مرض الموت وتصرفات المريض القانونية
مرسل: الأحد أكتوبر 05, 2008 6:59 pm
مقدمة
يعد مرض الموت من المسائل المهمة على الصعيد القانوني في هذا العصر نظرا لكثرة تطبيقاته العملية وامتداداته وتشعباته النظرية , وقد أخذت به تشريعات عديدة بصورة متطابقة أو متقاربة أو متباعدة , وتخلفت تشريعات أخرى عديدة عن الأخذ به , كما برهن الفقه الإسلامي في مضماره عن أصالة تحتاج اليوم إلى من يجلوها , فما هو مرض الموت ؟ وما هي أحكامه؟ انه, ولا شك, بعد هذا , موضوع جدير بالبحث .
لكن قبل الولوج في صلب الموضوع لابد من الإلمام بجوهره , وأهميته ومراميه , وتحديد نطاقه وأخيرا خطة بحثه ومنهجه وهذا ما سنتناوله تباعا في الفقرات آلاتية :-
أولا:- جوهر الموضوع :-
اتجهت النية في معظم البلدان العربية والإسلامية منذ وقت ليس بالبعيد إلى سن تشريعات مستقاة من الشريعة الإسلامية, ويعد هذا , في الحقيقة , موقفا محمودا ومسلكا صائبا وذلك لأن هذه الشريعة غنية بالحلول القانونية التي من شانها أن تحقق العدالة وترسخ لدى الناس ثقة بالتشريع وتوجد نوعا من التوافق أو التوفيق بين مصالح الأفراد المتعددة أو المتضاربة,( ) وحيث أن التشريع الإسلامي قد بلغ الغاية القصوى من الإجادة والتجلي في تحديد معنى مرض الموت وفي أحكامه فإننا رأينا من المحتم علينا أن نكشف عن ذلك وان نقارن بينه وبين ما وضع القانونيون على هذا الصعيد توخيا لتحقيق استفادة اكبر.
أما جوهر موضوع البحث فهو أن الشخص إذا مرض مرضا أقعده عن مباشرة أعماله وأحس بدنو اجله فان الغالب في مثل هذه الحالة أن تتسلط على هذا المريض فكرة الخطر المحدق أو الوشيك وهو ذهاب أمواله إلى الورثة أو هذا الشخص منهم أو ذاك أو إلى الاغيار أو بعضهم فيلجا بتأثير هذه الفكرة المتسلطة إلى التصرف في هذه الأموال معاوضة أو تبرع ولكن بشيء من المحاباة التي ستفضي إلى الإضرار بأولئك الورثة أو الغير , الأمر الذي يتطلب الحد من تصرفاته في هذا المرض ومن هنا فقد اعتبر مرض الموت , بناء على ذلك , حالة مقيدة ومؤثرة في تصرفات المصاب به , ولزم من ثم إعطاء هذه التصرفات أحكاما خاصة تختلف عن أحكام تصرفات الشخص غير المريض بهذا المرض , وإذا فمرض الموت لا يعدم أهلية الأداء ولا ينقصها ولكنه يحد من تصرفات المريض به .
والواقع إن معظم التشريعات العربية قد اعتمدت فيما يتصل بهذا المرض على الفقه الإسلامي مصدرا , وذلك لأنها قد اتاحت اللجوء إلى الشريعة الإسلامية إذا لم تجد الحكم في التشريع أو العرف مقدمة هذه الشريعة على قواعد العدالة .( )
ثانيا :- أهمية موضوع البحث ومراميه :-
يرمي هذا البحث إلى عدد من الأغراض المهمة التي كانت وراء اختياري لموضوعه كما يسعى إلى تقديم أجوبة عن بعض الأسئلة المثارة ووضع حلول لبعض المشكلات التي تواجهها المجتمعات اليوم . والحقيقة إن بعض الأغراض منبثقة من أهمية موضوع البحث النابعة من الغموض الذي يكتنفه والاختلاف في شانه وحاجة الناس المرضى بمرض الموت وغير المرضى إلى معرفة ما لهم وما عليهم من أحكامه , هذا فضلا عن أن الكتابات الفقهية القانونية لم تعطه ما يستحق من البيان فهي درجت على معالجته من الناحية الشرعية أو الناحية القانونية ولم تحاول الجمع بين الاثنين أو أغناء الجانب القانوني بما يتحصل من الفقه الإسلامي الذي برع فيه إلى حد بعيد , وان الأحكام القضائية لم تستقر على أحكام واحدة فيه وذلك لعدم تبلوره بصورة وافية مفهوما وأحكاما .
أما الأسئلة التي تثور وتحتاج إلى أجوبة فهي كثيرة تتعلق بتحديد معناه وضوابط هذا التحديد , وبشروط تحققه , وبمدة رقود المريض في الفراش , وكيفية إثبات الموت بهذا المرض , هذا إلى جانب مسالة قوة الورقة العرفية في الإثبات وحجية تاريخها , وإشكالية الورثة من حيث اعتبارهم خلفا عاما أو غيرا , ذلك ومسالة الطعن إذ السؤال المتبادر دوما هو : هل للمريض نفسه أن يطعن في تصرفه بعد أن يبرا من مرضه؟ وما هي الدعوى؟ وهل يجوز للورثة والدائنين أن يطعنوا بتصرفات المريض مرض الموت ؟ ثم هل يحق للورثة إجازة تصرف هذا المريض , وثمة أسئلة أخرى تتبادر من نواح غير هذه وذلك كالسؤال عن القانون الواجب التطبيق على تركة المتوفى بمرض الموت إذا وجدت خارج دولته , والسؤال عن مدى صحة زواج أو طلاق المريض مرض الموت وعن الحكم لتصرفات المريض , وكذلك السؤال عن ماهية طلاق الفار وعن إقرارات هذا المريض ومدى الاعتداد بها وما إلى ذلك من الأسئلة التي يتعين الوقوف عليها ومن ثم الاهتداء إلى أجوبتها .
ثالثا :- نطاق البحث :-
إن موضوع مرض الموت من السعة والتشعب بحيث لا تحيط أو تفي به رسالة ماجستير واحدة ولذلك آثرنا الاقتصار على معالجته من أكثر جوانبه أهمية من وجهة نظرنا فالزمنا أنفسنا بتحديد معنى هذا المرض وتمييزه مما يشتبه به وتحديد معايير المرض بوجه عام توخيا لتحديد لحظة الوفاة من ناحية طبية وشرعية وقانونية , وكذلك ببيان شروط مرض الموت وإثباته وأحكامه وحالات تصرفات الأصحاء التي لها حكم التصرفات في مرض الموت, ولم نخض إلا في المعاملات المالية المحضة والأحوال الشخصية ذات العلاقة بهذا المرض ضاربين صفحا عن سائر تصرفات المريض الأخرى التي تخرج عن هذين المجالين
رابعا :- خطة البحث ومنهجه :-
نزولا عند مقتضيات البحث العلمي والرغبة في الاقتصار في البحث على أكثر جوانب الموضوع أهمية ومراعاة لطبيعة هذا الموضوع فقد أثرنا بحثه في فصلين خصصنا اولهما لماهية مرض الموت وإثباته وكرسنا الثاني لأحكام تصرفات المريض مرض الموت فإذا فرغنا من هذين الفصلين وصلناهما بخاتمة .
أما منهج البحث فقد اخترنا المنهج التحليلي الاستقرائي المقارن سبيلا لمعالجة هذا الموضوع مع الالتزام بالموضوعية وحيث أن الفقه الإسلامي قد تفرد في معالجة هذا الموضوع إلى الحد الذي بذَ فيه القانون الوضعي وسبقه إلى الغاية القصوى فقد عقدنا المقارنة بين القوانين الوضعية من جهة وبينها وبين الفقه الإسلامي من جهة أخرى .
**الفصل الأول**
- ماهية مرض الموت وإثباته -
لغرض الوقوف على ماهية مرض الموت يلزم أن نحدد معنى مرض الموت، وان نتناول شروط تحققه،وان نعرض لحالات تصرفات الأصحاء التي لها حكم التصرفات في مرض الموت ،كما يلزم على أساس ذلك كله أن نختم هذه الماهية بكيفية إثبات هذا المرض.
وتأسيسا على ذلك سنعالج هذا الفصل في أربعة مباحث , نخصص أولها لتحديد معنى مرض الموت , والثاني لشروط تحقق مرض الموت، والثالث لحالات تصرفات الأصحاء التي لها حكم التصرفات في مرض الموت، والرابع لإثبات مرض الموت.
*المبحث الأول*
- معنى مرض الموت –
إن تحديد معنى مرض الموت يقتضي أن نعرض لمعايير المرض بوجه عام، ومن ثم لمعنى مرض الموت في الفقه الإسلامي والقانون الوضعي ، وسنخصص لكل من هذين الموضوعين تباعا مطلبا مستقلا :-
●المطلب الأول●
- معايير المرض بوجه عام –
قال الشريف الجرجاني : (( إن المرض في ذاته هو ما يعرض للبدن فيخرجه عن الاعتدال الخاص)) (1). وقال غيره (هو حالة غير طبيعية في بدن الإنسان تكون بسببها الأفعال الطبيعية والنفسانية والحيوانية غير سليمة )). (2) كما قيل : (( هو حالة للبدن خارجة عن المجرى الطبيعي)). (3)وقال بعضهم: ((المرض هو ما يعتري الاجسام الحية من خلل او نقص تخرج به عن حالة اعتدالها العادية ،قليلا كان او كثيرا، وقد ينتهي به الامر الى القضاء على الحياة)). (4)
ويفهم من ذلك بان المرض هو السقم ،وهو نقيض الصحة،او هو خروج الجسم عن حا لة الاعتدال التي تعمل فيها اعضاء البدن بوظائفها المعتادة ، والإمراض بالاجمال توقع المرضى بحالة من الضعف والارهاق الجسدي ، ولهذا قيل العقل السليم في الجسم السليم. ومن هنا وجب علينا ان نفرد مساحة للتمييز بين المرض العادي من مرض الموت وسنخصص المطلب الثاني محلا للتمييز المفصل بينهما. ومع ذلك سنشير بايجاز الى التميز بينهما. فالمرض العادي هو المرض الذي يصيب الإنسان فيجعله مرهقا ومتعبا وقد يصاحبه الأم عضوية وغيرها كالزكام مثلا وغيرها من الأمراض التي يمكن علاجها ويشفى منها المريض ،اما مرض الموت فهو المرض الذي يصاب بها الانسان ويتصل مرضه بالموت لان هذا المرض مميت كالأيدز مثلا وغيرها وسنتكلم عن ذلك في مطلب مستقل.
قلنا بان مرض الموت هو المرض المخوف الذي يتصل بالموت ولغرض المقارنة بين الموت الذي يقع في غير مرض الموت (أي ان الإنسان يكون غير مريض بمرض الموت ) وبين الموت الذي يقع في مرض الموت (أي المريض الذي يتصل مرضه بالموت) يلزم تحديد وقت موت غير المريض بمرض مميت وكذلك تحديد وقت الموت في مرض الموت. فالموت هو مفارقة الروح للجسد مفارقه تامة تستحيل بعدها عودته الى الحياة،(5) اما وقت الموت في مرض الموت فهو الذي تحكمه عدة معايير، ذلك لان هناك خلافات شرعية وطبية بشان تحديد لحظة الموت والحقيقة ان هنالك المعيار القديم والمعيار الحديث بالإضافة الى المعيار الشرعي وثمة موضوع ذي صلة وثيقة بالتحديد ومعاييره يتمثل في استخدام الأجهزة الطبية على المريض وتلزم معالجته قبل الخوض في المعايير ، ولذا سنوزع هذا المطلب على اربع فقرات نخصص الاولى للموقف من استخدام الأجهزة الطبية على المريض والثانية للمعيار القديم والثالثة للمعيار الحديث والرابعة للمعيار الشرعي .
اولاً:-الموقف من استخدام الاجهزة الطبية على المريض:-
يستخدم على بعض المرضى في حالات الخطر والحرج نوع من الأجهزة الطبية يطلق عليها اسم اجهزة الإنعاش الصناعي ويعرف الإنعاش الصناعي ( العناية المركزة ) بأنه :- (( مجموعة من الوسائل والإجراءات الطبية المعقدة التي تستخدم لفترة ما قد تطول او تقصر فتحل محل او تساعد الوظائف العضوية الأساسية للمريض, وذلك حتى يتمكن من اجتياز فترة حرجة خلال مرضه يكون فيها معرضاً للموت اذا لم تستعمل هذه الوسائل)) .( )
وأذن فجهاز الإنعاش يساعد المريض الذي يكون مرضه محرجا لدرجة تجعله لا يستطيع العيش او لدرجة يكون فيها على وشك الموت او الهلاك وذلك بان يقوم الأطباء بوضعه في غرفة العناية المركزة ويخضعونه لهذا الجهاز، كما في حالة موت دماغه بالرغم من استمرار عمل القلب والرئتين.( )
ونكون عند الاستعانة بجهاز الإنعاش الصناعي إمام أحدى الحالات آلاتية:-
الحالة الأولى:- شخص تضرر قلبه او رئتاه ولم يعد في وسعهما ان يقوما بعملهما ومع ذلك فدماغه سليم، فتاتي أجهزة الإنعاش الصناعي لتقوم مقام القلب والرئتين لضخ الدم للدماغ السليم ولغيره من أعضاء الجسم.( )
الحالة الثانية :- شخص مات دماغه،( ) بسبب حادث او ما شابه وقبل ان تلحقه سائر الأعضاء الأخرى بالموت وربط المصاب الى اجهزة الإنعاش الصناعي التي حفزت القلب والرئتين على العمل واستمرار الجسد (عدا الدماغ) حيا.( )
ولقد كثر الخلاف حول استخدام أجهزة الإنعاش الاصطناعي الى الحد الذي جعله في العقود الأخيرة يعرض على القضاء. اذ يعتقد الدكتور مصطفى الزلمي بان الإنعاش الصناعي اذا كان يهدف الى إطالة الحياة فحسب فان سحب الجهاز عن المريض لا يعتبر قتلا، لان المريض اصلا في عداد الاموات فمثل هذه الحالة يطلق عليها فقهاء الشريعة مصطلح (عيش المذبوح)حيث تكون حركة اعضاء الجسم فيها غير اختيارية.( ) اذ يقول : (( اولاً – من المفضل عدم رفع الاجهزة واستمرارها الى نهاية الحالة وهي لا تستغرق بطبيعة الحال مدة طويلة في حالة توفر الضوابط التالية :-
1- اذا لم يكن هناك مريض آخر ينتظر هذا الجهاز ويتوقف انقاذ حياته على استعماله له.
