموت ما قبله فى نفوذ التصرف.
وتطلق الوصية ويراد بها التقدم إلى الغير بما يعمل به مفترنا بوعظ وقد تطلق الوصية ويراد بها : الشئ الموصى به، كما فى قوله تعالى "من بعد وصية توصون بها أو دين"( ).
2- الوصية فى الاصطلاح الفقهى :
تتعدد تعريفات الفقهاء للوصية حتى أننا لنجد أصحاب المذهب الواحد يعرفونها بأكثر من تعريف.
فالإمام الكرخى من الحنفية يعرفها بأنها "ما أوجبه الموصى فى ماله تطوعا بعد موته، أو فى مرضه الذى مات فيه( ).
بينما يعرفها الكاسانى – وهو من الحنفية أيضا – بأنها "اسم لما أوجبه الموصى فى ماله بعد موته"( ).
وقال بعضهم : هى "تبرع مضاف إلى ما بعد الموت"( ).
وعلى هذا الأخير أكثر المذاهب الأخرى( ).
وقد انتقدت هذه التعريفات جميعها، لأنها تفتقد الشمول والضبط والدقة، ومن ذلك :
أن تعريف الكرخى يدخل تبرعات المريض مرض الموت فى الوصايا عند إنشائها، وهذا لا يتفق مع الوضع الفقهى لها، لأن الذى يقرره الفقهاء تبرعات المريض المنجزة فى حال مرضه تأخذ فى إنشائها حكم الهبات فيشترط لتكوينها ما يشترط فى الهبات ولكنها فى المآب تأخذ حكم الوصية إن استوفيت عند إنشائها شروط الهبة، بحيث إذا لم تستوف هذه الشروط عند الإنشاء تبطل، ولا يكون لها حكم الوصايا بعد الوفاة( ).
والشطر الأول من تعريف الكرخى، وتعريف الكاسانى، يرد عليهما أنهما لا يشملان الوصايا التى لا تنتقل فيها ملكية الشئ الموصى به إلى الموصى له، كالوصية بتأجيل الدين، أو إسقاطه عن المدين، والوصية بتقسيم التركة بين الورثة، وهذا النقد يرد على التعريفات الأخرى( ).
كما يرد على جميع التعريفات أنها لا تشمل الوصايا التى لا تبرع فيها، كالوصية بأداء واجبات ثبتت بإيجاب الشرع على الموصى، كالوصية بأداء الزكاة أو الحج عنه( ).
ولهذا القصور فى تعريفات السلف بارك المحدثون التعريف القانونى للوصية لما تميز به من شمول وضبط.
3- الوصية فى القانون :
عرفت المادة الأولى من قانون الوصية رقم 71/1946 الوصية بأنها "تصرف فى التركة مضاف إلى ما بعد الموت".
ولما كان التصرف فى العرف الشرعى يعنى "الكلام الملزم شرعا"( ) فإن هذا الاصطلاح يعم كافة التصرفات المضافة إلى ما بعد الموت ولا يقصرها على التبرعات، أو التمليكات فحسب، وإنما يشمل صورا أخرى غيرها، كالإسقاطات المحضة، أو فى معنى التمليك( ) وكذا الوصية بحق، كالوصية بتأجيل الدين إلى أجل معين، والوصية بأداء حق من حقوق الله تعالى، والوصية بتقسيم التركة بين الورثة على وجه معين.
ولفظة "تركة" الواردة فى التعريف تفسر على حسب ما سيأتى فى المواريث، فهى المنافع والحقوق المالية بصفة عامة.
وعبارة "مضاف إلى ما بعد الموت" تعنى أن التصرفات المنجزة فى الصحة، كالهبة، ليست من قبيل الوصايا، كما تعنى أن تبرعات المريض مرض الموت المنجزة لا تأخذ حكم الوصايا، إلا فى المآب.
المبحث الثانى
التطور التاريخى لنظام الوصية
نظام الوصية أو الخلافة الاختيارية فى المال نظام قديم، وتشير الدراسات إلى أنه قبل أن تستقر أحكام المواريث كانت الوصية هى النظام المتبع فى تمليك الأموال بعد الوفاة.
فقد عرف هذا النظام عند المصرين القدماء، وكانت صورته الغالبة الوصية لأى شخص بكل المال أو جزئه بشرط أن تكون الوصية مكتوبة، وأن ينص فيها على أن الموصى قد أبرمها فى حياته، وفى حال صحته.
كما عرف الرومان هذا النظام، وصورته التى انتهى العمل إليها أن الحد الأقصى للوصية هو ثلاثة أرباع التركة، أما الربع الباقى فيتعين أن يكون للورثة الجعليين، وبمقتضى نظام الوصية يحل الموصى له محل الموصى ليس فقط بعد مماته، وإنما فى حياته أيضا، ويلزم لصحة الوصية أن يوقع على صحيفتها سبعة شهود( ).
كما عرف العرب قبل الإسلام نظام الوصية وكانت وصاياهم تصدر على نحو ما ألفوه من المباهاة والمفاخرة، ومن ثم فقد يوصى الشخص بكل ماله إلى بعيد لم تربطه به صلة من قرابة حقيقية تاركا أقرب الناس إليه فى فقر مدقع.
فلما جاء الإسلام عمد إصلاح هذا النظام البالغ الجيف على نحو تدريجى حتى تتقبله النفوس.
1- فدعاهم أولا إلى البر بالوالدين والإحسان إلى الأقارب بصفة عامة، قال تعالى" يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فالوالدين والأقربين"( ).
2- ثم أقر الإسلام مبدأ الوصية مقيدا هذا النظام بشرط واجب وهو أن تكون الوصية للوالدين والأقربين بالعدل، قال تعالى "كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين( ) فأوجب الوصية للوالدين والأقربين مع حق الموصى فى الاجتهاد والنظر فى قدر ما يوصى به ما لم يكن فيه وكسولا شطط، فضلا عن حقه فى الوصية لغير هؤلاء من الأجانب والأصدقاء( ).
3- وبعد أن استقر فى النفوس حق الوالدين والأقربين فيما يتركه الميت نسخت الوصية المطلقة بالوصية المقيدة فى حدود الثلث، أما باقى التركة – وهو الثلثان – فقد جعله الإسلام حقا للورثة محددا إياهم بنصوص من الكتاب والسنة( ).
ومن هنا فإن نهاية المطاف فى تشريع الوصية أنها أصبحت جائزة – أو مندوبة – فى حدود ثلث التركة فقط، بعد أن تولى الله تشريعا وتقديرا على لسان نبيه ، قال "إن الله قد أعطى كل ذى حقه فلا وصية لوارث"( ).
وقال لسعد بن مالك "الثلث والثلث كثير"( ) على ما سنعرف تفصيلا فيما سيأتى.
المبحث الثالث
حكم الوصية وحكمة مشروعيتها
أولا : ثبتت مشروعية الوصية بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين، أما الكتاب فقوله تعالى "كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت أن ترك خيرا الوصية…"( ) وقوله "من بعد وصية يوصى بها أو دين.."( ).
والمعنى : إذا قرب حضور الموت – بظهور إمارته أو سببه – وكان للشخص خير – أى مال – فليوص، وتنفذ وصيته قبل توزيع ما ترك على ورثته.
ومن السنة : ما روى الشيخان عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما أن رسول الله قال "ما حق امرئ مسلم له شئ يوصى فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده"( ).
وما روى البخارى وغيره عن سعد بن أبى وقاص قال : جاءنى رسول الله يعودنى عام حجة الوداع من وجع اشتد به فقلت : يا رسول الله : قد بلغ بى من الوجع ما ترى، وأنا ذو مال ولا يرثنى إلا ابنة، أفاتصدق بثلثى مالى؟ قال: لا، قلت : فالبشطر – النصف – يا رسول الله؟ قال: لا، قلت: فبالثلث؟ قال: الثلث والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس"( ).
وعلى مشروعية الوصية أجمع العلماء فى جميع الأعصار والأمصار( ).
ثانيا : وما لم تكن الوصية بمعصية، أو بما يزيد على الثلث، أو لفاسق يخشى منه إنفاقها فى أوجه الفسق، فإن الوصية جائزة( ).
ويأخذ الجواز صفة الوجوب إذا كان عدم القيام بالوصية يؤدى إلى تفويت حق من حقوق الله تعالى المالية الواجبة، أو تفويت حق من حقوق العباد الواجبة.
فمن لم يؤد الزكاة يجب عليه أن يوصى بأدائها، وكذا من كان عليه دين، أو عنده وديعة ولم تكن هناك وسيلة إثبات شرعية على ذلك الدين أو هذه الوديعة، فليوص بالخروج منه، لأن الله تعالى فرض أداء الأمانات، وطريقة فى هذين الفرضين الوصية فتكون مفروضة عليه( ).
ثالثا : فإذا لم تكن الوصية بمعصية، أو بما يزيد على الثلث، ولم يكن فى عدم القيام بها تفويت حق – على ما رأينا – فإن العلماء مختلفون فى حكم مشروعيتها ونستعرضه على النحو التالى :
1- وصية من له مال وليس له ورثة محتاجون :
أ- يرى جمهور العلماء : أن مثل هذا تستحب له الوصية ولا تجب، وذلك لأن الله قال فى آية الوصية "حقا على المتقين" ولو كانت الوصية فرضا لكان على جميع المسلمين، فلما خص الله من يتقى، أى يخاف تقصيرا دل على أنه غير لازم"( ).
ولأن أكثر الصحابة – وهم كما نعلم خير القرون بشهادة النبى - لم ينقل عنهم وصية، ولم ينقل على ذلك نكير، ولو كانت الوصية واجبة ما لاق بأكثرهم الترك"( ).
ولأن الوصية عطية والعطايا لا تجب فى الحياة فلا تجب بعد الموت.
ب- ويرى بعض العلماء : أن الوصية بجزء من المال واجبة مطلقا لقوله تعالى "كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خير الوصية"، قال الزهرى: جعل الله الوصية حقا – أى ثابتا واجبا – مما قل أو أكثر.
وقال آخرون : نسخت الوصية للوارثين وبقيت فيمن لا يرث من الأقربين.
ولما روى ابن عمر أن النبى قال "ما حق امرئ مسلم له شئ يوصى فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده".
وفى رواية "لا يحل لامرئ مسلم……الخ الحديث".
فهذا يدل على وجوب الوصية، لأن النهى عن الشئ أمر بضده( ).
ج- والصحيح : أن آية الوصية منسوخة بآيات المواريث، وعلى قول من يرى نسخ القرآن بالسنة فإن قول النبى "إن الله قد أعطى كل ذى حق حقه فلا وصية لوارث" ينسخها أيضا( ).
أما حديث ابن عمر فهو محمول على الوصية بالأمور الواجبة كالحقوق التى تفوت ما لم يوص بأدائها، أو يقال إن حديث ابن عمر "ما حق" يقتضى الحث والحث يشمل الواجب والمندوب، فتجب فيما يجب أداؤه وتندب فيما وراء ذلك( ).
2- وصية من له ورثة محتاجون :
ومثل هذا يرى أكثر العلماء : أن الوصية لا تستحب له. لقول النبى لسعد "إنك إن تدعهم أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس"، ولقوله "ابدأ بنفسك ثم من تعول"( ).
وروى عن على – كرم الله وجهه – أنه قال لرجل أراد أن يوصى "إنك لن تدع طائلا، إنما تركت شيئا يسيرا فدعه لورثتك" ومثله يروى عن عروة بن الزبير رضى الله عنهما( ).
ولأن إعطاء القريب المحتاج خير من إعطاء الأجنبى.
ويرى بعضهم : أن حكم الوصية لا يختلف بقلة المال وكثرته، فليوص – استحبابا – من القليل قليلا ومن الكثير كثيرا، لأن المقصود بالخير فى الآية المال، وهو يصدق على القليل والكثير( ).
وفى رأيى : أن الثانى أوجه لمصلحة الموصى وتدارك ما فاته من أعمال الخير والبر.
رابعا : الحكمة فى مشروعية الوصية :
على ما يظهر لى فإن الأصل فى الشريعة الغراء أن الشراع الحكيم هو الذى يتولى أمر الخلافة فى مال الميت وينظمها، وخروجا على هذا الأصل شرع الله الوصية فأجاز للشخص أن يستخلف من يرى فى القدر الذى حدده الشارع وفى حدود صفة الموصى له، مع مراعاة الباعث( ) على تلك الخلافة الاختيارية وطبقا للشروط المقترنة بهذا التصرف، وذلك لأسباب منها :-
1- تدارك الموصى لما فاته من أعمال الخير والبر، ومكافأة من عاونة وناصره من غير أقاربه فى الحياة الدنيا، على أن يكون فى ذلك غير متجانف لإثم، ولا قاصدا أمرا محرما، وإعانة للشخص على ذلك شرع الله له هذا الباب، فقال نبيه صلى الله عليه وسلم "إن الله تبارك وتعالى تصدق عليكم بثلث أموالكم فى آخر أعماركم زيادة لكم فى حسناتكم فقدموه حيث شئتم"( ).
2- تقوية الصلات الاجتماعية دون ضرر يعود على الشخص فى حياته، فقد يرغب الإنسان فى مساعدة الأقرباء غير الورثة، والأحباب، ولكنه يخشى أن يحتاج إلى المال المتبرع به حال حياته، ولما كانت الوصية عقدا غير لازم يجوز للشخص الرجوع فيه متى شاء، وكانت لا تنتقل الملكية بها إلا بعد الموت، فإنها تحقق الرغبة، ولا تدخل الرهبة.
المبحث الرابع
الوصية والميراث
تشبه الوصية الميراث فى أن الموصى له لا يخلف الموصى إلا بعد موته وكذلك الوارث يخلف المورث بعد موته.
كما أن كلا من الوصية والميراث من الحقوق المتعلقة بالتركة.
