صفحة 1 من 1

إعادة النظر في الالتزامات المرهقة

مشاركة غير مقروءةمرسل: الأحد أكتوبر 05, 2008 1:16 pm
بواسطة BAHRAIN LAW
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمــــة:
إن إعادة النظر في العقود بسبب تغير الظروف يمكن تعريفها بصورة أولية على أنها مراجعة الالتزامات العقدية بإرادة خارجية على التعاقد، تتولى فرض التزامات غير إرادية في مكان الالتزامات الإرادية المتفق عليها، تجد مصدرها في إرادة القضاء أو المشرع. فهي نظرية تذهب في مقابل العقد وتخالف محتواه، وهي رغم تعارضها مع المبادئ التقليدية التي تسود مؤسسة التعاقد نظرية شاملة أخذ بها المشرع المدني في حالات متعددة، كما اعتمدها القضاء في بعض تطبيقاته العملية عند اصطدامه مع الواقع، فكان في عمله مشرعا في تلك الحالات الخاصة والمحددة.
فإعادة النظر في العقود قد برزت في التشريع المدني من خلال نصوص متفرقة كان الدافع إليها أولا: السياسية التشريعية التي تقوم على إرضاء حاجات معينة أو تحقيق مصلحة عليا اجتماعية واقتصادية، وثانيا مبدأ العدل الذي يتحقق بإقامة الإنصاف والعدالة كأساس في التعامل، والقضاء بتأثير من النزعات الإنسانية وبعض المبادئ غير العقدية لم يتوان عن مراجعة العقد وفرض الالتزامات على الإرادة، وإن كان يعتمد في حلوله أسلوبا يتولى إخفاء تلك العملية تحت ستار تفسير الإرادة أو إعمال القواعد المدنية، لما تنطوي عليه من معالجة للعقد بإعادته إلى وضعه الصحيح، وهو ما يقبله المنطق وما لا تقبله الذهنية التقليدية في التشريع المدني.
وهذه النظرية ليست في حقيقتها القانونية إلا صورة من صور إعادة النظر في العقود، تهدف إلى تعديل العقد برد توازنه الذي فقد إلى حده المعقول.
فهي تفترض، كما يقول الأستاذ كاربونييه ، عقدا يتراخى أجل تنفيذه في الزمن، تحددت التزاماته على أساس الظروف الاقتصادية المحيطة وقت التعاقد. إلا أن تلك الظروف تتغير تغيرا جوهريا أثناء العمل بذلك العقد بفعل عوامل غير متوقعة كالحروب والأزمات الاقتصادية، مما يجعل تنفيذه أكثر إرهاقا لأحد المتعاقدين في مصلحة المتعاقد الآخر، ويحمل على البحث في مسألة مراجعة العقد لرد توازنه بشكله التقريبي. فنظرية تغير الظروف إذن، لا تطرح عند النظرة الموضوعية إلا من هذه الزاوية: زاوية مراجعة العقد بإرادة خارجية.
إن هذا البحث ينحصر في دراسة هذه النظرية (إعادة النظر في الالتزامات المرهقة) والسبب في اختيار هذه الدراسة يتمثل في أمرين:
الأمر الأول: أن البحث في نظرية إعادة النظر في العقود بسبب الظروف الطارئة يمكن من إلقاء الضوء على وضعيتين: إعادة النظر في العقود والظروف الطارئة، وفي ذلك فائدة قانونية وعملية رئيسية، فإعادة النظر في العقود أضحت نظرية ملحة على ضوء التقلبات المستجدة في الظروف الاقتصادية، تنعكس بنتائجها على التعامل وعلى العقود بصفة خاصة ، والظروف الطارئة أضحت بتأثير مختلف العوامل الاقتصادية والطبيعية والإدارية المؤثر الأساسي في التوازن العقدي، تستدعي على وجه الضرورة تدخلا خارجيا في التعاقد، تبعا لأهمية ما تخلفه من اختلال غير مألوف، يترك آثارا على الأوضاع الخاصة للمدنيين والعامة للاقتصاد.
الأمر الثاني: يتمثل في كون هذه الدراسة تحمل على معالجة النتائج السلبية التي تخلفها الظروف الطارئة في التعامل، والبحث عن وسيلة علاجية لتلك الحالة، بحث في مختلف القواعد والمبادئ العقدية وغير العقدية التي قد تعتمد كسبب يبرر التعديل العقدي تحقيقا للتوازن التقريبي وإن لم يكن الكلي بين الالتزامات سواء التعاقدية أو السابقة على التعاقد، وقد يكمن وراء تلك القواعد مبدأ جوهري يكون السبب الموجه في اعتماد النظرية ولو كان ذلك بالتجاوز على العقد أو الإرادة التي أوجدته.
لقد حاول البعض اعتبار النظرية من احتكار قانون معين: هو القانون الإداري، تزيد في تعميق الطابع المميز للعقد الإداري وترسيخه، ولكن هل هذا الاحتكار هو مطلق يستبعد بنتائجه كل تطبيق للنظرية في خارج الإطار الإداري من التعاقد؟ وهل الطبيعة القانونية لهذه النظرية تجعل من الأمور المبدئية رفض كل إعمال للنظرية على العقود المدنية والخاصة من خارج الحالات المنصوص عليها قانونا؟ وهل هذه النظرية في إعمالها لا تشكل نواة لترسيخ فرع جديد في القانون أخذ في البروز، فرضته التطورات المستجدة؟
للإجابة على ذلك، سندرس هذه النظرية – إعادة النظر في العقود للظروف الطارئة – من ناحيتين: ناحية المفهوم، فنبين في فصل أول مفهوم كل من إعادة النظر في العقود والظروف الطارئة، ومن ناحية التطبيق فنبرز في فصل ثان لهذه النظرية في التشريع المدني من تطبيق. ولكن قبل ذلك لابد من تمهيد نعرض من خلاله إلى النظرية في واقعها التاريخي.
فخطة البحث تتحدد إذن كما يلي:
- النظرية – إعادة النظر في العقود للظروف الطارئة – تاريخها
(الفصل التمهيدي).
- النظرية – إعادة النظر في العقود للظروف الطارئة – كمفهوم
(الفصل الأول).
- النظرية – إعادة النظر في العقود للظروف الطارئة – كتطبيق
(الفصل الثاني)

الفصــل التمهيــدي: إعادة النظر في العقود بسبب الظروف الطارئة تطورها التاريخي
إن مسألة التدخل القضائي في العقود عند حدوث ظروف طارئة هي مسألة ترتبط بتاريخ القانون نفسه، وتتصل على حد تعبير الأستاذ ترمانيني " بتاريخ الالتزام وتطور مفهومه وتأثير مبدإ العدالة فيه إذ أن النظرية هي اثر من آثار هذا التطور ونتيجة لتغليب مبدإ العدالة على قاعدة شريعة العقد، لأنها ترمي إلى إعادة التعادل في الالتزام" .
فالنظرية قد عرفت في أواخر العهد الروماني، وتكرست بوضوح في الشرائع والأنظمة السماوية فأخذت بها المسيحية، كما أكدتها الشريعة الإسلامية ولكن ليس كنظرية عامة ومستقلة وإنما كتطبيقات فرعية ومحددة . وقد بقيت معالم النظرية بارزة حتى القرن التاسع عشر في أوروبا، إذ اختفت تماما أمام المبادئ التي أطلقتها الثورة الفرنسية والتي كان من آثارها حركة التقنين الجديد، وقيامه على الإرادة وسلطانها. ولم تعد إلى الظهور إلا في المنتصف الثاني من القرن التاسع عشر في القوانين العامة وعلى الأخص القانون الإداري وإن كان ظهورها قد اتخذ طابعا مستقلا، كما أنها اعتمدت أخيرا في بعض التشريعات الحديثة.
أما في البلاد العربية فقد بقيت النظرية معروفة في بعض صورها، طالما كان العمل بالشريعة الإسلامية كقانون منظم للعلاقات قائما، ولكن بانقضاء العمل بتلك الشريعة ظهرت التقنينات العربية الحديثة متخذة بالنسبة للنظرية اتجاهين: الأول سلبي يرفض النظرية كمنطلق لإعطاء القضاء سلطة التعديل، والثاني إيجابي يخول القضاء تلك السلطة في أقصى وجوهها .
من هنا تتحدد الدراسة التاريخية للنظرية بمرحلتين:
- مرحلة ما قبل صدور التقنينات الحديثة ( الفرع ألأول)
- ومرحلة ما بعد صدور التقنينات الحديثة ( الفرع الثاني)
الفرع الأول: مرحلة ما قبل صدور التقنينات الحديثة
إن هذه المرحلة تمتد في جذورها إلى القانون الروماني وتتناول: مرحلة القانون الروماني ومرحلة الشرائع السماوية: القانون الكنسي والشريعة الإسلامية.
المبحث الأول: مرحلة القانون الروماني
إن النظرية رغم أنها قد بقيت غريبة عن التقنية القانونية عند الرومان في أول عهدها، إلا أنها قد عرفت طريقها إلى الذهنية الرومانية في عهدها الأخير.
1- النظرية في مرحلة التقنين الروماني الأولي:
إن التعديل القضائي للعقد عند حدوث ظروف طارئة أخلت باقتصادياتها، وبقي غريبا عن التشريع الروماني ونظرته الأولى إلى العقد فالقاعدة العامة التي خضع لها العقد في المرحلة الرومانية الأولى هي أن نشأة الالتزام وآثاره رهين باستكمال المراسم الشكلية المنصوص عنها دون النظر إلى رضا الطرفين أو إلى غاية العقد أو سبب الالتزام.