2- اذا لم يكلف استمرار هذه الاجهزة الصناعية نفقات باهظة.
3- اذا كان أهل المريض يفضلون عدم ايقاف الاجهزة لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً.
4- اذا اقتضت ضرورة انقاذ حياة مريض آخر بتر وزرع عضو حي حياة نباتية .....)).( )
وهذا صحيح لانه لا يجوز اطالة عمر انسان ميت اساساً فلله – جل جلاله – قد وضع لكل انسان اجلا معينا فهو يقول،عز من قائل ( ولقد ارسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم ازوجا وذرية وما كان لرسول ان يأتي بأية الا بأذن الله لكل اجل كتاب )).( ) ولقد شهد سوح القضاء بعض القضايا المتعلقة بهذا الموضوع ومن ذلك انه رفعت دعوى، في انكلترا، عام 1993 من قبل أسرة فتاة مريضة او بالأصح ميتة سريريا للحكم بإيقاف أجهزة الإنعاش الصناعي ولم يتمكنوا الا بعد فترة طويلة من اقناع المحكمة باصدار حكم يقضي بأيقاف تلك الاجهزة والسماح لابنتهم بالوفاة.( ) وهناك حالة اخرى وهي حالة ان يحتاج بعض المرضى المصابين بالشلل الى الاستعانة بجهاز الانعاش الصناعي من اجل تأمين استمرارهم على قيد الحياة ففي هذه الحالة تكون حياة المريض مرهونة بعمل تلك الاجهزة, ولذلك يثور التساؤل عما اذا كان من الجائز في هذه الحالة رفع اجهزة الانعاش الصناعي؟...
في ذار من عام 2002 اصدرت المحكمة العليا في لندن قراراً لصالح سيدة تبلغ من العمر ثلاثة واربعين سنة أصيبت بالشلل من عنقها الى قدميها، وليس هناك أي أمل في شفائها حيث طالبت هذه المريضة باغلاق اجهزة الانعاش الصناعي التي تساعدها على البقاء على قيد الحياة، وقد عارض الاطباء أتخاذ مثل هذا القرار وقالوا أنه يخالف اخلاقيات المهنة الا ان قرار المحكمة قضى بان عليهم الانصياع لرغبتها، اذ قالت القاضية : (( ان القانون واضح في انه لمن هم اكبر من 18 سنة وبكامل قواهم العقلية الحق في اختيار رفض المشورة الطبية او العلاج الطبي )).( )
والحقيقة فيما نرى ان للمريض البالغ العاقل الحق في رفض العلاج او انهاء مثل هذه الحياة اذ ان في استمراره عليها مضاعفة لمعاناته وتسبيبا لعذاب من نوع خاص , وهذا يتفق مع ما ذهب اليه ronger leng وهو محاضر في القانون الطبي في جامعة ( ويرويك werwick ) اذ قال : (( بان هذا الحكم ببساطة يدعم حق المريض العاقل والمؤهل في الاحتفاظ بحقه في السيطرة على العلاج الطبي بالرغم من رغبات اطبائه , ثم اضاف : بان هذه القضية كما يعتقد ويعتقد الكثير من القانونيين لم تكن تحتاج الى اقامة دعوى امام المحكمة وذلك لان حكم القانون فيها واضح جدا )) .( )
ويتبين من كلام القاضية ان للشخص الحق في رفض العلاج اذا كان مدركاً وبكامل قواه العقلية غير ان السؤال الذي يتبادر هنا هو هل يجوز للاطباء رفع الجهاز عنه وهو فاقد الوعي؟
في الحقيقة لا يجوز ذلك لانه لا يمكن للاطباء ان يصدروا قراراً برفع الاجهزة الطبية مالم يدعم بقرار قضائي يتضمن الاذن بذلك لان المريض الفاقد الوعي غير قادر على التعبير عن رغبته هذه وعندئذ لا يكون متمتعاً بالاهلية المطلوبة قانوناً، مثال ذلك قضية المريضة المعروفة فقط بالسيدة (B) في بريطانيا، ملخص القضية ان هذه السيدة (B) البالغة من العمر (43)سنة قد اصيبت بالشلل من الرقبة فاسفل وذلك عندما تمزق وعاء دموي في رقبتها قبل عام مما ادى الى عدم قدرتها على التنفس حيث طلبت من الاطباء ان يرفعوا جهاز التنفس الذي يبقيها على قيد الحياة ،وكان لها ذلك انطلاقا من ان لها الحق في ان تموت ، وقد حكم لها القاضي بذلك اذ قال : ))ان (B ) تملك الاهلية العقلية الضرورية لاعطاء او عدم اعطاء الاذن للابقاء على حياتها بواسطة العلاج الطبي واضاف بان الشخص الذي لاقدرة له على شي كالمريضة (B) انما قد تكون حياته في مثل هذا الظرف اسوا من الموت )) . والحقيقة ان هذه القضية قد كانت الاولى من نوعها في بريطانيا .( )
ومن الناحية النظرية فان معظم الدول لا تبيح القتل الرحيم (موت الرحمة) فيما عدا هولندا التي اباحتة ،( ) اما من الناحية العملية فالامر مختلف، فعلى سبيل المثال ان (70%) من الاطباء في الولايات المتحدة الامريكية يمارسون القتل الرحيم ( او قتل الرحمة ) والقضاء هناك متردد فتارة يحكم بالبراءة وتارة يحكم بالادانة، اما في فرنسا فأن (85%) من الشعب الفرنسي يؤيد القتل الرحيم ( او قتل الرحمة ) انطلاقاً من حق الانسان في تحديد لحظة موته، وان (76%) منهم طالبوا تبديل قانون العقوبات على هذا الاساس، مع العلم ان القضاء في فرنسا قد استقر على تبرئة من يقتل بدافع الرحمة، ومن ذلك ان حكما بالبراءة قد صدر لصالح وكيل نيابة، قام بقتل زوجته المصابة بشلل نصفي ناتج عن اصابة دماغها تخليصاً لها من الآلام المبرحة التي لا تطاق، وان محكمة اسئناف باريس قد حكمت بالبراءة ايضاً لصالح فتاة فرنسية قتلت خطيبها المصاب بالسرطان بحقنه بكمية كبيرة من المورفين ثم اطلقت عليه الرصاص.( ) ويذهب الفقه القانوني حيال قتل الرحيم ( او قتل الرحمة ) الى ثلاثة اتجاهات وهي :-
الاتجاه الاول يبيح القتل الرحيم مطلقاً. اما الاتجاه الثاني فيميز بين القتل الرحيم الايجابي والقتل الرحيم السلبي، فيحرم الاول ويبيح الثاني . وجدير بالذكر ان القتل الرحيم الايجابي هو اقدام احدهم لانهاء حياة مريض ما بدافع الشفقة بارتكاب فعل ايجابي، ككتم انفاسه او حقنه بمواد كيماوية تؤدي الى وفاته، اما القتل الرحيم السلبي فيحدث بصدور افعال امتناع من قبل احدهم تفضي الى وفاة المريض، وتكون بناء على رضا وطلب منه او من ذويه .اما الاتجاه الثالث فيحرم بشكل قاطع كل شكل من اشكال قتل الرحمة، لان مبررات القتل بدافع الشفقة او الرحمة، ليست سوى غطاء لوحشية مغلفة بأدعاء الرحمة تهدف الى تحقيق مصالح انانية ضيقة، تبدأ بالتخلص من اعباء العناية بالمريض، وتنتهي بنقل بعض أعضائه الى شخص آخر بقصد الحصول على منافع مالية.( )
لقد نص دستور السلوك المهني الطبي النافذ في العراق على مسالة قتل او موت الرحمة في البند (تاسعا ) منه بما يأتي :-
(( 1- يقصد بموت الرحمة قيام الطبيب بالمساهمة بانهاء حياة المريض في وقائع الامراض المستعصية وغير القابلة للشفاء مترافقة مع اّلام مستديمة، مما يجعل وضعة عبئا على المريض نفسه اوالمحيطين به، فيلجا ذلك المريض او ذووه الى الطبيب بطلب وهو وضع حد لهذا الوضع والتخلص من مثل هذه الحياة .
2- يعد هذا الاجراء جناية قتل ولو تم ذلك بطلب من المريض او من ذويه برضاهم وذلك لكون هذا العمل منافياً لطبيعة عمل واهداف وواجبات الطبيب نحو مريضه وهو الابقاء على حياة المريض والحفاظ على صحته في افضل وضع ممكن هذا بالاضافة الى احتمال الخطأ في التشخيص وامكانية تعرض الطبيب لملاحقة الورثة له قانونيا.)) .( )
يفهم من هذا البند ان المشرع العراقي يجرم قتل المرحمة سواء اكان ذلك بطلب من المريض ام من ذويه اذ انه اعتبر الموت الرحيم جريمة قتل عمد متوافرة الاركان ولا اهمية عنده لا للبواعث او الدوافع على ارتكابها ولا لرضا المريض بها او لرضا احد من ذويه.( )
ويعتبر القتل بدافع الشفقة، بموجب قانون العقوبات في سوريا وكذلك في لبنان عذرا مخففا للعقوبة بشرط ان يلح المريض في طلب الموت.( )
اما من الناحية الشرعية فان الفقه الاسلامي يحرم ذلك بالاستناد الى الكتاب والسنة ففي الكتاب الكريم ورد ذلك التحريم في أكثر من موضع ومن ذلك قوله تعالى في سورة البقرة:((وانفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا ان الله يحب المحسنين)) .( ) وقوله تعالى: ((يا أيها الذين امنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا ان تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا انفسكم ان الله كان بكم رحيما) ) ( ) , وقوله تعالى : (( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله الا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل انه كان منصورا)).( ) وورد في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) انه قد نهى عن قتل النفس بقوله(صلى الله عليه وسلم) : ((من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجا بها في بطنه في نار جهنم ،خالداً مخلداً فيها ابدا....)). ( )
اما من الناحية القانونية فان تجريم القتل الرحيم . (او الانتحار من قبل المريض بدافع التخلص من العذاب الذي هو فيه) من قبل سائر التشريعات العقابية يستشف منه منع رفض العلاج الذي يؤدي الى الموت ( )
وفي حقيقة الامر اننا مع اباحة رفض العلاج، مادام هذا الاخير لا يؤدي الغرض الذي يعطى من اجله وهو شفاء المريض فعلام الاستمرار به ، فالحكم الشرعي يدور وجودا وعدما مع علته، وبما ان العلة من تناول الدواء قد انتفت بانتفاء مفعوله الشفائي فلا مسوغ اذا للاستمرار به ، وليتوكل المريض على الله- جل جلاله – فهو نعم الوكيل. ولقد استشهد بعض فقهاء القانون براي الدكتور محمد علي البار في هذا الشأن وهو استشاري الامراض الباطنية في جدة ومستشار الطب الإسلامي وخبير في مجمع الفقه الإسلامي فاجاب قائلا ان الحياة والموت بيد الله - سبحانه وتعالى - واستعجال الموت منهي عنه في الاسلام، فمثلا قصة انتحار ذلك الرجل مع النبي محمد( صلى الله عليه وسلم) في احد المعارك لانه لم يتحمل الألم، وقوله (صلى الله عليه وسلم ):((والذي يشرب السم فهو في النار خالد مخلدا فيها ابدا)). ( ) فالإسلام موقفه شديد من هذا، وقتل الرجل الحي جريمة، وتفاصيل هذه الجريمة لها احكام في الفقه الإسلامي ، فمثلا شخص قال لاخر اقتلني فقتله بغض النظر عن كونه مريضا او غير مريض ففي ذلك تختلف المذاهب، فبعضها يحكم على القاتل بالقصاص وبعضها الاخر يحكم علية بعقوبة تعزيرية وكذا موضوع الطبيب الذي يطلب منه المريض او اهله التخلص من الحياة، فهذا مرفوض في الشرع الإسلامي، ويعتبر ذلك جريمة قتل، لكن هذا لا يعني لو ان الشخص لا يصبح له هذا الدواء معينا وانه غير ذات جدوى لمحاولة إنقاذ حياته، فلا داعٍ للاستمرار فيه اذا لم تكن هناك فائدة ترجى من ورائه). ( )
وعليه لا يجوز للطبيب ان ينهي حياة المريض بمرض ميؤوس من شفائه تحت أي ظرف من الظروف بدافع تخليص المريض من ألآمه، وهو ما يعرف بقتل الرحمة( Euthanasia) حتى ولو طلب المريض او وليه ذلك لان الله – جل جلاله – هو واهب الحياة، و لا يجوز لأحد غيره سبحانه ان ينتزعها. ( )
ثانياً :- المعيار القديم ( أو التقليدي) :-
ووفقا لهذا المعيار تكون لحظة الموت الطبيعي للانسان بموت القلب والدورة الدموية والجهاز التنفسي، فينتج عن ذلك موت خلايا تلك الاعضاء بشكل تدريجي واحدا تلو الاخر، فمثلا قرنية العين والجلد والعظام تبقى حية لبضعة ايام بعد الوفاة ،اما الكلى فلا تبقى سوى خمسة عشر دقيقة، والكبد والقلب مدة خمس دقائق فقط،.( )
اما الدماغ فلا تعدو مدة بقائه بعد انقطاع وصول الدم اليه سوئ أربع اوخمس دقائق.( )ان الاعضاء التي ذكرتها كالقلب والدماغ تبقى حية خلال هذه الاوقات فقط وبعدها تموت ولكن تستأنف هذه الاجهزة او الاعضاء مزاولة وظائفها المعتادة عن طريق تدليك القلب او الصدمة الكهربائية او باستعمال جهاز الانعاش الصناعي. ( )
ان هذا المعيار القديم (او التقليدي) كما يستشف من تسميته قديم قدم البشرية ولا زالت بعض الدول تأخذ بهذا المعيار ، غير ان انتقادات كثيرة قد وجهت اليه اذ ان الدماغ او الجهاز العصبي ككل قد يظل حيا حتى بعد توقف جهازي الدوران والتنفس. ومن الانتقادات ايضا انه يمكن استبدال القلب البشري بقلب اما صناعي وإما بقلب بشري يؤخذ من شخص توفي عن قرب.( ) ولكن اذا مات القلب الذي يؤخذ من جسد الميت فلا قيمة لهذه العملية.( ) ومن الانتقادات ايضا حالة الشخص المحكوم عليه بالإعدام، فانه يصار الى فحص القلب والنبض بعد مباشرة عملية اعدام المحكوم عليه به وقطع النخاع ألشوكي بكسر الفقرات العنقية، وللتأكد من توقف الجهاز التنفسي يقوم رجل الدين في الكنيسة بتمرير شمعة موقدة قريبة من وجه الميت للتثبت او التأكد من موته.( ) ويحضر تنفيذ الحكم بالاعدام في ساحة الاعدام طبيب او اكثر للتأكد من ان المحكوم عليه قد فارق الحياة بعد تنفيذ الحكم عليه فاذا ثبت انه لا يزال على قيد الحياة فانه يصار الى تنفيذ الحكم مرة اخرى حتى يفارق الحياة.