ولكن الميراث والوصية يفترقان من نواح عدة :
1- الميراث حق شرعى يثبت للوارث بوفاة المورث، ويتعلق بالباقى من التركة بعد التجهيز وسداد الديون، وتنفيذ الوصايا ولا دخل للمورث فى تحديد المستحق، ولا قدر استحقاقه.
أما الوصية فتصرف إنشائى من الموصى نفسه حال حياته فى جزء من ماله، أن يخص به من يشاء، وبالقدر الذى يرى – فى الحدود المعتبرة شرعا – وله أن يعدل هذا المقدار بالزيادة والانتقاص، وتتعلق الوصية بالتركة قبل توزيعها على المستحقين بالإرث.
2- الإرث خلافة إجبارية لا يتوقف على إيجاب من المورث ولا قبول من الوارث، أما الوصية فخلافة اختيارية فى إنشائها وقبولها.
3- لا يملك الوارث رد الموروث، بل يدخل فى ملكه جبرا عنه أحب أم كره، أما الموصى له فيملك رد الوصية، فإن فعل بطلت.
4- اختلاف الدين يمنع الإرث، ولا يمنع الوصية.
5- الورثة محددون، ومحددة أنصبتهم، وهى فى الأصل أجزاء شائعة فى التركة كالنصف والربع………الخ.
أما الموصى له فلم يحدده الشارع، ولم يعين نصيبه فى القدر الذى تنفذ فيه الوصية، وهذا القدر قد يكون حصة شائعة فى التركة وقد يكون عينا معينة وكل ذلك حسب تقدير الموصى ومشيئته.
المبحث الخامس
القانون المطبق على الوصية فى مصر
قبل سنة 1946كانت أحكام الوصية تطبق وفق أرجح الأقوال فى مذهب الإمام أبى حنيفة النعمان رضى الله عنه.
وقد جمع العلامة محمد قدرى باشا هذه الأحكام فى صورة مواد قانونية فصاغ منها نحو 29 تسع وعشرين مادة فى الوصية خاصة، وتحت عنوان فى تصرفات المريض أورد اثنتى عشرة مادة، وهى شديدة الصلة بأحكام الوصية، فيما خلا المادة الأولى منها والتى تنص على أن "التصرف الإنشائى المنجز الذى فيه معنى التبرع إن صدر من أهله فى حال صحة المتبرع ينفذ من جميع ماله".
وفى ديسمبر من سنة 1936شكلت لجنة قامت بوضع مشروعات قوانين الوقف والوصية والإرث، وفى 24يونية من سنة 1946صدر القانون رقم 71لسنة 1946 بإصدار قانون الوصية، ونشر بالجريدة الرسمية فى 1/7/1946، ونص فى المادة الثانية من قانون الإصدار على أن يعمل به بعد شهر من تاريخ نشره، ومن ثم فإن كافة المنازعات الحاصلة بدءا من أول أغسطس 1946 تخضع لأحكام هذا القانون، أما المنازعات السابقة على هذا التاريخ فيفصل فيها وفقا لأرجح الأقوال فى المذهب الحنفى.
ووفقا لنص المادة الأولى من قانون الإصدار فإن الأحكام التى قررها قانون الوصية تطبق على جميع المصريين أيا كانت ديانتهم؛ وهذا على خلاف ما كان يجرى عليه العمل قبل صدور هذا القانون، حيث كان غير المسلمين يخضعون لأحكام شريعتهم الخاصة، ما لم يكن أطراف الخصومة مختلفى الملة أو الطائفة فيطبق عليهم الراجح من مذهب أبى حنيفة.
وأخيرا فإن المذكرة الإيضاحية للقانون 71 لسنة1946 تصرح أنه نص فى هذا القانون يحكم المنازعة فإنه يجب الرجوع إلى أرجح الأقوال فى مذهب الإمام أبى حنيفة.
الباب الأول
أركان الوصية
تمهيد :
على حسب تعريف القانون الوصية بأنها "تصرف فى التركة مضاف إلى ما بعد الموت" فإن الوصية تعتبر من قبيل التصرفات، وعلى ما هو مفصل فى نظرية العقد فى الفقه الإسلامى فإن التصرف أعم من العقد، على أحد الإطلاقين لمقصود العقد فى الفقه الإسلامى؛ هذا الإطلاق الذى يقرر أن العقد هو "ربط بين كلامين ينشأ عنه حكم شرعى بالتزام لأحد الطرفين أو لكليهما"( ) وهو ما يتفق مع تعريف الفقه القانونى للعقد بأنه "توافق إراداتين أو أكثر على إحداث أثر قانونى من إنشاء التزام أو نقله أو تعديله أو إنهائه"( ).
ولكن للفقهاء إطلاقا أخر للعقد أعم من الإطلاق السابق، إذ يطلقون العقد على "كل تصرف شرعى سواء أكان ينعقد بكلام طرف واحد أم لا ينعقد إلا بكلام طرفين "بل إن كل ما عقد الشخص العزم عليه فهو عقد( ).
فعلى أساس الإطلاق الأول للعقد فإن الوصية لا تعتبر عقدا لأنها – كما تنص المادة الثانية فقرة "1" من قانون الوصية – تنعقد بالعبارة أو بالكتابة، فإذا كان الموصى عاجزا عنهما انعقدت الوصية بإشارته المفهمة" حيث أناطت المادة المذكورة إنشاء الوصية بعبارة أو كتابة، أو إشارة الموصى وحده دون توقف على إرادة الموصى له، وعلى هذا التوجه فإن الوصية تنشأ بإرادة منفردة( ).
وعلى أساس الإطلاق الثانى فإن الوصية تعتبر عقدا لأنها تعنى "إلزام الموصى نفسه الوفاء بأمر فى المستقبل" والالتزام كما يقع باتفاق مع شخص آخر، فإنه يقع بإلزام الشخص نفسه، غاية الأمر أن القبول فى عقد الوصية مستثنى من اشتراط القبول فى مجلس العقد( ).
والحقيقة أن الفقهاء درجوا على أن الوصية من العقود، وهذا مصير منهم إلى اعتبار الإطلاق الثانى فى هذا الخصوص، وإن كان ذلك لا يغير من الأحكام كما سترى، إلا فيما يتصل بقبول الموصى له هل هو ركن أم شرط؟
وهذا الملحظ الأخير يجرنا إلى الخلاف الشهير فى أركان العقد، هل هى المتعاقدان والمعقود عليه والصيغة؟ فلابد منها جميعا لنشأته، حيث إن الركن هو ما لا يقوم الشئ إلا بوجوده، فلا تنشأ الوصية – مثلا – إلا بصيغة من موص لموصى له وبعين موصى بها، أم أن الوصية – كصيغة – فقط هى الركن، وما عداها فمقتضيات لها حيث لا يتصور وجود الصيغة إلا من طرفين، تتصرف إرادتهما أو إرادة أحدهما مع قبول الأخر إلى إحداث أثر فى محل هو المعقود عليه؟
وتحقيقا فإن هذا الخلاف نظرى، لا يترتب عليه أثر حقيقى، لأن الجميع متفقون على أنه لا يتصور وجود العقد عند فقد الصيغة، أو الموجب، أو القابل، أو المعقود عليه، فسواء أكانت الثلاثة الأخيرة أركانا مع الصيغة أو من مقتضياتها فالأثر واحد.
وفى حديثنا عن تكوين الوصية نتناول :-
الفصل الأول : الصيغة.
الفصل الثانى : الموصى.
الفصل الثالث : الموصى له.
الفصل الرابع : الموصى به.
محددين المقصود بكل منها، مبينين ما يجب توافره فى كل منها من شروط.
الفصل الأول
الصيغة
ويعبر عنها فى الفكر القانونى بــ"التعبير عن الإرادة"، وقد اتفق الفقهاء على أن الصيغة هى ركن العقد، وجانبه الأقوى الذى يعتمد عليه فبدونها لا يوجد ولا تقوم له قائمة( ).
وهذا أمر طبيعى لأن الصيغة إفصاح عن مكنون النفس الذى لا يعلم به إلا الله ثم صاحب النفس، ولا علم لبقية الناس به، فكان لابد من إقامة ما يدل على هذا المكنون أو الرضا القلبى من دلائل ظاهرة تحقيقا لاستقرار التعامل بين الناس( ).
وقد اصطلح فقهاء الشريعة على إطلاق لفظ الصيغة على الأقوال والأفعال التى تصدر عن المتعاقد، كما اتفقوا على أن الصيغة تتكون من شطرين هما الإيجاب والقبول، كمبدأ عام، واستثناء من هذا المبدأ فإن بعض التصرفات تنشأ بإيجاب فقط.
والصيغة قد تكون مطلقة، أو معلقة على شرط، أو مقترنة به، كما يثار التساؤل عن حكم إضافتها إلى الزمن، وفى ظل الأخذ بنظام الشهر العقارى يثار التساؤل عن مدى كفاية الرضا فى تمليك العقار، ولاحتمال الاختلاف فى الرجوع عن الوصية أو فى ردها يثار التساؤل عن شروط سماع الدعزى القضائية فى هذين الفرضين.
وفى هذا المبحث نعالج أحكام الصيغة فى عقد الوصية على النحو التالى.
المبحث الأول
صيغة الوصية
المطلب الأول
قوام صيغة الوصية هو الإيجاب
أشرنا إلى أن شطرى الصيغة هما الإيجاب والقبول، ولكن بعض التصرفات تنشأ بالإيجاب وحده، باعتباره الركن الجوهرى فيها، أو الركن الوحيد المنشئ لها، فهل تعتبر الوصية من التصرفات التى تندرج تحت المبدأ العام، أم أنها من المستثنيات؟
1- يرى جمهور الحنفية : أن الوصية عقد يفتقر إلى القبول( )، وقبل وجود القبول لا وجود للوصية، كسائر العقود الأخرى المفيدة له فى أنه لابد فيها من الإيجاب والقول.
وعلى ما ذهب إليه جمهور الحنفية فإن ركن الصيغة لا يتحقق إلا بالإيجاب والقبول، جاء فى البدائع "وأما ركن الصيغة فقد اختلف فيه، قال أصحابنا الثلاثة – رحمهم الله – هو الإيجاب والقبول، الإيجاب من الموصى، والقبول من الموصى له، فما لم يوجدا جميعا لا يتم الركن، وإن شئت قلت: ركن الوصية هو الإيجاب من الموصى، وعدم الرد من الموصى له، وهو أن يقع اليأس من رده، وهذا أسهل لتخريج المسائل على ما نذكر"( ).
وسند الجمهور فى اعتبار الإيجاب والقبول معا لتحقق الصيغة له من النقل والعقل :-
فمن النقل : قول الله تعالى "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى"( ).
فالآية تفيد أن الإنسان لا يكون له شئ بدون سعيه، فإذا ثبت للموصى له ملك الموصى به بدون قبوله لثبت سعيه، وهو ما لا تجيزه الآية.
ومن المعقول : أنه لا شئ يدخل فى ملك الإنسان جبرا عنه إلا الميراث بمقتضى نص الشارع الحكيم، فكان إدخال الموصى به دون قبول الموصى له زيادة على النص، والزيادة على النص لا تجوز.
ولأن من مصلحة الموصى له أن يعطى حق الرد دفعا لضرر المنة، أو لاحتمال أن تكون مؤنة الموصى به أكثر مما فيه من نفع أو تلزمه مؤنة دون نفع، كما لو أوصى بحيوان مريض مثلا فإنه يغرم نفقة علاجه دون نفع، أو جزاء نفع أقل من النفقة( ).
2- وعلى خلاف ما يرى جمهور الحنفية ذهب الإمام زفر بن الهذيل من الحنفية إلى عدم اعتبار القبول ركنا فى الوصية، وهو قول جمهور العلماء فى المذاهب الأخرى( ).
واستدل زفر ومن معه على هذا الرأى بالقياس على الإرث بجامع انتقال الملكية بالموت فى كل من الوصية والإرث، والإرث لا يتوقف على قبول من الوارث، فكذا الوصية لا تتوقف على قبول الموصى له.
والحق أن هذا قياس مع الفارق لأن الإرث خلافة إجبارية تثبت بحكم الشارع الحكيم؛ أما الوصية فاستخلاف اختيارى من الموصى، ومعلوم أن الشارع يملك الإلزام، أما الموصى فلا يملكه دفعا لما يمكن أن يلحق الموصى له من ضرر( ).
ومع هذا فإن ما يذهب إليه الإمام زفر ومن معه من القول بركنيه الإيجاب فقط فى الوصية لا يخلو من وجاهة لأن الوصية لا تخرج عن كونها تبرعا من التبرعات، والتبرعات يكفى فى وجودها شرعا ما يصدر من المتبرع وحده وهو الإيجاب، وليس بلازم أن يكون شرطا لثبوت الملك له( ).
موقف قانون الوصية : أخذ قانون الوصية بقول زفر ومن معه، حيث نص فى الفقرة الأولى من مادته الثانية على أن "تنعقد الوصية بالعبارة أو بالكتابة، فإذا كان الموصى عاجزا عنهما انعقدت الوصية بإشارته المفهمة".
فعلى هذا النص فالوصية تنشأ بإيجاب من الموصى، فيكون الإيجاب هو الركن، أما القبول فهو مجرد شرط فى لزوم الوصية كما تنص على ذلك المادة (20) من قانون الوصية التى تقضى بأنه "تلزم الوصية بقبولها من الموصى له صراحة أو دلالة بعد وفاة الموصى".
فالنص الأول يوضح أن الوصية توجد بما يصدر من الموصى وحده، ويوضح النص الثانى أن القبول يأتى بعد وجود الوصية، لأن اللزوم أمر زائد على أصل العقد ولو كان القبول ركنا للوصية لما وجدت قبل وجوده.
وبهذا قال الحسن وأبو قلابة والشافعى وأبو ثور وأصحاب الرأى، لأن الحكم لا يجوز برؤية خط الشاهد بالشهادة بالإجماع فكهذا ههنا"( ).