فالأصل ألا ينظر إلا إلى الشكل وليس إلى العقد أو ظروفه وما قد يطرأ عليها من مؤثرات خارجية قد تخل بتوازنه. فالعقد الذي اكتمل شكله وأسسه ينبغي أن ينفذ بصورة موضوعية كما ارتأته أطرافه لا كما يرتئيه القضاء.
2- النظرية والحد من القواعد الشكلية:
إن الحد من القاعدة الشكلية عند الرومان قد برزت من زاويتين: الأولى عند بروز مبدإ الرضا كأساس في بعض العقود ثم كمبدأ يسود التعاقد، والثانية عند ظهور المبادئ الإنسانية من إنصاف وعدالة كعامل مخفف لقاعدة الشكل. وقد كان لذلك أثره بالنسبة للنظرية. وقد برزت في آراء بعض الفقهاء والفلاسفة الرومان، كما أيدتها بعض القرارات البريتورية.
فالفقه قد لعب دورا رئيسيا في وضع نواة للنظرية، وقد افترض بقاء العقد على الحالة التي انعقد في ظلها، وذلك كشرط أساسي في التعاقد، وكل تغير في تلك الظروف يستتبع التغيير في مضمون العقد إعمالا لذلك الشرط. فهم يرون بأن أهمية العقود هي لوقت انعقاده لا لوقت تنفيذه فتؤخذ بالاعتبار الظروف التي سادت في ذلك الوقت.وقد أوضح الفقيه افريكانوس Africanus ما يترتب على تلك النتيجة فاعتبر أن كل التزام يحتوي بندا ضمنيا يقضي ببقاء ظروف الانعقاد على حالها لبقاء العقد على حاله وكل تغيير جوهري يقع على تلك الظروف يرتب تغييرا في بنود العقد تبعا لذلك كما أن الفلسفة الرومانية قد توصلت إلى ما توصل إليه الفقه من رفض لكل إلزام بتنفيذ عقد قد تغيرت ظروف انعقاده فكل شيء بنظر شيشرون وسيناك Cicéro et Sénéque ينبغي أن يبقى على حاله ، كما كان في وقت الارتباط للإلزام بمضمونه . ولكن الإحاطة الكاملة بالطبيعة القانونية للتعديل العقدي عند تغير الأوضاع، قد توضحت في التطبيقات العملية للنظرية التي ظهرت في القانون البريتوري – وهو مجموعة القواعد التي ابتكرها الحكام Preteurs وحكام الأقاليم وحكام الأسواق. فالبريتور قد لحظ الدور المناقض للقوانين وللقواعد الثابتة الذي تلعبه بعض النظريات التي تفرضها مبادئ العدالة والإنصاف. ولكن إزاء ذلك التعارض بين الحل الذي يفرضه القانون، والحل الذي يفرضه الضمير ، كان البريتور الروماني يترك لرأيه سلطة الاختيار: وقد كان يختار الحل الذي يمليه ضميره بمعزل عما تفرضه النصوص والقواعد .
وفي نطاق العقود فإن الحل الذي اختاره البريتور في بعض الحالات الخاصة المعروضة عليه، هو الحل الذي يتوافق مع حسن النية عند المتعاقدين والنفع العام للجماعة. ومن تطبيقات هذا الحل: إعادة النظر في العقد عند تغير أوضاعه الأساسية للظروف الطارئة.

المبحث الثاني: مرحلة الشرائع السماوية
المقصود بالشرائع السماوية نظامان: نظام كنسي ونظام إسلامي، وسنبين موقف كل نظام من هذه الأنظمة في مطلبين:
المطلب الأول: مرحلة القانون الكنسي
إن النظرية، قد برزت إذن في الذهنية الرومانية من خلال البند بتغير الأوضاعRebus Sic Stantibus وهذه الصورة قد تناولها الكنيسيون في القرنين الثاني والثالث عشر، ولكنهم أضافوا إليها سببا آخر، هو محاربة الغش في مختلف وجوهه، وقت العقد أو وقت تنفيذه .
وقد توسع الفقيه كراسيان Cratiens في كتابهDecretum في شرح أفكار شيشرون وسنيك، وأكد النتيجة العادلة التي توصلا إليها، كما تابع الفقيهان دي برويسيا Bartholomus de Brescia والقديس سان توما الأكويني Saint.T. d’Aquin في كتابه Lumina Théologica. الطريق ذاته . فتنفيذ العقد بنظرهما هو تنفيذ للعهود، وتنفيذ العهود هو أمر تفرضه الأخلاق المسيحية ومبادئ العدالة، ولكن العدالة تزول بوجود الغبن الظاهر المنبثق عن كل اختلال جوهري في التوازن العقدي. وطرود أحداثا إنسانية، وما تخلفه من نتائج، تؤدي إلى إزالة كل قرينة بعدالة تلك العهود، مما يفرض التعديل العقدي احتراما لتلك العدالة على نفس المستوى الذي يفرضه احترام الالتزام نفسه .
والعقد عند الكنسيين ينبغي ألا يكون وسيلة لإخفاء أي ظلم أو إساءة Injustice أو أن يؤدي إلى استغلال الضعيف أو الجاهل، أو أن يكون مفيدا ومربحا لأحد أطرافه على حساب الآخرين، فالتزام المدين بأن يقوم بتحقيق ما تعهد به يقابله التزام الدائن بأن يحقق ما تقضيه العدالة "فالإنسان العادل هو من لا يضع أمامه تحقيق مآربه الخاصة ولو على أساس التضحية بمصالح الآخرين" .
إن النتيجة التي تفرضها هذه النظرة هي في إقامة العقد على أسس من التوازن والمساواة بين التزاماته، فالبائع لا يستطيع أن يطالب المشتري على أساس العقد فقط، وإنما على أساس العقد مربوطا ومتصلا بالثمن العادل. فالثمن في العقد قد يتفق مع " الثمن العادل" وقد لا يتفق. وفي هذه الحالة تكون كل مطالبة لا تحترم ذلك المبدأ هي تكريس للتغابن والاستغلال، وتشكل في حقيقتها نوعا من الإثراء غير المشروع، وخروجا لا يغتفر على العلاقة المثالية بين الإنسان وخالقه .
ولا يلتفت إلى الوقت الذي حصل فيه التغابن: في وقت العقد أو في وقت لاحق. فالمهم هو الجوهر وليس الإطار، فالغبن كما يحصل وقت التعاقد قد يحصل وبصورة أشد وقت التنفيذ، فإبقاء الحالة على ما كانت عليه وقت التعاقد هو مبدأ تكرسه العدالة التوزيعية وأخلاق الكنيسة .
لقد استقرت هذه النظرة الكنسية عند البارتوليين: ففي كل عقد توجد قاعدة ضمنية تعلق مصيره على بقاء ذات الشروط التي رافقت تكوينه. كما أنها استقرت في القانون الفرنسي القديم، ولم يجد فقهاؤه سببا لبحثها، ولم يتناولها الفقه بالدراسة إلا في أواخر القرن السادس عشر بواسطة فقيهين كان لهما دور في تطويرها، هما أندريه إليكا واندريه يتراكو.
كما أنها لم تظهر إلا في حكم واحد صادر عن برلمان فرينوبلParlement de Grenoble بتاريخ 22 آذار سنة 1634، أيد مطالب صاحب مخبزة بتعديل أسعار الخبر الملزم به تجاه زبنائه لتغيير الأسعار التي كانت ترعاها وقت إنشاء التزامه .
فكانت هذه هي الفترة الأخيرة السابقة للتقنين الفرنسي التي يمكن أن نجد فيها ملامح للنظرية، فقد اختفت تماما في القرن التاسع عشر، نتيجة للمؤثرات التي أطلقتها الثورة الفرنسية، من تكريس للحرية المطلقة وسلطان الإرادة في أبعد مظاهره، ونتيجة لتجاهل فقهاء مؤسسين لذلك القانون أمثال دوما وبوتييه لأي تعديل للعقد من خارج الإرادة التي أبرمته .

المطلب الثاني: القانــــــون الإسلامــــي
إن الشريعة الإسلامية لم تضع نظرية عامة لإعادة النظر في التعاقد عند اختلالها للظروف الطارئة، بل جاءت مبدئيا بأوجه فرعية من وجوه النظرية، تختلف باختلاف المذاهب الفقهية، وفقهاء المذهب الواحد، إلا أن الجامع بينهما هو نظرية الضرورة التي أكدها الأستاذ لومبيير في المؤتمر الدولي للقانون المقارن الذي انعقد في لاهاي في سنة 1932 فالفقه الإسلامي عموما " لم يبن على النظريات ولا على الأسلوب التحليلي، بل هو بصورة خاصة وليد الاستقراء والاستخلاص الذي توصل إليه الفقهاء، من درس القضايا الفردية، تلك القضايا التي استعرضوها والتي كانت ميدانا لاجتهادهم وموضوعا لأبحاثهم .