ولكن قد يحصل احياناً في حالات اخرى ان يتوقف القلب والدورة الدموية والجهاز التنفسي ثم تعود اليها الحياة مرة اخرى الامر الذي وقف امامه الأطباء حيارى لا يعرفون تفسيراً.( ) ومن هنا فأن هذا المعيار لم يعد معياراً قاطعاً اكيداً على تحديد لحظة الموت، وتبين انه قد خالف مبدأين مهمين هما ( ليس كل من مات قلبه عد ميتا ، ولا كل من بقي قلبه نابضاً اعتبر حياً )،( ) اذ ان الانسان الذي يموت قلبه لا يعتبر ميتاً في بعض الأحيان لوجود جهاز الإنعاش الصناعي ولوجود الاجهزة الطبية المتطورة في عصرنا هذا، اما الشق الثاني والذي ينص على انه لا يعتبر حياً كل من بقي قلبه نابضاً , اذ كم من البشر يموتون بسبب الايدز والسرطان وتشمع الكبد وغيرها من الامراض التي تسبب الوفاة.( ) ولذلك أوجد علماء الطب معياراً آخر هو ( معيار موت الدماغ او موت جذع الدماغ ).
ثالثا :- المعيار الحديث :-
يسمى هذا المعيار معيار موت الدماغ، وموت الدماغ من الناحية الطبية هو ( تلف لا رجعة فيه للانسجة العصبية داخل تجويف الجمجمة )،( ) وأول من عرف هذا المعيار ونادى به هي المدرسة الفرنسية في مجال الطب عام (1959) التي سمت هذا ( مرحلة ما بعد الاغماء )، ثم اعقبت هذه المدرسة لجنة (Adhoc) في جامعة هارفرد الأمريكية عام (1968)،( ) وفي عام 1968 أقرت جمعية الطب العالمية بمصداقية هذا المعيار ابان الاجتماع الثاني والعشرين المنعقد في مدينة سدني الاسترالية.( ) وثمة اعلان مهم قد صدر في هذا المجال في عام 1976 عن المؤتمر المشترك للكليات الملكية البريطانية للأطباء (B.M.J) والحقيقة انه يعتبر تلخيصاً ومراجعة للدراسات التي سبقته، وانه لهذا السبب قد اصبح بعد عام من صدوره تعليمات قائمة في المملكة المتحدة للاطباء العاملين فيها تعينهم على تشخيص الموت الدماغي ومعرفته، ومما جاء في هذا البيان ما يأتي :- (( ان موت الدماغ يمثل حالة يصبح الانسان فيها ميتاً بصورة حقيقة، لان جميع وظائف دماغه قد توقفت نهائياً وبدون رجعة)).( ) وثمة قرائن عديدة تأثر بها الفقه والقضاء في بريطانيا وأستند اليها للقول بصحة ذلك،( ) وهي من وجهة نظرنا كافية للتدليل على صحته.
وللاحالة التامة بمعيار الموت الدماغي يلزم التعريج بشكل مبسط على تركيب الدماغ وعلى موت الدماغ، فالدماغ يتكون من اجزاء ثلاثة هي :- (( 1- المخ : وهو يتكون من فصي المخ، وهو مركز التفكير والذاكرة والاحساس والحركة والارادة. 2- المخيخ :- وظيفته الاساسية توازن الجسم. 3- جذع الدماغ :- وفيه المراكز الاساسية في الحياة مثل مراكز التنفس والتحكم في القلب والدورة الدموية )).( )
والواقع ان اهمية الموضوع قد حملت الجهات الرسمية على تكليف لجان خاصة ببحثه ووضع معيار ملائم للتحديد وهذا ما حدث في الولايات المتحدة الامريكية عام 1980 عندما كلف الرئيس الامريكي رونالد ريغان لجنة خاصة هي ( لجنة الرئيس لدراسة المشاكل الاخلاقية في الطب والبيولوجيا ).( ) وقد شكلت هذه اللجنة من كبار الاطباء ورجال القانون ورجال الدين لدراسة موضوع موت الدماغ فأصدرت قرارا بذلك في حزيران من العام المذكور ووافقت (25) ولاية امريكية على معيار موت الدماغ ثم ارتفع العدد الى (33) ولاية عام 1982 بينما لم تأخذ الولايات الامريكية المتبقية الا بمعيار موت القلب.( ) وهذا يعني ان الشخص يعد حيا طبقا لقوانين بعض الولايات الامريكية بينما يعد ميتا حسب قوانين ولايات امريكية اخرى.
وفي الواقع تختلف الفحوصات والاختبارات المقترحة للتيقن من حصول حالة موت الدماغ من بلد الى اخر، فعلى سبيل المثال ان جمعية الاطباء البريطانية تعتبر توقف احدى وظائف الدماغ لمدة اثنتي عشرة ساعة يكفي للحكم على الشخص بالموت دون الحاجة لفحصه بجهاز رسم المخ الكهربائي (Electroenc erhalon graph ) والمعروف اختصارا(EEG)، وفي بعض الدول كهولندا يتم تحديد لحظة الموت بتوقف جميع وظائف الدماغ لمدة ست ساعات متواصلة تحت المراقبة، وتتخللها ثلاثة اختبارات بجهاز (EEG)، مدة كل اختبار نصف ساعة، اما جمعية الجراحين الالمانية فتستدل على حدوث الموت بتوقف وظائف معينة من الدماغ طوال اثنتي عشرة ساعة مع الاستعانة بجهاز (EEG) او بانقطاع وصول الدم الى الدماغ لمدة لا تقل عن ثلاثين دقيقة، ويتم التاكد من ذلك بطريقة وهي(Angio graphical method). ( ) هذا وهناك من يرى بان الإثبات الطبي والشرعي والقانوني للموت يجب ان يعتمد على تشخيص الموت الدماغي الذي يحدث بعد الموت الإكلينيكي،( ) وتجدر الإشارة إلى ان حالة موت الدماغ قد تختلط ببعض الحالات المرضية كمرض السكر الحاد وامراض الكبد المستفحلة والتسمم الشديد واصابات الدماغ فتستعصي حتى على الاطباء المتمرسين , ففي الامراض المزمنة المذكورة انفا يكون الانسان في وضع صحي حرج ويصبح من حيث الأعراض شبيها بحالة موت الدماغ مع ان دماغه غير ميت وهذا يطلق عليه بالموت السطحي الكاذب.( ) وهناك ظاهرة مهمة جدا قد تحصل عند موت الدماغ وهي احتمال حدوث حركات وتقلصات عضلية تلقائية في انحاء من جسم الميت دماغيا ليس لها علاقة مطلقا بنشاط الدماغ وانما منبعها انعكاسي من النخاع ألشوكي وتسمى ظاهرة (لازروف).( ) بل ان الميت دماغياً قد يتحرك بكل جسمه، وهذا يشبه تقلصات الدجاجة وحركاتها الواضحة عند قطع رأسها، وأي حركة من هذا النوع لا تدل بتاتاً على وجود حياة في الدماغ.( ) وفي حقيقة الامر ان هذه الحركات الصادرة من الميت دماغياً تسبب الهلع للفريق الطبي الذي يقوم بعملية استئصال العضو من الجثة، مما حدا ببعض المستشفيات والمراكز الطبية الى حقن الموتى دماغياً بمرخيات العضلات قبل الشروع بأستئصال الاعضاء منها، وكذا تعيين اطباء نفسيين لتهدئة الفريق الطبي العامل.( ) ويجدر بألاشارة انه في كثير من الحالات عندما توضع اجهزة الانعاش لا يكون الطبيب متيقناً من ان الدماغ قد مات، حيث تتميز تلك الحالات بالاغماء التام وتوقف التنفس التلقائي، وتحتاج الى سرعة كبيرة لمحاولة الانقاذ وبالتالي يبقى المصاب تحت المنفسة ولكي يشخص الطبيب موت الدماغ لا بد له من علامات يستدل بها وهي كالاتي :-
(1- التأكد من ان المريض فاقد للوعي بصورة تامة مع انعدام القدرة على الاستجابة للمحفزات الخارجية.2- انعدام وجود أي من منعكسات جذع الدماغ مثل البلع والسعال والتنهد والشهقة والقرنية. 3- انعدام القدرة على التنفس التلقائي، لذا فان ميت الدماغ يجب ان يرتبط بجهاز التنفس الاصطناعي. 4- اختبار استجابات جذع الدماغ للتحفيزات العصبية المركزية واهمها الفحص السعري الحراري للاذنين. 5- يجب ان تعاد هذه الفحوصات مرة اخرى بعد (6) ساعات للتأكد من حالة اللارجعة اما في حالة الموت الناجم عن التسمم او بسبب التعرض للانزيمات فيجب ان يعاد الفحص بعد (24) الى (36) ساعة ). ( )
ان هذه العلامات تعتبر من المؤشرات الطبية لموت الدماغ المعتمدة عالمياً في الوقت الحاضر ومن ثم فأن الطبيب يستدل بهذه العلامات ليحدد لحظة الوفاة، الا ان جانباً من الفقه الفرنسي اعترض على قرار وزير الشؤون الاجتماعية الفرنسي الصادر في25/4/1968 ورفض الاعتماد على معيار انعدام رسام المخ الكهربائي كمعيار للموت،( ) لان اغلب الدول كهولندا وألمانيا تستعين بجهاز رسام المخ الكهربائي كمعيار لتحديد لحظة الوفاة . لذلك فان انصار هذا المعيار يذهبون الى ان اجتماع هذه العلامات او هذه المؤشرات دليل على ان المريض قد فارق الحياة وعندها يتحول (جذع الدماغ)بعد فترة الى مادة سائلة في الدماغ، ويعتقدون انه يستحيل اعادة الحياة لشخص اجتمعت فيه هذه العلامات حتى وان بقي حيا بفعل اجهزة الانعاش الطبية المتطورة، كما انه من الناحية الطبية لايصلح القلب الذي ماتت خلاياه للنقل والزرع في جسد انسان اخر كما ذكرنا ولا يمكن من الجانب القانوني الاجهاز على انسان وهو في سكرات الموت لاستئصال احد أعضائه او قلبه او كبده لان هذا يشكل جريمة قتل عمدية. ( )
اما المشرع العراقي فقد وضع لاول مرة عام 1986م قانون عمليات زرع الاعضاء البشرية واخذ فيه بمعيار موت الدماغ اذ نص على:(( اجازة اخذ الاعضاء من المصاب بموت الدماغ وحسب الادلة العلمية الحديثة المعمول بها بتعليمات.....)).( )
ولقد صدرت التعليمات رقم (3) لسنة 1987 فعرفت موت الدماغ بانه:(( حالة الفقدان اللاعائد للوعي المصحوب بالفقدان اللاعائد لقابلية التنفس التلقائي والانعدام التام للأفعال الانعكاسية لعرق الدماغ)). ( )
وتاسيساً على معيار موت الدماغ او جذع الدماغ – على رأي اطباء بريطانيا – فان الحصول على الاعضاء البشرية يكون بعد توقف الدماغ وعدم القابلية على الحياة لموت (جذع المخ) اذ ان الاخير هو المسؤول عن التحكم في المراكز العصبية للبدن والقلب والجهاز التنفسي وايصال الأوكسجين للخلايا في الدماغ. ( )
من جهة اخرى أعتقد بعض الباحثين، بوجود معيار ثالث غير المعيار التقليدي والمعيار الحديث يسمى بالمعيار (الشرعي) وذلك بسبب عيوب كل من المعيارين ( التقليدي والحديث )، وغني عن البيان ان المعيار الشرعي هذا تبنته المؤتمرات الطبية في الدول الاسلامية التي اقيمت حول موضوع موت المريض مرض الموت، وهذا ما سنتولى بحثه تباعاً.
* رأينا في المعيارين/
لدى النظر في هذين المعيارين يبدو ان لا ضرورة للتمييز بين وقت موت المريض في كل من المعيارين، بل لا يوجد وجه للتمييز بينهما وذلك لان كلا منهما يعود الى منطقة مختلفة عن الاخرى اذ ان معايير الموت يختص بها الطبيب اما مرض الموت فهو واقعة شرعية ابتداء ثم اخذ بها التشريع الوضعي انتهاءً لذا فهي من حصة الفقيه او القاضي ومع ذلك يحدث تداخل بينهما. فبالرغم من ان الانسان يكون معطلا او مغيبا طبيا على وفق هذين المعيارين،( ) فانه حي قانونياً ومن هنا فان الشخص الذي يكون تحت تأثير الاجهزة الطبية او يخضع لها قد يتصرف تصرفا قانونيا وذلك كأن يوصي المريض بهذا او لذاك بجزء من امواله او كان يتصرف بيعاً او هبة او غير ذلك من التصرفات القانونية التي تأخذ حكم تصرفات المريض مرض الموت، لان المريض في مثل هذه الحالة يكون على معرفة او على يقين بانه سيموت فيتصرف محاباة لبعض الاشخاص ويضر بأخرين وهذا ما سنتولى بحثه في موضعه.