بينما يرى الإمام مالك ورواية عن الإمام أحمد وهو قول بعض العلماء أن الكتابة تقوم مقام العبارة، إذا عرف أن الخط للموصى، وكان مشهور الخط( ).
وتمسك القائلون بذلك بقول النبى صلى الله عليه وسلم وفعله وما أثر عن الصحابة والتابعين مما يشهد لقولهم.
فمن قول النبى صلى الله عليه وسلم "ما حق امرئ مسلم له شئ يوصى فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده"( ).
حيث لم يرد فيه ذكر لكتابتها بحضرة الشهود أو قراءتها عليهم.
كما أن النبى صلى الله عليه وسلم والخلفاء المهديين من بعده يبعثون إلى الولاة بالأحكام التى فيها الدماء والفروج والأموال( ) يبعثون بها مختومة لا يعلم حاملها ما فيها، ويمضيها( ) الولاة على وجوهها، فلو كانت القراءة أو الكتابة بحضرة الشهود لازمة ما صحت هذه الرسائل، ولكن المراد وقوعها دليل على صحتها( ).
كما أثر عن عاصم بن عمر بن الخطاب رضى الله عنهما أنه كان إذا أراد سفرا كتب وصيته، وختمها ثم دفعها إلى سالم بن عبد الله بن عمر، قال اشهدوا على ما فيها – دون أن يبينه – إن حدث بى حدث.
وفى رأيى : أن المذهب الثانى أصح للأدلة الشرعية التى تشهد له، فضلا عن أن الموصى قد يرغب فى ستر موضوع وصيته أو شخص الموصى له لمصلحة يقدرها، فإذا ألزمناه التلفظ بما أوصى وبشخص الموصى له فقد نضربه خاصة إذا كانت الوصية أو الموصى له محل رفض الورثة المحتملين.
2- وكما وقع الخلاف فى قيام الكتابة مقام العبارة حال القدرة على الثانية، وقع الخلاف فى قيام الإشارة مقام العبارة أو الكتابة أو كليهما مع القدرة على إحداهما أو كليهما.
فجمهور الفقهاء على أن شرط التعبير بالإشارة العجز عن النطق والكتابة معا، لأن الإشارة أضعف فى الدلالة من النطق والكتابة، ولا يعدل عن الأقوى إلى الأضعف من طرق الإفهام ما دام الإفهام ممكنا بالأقوى( ).
بينما سوى المالكية بين الإشارة والعبارة فى الوصية فأجازوا للقادر على النطق أن يعقد الوصية بالإشارة، لأن الوصية من قبيل التبرعات، والتبرعات ينبغى التوسع فيها( ).
وقريب من مذهب المالكية ما ذهب إليه الأحناف فى رواية الجامع الصغير من إقامة الإشارة مقام العبارة للعاجز عنها حتى وإن كان قادرا على الكتابة، لاستواء الكتابة والإشارة فى الترخيص بهما عند العجز عن اللفظ( ).
وفى رأيى : فإن ما يذهب إليه الجمهور هو الأقوى، لأن الإشارة بالغة فى الإفهام ما بلغت تظل محتملة، والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال، ولكن يصار إلى الأخذ بها للضرورة والضرورة تقدر بقدرها، حفظا للحقوق واستقرارا للمعاملات.
موقف قانون الوصية من الاتجاهات الفقهية السابقة : تنص المادة 2/1 من قانون الوصية على أن "تنعقد الوصية بالعبارة أو بالكتابة، فإن كان الموصى عاجزا عنهما انعقدت الوصية بإشارته المفهمة".
وواضح من النص أن القانون سوى بين العبارة "اللفظ" والكتابة فى انعقاد الوصية أخذا فى ذلك بما نقل عن الإمام مالك ورواية عن الإمام أحمد اختارها الخرقى من الحنابلة، وقد أشارت المذكرة الإيضاحية إلى هذا وإن كانت موفق فى التعبير عن مضمون مذهب الإمام أحمد – خاصة – فى هذا الخصوص( ).
كما أن منحى قانون الوصية فى هذا الأمر يتفق مع نص المادة 90/1 من القانون المدنى والتى تنص على أن "التعبير عن الإرادة يكون بالفظ وبالكتابة…..".
كما أخذ القانون بما ذهب إليه الجمهور من صحة التعبير بالإشارة بشرط العجز عن اللفظ والكتابة معا، مخالفا بذلك الحنفية على ثانى الروايتين، وكذا المالكية، كما خالف نص المادة 90/1 مدنى والتى تنص على أن "التعبير عن الإرادة باللفظ وبالكتابة، وبالإشارة المتداولة عرفا، كما يكون باتخاذ موقف لا تدع ظروف الحال شكا فى دلالته على حقيقة المقصود".
وأخيرا فإن المقصود بالكتابة الواردة بنص المادة 2/1 الكتابة المفهمة التى تدل على المعنى المراد من الوصية، بصورتها التى اعتاد الناس عليها، "فإذا كانت محكمة الاستئناف قد أقامت قضاءها بأن العقد المتنازع عليه يخفى وصية على ما استخلصته من أقوال شاهدى المطعون ضدها "البائعة"، وكان هذا الاستخلاص يتجافى مع مدلول هذه الأقوال، إذ أنها جاءت خلوا مما يفيد اتجاه قصد المتصرفة إلى التبرع، وإضافة التمليك إلى ما بعد موتها، وهو ما يشترط إثباته لاعتبار العقد ساترا لوصية، فإن الحكم المطعون فيه يكون معيبا بالفساد فى الاستدلال"( ).
وكما نرى فإن القانون قد اشترط فى الإشارة أن تكون مفهمة، إذ الإشارة غير المفهمة لا معنى لها.
المطلب الثالث
أثر الإيجاب الصحيح ومدى لزومه الموصى
عرفنا فيما سبق أن الراجح فقها هو أن ركن الوصية هو الإيجاب فمتى صدر الإيجاب صحيحا فإنه ينشئ الوصية، غير أنه لما كانت الوصية عقدا جائزا فى حق كلا طرفيه فإن للموجب أن يرجع عن إيجابه متى شاء قبل موته، لأن الوصية لا تلزم إلا بموت الموصى مصرا على وصيته فى قول الأكثرين أو بقبول الموصى له بعد موت الموصى مصرا على الوصية فى قول الجميع وهذا يعنى أنه مادام الموصى حيا فله أن يرجع فى إيجابه متى أحب، سواء أكان رجوعه صريحا أم دلالة( ).
ويأخذ قانون الوصية بهذا الحكم فى المادة الثامنة عشرة منه والتى تنص على أنه "يجوز رجوع الموصى عن الوصية كلها أو بعضها صراحة أو دلالة ويعتبر رجوعا عن الوصية كل فعل أو تصرف يدل بقرينة أو عرف على الرجوع عنها.
ومن الرجوع دلالة كل تصرف يزيل ملك الموصى عن الموصى به.
جحد الإيجاب والمنازعة فى صدوره أو فى الرجوع عنه : اختلف الفقهاء فى اعتبار الجحود رجوعا أولا.
فذهب جماعة : إلى القول بأن الجحود رجوع، بل هو أبلغ من الرجوع لأنه يدل على نفى الوصية فى الماضى والحاضر، أما الرجوع فإنه يدل على نفيها فى الحاضر فقط.
بينما أنكر فريق آخر اعتبار الجحود رجوعا، قياسا على جحود النكاح القائم فإنه لا يعد طلاقا، على أن الجحود إنكارا لصدور الوصية فى الماضى، وقد تقوم الأدلة على خلاف ذلك فيتضح أنه كاذب أو ناسى( ).
وبالمذهب الثانى أخذ قانون الوصية فى المادة التاسعة عشرة منه والتى تقرر أنه :
"لا يعتبر رجوعا عن الوصية جحدها ولا إزالة بناء للعين الموصى بها، ولا الفعل الذى يزيل اسم الموصى به أو يغير معظم صفاته، ولا الفعل الذى يوجب فيه زيادة لا يمكن تسليمه إلا بها إلا إذا دلت قرينة أو عرف على أن يقصد بذلك الرجوع عن الوصية".
وإذا نوزع فى صدور الإيجاب أو فى الرجوع عنه وذلك بأن يدعى الموصى له أن فلانا قد أوصى له بشئ وينكر ذلك الورثة، أو يوافقونه على الوصية لكنهم يدعون رجوعه عن وصيته بالقول، فإن المادة الثانية من قانون الوصية تفرق بين الوصايا الصادرة قبل سنة 1911 وتلك التى صدرت بعدها.
أما الأولى : فلا تسمع فيها الدعوى بالوصية أو بالرجوع القولى عنها، بعد وفاة الموصى، إلا إذا وجدت أوراق خالية من شبهة التصنع تدل على صحة الدعوى.
وأما الثانية : فلا تسمع فيها الدعوى، إنشاء أو رجوعا، إلا إذا كانت الوصية أو الرجوع عنها ثابتة – أو ثابتا – بورقة رسمية، أو بورقة عرفية كتبت جميعها بخط المتوفى، وعليها توقيعه، أو كانت الوصية أو الرجوع عنها مدونة بورقة عرفية مصدق على توقيع الموصى عليها، ولو لم تكن بخطه.
وهذا النص لا يغادر نص المادة 98 من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية الصادرة بالمرسوم بقانون رقم 78 لسنة 1931 إلا فيما إضافة إلى نص المادة 98 من قوله "أو كانت ورقة الوصية أو الرجوع عنها مدونا بورقة عرفية مصدقا على توقيع الموصى عليها".
وكلا النصين وإن لم يكن لهما نظير فى كلام الفقهاء إلا أن له سندا فى قاعدة تخصيص القضاء من قبل ولى الأمر( ) والتى من بين تطبيقاتها منع القضاء من سماع بعض الدعاوى التى يغلب على الظن الكذب فيها، والأخذ بهذا القيد فى دعاوى الوصية والرجوع القولى عنها اتجاه محمود فى نظر الفقهاء المعاصرين لأنه يقطع الطريق على المزورين ويخلص الناس من فسادهم.
وإن كان لنا ملحظ على خطة المقنن المصرى حيث أغفل حالة الضرورة.
إذ يتصور أن يوصى الشخص الأمى الذى لا يعرف القراءة أو الكتابة لمثله حال سفرهما مثلا بشئ، ثم يموت الموصى قبل أن يدون وصيته فى ورقة عرفية تختم بخاتمة أو ببصمته، ومثل هذه الحالة قد استثناها الشارع الحكيم من قواعد الإثبات العادية، لا سيما وأن نصها ورد فى الوصية خاصة.
قال الله تعالى "يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم فى الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشرتى به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين. فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين"( ).
ففى رأى الحنابلة وأهل الظاهر وبعض الصحابة وكثير من كبار التابعين وغيرهم ( ) أن قوله تعالى "أو آخران من غيركم" يراد بهما من غير المسلمين، بدليل الشرط الوارد فى الآية وهو قوله تعالى "إن أنتم ضربتم فى الأرض" أى كنتم مسافرين إذا لو كان المراد" المسلم من غير قبيلتكم "لما كان للشرط معنى لأن الاستشهاد بالمسلم جائز سفرا وحضرا( ).
وقد روى البخارى وأبو داود والترمذى والبيهقى وغيرهم ما يدل على أن المراد من الآية شهادة غير المسلم على المسلم فى السفر( ).
بل إن المفسرين يكادون يجمعون على أن الآية نزلت فى شأن قبيلتى تميم وعدى وهما يومئذ نصرانيان"( ).
ولا شك أيضا أن الأصل المقرر بقاعدة "الضرورات تبيح المحظورات" يؤيد هذا التفسير، حيت أن منع المسلم من الوصية فى السفر مع جهالة الكتابة وعدم الشاهد المسلم ليؤدى إلى التضييق عليه، وإيقاعه فى عسر شديد، فضلا عما فيه من تضييع للمصالح وإضرار بالآخرين( ).
فإذا عرفنا أن شرط قبول الهادة أن يكون الشاهد عدلا مرضى الهادة ولا يكون كذلك إلا إذا كان مسلما –متى كان المشهود له أو عليه مسلما – فإننا ندرك أن إثبات الوصية يحتمل الاستثناء من قواعد الإثبات العادية.
فضلا عما نلحظه فى النص القرآنى من التنبيه على إجراءات استثنائية "كالحبس من بعد الصلاة" "والحلف" و"قيام شاهدين من أولياء المشهود عليه فيشهدان بعد القسم بضد ما شهد به الأوليان".
كل ذلك يبرر أن إثبات الوصية مما يحتمل التوسعة لا التضييق.
لهذا كله فإننا وإن كنا نؤيد التوجه التشريعى فى المنع من سماع الدعوى بالوصية أو بالرجوع عنها ما لم يكن كتابى قفلا لباب التزوير، فإننا نهيب بالمقنن المصرى أن يعيد النظر فى تقدير الإيصاء فى حال الضرورة حيث يتعذر إفراغ الوصية فى قالب كتابى، خصوصا وأن لهذا الاستثناء سنجا من القرآن الكريم والسنة المطهرة فضلا عما يلقاه من قبول لدى كثير من أهل العلم حتى أن الإمام ابن القيم انتقد اعتراضات المعارضين لدلالة الآية على الاستثناء بقوله "إنا مخالفة لنص الآية، ومعارضة لها، فهى – أى الاعتراضات – من الرأى الباطل الذى حذر منه سلف الأمة"( ).
وقد أحسن المقنن السودانى – وهو فى أكثر ما يصدر من تقنينات ناقل عن القانون المصرى – إذ تدارك هذا النقص فى المادة 292من قانون الأحوال الشخصية للمسلمين الصادر برقم 43 لسنة1991 حيث نص على أنه :
1- لا تستمع عند الإنكار دعوى الوصية أو الرجوع عنها إلا بدليل مكتوب.
2- يجوز فى حال الضرورة إثبات الوصية بالشهادة.