يبقى أن نعرض لمفهوم تلك النظرية ثم نحدد أوجهها:
1- نظرية الضرورة:
لقد حدد الأستاذ ترمانيني مضمون نظرية الضرورة التي أشار إليها الأستاذ لومبير بأنها نتيجة للمبدإ الذي لا يجيز بأن يؤسس على تطبيق الشريعة ضرر عام أو ضرر خاص. " فقواعد الشريعة الموضوعة على شكل مؤكد وثابت يجب أن تفهم وتطبق في إطار هذا المضمون، وما لم يكن موضوعا ودعت الحاجة إلى وضعه فإنه يجب أن يوضع بما يحقق هذه الغاية " غاية عدم إلحاق الضرر " .
من هنا تفرعت تلك القواعد الإسلامية في الشريعة الإسلامية والتي كانت مصدرا لكثير من الأحكام، كقاعدة "لا ضرر ولا ضرار" و" الضرر يزال" و " المشقة تجلب التيسير" و " الأمر إذا ضاق اتسع" و "الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة" و" الضرورات تبيح المحظورات"، وظروف أحداث إنسانية غير متوفرة بما تولده من ضرر يلحق بأحد طرفي العقد كانت تفرض نتيجة لتلك القواعد إزالة ذلك الضرر عن طريق التعديل في تلك العلاقة ولو على حساب مبدإ احترام التعاقد .
إذن هناك تلازم أساسي بين نظرية الضرورة في الفقه الإسلامي، ونظرية إعادة النظر في العقود بسبب الظروف الطارئة.
وفي الفقه الحديث: " فنظرية الضرورة في الفقه الإسلامي، كما يقول الأستاذ لومبيير، تعبر بصورة أكيدة عن فكرة يوجد أساسها في القانون الدولي العام في نظرية الظروف المتغيرة، وفي القضاء الإداري الفرنسي في نظرية الظروف الطارئة..." .
إن الأصل الشرعي لهذه النظرية هو في قاعدة الإحسان التي "تخفف من قاعدة العدل. ومن إطلاقه: فإذا كان العدل هو الواجب والواجب أمر الشرع، إلا أنه لا يقضي بتكليف ما لا يطاق، وفي ذلك ظلم وجور لا يتصور. فكان الأمر بالإحسان للتخفيف من تفريط ذلك العدل وشدته فالله. "كما تقول الآية الكريمة يأمر بالعدل والإحسان"،ولهذا فالقاعدة القانونية لابد من تطبيقها، وذلك هو العدل، ولكن ذلك التطبيق لابد من أن يقترن بالإنصاف والعدالة .
فالعدل إذن يقترن بالإحسان في مرتبة واحدة، الأول يقوم على إعمال القاعدة والثاني يقوم على الحد من قساوتها، فإذا كان العدل أن يفي الإنسان بالتزاماته وعهوده، فإن الإحسان يكون في إمهال المدين "نظرة الميسرة" عند إعساره". "فالأمر إذا ضاق اتسع" .
لقد تناولت المذاهب الإسلامية، تلك القواعد التي أطلقتها نظرية الضرورة لتؤسس عليها تطبيقات محددة، هي في حقيقتها صور للتعديل القضائي للعقود بسبب تغير الظروف.
2- تطبيقاتها :
إن العقد في الشريعة الإسلامية ملزم لأطرافه، فهو شريعة بين المتعاقدين لا تجوز إقالته أو تعديله إلا بالرضا المتبادل. "فالعقد انعقد بالتراضي فلا يحله إلا التراضي نفسه". إلا أن قاعدة منع الضرر، التي نتجت عن المضمون لنظرية الضرورة، قد حملت المذاهب الإسلامية إلى التخفيف من شدة تلك القاعدة إعمالا لمبدإ الإحسان المتمثل في العدالة. فإذا تبدلت ظروف التعاقد عند تنفيذه، فنشأ عنه ضرر للمدين، جاز في المذهب الحنفي فسخ العقد في الإيجار، تأسيسا على القاعدة المتقدمة، وجاز إنقاص الثمن في الثمار والبقول المبيعة قبل حينها في المذهبين المالكي والحنبلي، إذا أصابتها آفة قللت من كميتها أو قيمتها. ففي الحالة الأولى، نكون أمام نظرية العذر عند الحنفية. وفي الحالة الثانية نكون أمام نظرية الجوائح عند الحنبلية والمالكية. إلى جانب ذلك، عالج الفقه الإسلامي مسألة التحولات النقدية وتقلبات أسعارها في حالة الانخفاض أو الزيادة في قيمتها أو إلى إزالتها من التعامل.
أ- التطبيق الأول: نظرية العذر
نظر الحنفية إلى عقد الإيجار على أنه بيع للمنافع، والمنافع لا تكون موجودة وقت انعقاد العقد، فالأصل إذن هو عدم جواز ذلك البيع. إلا أن مقتضيات الحاجة، وما يؤمنه هذا النوع من العقود من المنفعة الخاصة والعامة قد أجازت إبرامه استحسانا. ولكن إذا كان في بقاء ذلك العقد إضرار بالعاقد، وجب الرجوع إلى الأصل، والقول بعدم لزوم ذلك العقد.
من هنا تولدت نظرية العذر عند الحنفية: فالعذر هو الرجوع إلى الأصل في عقد الإيجار، وهو عدم جوازه كلما كان تحمل الضرر أمرا ملازما لبقائه.
ولكن لاكتمال العذر اشترط المذهب الحنفي أمران: "أن يكون الضرر في مصدره ناشئا عن سبب خارج عن نطاق الالتزام و ألا يكون من آثاره. فإذا كان الضرر هو عبارة عن تفويت الربح- كما لو وجد مستأجر أفضل- أو حصول الخسارة القليلة – كما لو كان الإيجار قليلا – فلا ينفسخ العقد في هذه الحالات، لأن الضرر الحاصل هو مستحق بالعقد" ، ومن آثاره في الغالب. أما إذا كان هناك اضطرار إلى بيع المأجور لإعسار المؤجر أو لفسخ العقد لإفلاس المستأجر، أمكن ذلك لوجود العذر لأن في بقاء العقد ضرر بالمؤجر أو المستأجر، مرده إلى سبب خارجي عن العقد لا يوجبه الالتزام نفسه. و"العذر ، قد يكون بجانب المؤجر، كأن ترهقه ديونه ولا يملك إيفاءها إلا ببيع المأجور، وقد يكون في جانب المستأجر، كأن يريد السفر، وقد يكون في جانب المستأجر كما لو عتق العبد المستأجر، ففي كل من هذه الحالات، يملك المؤجر – في الحالة الأولى – والمستأجر – في الحالة الثانية – المستأجر – في الحالة الثالثة – الحق في فسخ العقد لوجود العذر المبرر" .
ب- التطبيق الثاني: نظرية الجوائح
عرفت الجائحة على أنها "كل آفة لا صنع للآدمي فيها ولا يستطاع الدفع لها أو الاحتراز منها، وهي " كل ظاهر مفسد من مطر أو برد أو جراد أو ريح أو حريق" وتشمل عند البعض أيضا الفتنة والغصب والسرقة وما أشبه ذلك والجائحة قد تصيب الزرع من ثمر وبقول، وقد تؤدى إلى إتلافها كليا أو جزئيا في كميتها أو قيمتها" فمن يتحمل ما تتركه من خسارة: البائع أو المشتري؟ ورد في الحديث الشريف " لو بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا، بما تأخذ مال أخيك بغير حق؟ " وقد استند الأئمة الشافعي في مذهبه القديم، وابن حنبل ومالك وعمر بن عبد العزيز إلى ذلك الحديث للقول بأن الجائحة من ضمان البائع، وأن للمشتري أن يرجع عليه بما أحدثته من تلف في الثمار شرط أن تقع في وقت معين، وأن تبلغ في مداها مقدارا معينا، اختلف الفقهاء في تحديده وفي كيفية ذلك التحديد.
بالنسبة لوقت حصول الجائحة، فالمتفق عليه في مذهب مالك أنه الوقت الذي يتطلبه بقاء الثمر على الشجر دون قطف حتى " يستوفى طيبه". أما في المذهب الحنبلي، فوقت الإصابة هو الوقت الذي يمر إلى أن يبلغ الثمر أوان القطف .
وبالنسبة إلى مداها فهو الثلث في الثمار، وفي القبول قيل أنه الثلث وقيل أنه في القليل الكثير عند المالكية، والثلث هو في القيمة عند البعض وبالكيل عند البعض الآخر . أما في المذهب الحنبلي فالإمام أحمد بن حنبل، لا يشترط الثلث في الجائحة، وهذا ظاهر الرواية في مذهبه، فكل ما يذهب بسبب الآفة يعتبر جائحة مهما بلغ مقداره كيلا أو قيمة.
إن هذه النتيجة التي أخذت بها هذه المذاهب تتوافق مع نظرتها إلى عقد البيع في الثمار: " فالقبض في بيعها وهي على أشجارها ليس كاملا، فهو كالقبض في الإجارة، وكما تحصل المنافع شيئا فشيئا في المأجور، فكذلك الثمرة توجد حالا بعد حال، وكما تكون منافع المأجور في ضمان المؤجر، فسلامة الثمار يجب أن تكون في ضمان البائع" .
ج- التطبيق الثالث: نظرية النقود:
إن الأصل أن ينفذ العقد كما ورد: فإذا كان موضوعه نقدا وجب أن يدفع بالنقد المتفق عليه، ولكن قد يطرأ على قيمة النقد نوعان من العوامل: التغير في قيمته أو كساده. فهل المدين يلزم بدفع المبلغ المتفق عليه بقيمة وقت التعاقد أم وقت التنفيذ؟.