رابعاً :- المعيار الشرعي :-
لما كان تحديد لحظة الموت في كل من المعيارين السابقين لم يلق قبولاً تاما وان هناك معارضة لكل منهما فلا غنى لنا عن التوجه نحو المعيار الشرعي الذي يقضي بان لحظة الموت تكون بتوقف القلب وموت جذع المخ، ونشطت بعض الجهود الاسلامية في بحث هذا الموضوع واصدر قرار رقم (99) في 9/11/1402 هـ عن هيئة كبار العلماء في الرياض اجيز بموجبه نقل عضو من جسم الميت الى جسم الانسان الحي وفي عام 1985 انعقدت في الكويت ندوة عن ( بداية الحياة ونهايتها ) بأشراف منظمة المؤتمر الاسلامي للعلوم الطبية وتطرقت لموت الدماغ، ثم انعقدت عام 1985م ايضاً الدورة الثامنة لمجمع الفقه الاسلامي بمكة المكرمة لبحث الموضوع، وتنفيذا لتوصيات الدورة الثامنة المذكورة عقد مؤتمر خاص في الاردن للفترة من ( 22-24) أكتوبر عام 1985م عن موت الدماغ.( )
وفي عام 1986م عقدت في جدة الدورة الثانية لمجمع الفقه الاسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الاسلامي ونوقش فيها الموضوع الا انه تأجل البت فيه الى عام 1986م في شهر صفر عام 1407هـ حين انعقد في عمان مجمع الفقه الاسلامي واصدر القرارات الاتية :- منها انه : ( يعتبر شرعا ان الشخص قد مات وتترتب جميع الاحكام المقررة شرعا للوفاة عند ذلك، اذا تبينت فيه احدى العلامتين التاليتين :-
1- اذا توقف قلبه وتنفسه توقفاً تاما وحكم الاطباء بأن هذا التوقف لا رجعة فيه.
2- اذا تعطلت جميع وظائف دماغه تعطلا كاملا، وحكم الاطباء الاختصاصيون الخبراء بأن هذا التعطل لا رجعة فيه، وأخذ دماغه في التحلل.
وفي هذه الحالة يسوغ دفع اجهزة الإنعاش المركبة على الشخص وان كان بعض الأعضاء كالقلب مثلا لا يزال يعمل اليا بفعل الاجهزة المركبة ).( ) كما جاء في قرارات الدورة الرابعة لمجلس مجمع الفقه الاسلامي المنعقد في جدة للفترة 18-23 جمادى الاخرة 1408هـ ,6-11 شباط 1988م قرارا برقم (1) في شأن انتفاع الانسان بأعضاء جسم انسان اخر حيا كان او ميتا وقد قيل في معيار الموت ما نصه : ( ويلاحظ ان الموت يشمل حالتين :- الحالة الاولى :- موت الدماغ بتعطل جميع وظائفه تعطلا كاملا لا رجعة فيه طبياً. الحالة الثانية :- توقف القلب والتنفس توقفا تاما لا رجعة فيه طبيا. فقد روعي في كلتا الحالتين قرار المجمع في دورته الثالثة).( ) وبالرغم من وجود من يأخذ بالمعيار الشرعي هو معيار مشترك فأن الاختلاف الفقهي او الشرعي او الطبي ما زال قائما في شأن استخدام اجهزة الانعاش المركزة التي أوجدت ما يسمى الان بـ ( الميت الحي او الموت المقنع {La mart masque } ). ( )
ويجدر بالذكر هنا ان الاستاذ سافتيه قد ذكر في هذا الخصوص ان الامر يتعلق بحماية المريض الخاضع للتقنيات الجديدة أي للاحياء الصناعي وما ينجم عن ذلك من تسرع بعض الاطباء الى الاعلان عن الوفاة لاستعمال الجثة او نقل الاعضاء منها. ( )
واذا ظن البعض بأن هذه المؤتمرات قد قررت الاخذ بالمعيارين معاً : المعيار التقليدي (بدعوى تعويلها على توقف القلب والتنفس توقفاً تاما) والمعيار الحديث (بدعوى تعويلها على تعطل وظائف الدماغ تعطلا نهائيا)، فجمعت بين المعيارين في معيار جديد ( شرعي )، فأن الحقيقة غير ذلك، اذ ان الاخذ بالمعيارين معاً فضلا عن استحالته لانه جمع بين متناقضين فهو مع ذلك لم يكن مقصودا في التوصيات او الاراء الفقهية وان ما ذكر من فقرتين لتحديد الموت بشكل علامتين او دليلين على الموت الدماغي حيث رأينا ان توقف التنفس التلقائي والنبض اول الادلة التي يضعها اصحاب المعيار الحديث للدلالة على الموت الدماغي، ولذا يصر انصار المعيار الحديث على ايراد جملة (توقف التنفس التلقائي) وليس (توقف التنفس)، وذلك لكي يفهم انه حتى وان امكن اجراء التنفس الصناعي لمن مات دماغه فان ذلك لايغير من حقيقة موته شيئا. فهذا دليل لاصحاب المعيار الحديث لا للمعيار القديم. ولاختبار صحة هذه النتيجة يتبين لنا لدى مراجعة النصوص السابقة لمؤتمري عمان وجدة انه يشترط بعد ذكر توقف القلب والتنفس، ان يكون هذا التوقف (لارجعة فيه) أي (تماما،نهائيا)وهذا ينسجم كثيرا مع المعيار الحديث، اما المعيار القديم فالحكم بالموت جائز فيه على شخص مات قلبه ورئتاه حتى لو أمكن اعادته الى الحياة بطريقة ما كالإنعاش الصناعي واستعمال مضخة خاصة (منفسة)كما رأينا سابقا.
لقد ذهب الفقه الإسلامي ، على خلاف هذين المعيارين ،الى ان الإنسان يموت في حالة ما اذا ظهرت عليه إمارات الموت والتي هي :-انقطاع نفسه، احداد بصره, انفراج شفتيه فلا ينطبقان ، انخلاع كفيه من ذراعيه أي انفصال زنديه،تمدد جلدة وجهه، تقلص خصيتيه الى فوق مع تدلي الجلدة، اعوجاج أنفه وميله، انخساف صدغيه، استرخاء قدميه وسقوطهما فلا ينتصبان.( ) وعليه فان الموت هو من الغيبيات لان الروح والنفس لا يعلم حقيقتها الا الله – جل جلاله- استنادا الى قوله تعالى : (( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم الا قليلا )).( )
لذا ان رجوعهما الى خالقهما من المغيبات التي لا تخضع للعلم التجريبي ونستدل على ذلك من قوله تعالى : (( الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى )).( ) ويقول عليه الصلاة والسلام : (( ان الروح اذا قبض تبعة البصر)). ( )
موقف التقنينات المقارنة من معايير الموت:-
يغدو وضع معيار قانوني لموت المريض مسالة في غاية الاهمية، لوضع حدود معينة ينتهي اليها تصرف الطبيب بحيث لايعلن الوفاة الا عند تحقق شروط معينة نص عليها القانون، وفي ذلك مصلحة للطبيب نفسه بالاضافة الى مصلحة المريض الذي يحتضر فالطبيب في الغالب لايعرف حدودا معينة للمسالة القانونية عن فعله في اعلان الموت او (كما هي الحال بالنسبة للانعاش الصناعي عن ايقاف الجهاز)، لذا نراه مترددا في ذلك فيفضل ان ينتظر حتى النهاية للتثبت من موت الشخص في حين ان الشخص يكون قد مات قبل زمن لموت دماغه.( )
لذلك فان استعراض معايير الموت يوضح لنا اللحظة التي يموت فيها المريض الا ان الموت ليس واضح المعالم الى هذه الدرجة بحيث يتم تشخيصه طبيا بهذه البساطة وبهذا اليقين، ولقد زاد من تعقيد المشكلة ان القانون والشرع يريدان من الطب ان يحدد(لحظة) واحدة فقط بل اقل من لحظة لكي يجزم بان الموت قد حدث فيها ،وذلك من اجل :-1-المزاحمة في استخدام اجهزة الإنعاش،( ) ,2- ومن اجل استئصال الاعضاء البشرية من جسم الميت وليس من اجل تحديد مرض الموت .اذ ان كل الأحكام تلك تبنى على هذه اللحظة فظهرت المشاكل واستعصى على اهل الطب تحديد تلك اللحظة وظهرت امامهم حالات وقف فيها اهل الطب عاجزين عن الجزم بكونها موتا ام حياة ، لذلك اسموها حالات وسطى بين الحياة والموت ومن ثم فان الطب اعتمد على علامات اوامارات الفقه الإسلامي لوجود الموت.( )
عاد الفقه والقانون لبحث المسالة وصدرت الفتاوى والتشريعات في اعتماده معايير وترك اخرى لتحديد الموت .
ففي الاردن , نصت المادة الثالثة من قانون الانتفاع باعضاء جسم الانسان رقم (23) لسنة 1977 المعدل بقانون رقم (17) لسنة 1980 على انه : (( ا- يشترط في اجراء عمليات نقل الاعضاء وزراعتها , ما يلي :- 1- الالتزام بالفتاوى الصادرة عن مجلس الافتاء الاردني بهذا الشان وبخاصة ما يتعلق منها بالموت الدماغي ... )) .( ) وقد افتى مجلس الافتاء الاردني , بما ياتي : (( يعتبر شرعا ان الشخص قد مات , وتترتب جميع الاحكام المقررة شرعا للوفاة عند ذلك اذا تبينت فيه احدى العلامتين التاليتين : 1- اذا توقف قلبه وتنفسه توقفا تاما وحكم الاطباء بان هذا التوقف لا رجعة فيه , 2- اذا تعطلت جميع وظائف دماغه تعطلا نهائيا واخذ دماغه في التحلل وحكم الاطباء المختصون الخبراء بان هذا التعطل لا رجعة فيه ...... )) .( )
ويتبين من هذا ان الافتاء يدخل في الموضوع ويعتمد تماماً على ما تم التوصل اليه في المؤتمر الاسلامي الذي انعقد بجدة ومن ثم في الاردن فيما يتعلق بهذه المسألة، ويجدر بالاشارة هنا ان المادة الثامنة من القانون المنوه به في اعلاه قد قضت بتشكيل لجنة طبية للتثبت بشكل يقيني وتام من الموت ومنع التقدير الجزافي المتسرع من قبل الطبيب الواحد، وعلى هذا نجد ان الاردن قد اخذ بالمعيار الحديث ( موت الدماغ ). ( )
أما في العراق، فأن المشرع العراقي قد آثر هو الاخر ان يتبنى معيار الموت الدماغي وقد أسهب في الحديث عن الشروط اللازمة لتطبيقهُ وهذه الشروط ( كما هي الحال في بلدان العالم الآخرى التي تبنتها )، ينبغي أن تتوافر جميعها قبل امكان الحكم بموت المريض فلا يكفي أحدها لذلك. فقد نص في قانون العمليات زرع الأعضاء البشرية رقم (85) لسنة 1986م، وذلك في الفقرة (5) من المادة الثانية منه والتي تنص على انه : (( يجوز أخذ الاعضاء من المصاب بموت الدماغ وحسب الادلة العلمية الحديثة المعمول بها التي تصدر بتعليمات .....)).( ) ولقد صدرت التعليمات رقم (3) لسنة 1987م فعرفت الفقرة الاولى منها والصادرة بموجب المادة (السادسة) من قانون عمليات زرع الاعضاء البشرية رقم (85) لسنة 1986م، موت الدماغ بانه : (( حالة الفقدان اللاعائد للوعي المصحوب بالفقدان اللاعائد لقابلية التنفس التلقائي والانعدام التام للأفعال الانعكاسية لعرق الدماغ )).( )
أما في مصر فأن القانون رقم (130) لسنة 1946 الخاص بالولادات والوفيات ترك مسألة تحديد الموت جملة وتفصيلا للجانب الطبي فترك السلطة للطبيب في تقرير حالة الوفاة وبيان سببها دون ان يلزمه باتباع اساليب معينة , كما ان القانون رقم (103) لسنة 1962 م الخاص بالتنازل عن العيون من اجل اجراء عمليات ترقيع القرنيات لم يلزم الطبيب بأتباع وسائل معينة لتحديد لحظة الموت كما يلزمه ببيان سبب الموت قبل استئصال العين من جثة الميت.( )
أما في فرنسا، فان الفقه القانوني الفرنسي حاليا يؤكد على انه رغم عدم وجود تعريف قانوني للموت، ورغم ان المسألة متروكة للطبيب ليقرر استنتاجه للموت، فان المعيار الذي يجب ان يستخدم هو معيار الموت الدماغي ( ducrveau).( )
وقد تجسد المعيار الحديث في فرنسا بقرار من وزير الصحة الفرنسي الصادر في 25/4/1968 وتم بموجبه تبني المعيار الحديث لاول مرة في فرنسا حيث اقر مبدا جواز الاعتماد على رسام المخ الكهربائي في اثبات الموت فأشار الى ان من الممكن الاقرار بحدوث الموت باجراء تخطيط كهربائي للدماغ يرسم خطاً مستقيماً وذلك خلال مدة زمنية كافية.( )
نستنتج من كل ما تقدم ان غالبية الدول العربية تأخذ بالمعيار الحديث وان كان تبنيها لذلك حديث العهد نسبيا وان لذلك أثره او ثمرته الهامة انما تتصل بجواز ايقاف جهاز الانعاش من على مريض مات دماغه ، فهذه المسالة ما زالت محل استرابة كبيرة من القانونيين والاطباء على حد سواء وما زال الطبيب محجما عن الاقدام على ايقاف الجهاز، والسبب في ذلك خوفه من ان يكون مرتكبا لجريمة قتل عمد ما دام فعله بايقاف الجهاز سيفضي الى سكون الجسد نهائيا ، ومن هنا تأتي أهمية اعمال المعيار الحديث بجميع نتائجه والتي منها ايقاف الجهاز لايعد قتلا رغم انه لم يعتبر الشخص ميتا بموت دماغه,( ) وهذا عين الصواب . وان فرنسا قد تبنت المعيار الحديث اذ اجازت الاقرار بحدوث الموت بالاعتماد على اجراء تخطيط كهربائي للدماغ يستغرق مدة زمنية كافية .