المبحث الثانى
القبول
المطلب الأول
قيمة القبول
بدأ من حديث الفقهاء فى الإيجاب، أنه هو الركن الجوهرى للوصية باتفاق الفقهاء، بل إن البعض يرى – كما عرفنا – أن الإيجاب هو الركن الوحيد لها، أما القبول فلا يعدو أن يكون شرطا لنفاذ الوصية، وكما عرفنا أيضا فإن القانون المصرى يميل إلى الرأى الثانى حيث يعتبر الوصية منعقدة بمجرد الإيجاب الذى يصدر من الموصى، أما القبول فليس إلا شرطا لكى تكون الوصية لازمة للموصى له، وذلك حتى لا يدخل شئ فى ملك شخص رغم إرادته، لا سما وأن بعض الوصايا قد تكون محملة بالتزامات قد لا يقبلها الموصى له( ).
وخروجا على هذا الأصل العام فى اشتراط القبول للزوم الوصية أخذ القانون المصرى برأى الإمامين الشافعى وزفر( ) فى لزوم الوصية بدون قبول لأنها خلافة كالميراث – فلا يحتاج فيها إلى القبول، غير أن المادة20/2 قصرت هذا الاستثناء على حالة الوصية لجهات أو مؤسسات أو منشآت ليس لها من يمثلها، ونصها "ويكون القبول عن الجهات والمؤسسات والمنشآت ممن يمثلها قانونا، فإن لم يكن لها من يمثلها لزمت الوصية بدون توقف على قبول".
ويجد هذا الاستثناء سنده الفقهى فى قول الشافعى وزفر فضلا عن أكثر المالكية والحنابلة( ) فى الوصية لغير معين كالفقراء والمساكين، ومن لا يمكن حصرهم كبنى هاشم وتميم، أو على مصلحة كمسجد أو حج، ففى رأيهم لا تفتقر الوصية هنا إلى قبول، وتلزم بمجرد الموت، لأن "اعتبار القبول من جميعهم متعذر، فسقط اعتباره، ولا يتعين واحد منهم فيكتفى بقوله، ولأن الملك لا يثبت لهم بالقبول، بل يثبت لكل واحد منهم بالقبض فيقوم قبضة مقام قبوله"( ).
وعلى هذا تتنوع قيمة القبول على النحو الآتى :-
أولا : إذا كانت الوصية لمعين كخالد – مثلا – أو أولاده.
فلا تلزم الوصية بدون قبول دفعا لضرر المنة، وإلى هذا ذهب جمهور الفقهاء( )، وبه أخذت المادة 20/1 من قانون الوصية.
ثانيا : كما لا تلزم الوصية قبول أيضا متى كانت لجهة معينة ككلية الحقوق أو مستشفى الهلال الأحمر بمدينة كذا، أو جمعية رعاية الأيتام ونحو ذلك، متى كان لهذه الجهة من يمثلها قانونا، كعميد الكلية أو مدير المستشفى، أو رئيس الجمعية.
وهذا الحكم مستمد من مذهب الشافعية والإمامية( )، فضلا عن اتساقه مع الأصول القانونية العامة التى تفرض أن الجهات والمؤسسات شخصيات معنوية لها ذمة صالحة للتعاقد، تثبت لها الحقوق وتجب عليها الواجبات لمالية، وتضمن ضمانا ماليا كل ما يترتب على أعمالها من مضار بالناس.
وينتقد العلامة الشيخ محمد أبو زهرة أخذ القانون بمذهب الشافعية والشيعة فى ضرورة قبول الممثل للجهة بحجة أن ذلك قد يدفع الممثل لها فى بعض الأحوال إن كان من ذوى الغايات غير المحمودة، وليسوا قليلا، إلى رد الوصية فى نظير مكافأة ينالها من الورثة، ولأن فرض الضرر فى قبول الوصايا فرض بعيد فيندر، بل لا يكاد يوجد مال موصى به من غير شروط توجب التزامات على الموصى له، مغارمه أكثر من مغانمه، وإن ذلك شاذ، والشاذ لا حكم له، وإن فرض وجوده فالتخلص منه سهل، ناهيك عن أن القانون نفسه اعترف بهذه الحقيقة الثابتة التى لا مجال للريب فيها، وهى أن الوصايا نافعة نفعا محضا بالنسبة للموصى له"( ).
وهذا فى رأيى اعتراض وجيه، لاسيما بالنظر إلى الجهات والمؤسسات التى تفوض رؤساء مجالس إدارتها فى اتخاذ القرارات التى تتعلق بقبول التبرعات والوصايا، وفى غير حالة التفويض قد لا يؤمن تواطؤ بعض الأعضاء أو جميعهم – خصوصا إذا كان العدد قليلا – على رد الوصية لمكاسب خاصة، لذا فإننا تفضل الأخذ برأى أكثر الحنابلة والمالكية فى اعتبار الوصية هنا كالوصية لغير معين، ما لم يكن قبول الممثل أو رده خاضعا لجهات رقابية يمكنها مؤاخذته عند الخطأ.
ثالثا : تلزم الوصية دون قبول متى كان الموصى لهم غير معينين( ) ومثالها الوصية لأفراد غير محصورين كالفقراء والمساكين بهذا قال جمهور الفقهاء، وبرأيهم أخذ القانون المصرى.
وخالف الشيعة الإمامية( ) فقالوا باشتراط القبول للزوم الوصية وإن كانت لغير محصورين، ويكون القبول من الولى أو الحاكم باعتباره ممثل الكافة.
المطلب الثانى
كيفية القبول
قلنا إن القبول شرط لزوم الوصية متى كان الموصى له معينا، والقبول كتعبير عن الإرادة يقع بالقول وبالكتابة المستبينة والإشارة المفهمة والرسول، ويقع أيضا بالفعل، ويعبر عنه باصطلاح "اتخاذ موقف لا تدع ظروف الحال شكا فى دلالته على المقصود"، وكل ذلك مما يمكن تسميته القبول الإيجابى، والذى يتحقق بكل قول أو ما يقوم مقامه من كل عمل إرادى يدل على الرضا بالوصية كالتصرف فى العين الموصى بها مثلا تصرف الملاك.
وثمة صورة أخرى للقبول قد يطلق عليها القبول السلبى حيث يقوم السكوت مقام القبول القولى أو الفعلى، فلو أن محمدا أوصى إلى على بقطعة أرض مثلا، ومات على وصيته تلك، ولم يصدر عن على رد صريح أو ما يقوم مقامه، فإننا عندئذ نكون أمام سكوت يتنازعه الرأى هل يعد قبولا أم لا؟
والسؤال : ما حقيقة القبول المطلوب فى الوصية؟ أهو القول الإيجابى، أم يكتفى بالقبول السلبى؟
اختلف الرأى فى ذلك :
1- فذهب الإمام أبو حنيفة وصاحباه إلى اعتبار السكوت ردا استحسانا، قال فى البدائع "ركن الوصية الإيجاب من الموصى، وعدم الرد من الموصى له، وهو أن يقع اليأس عن رده"( ).
ولأن الوصية تمت من ناحية الموصى، وقد مات وهو مصمم عليها، فيجب تنفيذها تحقيقا لغرضه بعد موته( ).
2- ويرى المالكية والشافعية وبعض الحنابلة وهو قياس مذهب الحنفية : أنه لابد من القبول بالقول أو ما يقوم مقامه، فلا يعتبر السكوت أو عدم الرد فيما نحن فيه قبولا فلا تلزم الوصية ولا يثبت الملك للموصى له، لعدم تحقق الشرط وهو القبول( ).
وتتحقق الصورة محل الخلاف إذا مات الموصى له بعد موت الموصى مصرا على وصيته ولم يقبل الموصى له – أو يرد.
ففى استحسان الحنفية تلزم الوصية بموته.
وفى قياس الحنفية، وقول بعض المالكية وبعض الحنابلة( ) – وهو قياس مذهبهم أيضا – أن الوصية تبطل.
لأن قبول الوصية من الخيارات( ) التى تتعلق بالمشيئة ولا يعتاض عنها، فبطل خيار قبولها بالموت كخيار المجلس والشرط وخيار الأخذ بالشفعة.
وفى قول جمهور الفقهاء : أن الوصية لا تبطل، ولكن ينتقل حق الموصى له فى القبول أو الرد إلى ورثته.
أما وجه عدم بطلانها فلأن الوصية تأكدت بالنسبة إلى الموصى بموته مصرا على وصيته فلا تبطل بموته، بل تتقرر من جانبه بالموت وإذا كان الموت لم يبطلها من جانب الموصى فلا يبطلها من جانب الموصى له( ).
وأما وجه انتقال الحق فى القبول أو الرد إلى الورثة، فلأنه حق ثبت للمورث "الموصى له" والورثة يخلفون مورثهم فيما تركة من أموال وحقوق مالية، وحقوق متعلقة بالمال وهذا الحق منها( ).
والراجح ما يذهب إليه الجمهور لأن حق القبول أو الرد متعلق بالشىء الموصى به، وهو مال، فيكون الحق المتعلق به حقا ماليا.
وبهذا الرأى الراجح أخذ قانون الوصية المصرى، إذ تنص المادة "21" منه على أنه "إذا مات الموصى له قبل القبول الوصية وردها قام ورثته مقامه فى ذلك".
وحاصل ذلك : أن القانون استوجب القبول أو الرد الإيجابى، ولم يكتف بالسكوت ولا اليأس من الرد، سائرا فى ذلك على القاعدة العامة فى التعبير عن الإرادة، والتى تقررها المادة 90/1 من القانون المجنى، متجاهلا بذلك الاستثناء الذى تقرره المادة 98/2 بقولها "ويعتبر السكوت عن الرد قبولا…إذا تمخض الإيجاب لمنفعة من وجه إليه".
المطلب الثالث
زمن القبول وصاحب الحق فيه وأثر التعدد فى القبول
نبه فقهاء الشافعية على هذا الأمر فقالوا "ملك الموصى به موقوف على قبول الموصى له ورده، وحقه فى القبول باق ما لم يعلم فإذا علم فإن كان عند إنفاذ الوصايا وقسمة التركة فقبوله على الفور، فإن قبل، وإلا بطل حقه فى الوصية فأما بعد علمه وقبل إنفاذ الوصايا وقسمة التركة فمذهب الشافعى وقول جمهور أصحابه: أن القبول فيه على التراخى لا على الفور، فيكون ممتدا ما لم يصرح بالرد، حتى تنفذ الوصايا، وتقسم التركة، لأنه لما لم يعتبر القبول مع الوصية اعتبر عند إنفاذ الوصية.
وحكمى عن بعض الشافعية: أن القبول بعد علمه على الفور، لأن الوصية عطية كالهبات( ).
والحق أن تحديد زمن للقبول هو العدل بعينه، لأن تراخى القبول إلى مالا نهاية قد يحدث ضررا بالموصى به فضلا عن إضراره بالورثة، حيث يعوق تقسيم التركة، وقد تكون العين الموصى بها ما يحتاج إلى رعاية، وهى مع التراخى معلقة لا يدرى أتدخل فى ملك الورثة فيعنون بها، أم تدخل فى ملك الموصى له فيتركونها له، ولا ك أن تراخى الموصى له أو ورثته فى إعلان موقفهم من القبول أو الرد يجعلهم معطلين، والمعطل مضار فيعامل بنقيض مقصوده حسما للأمور وحفظا للمصالح.
وقد نحا قانون الوصية منحى الشافعية فى هذا الصدد غير أنه لم يحد القبول أو الرد بزمان إنفاذ الوصية كما قال جمهور الشافعية، ولكنه أخذ بقول بعضهم( ) فى حق ورثة الموصى مطالبة الموصى له أو ورثته بالقبول أو الرد، فإن رفض الإفصاح حكم عليه الحاكم بالرد، فجعل للموصى له أو ورثته الحق فى القبول أو الرد فى مدة معلومة حددها – القانون – بثلاثين يوما كاملة، إن لم يقبل فيها اعتبر رادا، ما لم يكن له عذر مقبول.
وفى ذلك تقول المادة 22 من قانون الوصية :-
"لا يشترط فى القبول ولا فى الرد أن يكون فور الموت، ومع ذلك تبطل الوصية إذا أبلغ الوارث أو من له تنفيذ الوصية الموصى له بإعلان رسمى مشتمل على بيان كاف عن الوصية وطلب منه قبولها أو ردها، ومضى على علمه بذلك ثلاثون يوما كاملة، خلاف مواعيد المسافة القانونية، ولم يجب بالقبول أو الرد كتابة، دون أن يكون له عذر مقبول"( ).
ثانيا : من له الحق فى القبول وأثر التعدد فى ذلك :
قلنا فيما سبق إن الموصى له إما أن يكون معينا شخصا أو جهة أو غير معين، فإن كان جهة معينة فإن ممثلها هو الذى يقبل أو يرد عنها، فإن لم يكن لها ممثل أو كان الموصى له عددا لا يحصى من الأفراد فإن الوصية تلزم بموت الموصى دون توقف على قبول، وقد فصلنا الكلام فى الوصية للجهة بما لا يحتاج إلى إعادة.
قبول الموصى له المعين : الموصى له المعين إما أن يكون فردا واحدا أو أفرادا.
فإن كان فردا فإما أن يكون كامل الأهلية أو ناقصها أو عديمها.
وإن تعدد الموصى لهم فإما أن يقبلوا جميعا أو يردوا جميعا، أو يقبل البعض ويرد البعض.
1- الموصى له معينا فردا: وفى هذه الحالة ننظر :
فإن كان كامل الأهلية فلا خلاف فى أن القبول أو الرد من حقه هو لأنه يتمتع بالولاية الكاملة على نفسه ولا سلطان لأحد عليه.
وإن كان الموصى له ناقص الأهلية كالصبى المميز :
فالحنفية فيقولون بحقه فى القبول دون الرد، لأن الوصية من التصرفات النافعة نفعا محضا فيملك ناقص الأهلية قبولها، ولكن ليس له أن يرد، لأن الرد تصرف ضار، وهو لا يملك إبرام التصرفات الضارة( ).