إن في الأمر اختلافا في المذهب الحنفي، وفي المذاهب الأخرى، وفي المذهب الحنفي يميز بين الحالتين: تغير قيمة العملة أو كسادها وزوالها، ففي الحالة الأولى- حالة التغير في قيمة العملة- يرى الإمام أبو حنيفة أن الانخفاض أو الزيادة في سعر العملة لا أثر له على الالتزام: فما ينبغي تنفيذه من النقد، هو ما جرى عليه العقد وقت انعقاده. وهذا هو رأي الإمام محمد الشيباني، أما الإمام أبو يوسف، فخالف هذا الرأي، وقال بقيمة النقد من الذهب يوم العقد والقبض، وعلى ذلك جاءت الفتوى .
وفي الحالة الثانية- حالة كساد العملة وزوالها- يقسم فقهاء المذهب الحل حسب نوع العقد: عقد بيع أو عقد قرض.
في البيع يرى أبو حنيفة إبطاله عند كساد النقد أو زواله، إذ أن البيع يضحى دون ثمن، أما الإمامان أبو يوسف ومحمد فقد اعتبرا البيع قائما ولكن على المشتري دفع الثمن من النقد بحسب قيمته وقت البيع برأي أبي يوسف، لأن الثمن مضمون به، وعند الانقطاع برأي محمد لأنه زمان الانتقال إلى القيمة، وفي القرض وهو إعارة فيقتضي رد المبلغ المستقرض ذاته، لأن موجب الإعارة هو رد العارية بذاتها، وهذا هو الأجل، أما إذا استحال ردها للتصرف فيها فيرد مثلها استثناء .
أما أبو يوسف ومحمد فارتأيا رد القرض بقيمته يوم القبض عند الأول، ويوم الانقطاع عند الثاني،والفتوى في ذلك هي على رأي أبي يوسف.
في المذهب المالكي لا تفرقة بين عقد قرض أو عقد بيع وبين تغير العملة في قيمتها أو كسادها، فالوفاء لا بد من أن يتم بالنقد المتفق عليه، ومن جنسه في مطلق الحالات .
في المذهب الشافعي، يكون الإيفاء بالنقد المتعاقد عليه مهما كانت طبيعة العقد، سواء تغيرت قيمته أو أبطله السلطان، أو نقص سعره، فإذا تعذر الإيفاء بالمثل وجب الإيفاء بقيمته من الذهب وقت المطالبة. أما في المذهب الحنبلي، فهناك فرق بين تغير قيمة النقد أو كساده وبين منع السلطان. ففي الحالة الأولى يجب أن يكون الوفاء بمثل النقد الذي تغيرت أو كسدت قيمته إلا إذا تعذر ذلك، فيكون الوفاء بالقيمة يوم التعذر .
وفي الحالة الثانية من حق الدائن أن يطالب بالقيمة وقت العقد، وعلى المدين أن يقوم بذلك من كل ذلك نتبين أن النظرية – إعادة النظر في العقود بسبب تغير الظروف – لم تعرفها الشريعة الإسلامية بمذاهبها المختلفة كنظرية عامة، وإنما وردت في صور معينة أوجدتها نظرية الضرورة.

الفرع الثاني: مرحلة التقنيات الحديثة
لقد ابتدأت هذه الفترة اثر صدور التقنين المدني الفرنسي في سنة 1804. فقد أعلن هذا القانون مبادئ هامة كان لها أثرها في إرساء قواعد أساسية في التعاقد، واستبعد نظريات ملحة يفرضها التعامل بإلحاح. فقد اعتبر أن العقد شريعة للمتعاقدين لا يمكن تعديله بسلطة خارجية عن إرادة أطرافه. وإعادة النظر في العقد للظروف الطارئة التي تفترض بحسب طبيعتها التعديل القضائي لذلك العقد بإرادة القضاء، وسلطته لذلك فقد غابت النظرية عن التطبيق العملي في فرنسا، وتبعتها في ذلك تقنيات أخرى .
ولكن إزاء الطبيعة الخاصة التي تتصف بها بعض العقود، وإزاء التطورات الاقتصادية والاجتماعية المستحدثة، فقد عادت النظرية إلى الظهور منذ المنتصف الثاني للقرن التاسع عشر: في بعض التشريعات الحديثة أولا ثم في بعض الاجتهادات القضائية المتطورة .
المبحث الأول: النظرية في القوانين الحديثة
لقد غابت النظرية كمبدإ عام عن القانون الخاص، ويعود ذلك في سببه إلى نوعين من الاعتبارات: سياسية وقانونية.
الاعتبارات السياسية تعود إلى سببين: الأول عام ونتج عن النظرة التي أطلقتها الثورة الفرنسية وما سبقها من تشريع للحقوق الفردية والتعامل، والثاني خاص مصدره النظرة إلى التعاقد كأساس في التعامل والمبادلات، وهذه تتطلب لازدهارها إقامة الثقة والاستقرار ولا يمكن توكيدهما بحسب تلك النظرة، إلا بإبقاء العقد منتجا لآثاره التي افترضتها الإرادة العقدية،دون أي تدخل خارجي يجعل من مؤسسة التعاقد مؤسسة غير ثابتة .
أما الاعتبارات القانونية فمردها إلى ظهور التقنينات الحديثة وخاصة في مجال القانون المدني، وتركيزها على تلك العوامل السياسية التي اشرنا إليها، وأول تلك التقنينات تشريع نابليون.
أما المبدأ الذي اعتمده ذلك التشريع فهو اعتماده لسلطان الإرادة كقاعدة أسست عليها نظرية العقد بصورة عامة. فالإرادة قد أوجدت العقد، وهي التي تملك سلطة تعديله . ودور القضاء في هذا المجال يكاد ينحصر في تطبيق القانون في مختلف صوره: الصادر عن السلطة وهو التشريع، أو الصادر عن الأفراد وهو العقد، فهو لا يملك حق الفرض أو التعديل إلا في حدود ضيقة يحددها التشريع نفسه أو العقد .
إن هذه النظرة إلى هذه المبادئ التي وجهت التفكير القانوني والعملي في تلك الفترة قد تبدلت تماما إبان الأزمات والحروب التي ظهرت في أوروبا والعالم منذ المنتصف الثاني للقرن التاسع عشر. وقد نتج عن ذلك تيارات جديدة فلسفية واجتماعية تخطت الحدود الضيقة التي فرضتها أفكار الثورة وقد كان لها أثر فعال في توجيه الذهنية القانونية ونظرتها إلى الحرية العقدية" ومبدأ الإرادة. فالحرية العقدية لم تعد حرية بمفهومها شبه المطلق، بل وضعت أمامها حواجز لم تكن معروفة مرجعها إلى النظرة الجديدة إلى الدولة، كدولة تدخلية وموجهة، وقد كان لذلك انعكاساته على النظريات القانونية إجمالا، وعلى النظرية التي نحن في صددها، بصورة خاصة: فقد قبلتها بعض القوانين التي كانت لفترة سابقة ترفض تطبيقها، ليس على عقودها الخاصة فحسب، بل وعلى عقودها العامة كذلك، كما قبلتها أنظمة قانونية أخرى بقرارات قضائية رغم عدم وجود النص العام الذي يكرسها .
المطلب الأول: النظرية من التشريعات الغربية
لقد ظهرت النظرية – كما يقول الأستاذ مصطفى الجمال – "كنظرية عامة تسمح للقضاء بتجاوز الحدود التي وضعتها المبادئ الكلاسيكية في القانون المدني البولوني الصادر في أول كانون الثاني سنة 1934، ثم تكرست بعد ذلك في القانون المدني الإيطالي المعدل في سنة 1942، وكذلك في القانون المدني اليوناني، ولكن كيفية إعادة النظر عند حدوث الظروف الطارئة قد اختلفت في تلك القوانين" . أما التشريعات العربية فقد عرفت النظرية مؤخرا في التشريع المصري أولا بتأثير من الشريعة الإسلامية من جهة، والنزعة القانونية الحديثة من جهة ثانية ثم تبعته تشريعات عربية أخرى .
أ- النظرية في القوانين البولونية والإيطالية واليونانية
نصت المادة 269 من القانون المدني البولوني على أنه إذا اعترضت العقد صعوبات مرهقة، أو هدد تنفيذه أحد المتعاقدين بخسارة فادحة ولم يتمكن المتعاقد أن يوقعها حين إبرام العقد كالحرب والوباء، أو تلف المحاصيل بأسرها أو أية كارثة طبيعية أخرى جاز للمحكمة بعد أن تستعين بمبادئ حسن النية وتوازن بين مصلحة الطرفين، إذا رأت ضرورة لذلك، أن تعين طريقة تنفيذ العقد أو مقدار الالتزام بل والحكم بفسخ العقد".
ونصت المادة 1467 من القانون المدني الإيطالي على أنه " في العقود المستمرة والدورية أو المؤجلة التنفيذ، إذا أضحى التزام أحد المتعاقدين مرهقا إرهاقا فاحشا بسبب حوادث استثنائية لم يمكن توقعها، فلهذا المتعاقد أن يطلب فسخ العقد ويسقط هذا الطلب إذا تقدم الطرف الآخر بقبول تسوية عادلة وفقا لأحكام المادة 1458".