يعد مرض الموت من المسائل المهمة على الصعيد القانوني في هذا العصر نظرا لكثرة تطبيقاته العملية وامتداداته وتشعباته النظرية , وقد أخذت به تشريعات عديدة بصورة متطابقة أو متقاربة أو متباعدة , وتخلفت تشريعات أخرى عديدة عن الأخذ به , كما برهن الفقه الإسلامي في مضماره عن أصالة تحتاج اليوم إلى من يجلوها , فما هو مرض الموت ؟ وما هي أحكامه؟ انه, ولا شك, بعد هذا , موضوع جدير بالبحث .
لكن قبل الولوج في صلب الموضوع لابد من الإلمام بجوهره , وأهميته ومراميه , وتحديد نطاقه وأخيرا خطة بحثه ومنهجه وهذا ما سنتناوله تباعا في الفقرات آلاتية :-
أولا:- جوهر الموضوع :-
اتجهت النية في معظم البلدان العربية والإسلامية منذ وقت ليس بالبعيد إلى سن تشريعات مستقاة من الشريعة الإسلامية, ويعد هذا , في الحقيقة , موقفا محمودا ومسلكا صائبا وذلك لأن هذه الشريعة غنية بالحلول القانونية التي من شانها أن تحقق العدالة وترسخ لدى الناس ثقة بالتشريع وتوجد نوعا من التوافق أو التوفيق بين مصالح الأفراد المتعددة أو المتضاربة,( ) وحيث أن التشريع الإسلامي قد بلغ الغاية القصوى من الإجادة والتجلي في تحديد معنى مرض الموت وفي أحكامه فإننا رأينا من المحتم علينا أن نكشف عن ذلك وان نقارن بينه وبين ما وضع القانونيون على هذا الصعيد توخيا لتحقيق استفادة اكبر.
أما جوهر موضوع البحث فهو أن الشخص إذا مرض مرضا أقعده عن مباشرة أعماله وأحس بدنو اجله فان الغالب في مثل هذه الحالة أن تتسلط على هذا المريض فكرة الخطر المحدق أو الوشيك وهو ذهاب أمواله إلى الورثة أو هذا الشخص منهم أو ذاك أو إلى الاغيار أو بعضهم فيلجا بتأثير هذه الفكرة المتسلطة إلى التصرف في هذه الأموال معاوضة أو تبرع ولكن بشيء من المحاباة التي ستفضي إلى الإضرار بأولئك الورثة أو الغير , الأمر الذي يتطلب الحد من تصرفاته في هذا المرض ومن هنا فقد اعتبر مرض الموت , بناء على ذلك , حالة مقيدة ومؤثرة في تصرفات المصاب به , ولزم من ثم إعطاء هذه التصرفات أحكاما خاصة تختلف عن أحكام تصرفات الشخص غير المريض بهذا المرض , وإذا فمرض الموت لا يعدم أهلية الأداء ولا ينقصها ولكنه يحد من تصرفات المريض به .
والواقع إن معظم التشريعات العربية قد اعتمدت فيما يتصل بهذا المرض على الفقه الإسلامي مصدرا , وذلك لأنها قد اتاحت اللجوء إلى الشريعة الإسلامية إذا لم تجد الحكم في التشريع أو العرف مقدمة هذه الشريعة على قواعد العدالة .( )
ثانيا :- أهمية موضوع البحث ومراميه :-
يرمي هذا البحث إلى عدد من الأغراض المهمة التي كانت وراء اختياري لموضوعه كما يسعى إلى تقديم أجوبة عن بعض الأسئلة المثارة ووضع حلول لبعض المشكلات التي تواجهها المجتمعات اليوم . والحقيقة إن بعض الأغراض منبثقة من أهمية موضوع البحث النابعة من الغموض الذي يكتنفه والاختلاف في شانه وحاجة الناس المرضى بمرض الموت وغير المرضى إلى معرفة ما لهم وما عليهم من أحكامه , هذا فضلا عن أن الكتابات الفقهية القانونية لم تعطه ما يستحق من البيان فهي درجت على معالجته من الناحية الشرعية أو الناحية القانونية ولم تحاول الجمع بين الاثنين أو أغناء الجانب القانوني بما يتحصل من الفقه الإسلامي الذي برع فيه إلى حد بعيد , وان الأحكام القضائية لم تستقر على أحكام واحدة فيه وذلك لعدم تبلوره بصورة وافية مفهوما وأحكاما .
أما الأسئلة التي تثور وتحتاج إلى أجوبة فهي كثيرة تتعلق بتحديد معناه وضوابط هذا التحديد , وبشروط تحققه , وبمدة رقود المريض في الفراش , وكيفية إثبات الموت بهذا المرض , هذا إلى جانب مسالة قوة الورقة العرفية في الإثبات وحجية تاريخها , وإشكالية الورثة من حيث اعتبارهم خلفا عاما أو غيرا , ذلك ومسالة الطعن إذ السؤال المتبادر دوما هو : هل للمريض نفسه أن يطعن في تصرفه بعد أن يبرا من مرضه؟ وما هي الدعوى؟ وهل يجوز للورثة والدائنين أن يطعنوا بتصرفات المريض مرض الموت ؟ ثم هل يحق للورثة إجازة تصرف هذا المريض , وثمة أسئلة أخرى تتبادر من نواح غير هذه وذلك كالسؤال عن القانون الواجب التطبيق على تركة المتوفى بمرض الموت إذا وجدت خارج دولته , والسؤال عن مدى صحة زواج أو طلاق المريض مرض الموت وعن الحكم لتصرفات المريض , وكذلك السؤال عن ماهية طلاق الفار وعن إقرارات هذا المريض ومدى الاعتداد بها وما إلى ذلك من الأسئلة التي يتعين الوقوف عليها ومن ثم الاهتداء إلى أجوبتها .
ثالثا :- نطاق البحث :-
إن موضوع مرض الموت من السعة والتشعب بحيث لا تحيط أو تفي به رسالة ماجستير واحدة ولذلك آثرنا الاقتصار على معالجته من أكثر جوانبه أهمية من وجهة نظرنا فالزمنا أنفسنا بتحديد معنى هذا المرض وتمييزه مما يشتبه به وتحديد معايير المرض بوجه عام توخيا لتحديد لحظة الوفاة من ناحية طبية وشرعية وقانونية , وكذلك ببيان شروط مرض الموت وإثباته وأحكامه وحالات تصرفات الأصحاء التي لها حكم التصرفات في مرض الموت, ولم نخض إلا في المعاملات المالية المحضة والأحوال الشخصية ذات العلاقة بهذا المرض ضاربين صفحا عن سائر تصرفات المريض الأخرى التي تخرج عن هذين المجالين
رابعا :- خطة البحث ومنهجه :-
نزولا عند مقتضيات البحث العلمي والرغبة في الاقتصار في البحث على أكثر جوانب الموضوع أهمية ومراعاة لطبيعة هذا الموضوع فقد أثرنا بحثه في فصلين خصصنا اولهما لماهية مرض الموت وإثباته وكرسنا الثاني لأحكام تصرفات المريض مرض الموت فإذا فرغنا من هذين الفصلين وصلناهما بخاتمة .
أما منهج البحث فقد اخترنا المنهج التحليلي الاستقرائي المقارن سبيلا لمعالجة هذا الموضوع مع الالتزام بالموضوعية وحيث أن الفقه الإسلامي قد تفرد في معالجة هذا الموضوع إلى الحد الذي بذَ فيه القانون الوضعي وسبقه إلى الغاية القصوى فقد عقدنا المقارنة بين القوانين الوضعية من جهة وبينها وبين الفقه الإسلامي من جهة أخرى .
**الفصل الأول**
- ماهية مرض الموت وإثباته -
لغرض الوقوف على ماهية مرض الموت يلزم أن نحدد معنى مرض الموت، وان نتناول شروط تحققه،وان نعرض لحالات تصرفات الأصحاء التي لها حكم التصرفات في مرض الموت ،كما يلزم على أساس ذلك كله أن نختم هذه الماهية بكيفية إثبات هذا المرض.
وتأسيسا على ذلك سنعالج هذا الفصل في أربعة مباحث , نخصص أولها لتحديد معنى مرض الموت , والثاني لشروط تحقق مرض الموت، والثالث لحالات تصرفات الأصحاء التي لها حكم التصرفات في مرض الموت، والرابع لإثبات مرض الموت.
*المبحث الأول*
- معنى مرض الموت –
إن تحديد معنى مرض الموت يقتضي أن نعرض لمعايير المرض بوجه عام، ومن ثم لمعنى مرض الموت في الفقه الإسلامي والقانون الوضعي ، وسنخصص لكل من هذين الموضوعين تباعا مطلبا مستقلا :-
●المطلب الأول●
- معايير المرض بوجه عام –
قال الشريف الجرجاني : (( إن المرض في ذاته هو ما يعرض للبدن فيخرجه عن الاعتدال الخاص)) (1). وقال غيره (هو حالة غير طبيعية في بدن الإنسان تكون بسببها الأفعال الطبيعية والنفسانية والحيوانية غير سليمة )). (2) كما قيل : (( هو حالة للبدن خارجة عن المجرى الطبيعي)). (3)وقال بعضهم: ((المرض هو ما يعتري الاجسام الحية من خلل او نقص تخرج به عن حالة اعتدالها العادية ،قليلا كان او كثيرا، وقد ينتهي به الامر الى القضاء على الحياة)). (4)
ويفهم من ذلك بان المرض هو السقم ،وهو نقيض الصحة،او هو خروج الجسم عن حا لة الاعتدال التي تعمل فيها اعضاء البدن بوظائفها المعتادة ، والإمراض بالاجمال توقع المرضى بحالة من الضعف والارهاق الجسدي ، ولهذا قيل العقل السليم في الجسم السليم. ومن هنا وجب علينا ان نفرد مساحة للتمييز بين المرض العادي من مرض الموت وسنخصص المطلب الثاني محلا للتمييز المفصل بينهما. ومع ذلك سنشير بايجاز الى التميز بينهما. فالمرض العادي هو المرض الذي يصيب الإنسان فيجعله مرهقا ومتعبا وقد يصاحبه الأم عضوية وغيرها كالزكام مثلا وغيرها من الأمراض التي يمكن علاجها ويشفى منها المريض ،اما مرض الموت فهو المرض الذي يصاب بها الانسان ويتصل مرضه بالموت لان هذا المرض مميت كالأيدز مثلا وغيرها وسنتكلم عن ذلك في مطلب مستقل.
قلنا بان مرض الموت هو المرض المخوف الذي يتصل بالموت ولغرض المقارنة بين الموت الذي يقع في غير مرض الموت (أي ان الإنسان يكون غير مريض بمرض الموت ) وبين الموت الذي يقع في مرض الموت (أي المريض الذي يتصل مرضه بالموت) يلزم تحديد وقت موت غير المريض بمرض مميت وكذلك تحديد وقت الموت في مرض الموت. فالموت هو مفارقة الروح للجسد مفارقه تامة تستحيل بعدها عودته الى الحياة،(5) اما وقت الموت في مرض الموت فهو الذي تحكمه عدة معايير، ذلك لان هناك خلافات شرعية وطبية بشان تحديد لحظة الموت والحقيقة ان هنالك المعيار القديم والمعيار الحديث بالإضافة الى المعيار الشرعي وثمة موضوع ذي صلة وثيقة بالتحديد ومعاييره يتمثل في استخدام الأجهزة الطبية على المريض وتلزم معالجته قبل الخوض في المعايير ، ولذا سنوزع هذا المطلب على اربع فقرات نخصص الاولى للموقف من استخدام الأجهزة الطبية على المريض والثانية للمعيار القديم والثالثة للمعيار الحديث والرابعة للمعيار الشرعي .
اولاً:-الموقف من استخدام الاجهزة الطبية على المريض:-
يستخدم على بعض المرضى في حالات الخطر والحرج نوع من الأجهزة الطبية يطلق عليها اسم اجهزة الإنعاش الصناعي ويعرف الإنعاش الصناعي ( العناية المركزة ) بأنه :- (( مجموعة من الوسائل والإجراءات الطبية المعقدة التي تستخدم لفترة ما قد تطول او تقصر فتحل محل او تساعد الوظائف العضوية الأساسية للمريض, وذلك حتى يتمكن من اجتياز فترة حرجة خلال مرضه يكون فيها معرضاً للموت اذا لم تستعمل هذه الوسائل)) .( )
وأذن فجهاز الإنعاش يساعد المريض الذي يكون مرضه محرجا لدرجة تجعله لا يستطيع العيش او لدرجة يكون فيها على وشك الموت او الهلاك وذلك بان يقوم الأطباء بوضعه في غرفة العناية المركزة ويخضعونه لهذا الجهاز، كما في حالة موت دماغه بالرغم من استمرار عمل القلب والرئتين.( )
ونكون عند الاستعانة بجهاز الإنعاش الصناعي إمام أحدى الحالات آلاتية:-
الحالة الأولى:- شخص تضرر قلبه او رئتاه ولم يعد في وسعهما ان يقوما بعملهما ومع ذلك فدماغه سليم، فتاتي أجهزة الإنعاش الصناعي لتقوم مقام القلب والرئتين لضخ الدم للدماغ السليم ولغيره من أعضاء الجسم.( )
الحالة الثانية :- شخص مات دماغه،( ) بسبب حادث او ما شابه وقبل ان تلحقه سائر الأعضاء الأخرى بالموت وربط المصاب الى اجهزة الإنعاش الصناعي التي حفزت القلب والرئتين على العمل واستمرار الجسد (عدا الدماغ) حيا.( )
ولقد كثر الخلاف حول استخدام أجهزة الإنعاش الاصطناعي الى الحد الذي جعله في العقود الأخيرة يعرض على القضاء. اذ يعتقد الدكتور مصطفى الزلمي بان الإنعاش الصناعي اذا كان يهدف الى إطالة الحياة فحسب فان سحب الجهاز عن المريض لا يعتبر قتلا، لان المريض اصلا في عداد الاموات فمثل هذه الحالة يطلق عليها فقهاء الشريعة مصطلح (عيش المذبوح)حيث تكون حركة اعضاء الجسم فيها غير اختيارية.( ) اذ يقول : (( اولاً – من المفضل عدم رفع الاجهزة واستمرارها الى نهاية الحالة وهي لا تستغرق بطبيعة الحال مدة طويلة في حالة توفر الضوابط التالية :-
1- اذا لم يكن هناك مريض آخر ينتظر هذا الجهاز ويتوقف انقاذ حياته على استعماله له.