وعند الشافعية والحنابلة قبول الوصية أو ردها فى هذا الفرض لولى القاصر، بشرط أن يكون ما يختاره الولى أصلح الأمرين بالنسبة للمولى عليه، فإن لم يراع الأصلح لغا قبوله أو رده فلا يعتد به( ).
وإن كان الموصى له عديم الأهلية كالمجنون والصبى غير المميز فلا خلاف فى أن القبول أو الرد إلى وليه، لأن التصرف بالقبول أو الرد تصرف قولى، وعبارة عديم الأهلية غير معتبرة.
ويبقى فرض أن يكون الموصى له جنينا فى بطن أمه، فمن حيث الحكم العام فإن الوصية للحمل جائزة باتفاق، لأنه يرث وهى فى معنى الإرث من جهة الانتقال عن الميت مجانا( ).
ولكن هل تتم الوصية للحمل دون قبول، أم يقبل عنه من سيكون وليا عليه بعد ولادته؟
يرى الحنفية أن الوصية للحمل تتم دون قبول، لأن الجنين ليس من أهل القبول، و"الوصية تشبه الميراث وتشبه الهبة، فلشبهها بالهبة يشترط القبول إذا حصلت لمن يتصور القبول منه، ولشبهها بالإرث لا يشترط القبول إذا حصلت لمن لا يتصور منه القبول عملا بالشبهين"( ).
أما جمهور الفقهاء فاشترطوا قبول الوصية عن الجنين، ويقبلها عنه من سيكون وليا عليه بعد ولادته، فإذا لم يقبل لم تتم الوصية( ).
وواضح أن مذهب الجمهور متمش مع قولهم باشتراط القبول للزوم الوصية.
ويأخذ القانون المصرى بمذهب الجمهور فى هذه الفروض محل الخلاف، كما تفصح عن ذلك المادة"20" بقولها "تلزم الوصية بقبولها من الموصى له صراحة أو دلالة بعد وفاة الموصى، فإذا كان جنينا أو قاصرا أو محجورا عليه يكون قبول الوصية أو ردها ممن له الولاية على ماله بعد إذن المجلس الحسبى".
وقبل أن ننقل عن هذا الموضوع فإن لنا بعض الملاحظات على تصرف المقنن الذى تبرزه المادة (20) من قانون الوصية.
أولا : أن المقنن سوى فى الحكم بين عديم الأهلية وناقصها فى التصرف النافع ممثلا فى القبول، والتصرف الضار ممثلا فى الرد فجعل حكم الاثنين فى الأمرين سواء.
وهذا الحكم يخالف ما تقرره القاعدة العامة فى الأهلية، والتى ينظمها القانون المدنى، حيث فرق بين الصبى المميز والصبى غير المميز من جانب، وفرق بين تصرفات الصبى المميز النافعة له نفعا محضا والتصرفات الضارة؟، فصحح تصرفات الصبى المميز النافعة نفعا محضا دون توقف على إجازة أحد، وذاك كما هو واضح يتمشى مع مذهب الحنفية فى حق القاصر فى قبول الوصية دون ردها( ).
وفى رأينا فإن نص المادة (111/1 والمادة 115) مدنى ينسخ التسوية المقررة بالمادة 20من قانون الوصية وذلك فى حق القاصر والمحجور عليه باعتبار أن اللاحق ينسخ السابق، وقد صدر القانون المدنى بعد قانون الوصية بما يربو على العامين( ) ولا يجافى ذلك أن يكون الحكم المقرر بالقانون المدنى عاما، وحكم قانون الوصية خاص، لأن العموم لاحق( ).
ثانيا : أن تعليق قبول الوصية ممن له الولاية على إذن المحكمة فى جميع الأحوال مخالف لنص المادة (12) من المرسوم بقانون 119/1952م بأحكام الولاية على المال، حيث تقصر هذه المادة الوجوب على قبول الهبات والوصايا المحملة بالتزامات معينة، ونصها "لا يجوز للولى أن يقبل هبة أو وصية للصغير محملة بالتزامات معينة إلا بإذن المحكمة".
ونظرا لأن قانون الولاية على المال تال لقانون الوصية فإننا نرى أن نص المادة (12) ناسخ للعموم المقرر بنص المادة "20" من قانون الوصية اشتراط إذن المحكمة، ولو كانت الوصية مطلقة، لاسيما وأن موضوع النصين واحد، ناهيك عن أن نص المادة (12) ينزل من نص المادة (20) منزلة الخاص من العام.
ثالثا : أن المادة (20) سوت فى ضرورة الإذن بين كافة الأولياء بما فى ذلك الأب، وهذا التسوية تتجافى وما جاء به قانون الولاية على المال من تمييز الأب الأمين حسن الرأى والتدبير على غيره من الأولياء، فالمادة (7) من القانون المذكور أجازت له التصرف فى عقار القاصر أو محله التجارى أو أوراقه المالية إذا لم تزد قيمتها على ثلاثمائة جنيه بدون إذن المحكمة، مع ما فى ذلك من تعريض مال القاصر للخطر أو الغبن.
والمادة (13) استثنت ما يؤول إلى القاصر من مال بطريق التبرع من أبيه، صريحا كان التبرع أو مستترا، ولا يلزم الأب بتقديم حساب عن هذا المال.
والمادة (14) أجازت للأب أن يتعاقد مع نفسه باسم القاصر أصلا أو وكيلا ما لم ينص القانون على غير ذلك.
والمادة (24) تنفى مسئولية الأب إلا عن خطئه الجسيم أما الجد فيسأل مسئولية الوصى.
وأخيرا فإن المادة (25) تنفى محاسبة الأب عن ما تصرف فيه من ريع مال القاصر ما لم يكن هذا المال قد وهب للقاصر لغرض معين.
فإذا جاز للأب كل ما جاء بالمواد 7،13،14، وانتفى عنه ما جاء بالمادتين 24،25 من قانون الولاية على المال أفلا يجوز له من باب أولى أن يقبل الوصايا مع ما فيها من نفع محض دون تعليق ذلك على إذن المحكمة؟ إن القول بغير ذلك لمفارقة غريبة، وإن إعمال نص المادة (20) من قانون الوصية بمعزل عما يقرره قانون الولاية على المال "ليوقع منافرة بين قوانين الدولة لا تستساغ فى نظر قانونى مستقيم النظر"( ).
وبناء على ما تقدم فإن نص المادة (20) ينبغى أن يتقرر على النحو التالى :
"تلزم الوصية بقبولها من الموصى له صراحة أو دلالة بعد وفاة الموصى على أنه متى كان الموصى له مميزا أو ما فى حكمه اعتبر قبوله الوصية دون الرد، وإذا كان الموصى له جنينا أو عديم الأهلية فإن قبول الوصية يكون ممن له الولاية على ماله، وله الرد بعد إذن المحكمة ما لم يكن أبا للمولى عليه.
فإن كانت الوصية محملة بالتزامات فيقبل الولى أو يرد بعد إذن المحكمة.
2- الموصى لهم متعددون أو آلت الوصية إلى متعددين :
يفترض التعدد الأصلى إذا أوصى شخص إلى اثنين فأكثر، أما التعدد العارض فيكون متى أوصى إلى شخص فمات دون أن يقبل أو يرد، انتقل حقه فى القبول أو الرد إلى ورثته.
وفى هاتين الحالتين : إن كان الموصى لهم جميعا، أو الورثة، أهلا للقبول أو الرد اعتبر ذلك، وإن كان بعضهم جنينا أو قاصرا أو محجورا عليه كان القبول أو الرد من وليه بعد إذن المحكمة كما فصلنا آنفا.
ولكن تثور المشكلة متى قبل البعض ورد البعض الآخر كما لو أوصى رجل لرجلين بثلث ماله فرد أحدهما الوصية بعد موت الموصى وقبل الآخر، أو مات الموصى له دون قبول أو رد، ثم قبل أحد ورثته ورد الآخر، فإن كان الموصى به مما يقبل القسمة فإن حصة القابل من الوصية تثبت، وتبطل الوصية فى حق من رد، فإن كان الموصى به مثلا عشرة أفدنة – هى ثلث التركة – والموصى لهما اثنان صحت الوصية بخمسة أفدنة، وبطلت فى الخمسة الأخرى.
وهذا الحكم لا خلاف فيه بين الفقهاء لأن الشيوع لا يمنع صحة الوصية فإن القسمة فيها لتمام القبض، والقبض ليس بشرط لوقوع الملك فى الوصية( ).
أما إذا كان الموصى به لا يقبل القسمة، أو كان الموصى قد قرن الوصية بشرطه، أو كان كلامه يفيد التقييد بشرطه، أو كان موضوع الوصية يجعل اشتراط الاجتماع مفهوما ولو بطريق الظن الراجح، فلا بد لصحة الوصية فى هذه الحالات من قبول الجميع( ).
واحتمال القبول والرد معا يتصور من الموصى له الفرد كما يتصور من الجماعة، بمعنى أن الموصى له قد يقبل بعض الوصية ويرد البعض الأخر والحكم فيه كالحكم فى الجماعة سواء بسواء.
ويصطلح على هذه المعانى باعتبارها من قبيل تجزئة القبول( ) وحاصلها أن "مطابقة القبول للإيجاب ليست شرطا فى لزوم الوصية فقبول الموصى له بعض الوصية ورد الباقى، وقبول بعض الموصى لهم فى عقد واحد، ورد الباقين معتبر وتلزم الوصية فيما قبل، وتبطل فيما رد"( ).
وهذا ما نصت عليه المادة 23 من قانون الوصية بقولها "إذا قبل الموصى له بعض الوصية ورد البعض الآخر لزمت الوصية فيما قبل وبطلت فيما ورد، وإذا قبلها بعض الموصى لهم وردها الباقون لزمت بالنسبة لمن قبلوا، بطلت بالنسبة لمن ردوا".
المطلب الرابع
وقت القبول وأثر ذلك فى حكم الرد
رأينا أن جمهور الفقهاء على أن الوصية تلزم بالقبول، وان القبول المعتبر فى رأى الجمهور هو القبول الإيجابى، فلا يقع قبولا اليأس من رد الموصى له، ولو كان مرجع ذلك موته.
كما رأينا أن القانون أخذ برأى جمهور الفقهاء انه لا تلزم الفورية فى القبول، ولكن إذا طلب من الموصى له الإفصاح عن موقفه بإعلان رسمى من الورثة فلم يجب كتابة خلال ثلاثين يوما كاملة عدا مواعيد المسافة اعتبر رادا، ما لم يكن له عذر مقبول.
ولكن قد يحدث أن يفصح الموصى له عن رغبته فى حياة الموصى فهل لإفصاحه هذا من قيمة؟ وبفرض أنه رد الوصية فى حياة الموصى ثم قبلها بعد موته فيما المعتبر من قبوله ورده؟ وإذا رد الموصى له الوصية بعد موت الموصى فهل له بعد الرد أن يقبل؟ وبفرض أنه قبل ثم بدأ له أن يرد فهل يصح رده؟
أولا : قبول أورد الوصية فى حياة الموصى :
يرى جمهور الفقهاء أنه لا يصح قبول ولا رد فى حياة الموصى لأن الوصية إيجاب الملك بعد الموت، والقبول أو الرد يعتبر بعد الإيجاب، لأنه جواب، والجواب لا يكون إلا بعد تقدم السؤال( ).
أو يقال "لأن الوصية لم تقع بعد فلا تكون محلا للقبول، كما لا تكون محلا للرد، قياسا على رد المبيع قبل إيجاب البيع"( ).
وروى عن الإمام زفر صاحب أبى حنيفة( ) أن للموصى له أن يرد فى حياة الموصى، فإذا رد بطلت الوصية، وذلك لأن الرد أبطل الصيغة المنشئة، وجعلها غير مفيدة لمؤداها، فلا ملكية تثبت بمقتضاها، ولا يحييها قبول جديد.
وعلى هذا : فلمن رد فى حياة الموصى أن يقبل بعد وفاته – فى رأى الجمهور – لأن رده وقع لغوا، وليس له فى رأى زفر أن يقبل بعد الموت لسقوط إيجاب الموصى بالرد، ما لم يوجب الموصى إيجابا جديدا.
ولا شك أن مذهب الجمهور هو الأنسب إلى معنى الوصية باعتبارها تصرفا مضافا إلى ما بعد الموت، وبه أخذ القانون فى المادة 24/1 فنص على أنه "لا تبطل الوصية بردها قبل موت الموصى" وفى المادة 20 "تلزم الوصية بقبولها من الموصى له صراحة أو دلالة بعد وفاة الموصى".
فقيد القبول بما بعد الموت، كما أهدر الرد قبله( ).
ثانيا : رد الوصية بعد موت الموصى ثم قبولها بعد ذلك :
إذا كانت الوصية هى إيجاب الملك بعد الموت فهل لمن رد الوصية – بعد موت الموصى – أن يراجع نفسه فيقبل بعد ذلك؟
يؤكد الإمام ابن قدامة أن الرد صحيح وتبطل الوصية باتفاق العلماء "لأن الموصى له أسقط حقه فى حال يملك قبوله وأخذه فأشبه عفو الشفيع عن الشفعة بعد البيع"( ).
وذكر بعض أساتذتنا( ) أن يعض فقهاء الزيدية ذهبوا إلى خلاف ذلك، فقالوا إن الرد – ولو بعد الموت – لا يبطل الوصية، بل يجوز لموصى له ان يقبل الوصية بعد ردها.
والحق أننى تتبعت هذا القول فى مظانه من مصنفات الزيدية فلم أقف عليه، بل إن متن الأزهار – الذى هو العمدة فى فقه الزيدية – قطع بخلاف ذلك، قال "وتبطل برد الموصى له"، ولم أجد فى شرح الأزهار ولا فى السيل الجرار ما يشير إلى أى خلاف،( ) ولعل الراوى وقف على ما لم أقف عليه.