كما نصت المادة 388 من القانون المدني اليوناني على أنه " إذا طرأ حادث استثنائي غير متوقع على العقد المبرم وفقا لما يوجبه حسن النية ويتفق مع العرف في المعاملات وكان سيجعل التزامات الطرفين المتعاقدين مرهقة تزيد على الحد المألوف فيجوز للمحكمة، بناء على طلب المدين أن ترد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول، ولها أن تقضي بفسخ العقد كله أو بفسخ الجزء الذي لم ينفذ منه. فإذا قضت المحكمة بالفسخ انقضت التزامات الطرفين وعلى كل منهما أن يعيد إلى الآخر ما أداه إليه وفقا للأحكام المتعلقة بالإثراء بلا سبب".
وقد قارن الأستاذ اسعد الكوراني هذه المواد فوجدها تختلف فيما بينها من أربعة وجوه.
الوجه الأول: يتعلق بالمحل الذي تقع عليه النظرية، فالقانون البولوني قد حدد ذلك المحل بالعقود عامة دون أن يميز في طبيعتها، وهذا ما أخذ به القانون اليوناني، لكنه أضاف إليها شرطا آخر هو أن تكون تلك العقود مبرمة وفقا لما يقتضيه حسن النية في التعامل وما يتفق مع ما يوجبه العرف في المعاملات. أما القانون الإيطالي فقد اعتبر أن محل النظرية – إعادة النظر في العقود للظروف الطارئة – هو العقود المستمرة أو الدورية أو المؤجلة التنفيذ دون أن يربط ذلك الأجل بمدة معينة. فهو قد استبعد في ذلك من إطار النظرية العقود الفورية التي سبق تنفيذها، وهو أمر تفترضه القواعد العامة، كما سنرى.
الوجه الثاني: يعود إلى الظرف الطارئ نفسه، فهو ظرف غير متوقع على ضوء تلك القوانين مختلفة، ولكن المشرع البولوني انفرد بإعطاء أمثلة لذلك الظرف: كالحرب أو الوباء، أو تلف المحاصيل، أو أية كارثة طبيعية أخرى، مع أن تلك الظروف قد تكون متوقعة لذاتها. أما المشرعان الإيطالي واليوناني فقد اشترطا إلى جانب عدم التوقع شرطا آخر هو أن يكون الحادث استثنائيا، مما يحمل على التساؤل هل المشرع البولوني بعدم نصه على صفة "الاستثناء" للحادث المذكور قد اعتبر أنه شرط يفترض شرط عدم التوقع الذي أشار إليه، أم أنه قد اكتفى بكون الظرف غير متوقع ولو كان بذاته طرفا غير استثنائي، كان يكون مألوفا وعاديا؟
الوجه الثالث: يتناول النتيجة التي تترتب على وقوع ذلك الظرف، فهي في القانون البولوني صعوبات مرهقة تهدد أحد المتعاقدين بخسارة فادحة، وهي في القانون الإيطالي حصول الإرهاق في التنفيذ بصورة فاحشة، دون تحديد. أما المشرع اليوناني فقد أوضح المقصود بالخسارة الفادحة والإرهاق الفاحش: بأنها خروج الخسارة والإرهاق عن الحد المألوف في العادة.
الوجه الرابع: هو في كيفية التعديل القضائي للتعاقد، فإذا كانت تلك القوانين تتفق فيما بينها على أن الإرادة في التعديل هي الإرادة القضائية، إلا أنها تختلف من ناحية درجة ومدى تلك الإرادة، فهي ضيقة في التشريع الإيطالي وشبه مطلقة في التشريع اليوناني، ومطلقة في التشريع البولوني.
فالقاضي على ضوء النص الإيطالي لا يملك سوى السلطة بفسخ العقد بناء على طلب المدين، ويفقد تلك السلطة إذا تقدم الطرف الآخر بقبول تسوية عادلة وفقا لأحكام المادة 1458 من القانون المدني. أما في القانونين: البولوني واليوناني، فللقضاء سلطة أوسع. فهو يملك في التشريع اليوناني سلطة فرض التعديل على مقدار التزامات أي من المتعاقدين إذا ما وجد ضرورة لذلك فينقص التزامات الطرف المدين أو يزيد في التزامات الطرف الدائن بغية رد الالتزام المرهق إلى حده المعقول. وله لذلك سلطة فسخ العقد كله أو بجزئه الذي لم ينفذ. ولكن عند حكمه بالفسخ تنقضي التزامات الطرفين، وعلى كل منهما أن يعيد إلى الطرف الآخر ما أداه إليه وفقا للأحكام المتعلقة بالإثراء بلا سبب. أما التشريع البولوني فقد جاء أكثر إطلاقا: فهو بالإضافة إلى إعطائه للقضاء سلطة التعديل في مختلف صورها: الإمهال في التنفيذ، أو الحكم بالتنفيذ الفوري أو بالتنفيذ الجزئي كما يراه ضروريا، أو إعطائه لسلطة التعديل في مقدار التزامات أي من المتعاقدين، أو فسخ العقود كليا أو جزئيا... إلا أنه لم يقيده لجهة النتائج المترتبة على تقريره لذلك الفسخ، بل وضع له توجيهات عامة بإمكانه اتباعها عند إعادته للنظر في التعاقد، وهي الاستعانة بمبادئ حسن النية ومصلحة الطرفين" .
المطلب الثاني: النظرية في التشريعات العربية
إن البلاد العربية كانت تخضع في أنظمتها القانونية إلى الشريعة الإسلامية فتأخذ بأحكامها. وقد بقيت كذلك في العهد العثماني. إلا أن المذهب الذي كان معتمدا هو المذهب الحنفي، فكان لذلك أثره على النظرية فلم تطبق إلا في صورة واحدة: هي الصورة التي تكرست في ذلك المذهب: نظرية العذر.
وبالفعل، فقد نصت مجلة الأحكام العدلية في المادة 443 على أنه: "لو وجد عذر مانع لإجراء موجب العقد تنفسخ الإجارة، مثلا لو استأجر طباخ للعرس ومات أحد الزوجين تنفسخ الإجارة وكذا لو كان في سنه آلام فقاول الطبيب على إخراجه بخمسين قرشا ثم زال الألم بنفسه تنفسخ الإجارة. وكذلك تنفسخ الإجارة بوفاة الصبي أو الظئر ولا تنفسخ بوفاة المسترضع" . ولكنها لم تأخذ بنظرية الجوائح. كما أن الدفع ينبغي أن يتم بنفس العملة المتفق عليها، وقت التعاقد دون الالتفات إلى ما قد يطرأ على سعر تلك العملة من تقلب. وذلك لأن المجلة هي على المذهب الحنفي مذهب الدولة الرسمي.
لقد طبقت المجلة في معظم البلاد العربية، وبقي معمول بها إلى الوقت الذي صدرت فيه تشريعاتها الحديثة، فتأثرت تقنيناتها المدنية بالنسبة لنظرية العقد بالتقنينات المدنية الأخرى، ولكن على اختلاف في الدرجة: فمنها من اعتمد التشريع الفرنسي في صورته المتقدمة، فاعتبر العقد شريعة بين المتعاقدين لا يجوز الخروج عنها إلا بنص أو اتفاق ولم يأت بنص عام يكرس التعديل القضائي للعقد في الظروف الطارئة . ومنها من تأثر بالتشريع الفرنسي، ولكنه تأثر بصورة أوضح بالتقنيات الحديثة الأخرى، فجاء بنص عام يفرض ذلك التعديل. من ذلك: التشريع المصري ثم التشريعات العربية الأخرى التي تدور في فلكه .
في التشريع المصري، لقد سجلت النظرية انتقالا سريعا من منطقة الرفض إلى منطقة التكريس: فالنظرية لم تعرف حديثا في مصر إلا ابتداء من سنة 1947. فقد كانت غائبة عن التشريع الوطني، ولم تطبقها المحاكم على أي من العقود مهما اختلفت طبيعتها وأغراضها، فكانت غريبة عن العقود الإدارية شأنها في ذلك شأن العقود الخاصة. فمصر لم تعرف القانون الإداري، مجال النظرية، بمفهومه العام إلا حديثا. فالقضاء المصري كان قضاء موحدا يرتبط بالمبادئ التقليدية كما هي موروثة عن القضاء الفرنسي، يطبقها على كافة العقود بمعزل عن وصفها أو طبيعتها. وتطبيقا لذلك، فقد رفضت المحاكم المختلطة تعديل عقود ذات ارتباط وثيق بتنفيذ المرافق العامة رغم اختلال توازنها للظروف الطارئة . "فدور القضاء في نظرها هو تفسير الاتفاقات وإعطاؤها مفعولها وليس له الحق بتعديلها الذي هو من حق الأفراد والمتعاقدين . كما سارت المحاكم الوطنية في نفس الاتجاه: ففي غياب النص الواضح بإيجاد نظام خاص ينطبق على العقود الإدارية، فإن تلك العقود تبقى خاضعة للقواعد العامة والمبادئ التي تسود العقود المبدئية، ومنها رفض أي تعديل للعقد بسلطة القضاء ولو كان ذلك للظروف الطارئة ، إلا أن هذا الاتجاه رفض أي قبول بالنظرية. فقد خرج المشرع المصري عن إطاره في نوعين من النصوص: خاصة وذلك بقانون التزامات المرافق العامة لسنة 1947، وعامة في التشريع المدني الصادر في سنة 1949 فقد نصت المادة 6 من قانون التزامات المرافق العامة على أنه " عند حصول أحداث غير منتظرة ومستقلة عن إرادة المتعاقدين نتج عنها الإخلال في التوازن المالي للعقد أو التعديل في اقتصادياته الملحوظة وقت إبرامه، يكمن للإدارة أن تعدل في السعر أو في قوائم الأسعار. وإذا اقتضى الحال أن تعدل أركان تنظيم المرفق العام وقواعد استغلاله، وذلك لتمكين الملتزم من أن يستمر في استغلاله أو بخفض الأرباح الباهضة إلى القدر المقبول: كما نصت المادة 147في فقرتها الثانية، من القانون المدني على ما يأتي:
"..... ومع ذلك إذا طرأت حوادث استثنائية عامة لم يكن في الوسع توقعها وترتب على حدوثها أن تم تنفيذ الالتزام التعاقدي، وإن لم يصبح مستحيلا صار مرهقا للمدين بحيث يهدده بخسارة فادحة، جاز للقاضي تبعا للظروف، وبعد الموازنة بين مصلحة الطرفين أن يرد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول، ويقع باطلا كل اتفاق على خلاف ذلك". وهذا النص قد نقل إلى التشريعات العربية الأخرى، فأخذت به المادة 148 من القانون المدني السوري الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 84 تاريخ 8 ايار سنة 1949. والمادة 146 ف 2 من القانون المدني العراقي تاريخ 4 حزيران سنة 1954 وفي المادة 147 ف 2 من القانون المدني الليبي .