2- اذا لم يكلف استمرار هذه الاجهزة الصناعية نفقات باهظة.
3- اذا كان أهل المريض يفضلون عدم ايقاف الاجهزة لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً.
4- اذا اقتضت ضرورة انقاذ حياة مريض آخر بتر وزرع عضو حي حياة نباتية .....)).( )
وهذا صحيح لانه لا يجوز اطالة عمر انسان ميت اساساً فلله – جل جلاله – قد وضع لكل انسان اجلا معينا فهو يقول،عز من قائل ( ولقد ارسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم ازوجا وذرية وما كان لرسول ان يأتي بأية الا بأذن الله لكل اجل كتاب )).( ) ولقد شهد سوح القضاء بعض القضايا المتعلقة بهذا الموضوع ومن ذلك انه رفعت دعوى، في انكلترا، عام 1993 من قبل أسرة فتاة مريضة او بالأصح ميتة سريريا للحكم بإيقاف أجهزة الإنعاش الصناعي ولم يتمكنوا الا بعد فترة طويلة من اقناع المحكمة باصدار حكم يقضي بأيقاف تلك الاجهزة والسماح لابنتهم بالوفاة.( ) وهناك حالة اخرى وهي حالة ان يحتاج بعض المرضى المصابين بالشلل الى الاستعانة بجهاز الانعاش الصناعي من اجل تأمين استمرارهم على قيد الحياة ففي هذه الحالة تكون حياة المريض مرهونة بعمل تلك الاجهزة, ولذلك يثور التساؤل عما اذا كان من الجائز في هذه الحالة رفع اجهزة الانعاش الصناعي؟...
في ذار من عام 2002 اصدرت المحكمة العليا في لندن قراراً لصالح سيدة تبلغ من العمر ثلاثة واربعين سنة أصيبت بالشلل من عنقها الى قدميها، وليس هناك أي أمل في شفائها حيث طالبت هذه المريضة باغلاق اجهزة الانعاش الصناعي التي تساعدها على البقاء على قيد الحياة، وقد عارض الاطباء أتخاذ مثل هذا القرار وقالوا أنه يخالف اخلاقيات المهنة الا ان قرار المحكمة قضى بان عليهم الانصياع لرغبتها، اذ قالت القاضية : (( ان القانون واضح في انه لمن هم اكبر من 18 سنة وبكامل قواهم العقلية الحق في اختيار رفض المشورة الطبية او العلاج الطبي )).( )
والحقيقة فيما نرى ان للمريض البالغ العاقل الحق في رفض العلاج او انهاء مثل هذه الحياة اذ ان في استمراره عليها مضاعفة لمعاناته وتسبيبا لعذاب من نوع خاص , وهذا يتفق مع ما ذهب اليه ronger leng وهو محاضر في القانون الطبي في جامعة ( ويرويك werwick ) اذ قال : (( بان هذا الحكم ببساطة يدعم حق المريض العاقل والمؤهل في الاحتفاظ بحقه في السيطرة على العلاج الطبي بالرغم من رغبات اطبائه , ثم اضاف : بان هذه القضية كما يعتقد ويعتقد الكثير من القانونيين لم تكن تحتاج الى اقامة دعوى امام المحكمة وذلك لان حكم القانون فيها واضح جدا )) .( )
ويتبين من كلام القاضية ان للشخص الحق في رفض العلاج اذا كان مدركاً وبكامل قواه العقلية غير ان السؤال الذي يتبادر هنا هو هل يجوز للاطباء رفع الجهاز عنه وهو فاقد الوعي؟
في الحقيقة لا يجوز ذلك لانه لا يمكن للاطباء ان يصدروا قراراً برفع الاجهزة الطبية مالم يدعم بقرار قضائي يتضمن الاذن بذلك لان المريض الفاقد الوعي غير قادر على التعبير عن رغبته هذه وعندئذ لا يكون متمتعاً بالاهلية المطلوبة قانوناً، مثال ذلك قضية المريضة المعروفة فقط بالسيدة (B) في بريطانيا، ملخص القضية ان هذه السيدة (B) البالغة من العمر (43)سنة قد اصيبت بالشلل من الرقبة فاسفل وذلك عندما تمزق وعاء دموي في رقبتها قبل عام مما ادى الى عدم قدرتها على التنفس حيث طلبت من الاطباء ان يرفعوا جهاز التنفس الذي يبقيها على قيد الحياة ،وكان لها ذلك انطلاقا من ان لها الحق في ان تموت ، وقد حكم لها القاضي بذلك اذ قال : ))ان (B ) تملك الاهلية العقلية الضرورية لاعطاء او عدم اعطاء الاذن للابقاء على حياتها بواسطة العلاج الطبي واضاف بان الشخص الذي لاقدرة له على شي كالمريضة (B) انما قد تكون حياته في مثل هذا الظرف اسوا من الموت )) . والحقيقة ان هذه القضية قد كانت الاولى من نوعها في بريطانيا .( )
ومن الناحية النظرية فان معظم الدول لا تبيح القتل الرحيم (موت الرحمة) فيما عدا هولندا التي اباحتة ،( ) اما من الناحية العملية فالامر مختلف، فعلى سبيل المثال ان (70%) من الاطباء في الولايات المتحدة الامريكية يمارسون القتل الرحيم ( او قتل الرحمة ) والقضاء هناك متردد فتارة يحكم بالبراءة وتارة يحكم بالادانة، اما في فرنسا فأن (85%) من الشعب الفرنسي يؤيد القتل الرحيم ( او قتل الرحمة ) انطلاقاً من حق الانسان في تحديد لحظة موته، وان (76%) منهم طالبوا تبديل قانون العقوبات على هذا الاساس، مع العلم ان القضاء في فرنسا قد استقر على تبرئة من يقتل بدافع الرحمة، ومن ذلك ان حكما بالبراءة قد صدر لصالح وكيل نيابة، قام بقتل زوجته المصابة بشلل نصفي ناتج عن اصابة دماغها تخليصاً لها من الآلام المبرحة التي لا تطاق، وان محكمة اسئناف باريس قد حكمت بالبراءة ايضاً لصالح فتاة فرنسية قتلت خطيبها المصاب بالسرطان بحقنه بكمية كبيرة من المورفين ثم اطلقت عليه الرصاص.( ) ويذهب الفقه القانوني حيال قتل الرحيم ( او قتل الرحمة ) الى ثلاثة اتجاهات وهي :-
الاتجاه الاول يبيح القتل الرحيم مطلقاً. اما الاتجاه الثاني فيميز بين القتل الرحيم الايجابي والقتل الرحيم السلبي، فيحرم الاول ويبيح الثاني . وجدير بالذكر ان القتل الرحيم الايجابي هو اقدام احدهم لانهاء حياة مريض ما بدافع الشفقة بارتكاب فعل ايجابي، ككتم انفاسه او حقنه بمواد كيماوية تؤدي الى وفاته، اما القتل الرحيم السلبي فيحدث بصدور افعال امتناع من قبل احدهم تفضي الى وفاة المريض، وتكون بناء على رضا وطلب منه او من ذويه .اما الاتجاه الثالث فيحرم بشكل قاطع كل شكل من اشكال قتل الرحمة، لان مبررات القتل بدافع الشفقة او الرحمة، ليست سوى غطاء لوحشية مغلفة بأدعاء الرحمة تهدف الى تحقيق مصالح انانية ضيقة، تبدأ بالتخلص من اعباء العناية بالمريض، وتنتهي بنقل بعض أعضائه الى شخص آخر بقصد الحصول على منافع مالية.( )
لقد نص دستور السلوك المهني الطبي النافذ في العراق على مسالة قتل او موت الرحمة في البند (تاسعا ) منه بما يأتي :-
(( 1- يقصد بموت الرحمة قيام الطبيب بالمساهمة بانهاء حياة المريض في وقائع الامراض المستعصية وغير القابلة للشفاء مترافقة مع اّلام مستديمة، مما يجعل وضعة عبئا على المريض نفسه اوالمحيطين به، فيلجا ذلك المريض او ذووه الى الطبيب بطلب وهو وضع حد لهذا الوضع والتخلص من مثل هذه الحياة .
2- يعد هذا الاجراء جناية قتل ولو تم ذلك بطلب من المريض او من ذويه برضاهم وذلك لكون هذا العمل منافياً لطبيعة عمل واهداف وواجبات الطبيب نحو مريضه وهو الابقاء على حياة المريض والحفاظ على صحته في افضل وضع ممكن هذا بالاضافة الى احتمال الخطأ في التشخيص وامكانية تعرض الطبيب لملاحقة الورثة له قانونيا.)) .( )
يفهم من هذا البند ان المشرع العراقي يجرم قتل المرحمة سواء اكان ذلك بطلب من المريض ام من ذويه اذ انه اعتبر الموت الرحيم جريمة قتل عمد متوافرة الاركان ولا اهمية عنده لا للبواعث او الدوافع على ارتكابها ولا لرضا المريض بها او لرضا احد من ذويه.( )
ويعتبر القتل بدافع الشفقة، بموجب قانون العقوبات في سوريا وكذلك في لبنان عذرا مخففا للعقوبة بشرط ان يلح المريض في طلب الموت.( )
اما من الناحية الشرعية فان الفقه الاسلامي يحرم ذلك بالاستناد الى الكتاب والسنة ففي الكتاب الكريم ورد ذلك التحريم في أكثر من موضع ومن ذلك قوله تعالى في سورة البقرة:((وانفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا ان الله يحب المحسنين)) .( ) وقوله تعالى: ((يا أيها الذين امنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا ان تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا انفسكم ان الله كان بكم رحيما) ) ( ) , وقوله تعالى : (( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله الا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل انه كان منصورا)).( ) وورد في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) انه قد نهى عن قتل النفس بقوله(صلى الله عليه وسلم) : ((من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجا بها في بطنه في نار جهنم ،خالداً مخلداً فيها ابدا....)). ( )
اما من الناحية القانونية فان تجريم القتل الرحيم . (او الانتحار من قبل المريض بدافع التخلص من العذاب الذي هو فيه) من قبل سائر التشريعات العقابية يستشف منه منع رفض العلاج الذي يؤدي الى الموت ( )
وفي حقيقة الامر اننا مع اباحة رفض العلاج، مادام هذا الاخير لا يؤدي الغرض الذي يعطى من اجله وهو شفاء المريض فعلام الاستمرار به ، فالحكم الشرعي يدور وجودا وعدما مع علته، وبما ان العلة من تناول الدواء قد انتفت بانتفاء مفعوله الشفائي فلا مسوغ اذا للاستمرار به ، وليتوكل المريض على الله- جل جلاله – فهو نعم الوكيل. ولقد استشهد بعض فقهاء القانون براي الدكتور محمد علي البار في هذا الشأن وهو استشاري الامراض الباطنية في جدة ومستشار الطب الإسلامي وخبير في مجمع الفقه الإسلامي فاجاب قائلا ان الحياة والموت بيد الله - سبحانه وتعالى - واستعجال الموت منهي عنه في الاسلام، فمثلا قصة انتحار ذلك الرجل مع النبي محمد( صلى الله عليه وسلم) في احد المعارك لانه لم يتحمل الألم، وقوله (صلى الله عليه وسلم ):((والذي يشرب السم فهو في النار خالد مخلدا فيها ابدا)). ( ) فالإسلام موقفه شديد من هذا، وقتل الرجل الحي جريمة، وتفاصيل هذه الجريمة لها احكام في الفقه الإسلامي ، فمثلا شخص قال لاخر اقتلني فقتله بغض النظر عن كونه مريضا او غير مريض ففي ذلك تختلف المذاهب، فبعضها يحكم على القاتل بالقصاص وبعضها الاخر يحكم علية بعقوبة تعزيرية وكذا موضوع الطبيب الذي يطلب منه المريض او اهله التخلص من الحياة، فهذا مرفوض في الشرع الإسلامي، ويعتبر ذلك جريمة قتل، لكن هذا لا يعني لو ان الشخص لا يصبح له هذا الدواء معينا وانه غير ذات جدوى لمحاولة إنقاذ حياته، فلا داعٍ للاستمرار فيه اذا لم تكن هناك فائدة ترجى من ورائه). ( )
وعليه لا يجوز للطبيب ان ينهي حياة المريض بمرض ميؤوس من شفائه تحت أي ظرف من الظروف بدافع تخليص المريض من ألآمه، وهو ما يعرف بقتل الرحمة( Euthanasia) حتى ولو طلب المريض او وليه ذلك لان الله – جل جلاله – هو واهب الحياة، و لا يجوز لأحد غيره سبحانه ان ينتزعها. ( )
ثانياً :- المعيار القديم ( أو التقليدي) :-
ووفقا لهذا المعيار تكون لحظة الموت الطبيعي للانسان بموت القلب والدورة الدموية والجهاز التنفسي، فينتج عن ذلك موت خلايا تلك الاعضاء بشكل تدريجي واحدا تلو الاخر، فمثلا قرنية العين والجلد والعظام تبقى حية لبضعة ايام بعد الوفاة ،اما الكلى فلا تبقى سوى خمسة عشر دقيقة، والكبد والقلب مدة خمس دقائق فقط،.( )
اما الدماغ فلا تعدو مدة بقائه بعد انقطاع وصول الدم اليه سوئ أربع اوخمس دقائق.( )ان الاعضاء التي ذكرتها كالقلب والدماغ تبقى حية خلال هذه الاوقات فقط وبعدها تموت ولكن تستأنف هذه الاجهزة او الاعضاء مزاولة وظائفها المعتادة عن طريق تدليك القلب او الصدمة الكهربائية او باستعمال جهاز الانعاش الصناعي. ( )
ان هذا المعيار القديم (او التقليدي) كما يستشف من تسميته قديم قدم البشرية ولا زالت بعض الدول تأخذ بهذا المعيار ، غير ان انتقادات كثيرة قد وجهت اليه اذ ان الدماغ او الجهاز العصبي ككل قد يظل حيا حتى بعد توقف جهازي الدوران والتنفس. ومن الانتقادات ايضا انه يمكن استبدال القلب البشري بقلب اما صناعي وإما بقلب بشري يؤخذ من شخص توفي عن قرب.( ) ولكن اذا مات القلب الذي يؤخذ من جسد الميت فلا قيمة لهذه العملية.( ) ومن الانتقادات ايضا حالة الشخص المحكوم عليه بالإعدام، فانه يصار الى فحص القلب والنبض بعد مباشرة عملية اعدام المحكوم عليه به وقطع النخاع ألشوكي بكسر الفقرات العنقية، وللتأكد من توقف الجهاز التنفسي يقوم رجل الدين في الكنيسة بتمرير شمعة موقدة قريبة من وجه الميت للتثبت او التأكد من موته.( ) ويحضر تنفيذ الحكم بالاعدام في ساحة الاعدام طبيب او اكثر للتأكد من ان المحكوم عليه قد فارق الحياة بعد تنفيذ الحكم عليه فاذا ثبت انه لا يزال على قيد الحياة فانه يصار الى تنفيذ الحكم مرة اخرى حتى يفارق الحياة.