وبما روى ابن قدامة اخذ القانون المصرى فى المادة "24" والتى تنص على انه "فإذا رد الموصى له الوصية كلها أو بعضها بعد الموت وقبل القبول بطلت فيما رد".
ثالثا : رد الوصية بعد قبولها :
صورة الفرض الذى معنا رجل أوصى لآخر بوصية ومات مصرا عليها، ثم بعد موته قبل الموصى له الوصية ثم ردها، فهل يصح رده أم لا؟
قبل أن نورد إجابة الفقه والقانون على هذا التساؤل ينبغى أن نأخذ فى الاعتبار الأمرين الآتيين :-
1- أن الوصية من العقود الجائزة، أى غير اللازمة، والأصل فى هذه العقود أنها تقبل الفسخ من جانب كلا المتعاقدين، غير انه لا يفوتنا أن الموجب وهو الموصى قد مات، وإيجاب الملك – فى الوصية – بالموت كما عرفنا، وقد كان بوسع الموصى له ألا يقبل، فإن قبل فقد ملك، ولما كانت الوصية منعقدة بالتراضى فكذلك يجب أن تفسخ بالتراضى "وإلا استلزم هذا الرجوع عن الرضا هو المعتبر فى جميع المعاملات"( ).
2- أن الوصية شبها بالميراث وشبها بالهبة، فهى تشبه الميراث باعتبارها خلافة، وتشبه الهبة باعتبارها تملك بتمليك الغير( ) وجمهور الفقهاء على أن قبض الموهوب شرط لصحة الهبة( ) أما الميراث فهو يملك بالخلافة من غير قبض، ومعنى هذا أن تغليب أى الشبهين يوجب حكما خلاف ما يوجبه الآخر، فباعتبار الإرث، يثبت الملك بالقبول دون حاجة إلى قبض "أى حيازة" وباعتبار الهبة لا يثبت الملك إلا بالقبض.
ومراعاة لهذين الأمرين اختلفت الفقهاء فى حكم الرد بعد القبول على أقوال :
1- فذهب الحنفية ووجه عند الشافعية إلى القول بأن صحة الرد متوقفة على قبول الورثة أو أحدهم، فإذا قبلوا جميعا صح الرد وفسخت الوصية، وإن قبل أحدهم أو بعضهم فالقياس ألا يصح الرد لأن هذا تمليك لمن ردها عليه، ولكنهم جوزوه استحسانا تنزيلا للواحد – أو البعض – من الورثة بمنزلة الكل فكان الرد على أحدهم بمنزل الرد على جماعتهم، ويصير الموصى له كأنه رد قبل أن يقبل، وبعبارة أخرى أن الرد على الورثة فسخ للوصية، ولما كان بول الوصية بالتراضى فكذلك فسخها دفعا للضرر عن الورثة( ).
وقول الشافعية فى الأصح وأكثر الحنابلة كقول الحنفية فى جواز الرد استحسانا، غير أنهم بنوا رأيهم على أن رد الموصى له بعد قبوله هبة لورثة الموصى، ومن ثم فإنها تفتقر إلى شروط الهبة( ).
أما الحنفية فقد علمت أنهم أقاموا ورثة الموصى أو بعضهم مقام مورثهم – الموصى – فى قبول الفسخ.
وحاصل ذلك : أن جمهور الفقهاء على أن الوصية تملك بالقبول، وإن لم يقبضها الموصى له، ومن ثم فإن ردها نوع من الإقالة( ).
فمن كيف الإقالة على أنها فسخ أنزل الورثة منزلة الموصى فى قبول الفسخ، ومن اعتبرها عقدا جديدا( ) قال إن رد الموصى له – بعد قبوله – يعتبر هبة، والموهوب لهم – ورثة الموصى – بالخيار بين أن يقبلوا أو يردوا.
2- ويرى بعض الشافعية وبعض الحنابلة( ) التفرقة بين الرد قبل القبض وبعده.
فإن كان بعد القبض لا يصح الرد إلا أن يرضى الورثة كما قلنا، وإن كان قبله صح الرد – تغليبا لشبه الهبة كما ذكرنا أول المسألة – ولأن ملك الموصى له لا يستقر على الموصى به قبل قبضه، فالقبض يقرر الملكية ويثبتها، وعليه فالرد قبل القبض كالرد قبل القبول.
3- ويرى بعض الحنابلة صحة الرد قبل القبض إن كان الموصى به مثليا لأنه يتعين تعيينا كاملا بالقبض، أما إن كان الموصى به قيميا فلا يصح، وإن لم يقبضه، لأن "القيمى معين بنفسه من غير حاجة إلى قبض أو إشارة تعينه، فتثبت الملكية فيه مقررة فلا يحتاج إلى قبض فلا يسوغ رده"( ).
هذه آراء الفقهاء، وقد أخذ القانون المصرى منها برأى الحنفية، كما نصت على ذلك المذكرة الإيضاحية، وكما يفصح عنه نص المادة "24" والتى تقرر إذا رد الموصى له الوصية – كلها أو بعضها – بعد الموت والقبول، وقبل منه ذلك أحد الورثة انفسخت الوصية، وإذا لم يقبل منه ذلك أحد بطل رده".
وكما هو واضح من النص فإن القانون اعتبر الرد فسخا، وأنزل أحد الورثة منزلة جميعهم…أخذا برأى الحنفية.
ويلقى هذا المسلك القانونى معارضة بعض مشايخنا "لأنه يتنافى مع المنطق الفقهى للمذهب الحنفى نفسه، وللقانون أيضا، إذ كلاهما يقرر أن الملكية تثبت بالقبول، فلا تخرج إلا بتمليك مبتدأ، ونظرية الفسخ مخالفة للقياس الفقهى، وفوق هذا قد يؤدى إلى أمور لا تتفق مع نظم التعامل اليوم، فقد يوصى لشخص فيقبل الوصية بعد موت الموصى وبعد عشرات السنين يرد فرارا له من دائنيه"( ).
وفى رأينا فإن بعض هذا الملحظ سليم إذا حمل النص على ظاهرة، لأن الفسخ خلاف الأصل فقها وقانونا، ففى فقه الشرع يقول القرافى "أعلم أن الأصل فى العقد اللزوم، لأن العقد إنما شرع لتحصيل المقصود من المعقود به أو المعقود عليه، ودفع الحاجات، فناسب الحاجات فناسب ذلك اللزوم دفعا للحاجة وتحصيلا للمقصود"( )، والوصية – كما عرفنا – تلزم بالقبول.
وفى الفكر القانونى فإن الفسخ مقرر كجزاء يتقرر لكل من المتعاقدين إذا أخل العاقد الآخر بالالتزامات التى يفرضها العقد عليه( )، والأصل فيه أن يتقرر قضاء، وللقضاء فى تقريره سلطة رحبة( )، واستثناء من الأصل أجاز القانون المدنى (مادة158) ما يعف بالفسخ القانونى أو الفسخ الاتفاقى "والذى يبين من استقراء أحكام القضاء المصرى أنه يتشدد غاية التشدد فى القول بوجوده الشرط الفاسخ الصريح، وهو اتجاه – كما يقرر الفقه القانونى – منه سديد، لما يتسم به هذا الشرط من خطورة بالغة، بالنسبة إلى أثره فى إزالة العقد بقوة القانون، وبمجرد الإخلال بالالتزام وفى رفع السلطة التقديرية عن قاضى الموضوع"( ).
أما انتقاد النص باعتبار ما قد يؤدى إليه من الإضرار بالدائنين فهو فى رأينا محل نظر، لأن حماية الغير حسن النية مكفولة قانونا بدعاوى الصورية (م244) مدنى، وقاعدة الحيازة فى المنقول (م976) وحماية الدائن حسن النية (م1034)، ووفقا لنص المادة (17) من قانون الشهر العقارى فإنه لا يترتب على شهر دعوى الفسخ أو الإلغاء أو الرجوع حق على الغير الذى كسب حقه بحس ن نية، قبل التأشير أو التسجيل المشار إليهما.
وفى رأينا فإن نص المادة (24) يناله النقد من زوايا أخر.
أولها : أنه سار على نص عبارة السرخسى فاعتبر الفسخ فى الوصية، وهذا خروج منه :
1- عن مجال الفسخ قانونا، فمجاله كما يقرر الفقه، وكما تقتضيه طبيعته، العقود، أما التصرفات الصادرة من جانب واحد كالوصية فلا مجال له فيها( ).
2- عن أن الفسخ جزاء لإخلال أحد المتعاقدين بالعقد، وهذا يعنى أن ثمة التزامات متقابلة على عاتق الطرفين، وقطعا ليست الوصية كذلك.
ثانيها : لا يتصور أن يراد بعبارة "انفسخت الوصية" انفساخ العقد بالمفهوم القانونى، فكما تفهم المادة (159) مدنى فإن الانفساخ يجىء نتيجة كون التزام أحد العاقدين قد أصبح مستحيلا لسبب أجنبى عنه، لا يد له فيه( ) ولنا أن نسأل هل من التزام يقع على عاتق الموصى له؟
ثالثها : أن ما تفهمه عبارة السرخسى انه أراد بالفسخ الإقالة( ) بدليل اشتراط التراضى، وعدم الإشارة إلى أى إخلال وقع من ورثة الموصى فى تنفيذ الوصية، والراجح فى الفقه الإسلامى أن الإقالة فسخ فى حق المتقابلين( ) لهذا عبر السرخسى بالفسخ كأثر للإقالة.
وكان أحرى بواضع قانون الوصية أن ينسج على منوالة فى صياغة أحكام الرجوع فى الهبة وبخاصة قوله "مادة 503/1 مدنى" يترتب على الرجوع فى الهبة بالتراضى، أو بالتقاضى أن تعتبر الهبة كأن لم تكن لاسيما وأن هذه الأحكام مأخوذة عن الفقه الإسلامى.
وخلاصة القول : أن ما يؤخذ على نص المادة (24) هو سوء الصياغة الذى أوجد اللبس بالفسخ أو الانفساخ، لأن ما رمى إليه النص هو "رفع العقد أو التقابل منه باتفاق لاحق"( ) وليس ذلك فسخا ولا انفساخا قانونا، بل هو تفاسخ أو تقايل( ).
فإذا صح تفسيرنا لمذهب الحنفية، ومن ثم مسلك القانون، فإنه لا يخشى على الغير من رجوع الموصى له فى الوصية بعد قبوله، لأن تصرفه إقالة، وقد حمى جمهور الفقهاء الغير من الإقالة باعتبارها عقدا جديدا فى حقه، وهو ما يترتب حكما هاما فى حماية الغير( ).
المطلب الخامس
وقت انتقال الملكية إلى الموصى له
من المكلات العملية التى تتعلق بالقبول توقيت انتقال ملكية الشئ الموصى به إلى الموصى له، ومرجع تلك المشكلة أن الوصية تفيد – كما ذكرنا مرارا – إيجاب الملك بالموت أو بعد الموت، ولكنها لا تلزم إلا بالقبول – كما هو الراجح فقها والمعمول به قانونا – ولما كان الواقع عملا أن التركات لا تصفى فور وفاة الموصى، كما أن احتمال ألا يفصح الموصى له عن قبوله أو رده فور الوفاة احتمال وارد، فإن مضى زمن بين الوفاة وتنفيذ الوصية واقع لا محالة، فإن كان الموصى به مما يزيد – أو ينقص – بمضى الزمن، فهل تدخل الزيادة – أو يحتسب النقصان – فى ملك الموصى له، أم تدخل فى ملك الورثة؟
وكمثال عملى إذا أوصى رجل لآخر ببستان أو مزرعة كانت قيمته عند وفاة الموصى تقدر بمليون جنيه مثلا، وكانت هذه القيمة تساوى ثلث التركة، وتأخر قبول الموصى له بعذر مقبول سنة – مثلا – وعند قبوله أثمرت المزرعة فبلغت قيمتها مليونا ونصف المليون من الجنيهات، فجاوز الموصى به عندئذ ثلث التركة، فهل تنفذ الوصية فى المزرعة دون ثمارها؟ أم تنفذ فيهما معا؟
والمثال العكسى إذا أوصى لرجل بدار قيمتها عند الموت ثلث التركة فتهدمت بعد الوفاة وقبل القبول فنقصت قيمتها عن الثلث، فهل للموصى له أن يطالب بقيمة ما نقص؟
لا شك أن التعويل على سبب ما لملك الوصية ليحسم هذا الأمر، ولكن ما هو السبب، أهو الموت، أم القبول؟
للإجابة على هذا التساؤل يفرق العلماء بين فروض ثلاثة( ) :-
الفرض الأول : أن يكون الموصى له غير موجود عند وفاة الموصى، كما لو أوصى لأول ولد يولد لخالد، فولد بعد وفاة الموصى، فعندئذ تنتقل الملكية من وقت الولادة لا من وقت الوفاة( ).
الفرض الثانى : أن يكون الموصى له موجودا وقت الوفاة، غير أن الموصى قد حدد زمنا لثبوت الملكية للموصى له، كأن يقول أوصيت بهذه الحديقة لعلى بعد وفاتى بخمس سنوات، ففى هذا الفرض لا تثبت الملكية للموصى له إلا من ذلك الميعاد "لأن شروط الموصى محترمة مادامت لا تخالف مقصدا من مقاصد الشرع"( ).
الفرض الثالث : أن يكون الموصى له موجودا وقت الوفاة، ولم يكن الموصى قد حدد وقتا لانتقال الملك بالوصية فعندئذ :-
1- إن قبل الموصى له فور وفاة الموصى انتقل الملك إليه ولا مشكلة.
2- أما إن تأخر قبوله حتى تغير حال الموصى به فعندئذ تكون المشكلة – محل النظر – وفى حكمها اختلف الفقهاء.