إذن فإن الموجة الغالبة في التشريع العربي الحديث هي في اعتماد النظرية كمبدإ عام، لا ينحصر تطبيقها على النوع الواحد من العقود، بل تتناول العقود على اختلافها.
المبحث الثاني: الأخذ بها في بعض الأنظمة القانونية عن طريق المحاكم
خلافا للأنظمة القانونية التي أشرنا إليها في البحث السابق هناك أنظمة قانونية مقابلة لم تذكر النظرية كمبدإ عام، وإنما بتأثير مقتضيات الضرورة التي خلفتها الحروب والأزمات. فقد تولى القضاء في تلك الدول إكمال المهمة التي أغفلها المشرع، فعدل العقد عند اختلال توازنه بظروف طارئة من ذلك: القضاء الإنكليزي والألماني والسويسري.
أ- النظرية في القضاء الإنكليزي:
إن القانون الإنكليزي لم يعترف بأي تعديل للعقد أو تدخل خارج عن بنوده، حتى في الحالة التي يصبح فيها التنفيذ مستحيلا للقوة القاهرة أو للحادث المفاجئ . وقد التزم القضاء بهذا المبدإ، فلم يفسخ عقد إيجاره وأصبح تنفيذه مستحيلا لاجتياح الجيوش المتحاربة للمأجور موضوع التعاقد . "إلا أن القضاء الإنكليزي وبتأثير الظروف قد خفف من قساوة القاعدة التي قررها. فاعتبر أن إلغاء حفلة تنصيب الملك تؤدي إلى إلغاء عقود إيجارة الأمكنة المعدة للمشاهدة ، رغم قانونيتها وصحتها. ولكنه حصر الإلغاء لجهتين: جهة الإنشاء: فهو إلغاء للمستقبل، لا يؤثر على الفترة السابقة التي تبقى قائمة بذاتها.و من جهة النتيجة: إذ أنه يفترض في الظرف الطارئ، أن يكون قد أدى إلى قلب اقتصاديات العقد وأخل بتوازنه .
ثم ما لبث القضاء الإنكليزي- أن تساهل في تحديد الاستحالة، فتوصل عمليا إلى تكريس التعديل القضائي للعقود الخاصة في حالة تغير الظروف. فقد قضى بإعفاء الناقل من عملية نقل البضائع التي التزم بها من مدينة إلى أخرى إذ أضحت كلفته مرتفعة نتيجة للحرب، فأدت إلى الإخلال في التوازن العقدي . كما أعفى المدين في العقود التجارية من تنفيذه لالتزاماته إذا أضحى تنفيذها صعبا ومرهقا بسبب حوادث طرأت أثناء تنفيذ العقد لتوقعها الرجل البصير حين إبرامه لما أقدم على التعاقد، وهذه الحالة تسمى في القضاء الإنكليزي Frustration.
ب- النظرية في القانون الألماني
لقد بقي المبدأ الغالب في التشريع والقضاء الألماني هو اعتبار العقد شريعة بين المتعاقدين، له قوة إلزامية لأطرافه على نفس المستوى الذي كرسه التشريع والقضاء في فرنسا، ولكن ابتداء من الحرب العالمية الأولى خرج القضاء الألماني بماله من سلطة، عن تلك القوة الإلزامية في التعاقد، عند حدوث ظروف طارئة. وذلك بتأثير نوعين من الاعتبارات: عملية كامنة في التحولات النقدية والاقتصادية " العاصفة" التي أصابت ألمانيا إبان الحرب وقانونية ترد في أسسها إلى مبدإ حسن النية في التعاقد الذي يعلق عليه القضاء في ألمانيا أهمية خاصة. ويقسم الأستاذ جعفر عبد السلام المراحل التي مرت بها النظرية إلى مرحلتين: الأولى تحضيرية، والثانية بنائية. في المرحلة الأولى تلمس القضاء طريقة إلى بلوغ التعديل القضائي للعقود التي أخلت بتوازنها الظروف الاستثنائية المستجدة، وذلك بتأثير العوامل الاقتصادية الضاغطة. فقد ابتدأ أولا في البحث عن تبرير يسند إليه الحق بالتعديل. فتوسع في مفهوم القوة القاهرة: فالقوة القاهرة لا تعني الاستحالة المادية فحسب، وإنما تتضمن الاستحالة الاقتصادية كذلك. ثم التجأ إلى مبدإ " زوال العلاقة المتبادلة" Destruction du rapport d’équivalence لتبرير ذلك التعديل، ولتلافي النتائج القاسية التي تتركها نظرية القوة القاهرة. فإن العقد الذي تغيرت ظروفه يفقد كل توازن في التزاماته، فالتزامات المدين لم تعد تقابل بصورة واضحة وظاهرة التزامات الدائن، مما يخول القضاء سلطه ردها إلى حد معقول. وقد أوجد القضاء الألماني سندا قانونيا للمبدإ الذي أطلقه، وهو فكرة عدم اختفاء الأساس التعاقدي وفكرة حسن النية ودورها الأساسي في كل تعاقد.
إن مفهوم نظرية "اختفاء الأساس التعاقدي" يعني أن المتعاقدين يفترضون في كل تعاقد سلسلة من الظروف والأوضاع ويفترضون بقاءها. وإنهم لا يبرمون العقد إلا إذا كانوا على بينة مسبقة بعدم تغير العناصر الأساسية للاتفاق، أو الأسس العامة للتعاقد كعنصر التوازن بين الالتزامات في العقود المتبادلة، وعنصر ثبات الأسعار المتفق عليها... فحسب مقتضيات حسن النية لا يمكن للقضاء بأن يطلب التنفيذ العقدي، عندما يكون الأساس التعاقدي قد فقد أساسا، أو أنه انقلب لاحقا بصورة غير مألوفة. ففقد العقد للأساس التعاقدي يعطي المدين حق المطالبة بإلغاء العقد أو بفسخه حسبما يكون الفقدان قد وجد بصورة دائمة أو بصورة لاحقة. ولكن ما هو المعيار الذي يحدد على ضوئه الأساس التعاقدي الذي يؤدي زواله إلى التعديل القضائي للتعاقد؟
أخذ الأستاذ أوترمان Borris Starack بمعيار شخصي يقوم على البحث عن ذلك الأساس من خلال الإرادة العقدية وتوقعاتها عند إبرامها للعقد، فالأساس العقدي بحسب هذه النظرة تؤسسه "التوقعات المغذاة" من المتعاقدين والتي " استدرجت إرادتهم، وبالعكس فإن الأستاذ Carbonne قد اعتمد لذلك معيارا موضوعيا، واعتبر أن " الأوضاع"Les circonstances التي تدخل في الأساس العقدي هي تلك الأوضاع التي إذا أفقدها أي عقد يصبح فاقدا "لأي معنى"Dépourvu de sens " . "فالأساس العقدي" في نظر الأستاذ مصطفى الجمال ينبغي أن نفهم به " كل الظروف والأوضاع Les événements المفترض وجودها ودوامها Persistance وقت التعاقد بحسب محتواه وهدفه ومفهومه الاقتصادي. وقلما يهم أن الأطراف قد عرفوا بها Songé أم لا. ويقصد بذلك الظروف التي تسمح وحدها باعتبار العقد حاملا لمعناه وتؤدي إلى معاملته كوسيلة للتبادل النافع Un moyen d’agencement utile فيخضع لقواعد "نظام الشعب" وبين هذين المعيارين الشخصي والموضوعي- أوجد الفقه الألماني معيارا مختلطا: شخصي وموضوعي في آن واحد، فيؤدي إلى التساؤل عما إذا كان المتعاقد على ضوء اعتبارات حسن النية والهدف من المتعاقد، سيقدم على إبرام العقد إذا علم بعدم ثبات الأوضاع التي اختلت و الوضع الذي دفع الإرادة العقدية على إبرام العقد، لا يشكل "الأساس التعاقدي" إلا باجتماع شروط ثلاثة:
أولا: أن يكون المفهوم القاطع للوضع ودوره الأساسي في إبرام العقد قد ظهر للمتعاقدين
ثانيا: إن الثقة وحدها من ثبات ذلك الوضع أن لجهة وجوده أو استمراره قد منعت المتعاقد من تضمينه كشرط في التعاقد.