ولكن قد يحصل احياناً في حالات اخرى ان يتوقف القلب والدورة الدموية والجهاز التنفسي ثم تعود اليها الحياة مرة اخرى الامر الذي وقف امامه الأطباء حيارى لا يعرفون تفسيراً.( ) ومن هنا فأن هذا المعيار لم يعد معياراً قاطعاً اكيداً على تحديد لحظة الموت، وتبين انه قد خالف مبدأين مهمين هما ( ليس كل من مات قلبه عد ميتا ، ولا كل من بقي قلبه نابضاً اعتبر حياً )،( ) اذ ان الانسان الذي يموت قلبه لا يعتبر ميتاً في بعض الأحيان لوجود جهاز الإنعاش الصناعي ولوجود الاجهزة الطبية المتطورة في عصرنا هذا، اما الشق الثاني والذي ينص على انه لا يعتبر حياً كل من بقي قلبه نابضاً , اذ كم من البشر يموتون بسبب الايدز والسرطان وتشمع الكبد وغيرها من الامراض التي تسبب الوفاة.( ) ولذلك أوجد علماء الطب معياراً آخر هو ( معيار موت الدماغ او موت جذع الدماغ ).
ثالثا :- المعيار الحديث :-
يسمى هذا المعيار معيار موت الدماغ، وموت الدماغ من الناحية الطبية هو ( تلف لا رجعة فيه للانسجة العصبية داخل تجويف الجمجمة )،( ) وأول من عرف هذا المعيار ونادى به هي المدرسة الفرنسية في مجال الطب عام (1959) التي سمت هذا ( مرحلة ما بعد الاغماء )، ثم اعقبت هذه المدرسة لجنة (Adhoc) في جامعة هارفرد الأمريكية عام (1968)،( ) وفي عام 1968 أقرت جمعية الطب العالمية بمصداقية هذا المعيار ابان الاجتماع الثاني والعشرين المنعقد في مدينة سدني الاسترالية.( ) وثمة اعلان مهم قد صدر في هذا المجال في عام 1976 عن المؤتمر المشترك للكليات الملكية البريطانية للأطباء (B.M.J) والحقيقة انه يعتبر تلخيصاً ومراجعة للدراسات التي سبقته، وانه لهذا السبب قد اصبح بعد عام من صدوره تعليمات قائمة في المملكة المتحدة للاطباء العاملين فيها تعينهم على تشخيص الموت الدماغي ومعرفته، ومما جاء في هذا البيان ما يأتي :- (( ان موت الدماغ يمثل حالة يصبح الانسان فيها ميتاً بصورة حقيقة، لان جميع وظائف دماغه قد توقفت نهائياً وبدون رجعة)).( ) وثمة قرائن عديدة تأثر بها الفقه والقضاء في بريطانيا وأستند اليها للقول بصحة ذلك،( ) وهي من وجهة نظرنا كافية للتدليل على صحته.
وللاحالة التامة بمعيار الموت الدماغي يلزم التعريج بشكل مبسط على تركيب الدماغ وعلى موت الدماغ، فالدماغ يتكون من اجزاء ثلاثة هي :- (( 1- المخ : وهو يتكون من فصي المخ، وهو مركز التفكير والذاكرة والاحساس والحركة والارادة. 2- المخيخ :- وظيفته الاساسية توازن الجسم. 3- جذع الدماغ :- وفيه المراكز الاساسية في الحياة مثل مراكز التنفس والتحكم في القلب والدورة الدموية )).( )
والواقع ان اهمية الموضوع قد حملت الجهات الرسمية على تكليف لجان خاصة ببحثه ووضع معيار ملائم للتحديد وهذا ما حدث في الولايات المتحدة الامريكية عام 1980 عندما كلف الرئيس الامريكي رونالد ريغان لجنة خاصة هي ( لجنة الرئيس لدراسة المشاكل الاخلاقية في الطب والبيولوجيا ).( ) وقد شكلت هذه اللجنة من كبار الاطباء ورجال القانون ورجال الدين لدراسة موضوع موت الدماغ فأصدرت قرارا بذلك في حزيران من العام المذكور ووافقت (25) ولاية امريكية على معيار موت الدماغ ثم ارتفع العدد الى (33) ولاية عام 1982 بينما لم تأخذ الولايات الامريكية المتبقية الا بمعيار موت القلب.( ) وهذا يعني ان الشخص يعد حيا طبقا لقوانين بعض الولايات الامريكية بينما يعد ميتا حسب قوانين ولايات امريكية اخرى.
وفي الواقع تختلف الفحوصات والاختبارات المقترحة للتيقن من حصول حالة موت الدماغ من بلد الى اخر، فعلى سبيل المثال ان جمعية الاطباء البريطانية تعتبر توقف احدى وظائف الدماغ لمدة اثنتي عشرة ساعة يكفي للحكم على الشخص بالموت دون الحاجة لفحصه بجهاز رسم المخ الكهربائي (Electroenc erhalon graph ) والمعروف اختصارا(EEG)، وفي بعض الدول كهولندا يتم تحديد لحظة الموت بتوقف جميع وظائف الدماغ لمدة ست ساعات متواصلة تحت المراقبة، وتتخللها ثلاثة اختبارات بجهاز (EEG)، مدة كل اختبار نصف ساعة، اما جمعية الجراحين الالمانية فتستدل على حدوث الموت بتوقف وظائف معينة من الدماغ طوال اثنتي عشرة ساعة مع الاستعانة بجهاز (EEG) او بانقطاع وصول الدم الى الدماغ لمدة لا تقل عن ثلاثين دقيقة، ويتم التاكد من ذلك بطريقة وهي(Angio graphical method). ( ) هذا وهناك من يرى بان الإثبات الطبي والشرعي والقانوني للموت يجب ان يعتمد على تشخيص الموت الدماغي الذي يحدث بعد الموت الإكلينيكي،( ) وتجدر الإشارة إلى ان حالة موت الدماغ قد تختلط ببعض الحالات المرضية كمرض السكر الحاد وامراض الكبد المستفحلة والتسمم الشديد واصابات الدماغ فتستعصي حتى على الاطباء المتمرسين , ففي الامراض المزمنة المذكورة انفا يكون الانسان في وضع صحي حرج ويصبح من حيث الأعراض شبيها بحالة موت الدماغ مع ان دماغه غير ميت وهذا يطلق عليه بالموت السطحي الكاذب.( ) وهناك ظاهرة مهمة جدا قد تحصل عند موت الدماغ وهي احتمال حدوث حركات وتقلصات عضلية تلقائية في انحاء من جسم الميت دماغيا ليس لها علاقة مطلقا بنشاط الدماغ وانما منبعها انعكاسي من النخاع ألشوكي وتسمى ظاهرة (لازروف).( ) بل ان الميت دماغياً قد يتحرك بكل جسمه، وهذا يشبه تقلصات الدجاجة وحركاتها الواضحة عند قطع رأسها، وأي حركة من هذا النوع لا تدل بتاتاً على وجود حياة في الدماغ.( ) وفي حقيقة الامر ان هذه الحركات الصادرة من الميت دماغياً تسبب الهلع للفريق الطبي الذي يقوم بعملية استئصال العضو من الجثة، مما حدا ببعض المستشفيات والمراكز الطبية الى حقن الموتى دماغياً بمرخيات العضلات قبل الشروع بأستئصال الاعضاء منها، وكذا تعيين اطباء نفسيين لتهدئة الفريق الطبي العامل.( ) ويجدر بألاشارة انه في كثير من الحالات عندما توضع اجهزة الانعاش لا يكون الطبيب متيقناً من ان الدماغ قد مات، حيث تتميز تلك الحالات بالاغماء التام وتوقف التنفس التلقائي، وتحتاج الى سرعة كبيرة لمحاولة الانقاذ وبالتالي يبقى المصاب تحت المنفسة ولكي يشخص الطبيب موت الدماغ لا بد له من علامات يستدل بها وهي كالاتي :-
(1- التأكد من ان المريض فاقد للوعي بصورة تامة مع انعدام القدرة على الاستجابة للمحفزات الخارجية.2- انعدام وجود أي من منعكسات جذع الدماغ مثل البلع والسعال والتنهد والشهقة والقرنية. 3- انعدام القدرة على التنفس التلقائي، لذا فان ميت الدماغ يجب ان يرتبط بجهاز التنفس الاصطناعي. 4- اختبار استجابات جذع الدماغ للتحفيزات العصبية المركزية واهمها الفحص السعري الحراري للاذنين. 5- يجب ان تعاد هذه الفحوصات مرة اخرى بعد (6) ساعات للتأكد من حالة اللارجعة اما في حالة الموت الناجم عن التسمم او بسبب التعرض للانزيمات فيجب ان يعاد الفحص بعد (24) الى (36) ساعة ). ( )
ان هذه العلامات تعتبر من المؤشرات الطبية لموت الدماغ المعتمدة عالمياً في الوقت الحاضر ومن ثم فأن الطبيب يستدل بهذه العلامات ليحدد لحظة الوفاة، الا ان جانباً من الفقه الفرنسي اعترض على قرار وزير الشؤون الاجتماعية الفرنسي الصادر في25/4/1968 ورفض الاعتماد على معيار انعدام رسام المخ الكهربائي كمعيار للموت،( ) لان اغلب الدول كهولندا وألمانيا تستعين بجهاز رسام المخ الكهربائي كمعيار لتحديد لحظة الوفاة . لذلك فان انصار هذا المعيار يذهبون الى ان اجتماع هذه العلامات او هذه المؤشرات دليل على ان المريض قد فارق الحياة وعندها يتحول (جذع الدماغ)بعد فترة الى مادة سائلة في الدماغ، ويعتقدون انه يستحيل اعادة الحياة لشخص اجتمعت فيه هذه العلامات حتى وان بقي حيا بفعل اجهزة الانعاش الطبية المتطورة، كما انه من الناحية الطبية لايصلح القلب الذي ماتت خلاياه للنقل والزرع في جسد انسان اخر كما ذكرنا ولا يمكن من الجانب القانوني الاجهاز على انسان وهو في سكرات الموت لاستئصال احد أعضائه او قلبه او كبده لان هذا يشكل جريمة قتل عمدية. ( )
اما المشرع العراقي فقد وضع لاول مرة عام 1986م قانون عمليات زرع الاعضاء البشرية واخذ فيه بمعيار موت الدماغ اذ نص على:(( اجازة اخذ الاعضاء من المصاب بموت الدماغ وحسب الادلة العلمية الحديثة المعمول بها بتعليمات.....)).( )
ولقد صدرت التعليمات رقم (3) لسنة 1987 فعرفت موت الدماغ بانه:(( حالة الفقدان اللاعائد للوعي المصحوب بالفقدان اللاعائد لقابلية التنفس التلقائي والانعدام التام للأفعال الانعكاسية لعرق الدماغ)). ( )
وتاسيساً على معيار موت الدماغ او جذع الدماغ – على رأي اطباء بريطانيا – فان الحصول على الاعضاء البشرية يكون بعد توقف الدماغ وعدم القابلية على الحياة لموت (جذع المخ) اذ ان الاخير هو المسؤول عن التحكم في المراكز العصبية للبدن والقلب والجهاز التنفسي وايصال الأوكسجين للخلايا في الدماغ. ( )
من جهة اخرى أعتقد بعض الباحثين، بوجود معيار ثالث غير المعيار التقليدي والمعيار الحديث يسمى بالمعيار (الشرعي) وذلك بسبب عيوب كل من المعيارين ( التقليدي والحديث )، وغني عن البيان ان المعيار الشرعي هذا تبنته المؤتمرات الطبية في الدول الاسلامية التي اقيمت حول موضوع موت المريض مرض الموت، وهذا ما سنتولى بحثه تباعاً.
* رأينا في المعيارين/
لدى النظر في هذين المعيارين يبدو ان لا ضرورة للتمييز بين وقت موت المريض في كل من المعيارين، بل لا يوجد وجه للتمييز بينهما وذلك لان كلا منهما يعود الى منطقة مختلفة عن الاخرى اذ ان معايير الموت يختص بها الطبيب اما مرض الموت فهو واقعة شرعية ابتداء ثم اخذ بها التشريع الوضعي انتهاءً لذا فهي من حصة الفقيه او القاضي ومع ذلك يحدث تداخل بينهما. فبالرغم من ان الانسان يكون معطلا او مغيبا طبيا على وفق هذين المعيارين،( ) فانه حي قانونياً ومن هنا فان الشخص الذي يكون تحت تأثير الاجهزة الطبية او يخضع لها قد يتصرف تصرفا قانونيا وذلك كأن يوصي المريض بهذا او لذاك بجزء من امواله او كان يتصرف بيعاً او هبة او غير ذلك من التصرفات القانونية التي تأخذ حكم تصرفات المريض مرض الموت، لان المريض في مثل هذه الحالة يكون على معرفة او على يقين بانه سيموت فيتصرف محاباة لبعض الاشخاص ويضر بأخرين وهذا ما سنتولى بحثه في موضعه.