ويمكن حصر هذا الخلاف فى نقطتين :-
الأولى : الخلاف فى سبب ثبوت الملك، هل هو موت الموصى أم قبول الموصى له؟
الثانية : علة ثبوت الملك فى الزوائد أو الثمار، هل هى باعتبارها نماء ملك وثمرته، أم باعتبارها تبعا للموصى به؟
أولا : سبب ثبوت الملك فى الوصية :
السبب فى اللغة( ) : يطلق على كل شئ يتوصل به إلى أمر من الأمور.
وفى الاصطلاح: يطلق على وجوه( ) منها : ما كان مفضيا إلى الحكم وطريقا إليه من غير تأثير، يل لابد للحكم من علة مؤثرة فيه موضوعة له تضاف إلى السبب.
والملك فى الوصية يثبت بالوصية باعتبارها علة، أما سببه : فإما أن يكون الموت لأنه هو الذى يوجب الملك، أو القبول لنه من تمام السبب للملكية.
اختلف الفقهاء :
1- فذهب الحنفية وبعض المالكية والأصح عند الشافعية وهو قول بعض الحنابلة( ) إلى أن موت الموصى هو سبب ثبوت الملك الموصى له، فإذا قبل الموصى له الوصية ثبت الملك من وقت الموت، لوجود السبب فى ذلك الوقت.
ووجه ذلك القول : إن الملك بالوصية مضاف إلى الموت، فتنفيذ هذا التصرف يكون عند الموت، والقبول قد ورد على التصرف وهو بحالته تلك حتى يثبت ملكية متفقة مع الإيجاب، وهى الملكية المعقبة للموت فورا، وقياسه العقد الموقوف، والبيع المقترن بشرط الخيار، فإجازتهما تكون تنفيذا للعقد من وقت إنشائه لا من وقت الإجازة.
ولهم وجه آخر : أن الملك فى الموصى به لا يثبت للموصى، لأن ذمته خربت بالموت، ولا يدخل فى ملك الوارث لأن الله حدد الموروث بما يبقى بعد الوصية والدين، فلم يبق إلا أن يكون موقوفا على قبول الموصى له ورده، والقبول إجازة، والإجازة تكون تنفيذا للعقد من وقت إنشائه لا من وقت إجازته( ).
2- والمشهور عند المالكية والصحيح وهو قول بعض الحنفية وبعض الشافعية أن سبب ثبوت الملك فى الموصى به هو قبول الموصى له( ).
ووجه هذا الرأى : أن الوصية – متى كانت لمعين – تفتقر إلى القبول فلا يعقل أن يسبق الامتلاك القبول كسائر العقود التى تحتاج إلى القبول، ولأن القبول لا يخلو من أن يكون شرطا أو جزءا من السبب، ولا يتحقق موجب الشرط بدونه، ولا المسبب بدون السبب( ).
فعلى الرأى الأول فإن زوائد الموصى به ونماؤه تكون للموصى له، فمتى كانت الوصية فى حدود القدر الجائز الإيصاء به، وذلك عند موت الموصى، فإنها تستحق للموصى له، ولو زادت بعد ذلك زيادة ملحوظة فإن الأصل والزيادة كليهما من حق الموصى له.
وعلى القول الثانى فإن ما يحدث من نماء أو زيادة فى الموصى به لا ينتقل إلى الموصى له، وإنما يبقى على حكم ملك الموصى، ويكون للورثة( ).
وقد أخذ القانون المصرى بالقول الأول، حيث نص فى المادة (25) من قانون الوصية أنه "إذا كان الموصى له موجودا عند موت الموصى، استحق الموصى به من حين الموت، ما لم يفد نص الوصية ثبوت الاستحقاق من وقت معين بعد الموت…..".
ثانيا : علة ثبوت الملك فى الزوائد والنماء :
إذا رجحنا ما أخذ به قانون الوصية فى المادة "25" من أن استحقاق الوصية يثبت مضافا إلى الموت بناء على ما للوصية من شبه بالميراث بجامع كونهما خلافة عن الميت، فهل يثبت الملك فى الزوائد أو النماء باعتباره تبعا للموصى به، أم باعتباره نماء ملك وثمرته؟
قبل أن نجيب على التساؤل نبادر بالقول بأن الأثر المترتب على ذلك غاية فى الأهمية.
إذ باعتبار النماء تبعا للموصى به فإنه يعتبر وصية، ومن ثم يستحق الموصى له منه ما لا يجاوز به مع الأصل القدر الجائز فى الوصية، فإن كان النماء مع الأصل فى حدود ثلث التركة استحقهما الموصى له، وإن جاوز الثلث فللموصى له الأصل وما يكمل الثلث من النماء، أو يأخذ ثلث كل منهما على قول آخر( ).
أما باعتبار النماء ثمرة للملك، فإن النماء يدخل فى ملك الموصى له وإن جاوز به ثلث التركة، لأن المعتبر فى قدر الوصية الجائز هو قدرها حين الموت( ).
إذا وضح لك ذلك فأعلم أن :
1- الحنفية مالوا إلى الاعتبار الأول، ومن ثم فإن كانت الزيادة مع الأصل لا تزيد عن ثلث التركة نفذت الوصية من غير حاجة إلى إجازة الورثة( )، وإن جاوز الأصل والزيادة الثلث، نفذت الوصية فى الثلث، وتوقف نفاذها فى الزائد على إجازة الورثة، فإن أجازوها جازت وإلا بطلت فى القدر الزائد.
2- أما الشافعية فمالوا إلى الاعتبار الثانى، ومن ثم فإن الزيادة تستحق للموصى له بالغة مع الأصل ما بلغت دون توقف على إجازة أحد.
وبرأى الشافعية فى تقدير النماء أخذ القانون المصرى، فنص فى المادة (25) من قانون الوصية على أنه "……………..وعلى أن تكون زوائد الموصى به من حين الملك إلى القبول للموصى له، ولا تعتبر وصية…….." ومن الطبيعى وقد اختار القانون أن يستحق الموصى له – الموجود عند موت الموصى – الموصى به من حين الموت، ما لم يفد نص الوصية خلاف ذلك، وعلى أن تكون الزوائد للموصى أيضا باعتبارها ثمرة ملكه ونمائه، من الطبيعى والحال كذلك أن يكون "على الموصى له نفقة الموصى به فى تلك المدة"( ) أى من حين الموت إلى حين القبول، وهذا ما ختمت به المادة (25) من قانون الوصية.
المبحث الثالث
تعليق الوصية على الشرط واقترانها به
وإضافتها إلى الزمن
المطلب الأول
تعليق الوصية على الشرط
التعليق فى اللغة مصدر من الفعل الرباعى علق – بتشديد اللام – ومعناه النشوب والاستمساك، يقال تعلق به أى نشب به واستمسك وارتبط، ومنه سمى الحمل فى ثانى أطواره علقة، إذ فى هذا الطور يبتدئ تعلق النطفة بجدار الرحم وتشبثها به، بعد أن كانت حرة الحركة فى فراغ الرحم( ).
أما الشرط : فهو الأمر الخارج عن الشئ، المتوقف عليه ذلك الشئ غير المؤثر فى وجوده أصلا( ).
فالشىء يوجد بركنه الداخل فى ماهيته لا الخارج عنه، كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة، لكن وجود الصلاة متوقف على وجود الوضوء، فلا صلاة بغير وضوء.
وتنقسم الشروط إلى شروط شرعية، وشروط جعلية أو تعليقية( ).
أما الشرعى فما يتوقف عليه وجود الشئ فى الواقع بحكم الشرع، كالشهود للنكاح، والعقل والبلوغ لصحة الوصية، وهكذا، وسيأتى حديثنا مفصلا فى الشروط الشرعية للوصية.
أما شروط التعليق : فهو عبارة عن أمر يعتبره المكلف ويعلق عليه تصرفا من تصرفاته بكلمة الشرط – إذا، من، متى، إن……..الخ – أو بدلالتها( ).
إذن فتعليق الوصية على شرط معناه: أن يعلق الموصى عبارة الوصية وسبيتها على وجود شرط معدوم قد يوجد فتحقق لوجوده سبيتها، ويترتب عليه آثارها، وقد لا يوجد فلا تنعقد عبارتها عند ذلك( ).
فإذا كانت العبارة تفيد أن عبارة الموصى قد ارتبطت بأمر مستقبل زائد عن أصل الوصية، معدوم على خطر الوجود – أى محتمل الحدوث – فإننا نكون بصدد وصية معلقة على شرط.
ومثالها : أن يقول إذا اشتريت عقارا بمدينة كذا فقد جعلته بيتا للمغتربين بعد وفاتى، أو يقول سيارتى التى سوف اشتريها بعد عودتى من السفر وصية لكلية الحقوق.
فإن كان الشرط كما وصفنا، ولم يكن منافيا لحكم التصرف كان صحيحا والوصية المعلقة عليه صحيحة باتفاق الفقهاء( ).
وبهذا جاءت المادة الرابعة من قانون الوصية تقول "وتصح الوصية المضافة، أو المعلقة على شرط أو المقترنة به".
المطلب الثانى
اقتران الوصية بالشرط
معناه : التزام أمر لم يوجد – الشرط – فى أمر وجد – الوصية – بصيغة مخصوصة( ).
وبعبارة أخرى : أن يزاد على عقد الوصية شرط فيه فائدة لأحد العاقدين أو لغيرهما، أو فيه تقييد له فوق ما يقتضيه العقد بحسب وضعه الشرعى.
ومن أمثلته : أن يقول الموصى أوصيت لخالد بهذه الأرض على أن يزرعها بنفسه، أو أوصيت لكلية الحقوق بهذه المكتبة على أن لا تسمح بالإعارة الخارجية، أو أوصيت لها بهذه العمارة على أن تخصص لسكنى المغتربات عن محافظة بنى سويف……..وهكذا( ).
والفرق بينه وبين شرط التعليق :
أن التعليق لا عمل له فى آثار العقد وأحكامه، فبتحقق الشرط الذى علق عليه العقد يصبح العقد كأن لم يكن به شرط، وينتج جميع آثاره وأحكامه، وذلك على عكس الشرط المقترن بالعقد المقيد له، فإن عمله يكون فى آثار التصرف وأحكامه، فعمل الشرط المقيد يكون فى المرحلة التى تلى تمام العقد( ).
حكم اقتران التصرف بالشرط :
أ- للفقهاء فى حكم الاقتران ذاته، وحكم العقد المقترن بالشرط كلام طويل لا يتسع لاستعراضه، فنجتزئ منه ما يفى بالغرض.
1- أضيق أخذ بالشروط هو مذهب أهل الظاهر، فالشرط الجائز عندهم هو ما ورد به الشرع، وما عداه فباطل، فإن كان الشرط قد قارن العقد حال التعاقد، كان العقد باطلا مفسوخا، وإن سبق الشرط العقد أو تلاه بطل الشرط وصح العقد( ).
2- وأكثر المذاهب أخذا بالشروط مذهب الحنابلة فقد اعتبر أن الأصل فى الشروط الجواز والصحة ولا يحرم ويبطل منها إلا ما دل على تحريمه وإبطاله نص أو قياس( ).
والفارق بين مذهب الحنابلة وغيره من المذاهب الأخرى أنه بينما يعتبر مذهب الحنابلة أن الأصل فى الشروط الصحة وغير الصحيح هو المستثنى، تعتبر المذاهب الأخرى أن الأصل فى الشروط الفساد والصحيح هو المستثنى( ).
3- أنه على الرغم من اتفاق الحنفية والمالكية والشافعية على أن الأصل فى الشروط الفساد إلا أنهم يختلفون فيما بينهم فى تقدير بعض الشروط تمسكا بنص أو اعتبارا لعرف، لذا فقد يصح فى نظر بعضهم ما يراه البعض الآخر باطلا( ).
4- لا شك أن الشرط تصرف إرادى مقصود، والقاعدة المتفق عليها بين الجميع أنه يجب "أن يكون قصد المكلف فى العمل، موافقا لقصد الله فى التشريع"( ) إذ "الأمور بمقاصدها"( ) ولكن رغم الاتفاق على هذا فإن المواد من مقاصد الشريعة أو دائرة هذه المقاصد لم تكن محل اتفاق( ) ولهذا أثره الهام فى اعتبرا أو إبطال بعض الشروط.
ب- مراعاة لهذه الأسس انتهت كلمة الفقهاء فى تقدير الشروط إلى :
1- اتفقوا على صحة كل شرط فيه مصلحة العقد، وعلى لزوم الوفاء به، وإجبار المشروط عليه على ذلك.
2- كما اتفقوا على بطلان كل شرط يناقض مقتضى العقد ويخالف مقاصد الشرع.
3- أما إذا كان الشرط يخالف مقتضى العقد غير أنه يحقق مصلحة مشروعة لأحد المتعاقدين أو لأجنبى فقد اختلف فى حكمه.
مذاهب الفقهاء فى الشروط المقترنة بالوصية :
وضح مما اقتبسناه من كلام الفقهاء فى نظرية الشرط أنه فيما خلا أهل الظاهر الذين لا يجيزون إلا شروطا صحت بها النصوص فإن الفقهاء يقسمون الشروط إلى صحيحة وغير صحيحة( ).
أما الشرط الصحيح فالمتفق عليه منه هو ما لا ينافى مقتضى العقد ولم يخالف حكم الشرع.
ومثاله : أن يوصى إلى رجل بدار على أن يسكن – الموصى له – زوجته معه، فهذا الشرط صحيح باتفاق لأن مقتضى الوصية بدار للسكنى أن يسكنها الموصى له، ومن حكم الشرع أن الزوجة تقر حيث يقر زوجها – قال تعالى "أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم"( ) فإن شرط الموصى شرطا كهذا فلاشك فى صحته باتفاق.
والمتفق عليه من الشرط غير الصحيح ما ناقص مقتضى العقد دون أن يرد به نص أو يجرى عليه عرف، وكذا ما خالف حكم الشرع.
مثال الأول : أن يوصى إليه بقطعة أرض على أن لا يزرعها ولا يبنيها، فهذا شرط مناقض لمقتضى الوصية فى حق الموصى له فى الانتفاع.