ثالثا: إن التعاقد الآخر كان سيقبل بحسن نية ذلك الطلب إذا كانت حالة عدم ثبات ذلك الوضع قد بحثت جديا وقت التعاقد.
إن أهمية ذلك المعيار المختلط كما يقول الأستاذ (صليب بك سامي) تظهر من ناحيتين: - من ناحية منطلقها فهي تتصل بنظرية أوترمان لأنها تفتش عن العنصر القاطع في الإرادة – أي الأسباب الدافعة للتعاقد-. ومن ناحية نتيجتها، فهي تتصل بنظرية لارنز لأنها تحاول المحافظة على استقرار التعامل وأمانة بتصحيحها للمعيار الشخصي على أساس عوامل موضوعية تحدث عنها لارنز، كحسن النية وهدف العقد. ولكن الاجتهاد يبدو ميالا إلى اعتماد المعيار الشخصي بقرارات متعددة .
إذن فالقضاء في ألمانيا قد توصل مستندا إلى نظرية "فقدان الأساس التعاقدي" إلى تكريس التعديل القضائي للعقد عند حدوث ظروف طارئة. فالحالات التي يسمح فيها للقضاء بتعديل العقد عند اختلال توازنه بسبب التغيرات الاقتصادية تتطلب ذات الشروط التي تتطلبها إعادة النظر في العقد للظروف الطارئة: من حصول اختلال "فاضح" في الالتزامات يمكن معه القول بأن العقد قد فقد معناه وصفته كعمل متبادل، ومن أن يكون التعديل الحاصل في الظروف والأوضاع غير متوقع لأحد المتعاقدين في حصولها. ومن أن يترتب على ذلك وضع جديد لا يمكن احتماله بالنسبة للمدين في الالتزام. وهذه الواقعة لابد من تدقيقها على ضوء حسن النية.
ونتيجة القول، أن هذه النظرية – إعادة النظر في العقود المدنية بسبب الظروف الطارئة – قد وجدت طريقها إلى التشريع المدني والأعمال القضائية بعد أن أبرزتها النزعات الدينية والإنسانية، وبعد أن كان وقفا على القانون العام بفرعيه: الإداري والدولي العام، ولكن السؤال الذي لابد من طرحه، هو ما هو المقصود بنظرية إعادة النظر في العقود بسبب تغير الظروف، وما هي مقوماتها؟ وهل أن لهذه النظرية تقنية متميزة، وما هي هذه التقنية عند وجودها؟
هذا ما سنبينه في الفصلين اللاحقين.

الفصل الأول
مفهوم إعادة النظر في العقود
حين اعترف الرومان للمؤسسات القانونية بإطلاقية وأبدية مثلى لا تتغير مع التطور وإنما هي ذاتها في كل عصر، تبقى محتفظة بكيانها الثابت والمستمر، برزت مع الواقع نظريات بدأت تخط طريقها بتؤدة، أولا، ثم ما لبثت أن استقرت في نفس المستوى مع تلك النظريات التي رسختها الذهنية الرومانية واللاحقة، على الرغم من أنها قد تشكل إذا ما قيست بتلك المبادئ – التي اعتبرها الرومان أبدية – نقطة تحول هامة في القواعد الثانوية الراسخة .
إن تلك النظريات التي أحدثتها الحاجة وأكدها التغير المستمر في الحياة الاجتماعية وجوانبها، إن دلت على شيء فإنما تدل على أن الحياة القانونية كأية حياة أخرى، هي عرضة دائما لمجاراة التطور ولو كان ذلك بواسطة خلق قواعد ومبادئ جديدة قد تتعارض مع ما هو معترف به كأمر ثابت . "فالعقد مثلا الذي كان لا ينتج آثاره إلا بين طرفيه، أصبح من شأنه في حالات خاصة، أن يجعل الغير مستفيدا مباشرة من بنوده ( نظرية التعاقد لمصلحة الغير)، والحق الذي كان يترك لصاحبه حرية استغلاله حتى أقصى الحدود تحول إلى حق محدود ونسبي قد يؤدي إلى مسؤولية صاحبه إذا ما تجاوز تلك الحدود – حدود حسن النية أو الغرض الذي وجد من أجله هذا الحق – ( نظرية التعسف باستعمال الحق). وحق الملكية الذي كان مقدسا لا يجوز تعديله، فأصبح حقا مباحا في إطار المصلحة الاجتماعية العامة، بل إن الحدود التي وضعت أمامه تحمل على التساؤل على صحة تسمية ذلك الحق بالملكية الفردية بدلا من الملكية ذات الإشراف الفردي. والخطأ الذي كان في صميم أركان المسؤولية إذا به يتحول بنتيجة تطور الآلة والاقتصاد إلى خطأ – إن صحت التسمية – من نوع آخر هو أقرب لنظرية المخاطر منه إلى نظرية الخطأ في مفهومها التقليدي. ولعل أهم مؤسسة أصابها ذلك التحول – وجميعها قد أصيبت به – هي مؤسسة العقد الذي وضع له التقليديون، أسسا تخطاها التطور الحديث. فالرضا، الذي هو في كيان العقد وسبب وجوده، قد برزت له صور جديدة، رغم المحاولة باعتبارها عرضا وقبولا فعليين، إلا أنها في الواقع عرض وقبول مصطنعان (من ذلك عقود الإذعان أو الموافقة). وحرية النقاش والتفاوض للتوصل إلى تحديد شروط العقد وآثاره قد فقدت في أنواع من العقود التي نراها في الحياة اليومية، فالمتعاقد إزاءها لا يستطيع سوى القول أو الرفض، وهو مضطر للقبول، ومكره على عدم الرفض، لما تؤمنه من إشباع لحاجات ضرورية وملحة والغبن الذي لم يكن ليبطل العقود أصلا اتخذ صورا تجعله يخالف ذلك المبدأ الذي ما زال يتردد في كتب الشراح سواء أكانت تلك الصور قانونية أم اجتهادية من وضع القضاء. وسلطان الإرادة ذلك المبدأ الذي توصلت الثورة الفرنسية بدافع من فلاسفتها إلى اعتباره سيدا مطلقا قد تغيرت طبيعته وتبدلت مفاهيمه، فكثرت استثناءاته وأصبح خطرا تقلصه يزداد بازدياد التطور.
إن العقد على حد تعبير سافاتييه، قد "انفجر" وليس ذلك بفعل التحول الحاصل فحسب بنتيجة تكاثر أنواعه من عقود فردية وعقود جماعية ، بل وأيضا بفعل التحول في قواعده وأسسه، فالعقد لم يعد شريعة مطلقة بين المتعاقدين، ولم يعد ينبعث ويتحرك بفعل الإرادة التي أوجدته فحسب، بل وأيضا بفعل إرادة خارجية تفرض عليه إتباع خط سير محدد مسبقا. فتمتزج الإرادة العقدية الداخلية بالإرادة الغريبة في كثير من أنواع التعاقد، بل وفي أماكن متعددة وتترك تلك الإرادة الداخلية للعقد مركزها إطلاقا للإرادة الخارجية التي تصبح الموجه والآمر دون سواها .
ومن خلال هذا الوضع الجديد المتمثل في توجيه العقد وفرض الالتزامات من مصدر خارجي بإرادة غير عقدية استنسابية، تبرز نظرية إعادة النظر في العقود المدنية لتكون وسطا بين نظريات كلاسيكية تسود آثار العقود وزوالها.
إذن، إن نظرية إعادة النظر في العقود تتكون في نطاق آثار العقد (فهي بذلك تختلف عن نظرية البطلان التي تتكون في مرحلة إبرام العقد)، وهي نظرية وسط بين نظرية زوال العقد ( بإبطاله أو فسخه أو إلغائه...) وبين نظرية صحته وسلامته، وهي لا تجد مصدرها في الإرادة التعاقدية، وإنما في إرادة خارجية، قد تكون قضائية (وتسمى إعادة نظر قضائية) وقد تكون تشريعية (تسمى إعادة النظر تشريعية). وهذا ما سنبينه فيما يلي:
الفرع الأول: إعادة النظر في العقود وسط بين صحة العقد وزواله
إن العقد بحسب النظرة التقليدية كائن حي، يولد ليبقى ولا يجوز تغيير خط استمراره إلا للإرادة التي منحته الحياة، أو لقوة خارجية تفرض سلطتها على تلك الإرادة: هي القانون، ولكن بحسب تلك النظرة، فإن ذلك التغيير لا يستطيع أن يجد مصدره في إرادة خارجية غير القانون: فالقضاء لا يمكنه سوى المحافظة على العقد وعدم مساسه، وليس له الحق بتعديله أو مراجعته. ولكن الواقع اثبت عجز هذه النظرة: فالقضاء سواء بسلطة القانون، أو بغير سلطته، لم يتوان عن التدخل في التعامل الفردي، وخاصة في نطاق التعاقد ليفرض إرادته على المتعاقدين كلما أوجبته لذلك ضرورات عملية مبررة.