رابعاً :- المعيار الشرعي :-
لما كان تحديد لحظة الموت في كل من المعيارين السابقين لم يلق قبولاً تاما وان هناك معارضة لكل منهما فلا غنى لنا عن التوجه نحو المعيار الشرعي الذي يقضي بان لحظة الموت تكون بتوقف القلب وموت جذع المخ، ونشطت بعض الجهود الاسلامية في بحث هذا الموضوع واصدر قرار رقم (99) في 9/11/1402 هـ عن هيئة كبار العلماء في الرياض اجيز بموجبه نقل عضو من جسم الميت الى جسم الانسان الحي وفي عام 1985 انعقدت في الكويت ندوة عن ( بداية الحياة ونهايتها ) بأشراف منظمة المؤتمر الاسلامي للعلوم الطبية وتطرقت لموت الدماغ، ثم انعقدت عام 1985م ايضاً الدورة الثامنة لمجمع الفقه الاسلامي بمكة المكرمة لبحث الموضوع، وتنفيذا لتوصيات الدورة الثامنة المذكورة عقد مؤتمر خاص في الاردن للفترة من ( 22-24) أكتوبر عام 1985م عن موت الدماغ.( )
وفي عام 1986م عقدت في جدة الدورة الثانية لمجمع الفقه الاسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الاسلامي ونوقش فيها الموضوع الا انه تأجل البت فيه الى عام 1986م في شهر صفر عام 1407هـ حين انعقد في عمان مجمع الفقه الاسلامي واصدر القرارات الاتية :- منها انه : ( يعتبر شرعا ان الشخص قد مات وتترتب جميع الاحكام المقررة شرعا للوفاة عند ذلك، اذا تبينت فيه احدى العلامتين التاليتين :-
1- اذا توقف قلبه وتنفسه توقفاً تاما وحكم الاطباء بأن هذا التوقف لا رجعة فيه.
2- اذا تعطلت جميع وظائف دماغه تعطلا كاملا، وحكم الاطباء الاختصاصيون الخبراء بأن هذا التعطل لا رجعة فيه، وأخذ دماغه في التحلل.
وفي هذه الحالة يسوغ دفع اجهزة الإنعاش المركبة على الشخص وان كان بعض الأعضاء كالقلب مثلا لا يزال يعمل اليا بفعل الاجهزة المركبة ).( ) كما جاء في قرارات الدورة الرابعة لمجلس مجمع الفقه الاسلامي المنعقد في جدة للفترة 18-23 جمادى الاخرة 1408هـ ,6-11 شباط 1988م قرارا برقم (1) في شأن انتفاع الانسان بأعضاء جسم انسان اخر حيا كان او ميتا وقد قيل في معيار الموت ما نصه : ( ويلاحظ ان الموت يشمل حالتين :- الحالة الاولى :- موت الدماغ بتعطل جميع وظائفه تعطلا كاملا لا رجعة فيه طبياً. الحالة الثانية :- توقف القلب والتنفس توقفا تاما لا رجعة فيه طبيا. فقد روعي في كلتا الحالتين قرار المجمع في دورته الثالثة).( ) وبالرغم من وجود من يأخذ بالمعيار الشرعي هو معيار مشترك فأن الاختلاف الفقهي او الشرعي او الطبي ما زال قائما في شأن استخدام اجهزة الانعاش المركزة التي أوجدت ما يسمى الان بـ ( الميت الحي او الموت المقنع {La mart masque } ). ( )
ويجدر بالذكر هنا ان الاستاذ سافتيه قد ذكر في هذا الخصوص ان الامر يتعلق بحماية المريض الخاضع للتقنيات الجديدة أي للاحياء الصناعي وما ينجم عن ذلك من تسرع بعض الاطباء الى الاعلان عن الوفاة لاستعمال الجثة او نقل الاعضاء منها. ( )
واذا ظن البعض بأن هذه المؤتمرات قد قررت الاخذ بالمعيارين معاً : المعيار التقليدي (بدعوى تعويلها على توقف القلب والتنفس توقفاً تاما) والمعيار الحديث (بدعوى تعويلها على تعطل وظائف الدماغ تعطلا نهائيا)، فجمعت بين المعيارين في معيار جديد ( شرعي )، فأن الحقيقة غير ذلك، اذ ان الاخذ بالمعيارين معاً فضلا عن استحالته لانه جمع بين متناقضين فهو مع ذلك لم يكن مقصودا في التوصيات او الاراء الفقهية وان ما ذكر من فقرتين لتحديد الموت بشكل علامتين او دليلين على الموت الدماغي حيث رأينا ان توقف التنفس التلقائي والنبض اول الادلة التي يضعها اصحاب المعيار الحديث للدلالة على الموت الدماغي، ولذا يصر انصار المعيار الحديث على ايراد جملة (توقف التنفس التلقائي) وليس (توقف التنفس)، وذلك لكي يفهم انه حتى وان امكن اجراء التنفس الصناعي لمن مات دماغه فان ذلك لايغير من حقيقة موته شيئا. فهذا دليل لاصحاب المعيار الحديث لا للمعيار القديم. ولاختبار صحة هذه النتيجة يتبين لنا لدى مراجعة النصوص السابقة لمؤتمري عمان وجدة انه يشترط بعد ذكر توقف القلب والتنفس، ان يكون هذا التوقف (لارجعة فيه) أي (تماما،نهائيا)وهذا ينسجم كثيرا مع المعيار الحديث، اما المعيار القديم فالحكم بالموت جائز فيه على شخص مات قلبه ورئتاه حتى لو أمكن اعادته الى الحياة بطريقة ما كالإنعاش الصناعي واستعمال مضخة خاصة (منفسة)كما رأينا سابقا.
لقد ذهب الفقه الإسلامي ، على خلاف هذين المعيارين ،الى ان الإنسان يموت في حالة ما اذا ظهرت عليه إمارات الموت والتي هي :-انقطاع نفسه، احداد بصره, انفراج شفتيه فلا ينطبقان ، انخلاع كفيه من ذراعيه أي انفصال زنديه،تمدد جلدة وجهه، تقلص خصيتيه الى فوق مع تدلي الجلدة، اعوجاج أنفه وميله، انخساف صدغيه، استرخاء قدميه وسقوطهما فلا ينتصبان.( ) وعليه فان الموت هو من الغيبيات لان الروح والنفس لا يعلم حقيقتها الا الله – جل جلاله- استنادا الى قوله تعالى : (( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم الا قليلا )).( )
لذا ان رجوعهما الى خالقهما من المغيبات التي لا تخضع للعلم التجريبي ونستدل على ذلك من قوله تعالى : (( الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى )).( ) ويقول عليه الصلاة والسلام : (( ان الروح اذا قبض تبعة البصر)). ( )
موقف التقنينات المقارنة من معايير الموت:-
يغدو وضع معيار قانوني لموت المريض مسالة في غاية الاهمية، لوضع حدود معينة ينتهي اليها تصرف الطبيب بحيث لايعلن الوفاة الا عند تحقق شروط معينة نص عليها القانون، وفي ذلك مصلحة للطبيب نفسه بالاضافة الى مصلحة المريض الذي يحتضر فالطبيب في الغالب لايعرف حدودا معينة للمسالة القانونية عن فعله في اعلان الموت او (كما هي الحال بالنسبة للانعاش الصناعي عن ايقاف الجهاز)، لذا نراه مترددا في ذلك فيفضل ان ينتظر حتى النهاية للتثبت من موت الشخص في حين ان الشخص يكون قد مات قبل زمن لموت دماغه.( )
لذلك فان استعراض معايير الموت يوضح لنا اللحظة التي يموت فيها المريض الا ان الموت ليس واضح المعالم الى هذه الدرجة بحيث يتم تشخيصه طبيا بهذه البساطة وبهذا اليقين، ولقد زاد من تعقيد المشكلة ان القانون والشرع يريدان من الطب ان يحدد(لحظة) واحدة فقط بل اقل من لحظة لكي يجزم بان الموت قد حدث فيها ،وذلك من اجل :-1-المزاحمة في استخدام اجهزة الإنعاش،( ) ,2- ومن اجل استئصال الاعضاء البشرية من جسم الميت وليس من اجل تحديد مرض الموت .اذ ان كل الأحكام تلك تبنى على هذه اللحظة فظهرت المشاكل واستعصى على اهل الطب تحديد تلك اللحظة وظهرت امامهم حالات وقف فيها اهل الطب عاجزين عن الجزم بكونها موتا ام حياة ، لذلك اسموها حالات وسطى بين الحياة والموت ومن ثم فان الطب اعتمد على علامات اوامارات الفقه الإسلامي لوجود الموت.( )
عاد الفقه والقانون لبحث المسالة وصدرت الفتاوى والتشريعات في اعتماده معايير وترك اخرى لتحديد الموت .
ففي الاردن , نصت المادة الثالثة من قانون الانتفاع باعضاء جسم الانسان رقم (23) لسنة 1977 المعدل بقانون رقم (17) لسنة 1980 على انه : (( ا- يشترط في اجراء عمليات نقل الاعضاء وزراعتها , ما يلي :- 1- الالتزام بالفتاوى الصادرة عن مجلس الافتاء الاردني بهذا الشان وبخاصة ما يتعلق منها بالموت الدماغي ... )) .( ) وقد افتى مجلس الافتاء الاردني , بما ياتي : (( يعتبر شرعا ان الشخص قد مات , وتترتب جميع الاحكام المقررة شرعا للوفاة عند ذلك اذا تبينت فيه احدى العلامتين التاليتين : 1- اذا توقف قلبه وتنفسه توقفا تاما وحكم الاطباء بان هذا التوقف لا رجعة فيه , 2- اذا تعطلت جميع وظائف دماغه تعطلا نهائيا واخذ دماغه في التحلل وحكم الاطباء المختصون الخبراء بان هذا التعطل لا رجعة فيه ...... )) .( )
ويتبين من هذا ان الافتاء يدخل في الموضوع ويعتمد تماماً على ما تم التوصل اليه في المؤتمر الاسلامي الذي انعقد بجدة ومن ثم في الاردن فيما يتعلق بهذه المسألة، ويجدر بالاشارة هنا ان المادة الثامنة من القانون المنوه به في اعلاه قد قضت بتشكيل لجنة طبية للتثبت بشكل يقيني وتام من الموت ومنع التقدير الجزافي المتسرع من قبل الطبيب الواحد، وعلى هذا نجد ان الاردن قد اخذ بالمعيار الحديث ( موت الدماغ ). ( )
أما في العراق، فأن المشرع العراقي قد آثر هو الاخر ان يتبنى معيار الموت الدماغي وقد أسهب في الحديث عن الشروط اللازمة لتطبيقهُ وهذه الشروط ( كما هي الحال في بلدان العالم الآخرى التي تبنتها )، ينبغي أن تتوافر جميعها قبل امكان الحكم بموت المريض فلا يكفي أحدها لذلك. فقد نص في قانون العمليات زرع الأعضاء البشرية رقم (85) لسنة 1986م، وذلك في الفقرة (5) من المادة الثانية منه والتي تنص على انه : (( يجوز أخذ الاعضاء من المصاب بموت الدماغ وحسب الادلة العلمية الحديثة المعمول بها التي تصدر بتعليمات .....)).( ) ولقد صدرت التعليمات رقم (3) لسنة 1987م فعرفت الفقرة الاولى منها والصادرة بموجب المادة (السادسة) من قانون عمليات زرع الاعضاء البشرية رقم (85) لسنة 1986م، موت الدماغ بانه : (( حالة الفقدان اللاعائد للوعي المصحوب بالفقدان اللاعائد لقابلية التنفس التلقائي والانعدام التام للأفعال الانعكاسية لعرق الدماغ )).( )
أما في مصر فأن القانون رقم (130) لسنة 1946 الخاص بالولادات والوفيات ترك مسألة تحديد الموت جملة وتفصيلا للجانب الطبي فترك السلطة للطبيب في تقرير حالة الوفاة وبيان سببها دون ان يلزمه باتباع اساليب معينة , كما ان القانون رقم (103) لسنة 1962 م الخاص بالتنازل عن العيون من اجل اجراء عمليات ترقيع القرنيات لم يلزم الطبيب بأتباع وسائل معينة لتحديد لحظة الموت كما يلزمه ببيان سبب الموت قبل استئصال العين من جثة الميت.( )
أما في فرنسا، فان الفقه القانوني الفرنسي حاليا يؤكد على انه رغم عدم وجود تعريف قانوني للموت، ورغم ان المسألة متروكة للطبيب ليقرر استنتاجه للموت، فان المعيار الذي يجب ان يستخدم هو معيار الموت الدماغي ( ducrveau).( )
وقد تجسد المعيار الحديث في فرنسا بقرار من وزير الصحة الفرنسي الصادر في 25/4/1968 وتم بموجبه تبني المعيار الحديث لاول مرة في فرنسا حيث اقر مبدا جواز الاعتماد على رسام المخ الكهربائي في اثبات الموت فأشار الى ان من الممكن الاقرار بحدوث الموت باجراء تخطيط كهربائي للدماغ يرسم خطاً مستقيماً وذلك خلال مدة زمنية كافية.( )
نستنتج من كل ما تقدم ان غالبية الدول العربية تأخذ بالمعيار الحديث وان كان تبنيها لذلك حديث العهد نسبيا وان لذلك أثره او ثمرته الهامة انما تتصل بجواز ايقاف جهاز الانعاش من على مريض مات دماغه ، فهذه المسالة ما زالت محل استرابة كبيرة من القانونيين والاطباء على حد سواء وما زال الطبيب محجما عن الاقدام على ايقاف الجهاز، والسبب في ذلك خوفه من ان يكون مرتكبا لجريمة قتل عمد ما دام فعله بايقاف الجهاز سيفضي الى سكون الجسد نهائيا ، ومن هنا تأتي أهمية اعمال المعيار الحديث بجميع نتائجه والتي منها ايقاف الجهاز لايعد قتلا رغم انه لم يعتبر الشخص ميتا بموت دماغه,( ) وهذا عين الصواب . وان فرنسا قد تبنت المعيار الحديث اذ اجازت الاقرار بحدوث الموت بالاعتماد على اجراء تخطيط كهربائي للدماغ يستغرق مدة زمنية كافية .