ومثال الثانى : أن يوصى له بمبلغ من المال على أن ينفقه فى دور الرذيلة والمواخير، فشرط كذلك فيه دعوة إلى الفسق والفجور الذى ينهى عنه الشرع.
فإذا لم يكن الشرط على ما وصفنا، فقد اختلف فى حكمه الفقهاء، واشتهر فى ذلك طريقتان
)
الطريقة الأولى : للحنفية ومعهم بعض الفقهاء :
وبمقتضى هذه الطريقة تقسم الشروط ثلاثة أقسام :
1- الشرط الصحيح وهو كل شرط وافق مقتضى العقد أو ورد بجواز اشتراطه نص أو جرى عليه عرف..ويعتبر شرطا صحيحا فى رأيهم الشرط الذى يقيد من حرية الموصى مادام لا يخالف الشرع، ومن ذلك إذا أوصى على ألا يتزوج من فلانة أو على أن يقيم بأحد الأحياء الشعبية مثلا.
وقد خص الحنفية الوصية والوقف بكثير من الشروط التى ردوها فى عقود المعاوضات، ويرجع الإمام الشيخ أبو زهرة هذه التوسعة فى قبول الشروط التى يشترطها الواقفون والموصون إلى أن "الوصية تصرف فى الملك جاء على خلاف القواعد الفقهية التى كانت لسائر العقود لتوسعة على المالك لكى يتدارك ما فاته من واجبات ونذور، وليصل ببعض ماله من يرى مصلحة له فى صلته….وكل ذلك يقتضى أن يطلق له الحق فى الشروط….ولذلك كان كل شرط فى الوقف والوصية مقبولا إلا إذا كان الشرط منهيا عنه، أو كان فى تنفيذه ضرر بالوقف، أو بمصلحة الموصى لهم من غير نفع مقصود لغيرهم"( ).
وواضح من استقراء شيخنا لمذهب الحنفية أنه فى خصوص الاشتراط فى الوصية قد خرج على أصوله فى مبدأ الاشتراط عموما.
2- الشرط الفاسد : وهو كل شرط مخالف لمقتضى العقد ولم يرد بجواز اشتراطه شرع ولا عرف، ولكن يترتب على اشتراطه نفع لأحد المتعاقدين أو لغيرهما.
ومثاله : إذا أوصى بداره لحسن على أن تؤول بعد موته لحسان مثلا :
فهذا الشرط مخالف لمقتضى عقد الوصية الذى يوجب أن تكون الدار الموصى بها ملكا تاما لحسن – الموصى له – ولم يرد بالشرط نص شرعى ولم يجر به عرف معتبر.
3- الشرط الباطل : وهو كل شرط مخالف لمقتضى العقد، ولم يرد بجواز اشتراطه نص، ولا جرى به عرف، وليس فيه نفع لأحد العاقدين ولا لغيرهما، ومثاله الشهير أن يوصى لشخص بدار على ألا يسكنها ولا يؤاجرها.
فإذا كان الشرط صحيحا جازا اشتراطه وجب الوفاء به، أما إن كان فاسدا أو باطلا فإنه يلغى وتظل الوصية صحيحة وكذلك الوقف.
إذن لا أثر للشرط الباطل أو الفاسد فى رأى الحنفية على صحة الوصية أو الوقف( ).
الطريقة الثانية : طريقة ابن تيمية وابن القيم :
ابن تيمية وابن القيم من متأخرى الحنابلة غير أنهما يعتبران من مجتهدى هذا المذهب، بل إن لهما اجتهادات يبلغان بها منزلة المجتهد المطلق، ولا نغالى إذا قلنا إنهما رائدا مبدأ سلطان الإرادة فى الفقه الإسلامى( ).
ومع ريادتهما تلك فإنهما وسعا من مفهوم المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، توسعة يعز أن نجدها عند غيرهم، ومن ذلك مثلا :
1- اعتبار حرية المال من مقاصد الشرع لقول الله تعالى "كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم"( ) وعليه فمن شرط فى وصيته أن يكون التصرف فيها على وجه احتكارى بين الأغنياء فقط فهذا شرط باطل( ).
2- مقصود المال أن ينفق فيما فيه نفع دينى أو دنيوى بقدر ما يحقق المصلحة فقد نهى الله عن التبذير والإسراف، ونهى عن إيتاء السفهاء أموالهم، فإذا أوصى شخص بثلث ماله لسفيه على أن تكون له حرية التصرف وعدم الحجر عليه فقد اشترط شرطا باطلا( ).
3- إلزام الناس بما ليس بواجب ولا يستحب فيما ليس للملزم فيه منفعة مخالف لمقاصد الشرع، لأن الحلال ما أحل الشرع والحرام ما حرمه، وليس لأحد أن يشرع على خلاف شرع الله.
فإذا أوصى شخص لآخر بثلث ماله على أن يتزوج بفلانة فشرطه باطل، لما فيه من إلزام بما ليس بواجب.
4- النكاح سنة، والترهب والعزوبية مضادة لشرع الله تعالى "لأن الله تعالى فتح للأمة باب النكاح بكل طريق وسد عنهم باب السفاح بكل طريق…ثم إن لوازم البشرية تتقاضاها – تطلبها – الطباع أتم تقاضيه، فإذا سد عنها مشروعها فتحت له ممنوعها ولابد"( ).
فإذا أوصى شخص لآخر بمال على ألا يتزوج فشرطه باطل، لما فيه من سد باب المباح، وفتح باب المعصية.
5- وإجمالا "فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد فى المعاش – الدنيا – والمعاد – الآخرة – وهى عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل"( ).
وكلما اتسعت دائرة المقاصد الشرعية كلما ضاقت دائرة الشروط الجايزة، وهذا على خلاف مذهب الحنابلة عموما، ومنهج ابن تيمية وابن القيم خصوصا فى مبدأ الاشتراط بعمومه( ).
وحسب تحليل الإمام أبى زهرة فإن شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم "قد ضيقا من الشروط فى الوصايا والأوقاف سدا لباب حسبوه شرا، لأن من الشروط ما رأيا – مع غيرهم – أن فيه فتحا لباب الفساد…..فوسعوا معنى المخالفة حتى تشمل كل ما يؤدى إلى فساد، أو ما يكون ضد المصلحة الاجتماعية"( ).
وحاصل ذلك :
1- أن الشروط فى رأى شيخ الإسلام وتلميذه قسمان :
أ) صحيح : وهو الشرط الذى لم يخالف مقتضى العقد، ولم يرد نص من الشارع بالنهى عنه، ولم يخالف مقصدا من مقاصد الشريعة العامة. وهذا الشرط يجب الوفاء به.
ب) باطل : وهو ما خالف مقتضى العقد، أو ورد نص من الشارع بالنهى عنه، أو خالف مقصدا من مقاصد الشرع العامة، وما كان كذلك لا يجب الوفاء به ولا تنفيذه.
2- أثر الشرط الباطل فى الوصية( ) :
يفرق الإمامان ابن تيمية وابن القيم فى أثر الشرط الباطل فى الوصية بين نوعين من الشروط.
أ) شروط يمكن معها صرف الموصى به إلى غير المعصية :
وضابطها : أن لا يحدد الموصى الوجوه التى يصرف فيها المال الموصى به.
ومثالها : أن يوصى لأحد بحديقة على أن يتزوج واحدة بعينها، أو يوصى لأرملة بمال على ألا تتزوج، والحكم فى هذا الشرط أن يبطل ويلغى وتصح الوصية.
ب) شروط لا يمكن معها تحويل الشئ الموصى به إلى غير المعصية :
وضابطها : أن يحدد الموصى وجه الصرف، كما لو أوصى إلى مدمن بشرط أن يستمر فى التعاطى، أو يوصى بأرض على أن تتخذ ناديا للقمار، أو بيتا للدعارة. ومثل هذه الشروط تؤثر فى الوصية حيث تجعلها تتمخض للمعصية، ولا يمكن تحويل الموصى به إلى غير ذلك، لذا فإن الشرط يبطل وتبطل الوصية كذلك.
موقف القانون المصرى :
كان العمل قبل صدور قانون الوصية يجرى على وفق مذهب الحنفية وهو كما علمت شديد التوسعة للاشتراط فى الوصية والوقف، فكل شرط لا ينافى مقتضى العقد أو يخالف نصا خاصا فى الشرع فهو صحيح، كما يصح الشرط المنافى لمقتضى العقد إذا جرى به عرف، ومغالاة فى التوسعة كانوا يقولون "شرط الواقف كنص الشارع" والوصية كالوقف فى الحكم.
وكان من أثر ذلك أن أفرط كثيرون من الواقفين والموصين فى الشروط التى لا يدعو إليها دين ولا عرف سليم، ولا باعث من مروءة أو خلق وكن طبيعيا والحال هذه أن يجأر الناس بالشكوى من ذلك، وحسنا فعل واضع قانون الوصية إذ عدل عن مذهب الحنفية وأخذ بمذهب ابن تيمية وابن القيم فى التضييق من دائرة الشروط الصحيحة، وتوسيع نطاق الشروط الباطلة.
وهذا ما تقتضى به المادة الرابعة والتى تقرر :
"مع مراعاة أحكام المادة الثالثة تصح الوصية المضافة أو المعلقة بالشروط أو المقترنة به، وإن كان الشرط صحيحا وجبت مراعاته، مادامت المصلحة فيه قائمة، ولا يراعى الشرط إن كان غير صحيح أو زالت المصلحة المقصودة منه، والشرط الصحيح هو ما كان فيه مصلحة للموصى أو الموصى له أو لغيرهما ولم يكن منهيا عنه، ولا منافيا لمقاصد الشريعة".
أما المادة الثالثة فتنص على أنه "يشترط فى صحة الوصية ألا تكون بمعصية، وألا يكون الباعث عليها غير مشروع".
وجماع ما تفيده المادتان أن :-
1- الشرط الصحيح يجب الوفاء به متى توافرت فيه شروط ثلاثة :-
أولها : أن يقصد به تحقيق مصلحة قائمة للموصى له أو لغيرهما.
الثانى : ألا يكون منهيا عنه.
الثالث : ألا يكون منافيا لمقاصد الشارع.
2- الشرط الباطل لا يجب تنفيذه، ويكون الشرط كذلك متى خلا عن المصلحة القائمة، أو كان منهيا عنه بنص خاص، أو كان منافيا لمقاصد الشارع.
3- والقاعدة أن الشرط الباطل لا يراعى، بمعنى أنه يبطل وتصح الوصية، ولكن بمراعاة نص المادة الثالثة فإن الوصية تبطل أيضا متى أثر الشرط فيها وصرفها إلى المعصية تماما، كالوصية لأندية القمار، والمراقص ونحوها.
المطلب الثالث
إضافة الوصية إلى الزمن
الوصية – كما عرفنا – عقد، والعقود تنقسم بحسب الصيغة المنشئة لها( ) إلى عقود منجزة، أى تدل صيغتها على إنشائها وترتيب آثارها فى الحال وعقود معلقة على أمر مستقبل محتمل الوقوع، وهذه لا تنشأ أو لا تترتب آثارها إلا بتحقيق الأمر المعلق عليه، وعقود مضافة إلى المستقبل، أى تدل صيغتها على إنشاء العقد فى الحال، ولكن تؤخر أحكامه إلى زمن مستقبل، ومن ذلك أن يتعاقد اثنان على أن يؤجر أحدهما إلى الأخر شقة ابتداء من العام القادم، فالإجارة تنعقد فى الحال، ولكن يتأخر تنفيذ العقد إلى ابتداء الزمن المذكور.
والأصل فى العقود أن يكون حكمها منجزا( )، أى تنشأ وتترتب عليها آثارها فى الحال، إلا عقدى الوصية والإيصاء، فإنهما لا يكونان إلا مضافين إلى الموت، فالوصية تمليك مضاف إلى ما بعد الموت( ) والإيصاء : أن يختار الشخص وصيا يشرف على أولاده بعد وفاته( ) فالشأن فى هذين العقدين أن يكونا مضافين إلى ما بعد الموت، أما غيرهما من العقود فيصح أن يكون منجزا من غير استثناء.
ولأن الوصية مضافة بطبيعتها إلى بعد موت الموصى، فإن إضافتها زمن أبعد من الموت لا يخرجها عن طبيعتها.
فلو أن شخصا أوصى إلى آخر بدار تؤول إليه بعد خمس سنوات من وفاة الموصى، فالوصية صحيحة.
وخالف فى ذلك الإمام ابن حزم الظاهرى، إذ لا تجوز – فى رأيه – الوصية بما لا ينفذ لمن أوصى له بها، أو فيما أوصى به ساعة موت الموصى( ).
ووجه ذلك أن إضافة الوصية إلى زمان يتراخى عن وفاة الموصى، يعنى الوصية بما فى ملك الغير، لأن ما يقع عليه فى ملك الورثة هو ما فضل عن الدين والوصية، فإذا تراخت الوصية، ثبت الملك للورثة، وما ملكه الورثة فقد سقط عنه ملك الميت؛ وإذ لا ملك له عليه فوصاياه فيه باطلة( ).
وبما ذهب إليه الجمهور أخذ القانون فى لمادة الرابعة والتى صدرت بعبارة :
"مع مراعاة أحكام الماجة الثالثة تصح الوصية المضافة……" كما اعتبره فى نص المادة الخامسة والعشرين بقوله "إذا كان الموصى له موجودا عند موت الموصى استحق الموصى به من حين الموت، ما لم يفد نص الوصية ثبوت الاستحقاق فى وقت معين بعد الموت"( ).
إذا مقصود المادة الرابعة بالإضافة، الإضافة إلى وقت معين بعد الموت( )، وليس الإضافة إلى زمن يتراخى عن وقت إنشائها، لأن هذا مقرر بحسب طبيعة الوصية التى لا تقع منجزة بحال، ومن هنا عاب بعض مشايخنا( ) على المقنن تعبيره بلفظة "تصح" لما توهمه من أن الوصية تصح منجزة.