لقد حدد المشرع للعقد شروطا تكفل له الحياة، أو تؤدي إلى إزالتها، ولكنه لم يضع الشروط التي تقوم عليها عملية التغيير في نمط تلك الحياة، كأن يعدل طبيعتها بإرادة غير الإرادة التعاقدية أو سلطة القانون، لتجاهله لمثل تلك العملية، مع أنه كرسها في كثير من الحالات، يكون كأي كائن حي، عرضه للزوال ولكنه لا يكون إطلاقا قابلا لإعادة النظر فيه بواسطة القضاء، ومن هنا تبرز الشروط القانونية لصحة العقد، وحياته، والشروط القانونية لزوال العقد وانتهائه، وتبقى نظرية إعادة النظر في العقد غير محددة تشريعيا، مع أنها واقع معمول به في بعض التعامل.
المبحث الأول: صحــــــــة العقــــــد
إن العقد لكي يولد صحيحا لابد له من توافر أركانه، وهي الرضا- والمحل والأهلية والسبب، يضاف إليها ركن الشكلية في العقود الشكلية، وكذلك التسليم في العقود العينية. وقد أشارت المادة 3 من قانون الالتزامات والعقود المغربي إلى شروط أربعة، لابد من توافرها لوجود العقد هي: التراضي والأهلية في التعاقد والمحل والسبب. وجزاء عدم توافر هذه الشروط، بطلان العقد، وانعدام وجوده برد المتعاقدين إلى الحالة التي كانوا عليها قبل انعقاده . فالعقد عند نقض أحد تلك الشروط قد ولد معيبا، لم يتمكن من التواجد فهو غير قابل للحياة – باطل. وقد توجد تلك الأركان، إلا أن ركنا منها قد يكون قائما، مستوفيا لشروطه، ولكن لا تتوافر له أسباب الصحة في هذه الحالة،و هو قائم ولكنه معيب وليس معنى ذلك بطلان العقد – أي عدم قابليته أساسا للحياة – بل قابليته للأبطال لو طلب من عيب رضاه ذلك . فالعقد ولد حيا مستوف لأركانه، وهو في هذه الحالة منعقد ومنتج لآثاره. إلا أن كيانه مهدد دائما بالزوال. ولا ينتهي ذلك التهديد إلا بسببين: بإجازته ممن يملك حق الإجازة، أو بمرور الزمن على حق المطالبة بالاتصال . ولكن قبل ورود ذلك التأييد، أو اكتمال مرور الزمن قد يتقرر إبطاله فينعدم وجوده القانوني انعداما تاما وتزول آثاره مبدئيا أي آثاره القانونية التي أنشأها .
المبحث الثاني: زوال العقــــــــــــــد
من هنا تبرز لنا الخطوط الأولى للوجه الثاني لحياة العقد وهو الزوال، فالعقد يكون تبعا لهذه النظرة زائلا أولا ببطلانه لعيب أصابه أثناء ولادته، وقد يكون هذا العيب إما عدم توافر ركن من أركان العقد أو شرط من شروط صحته فيما لو طلب من وجد ذلك الشرط لمصلحته ذلك الإبطال. فالصورة الأولى للزوال هي إذن البطلان كجزاء لعيب ولد مع العقد ورافق تكوينه. والصورة الثانية للزوال تظهر عندما يكون العقد صحيحا تتوافر أركانه وتكتمل شروطه، ومع ذلك قد يوضع حد له قبل انتهاء مدته الاتفاقية أو الطبيعية، ويتم ذلك إما بفسخه بمشيئة المتعاقدين لان السلطة التي أنشأت العقد تملك الحق بإزالته وإما بمشيئة أحدهما المنفردة، وذلك في حالتين: حالة احتفاظه بهذا الحق صراحة بموجب بند وارد في العقد، أو بمشيئة القانون كما هي الحالة بالنسبة للعقود غير المحددة المدة، كعقود الشركات ذات المدة غير المحددة، أو حدوث طارئ اثر في شخصية أحد المتعاقدين كوفاته، وذلك في العقود التي يعول فيها على شخصية المتعاقد كما في عقد المزارعة أو الوكالة أو العمل .
وقد يزول العقد بإلغائه في حال امتناع أحد المتعاقدين عن تنفيذ التزاماته دون أن يكون بالإمكان إلزامه بالتنفيذ العيني. فالعقد الملزم للجانبين يجوز المطالبة بإلغائه كجزاء لعدم تنفيذ المدين لالتزامه، كما أنه من الجائز المطالبة بالتعويض النقدي، ولكن ليس على أساس إلغاء العقد، بل على أساس استبقائه والمطالبة بتنفيذه بدلا- أي بالمطالبة بالتعويض -، وهذه هي المسؤولية العقدية. وقد يزول العقد أخيرا بانفساخه بحكم القانون كما هي الحالة بالنسبة لانقضائه العقد بسبب انقضاء التزام أحد المتعاقدين بفعل قوة قاهرة مما يحل بالتالي المتعاقد الآخر من التزامه. وقد عبر المشرع اللبناني عن هذه النزعة بنص جامع هو نص المادة 232 م.ع. فاعتبر أنه "يمكن حل العقد قبل حلول أجله وقبل نفاذه التام. إما بسبب عيب ناله وقت إنشائه، وإما بسبب أحوال تلت إنشاءه . ففي الحالة الأولى يبطل وفي الحالة الثانية يلغى أو يفسخ". وهكذا يتبين بأن المسألة بالنسبة للذهنية التقليدية، تكون كما بينا أحد أمرين: إما أن يكون العقد صحيحا ولد مكتملا يحتوي على شروط تكوينه مجتمعة، وإما أن يكون العقد زائلا قبل انقضاء مدته لأنه باطل أو قابل للإبطال، منذ نشوئه، أو لبروز عامل جديد وضع حدا له قبل أجله سواء أكان مصدره إرادة المتعاقدين أو نص القانون أو خطأ المدين. فزوال العقد إذن مرده: إما جزاء لمخالفة قاعدة من قواعد إنشائه، وإما إرادة المتعاقدين أو إرادة أحدهما أم بفعل القانون .
نخلص من هذا العرض إلى نتيجة هامة تتعلق بهذا البحث، وهي التجاهل التشريعي لنظرية إعادة النظر في العقود المدنية: فمسألة إعادة النظر كنظرية عامة قد بقيت مستغربة من جانب الذهنية التقليدية مع أنه قد جرى تكريسها بتطبيقات متعددة على ما سنرى. فإذا ما أشير إليها عرضا، فذلك لبيان مساوئ ذلك التدخل القضائي في التعاقد وعواقبه، وللوصول إلى قاعدة لا تجيز السماح بمثل ذلك التدخل، فالعقد هو شريعة للمتعاقدين يدور في فلك الإرادة التعاقدية. فهو تكريس واضح لتلك الإرادة: فالفسخ مصدره الإرادة، والفسخ بإرادة منفردة هو نتيجة بند ضمني في بعض العقود ، والإلغاء هو نتيجة لمخالفة ما اتفقت عليه تلك الإرادة. بل إن العقد بحسب تلك النزعة يسمو على القانون: فالقانون الجديد ولو عدل شروط بعض العقود لا يؤثر كمبدإ على تلك التي سبقت صدروه . كما أن النصوص التكميلية ما وجدت إلا لتكون في خدمة المتعاقدين يحق لهم مخالفتها أو الاستعانة بها. إما أن نسمح للقضاء ببسط سلطته على التعاقد، فذلك معناه الإخلال بالقواعد القانونية الموضوعة والقضاء إطلاقا على مبدأين: سلطان الإرادة وثبات التعامل واستقرار العقود. فالاتفاقات لا يجوز كمبدأ عام تعديلها إلا بإرادة الطرفين، ولا يملك القاضي سلطة ذلك التعديل لعلة تغير الأوضاع، ولا يمكنه ذلك حتى ولو كان الاتفاق المطلوب تعديله مخالفا للنظام العام، إذ عليه في هذه الحالة إبطاله لا مراجعته فالقاضي هو المنفذ لإرادة المتعاقدين كما ينفذ إرادة المشرع .

الفرع الثاني: إعادة النظر في العقود: التعريف بها وتمييزها عن النظريات المقاربة
إن إعادة النظر في العقود معناها، تعديل العقد بسلطة خارجية عنه: فالإرادة التعاقدية التي أوجدت العقد أساسا بدلا من أن تقوم بفرض الالتزامات التي قبلت بها، تصبح عرضة على ضوء هذه النظرية لفرض الالتزامات عليها. ولكن لتوضيح هذه العملية – عملية فرض التزامات غير اتفاقية على الإرادة العقدية – لابد من تمييز إعادة النظر في العقود عن نظريات أخرى عرفها القانون المدني، وقد ترسخت مبادئها.
المبحث الأول: التعريف بإعادة النظر في العقود
إن البحث عن إيجاد تعريف لنظرية تغير الظروف وآثارها في العقود لا يمكن أن نجده من خلال البحث في الأعمال التشريعية أو في أعمال المحاكم مع أن تاريخ العقود يظهر بوضوح تلازم التدخل التشريعي والقضائي في الاتفاقات الفردية مع ولادة العقد ونبوغه وتطوره بل لابد من البحث عن ذلك التعريف من خلال الأعمال الفقهية – وهي قليلة – التي درست موضوع العقد عامة ومرحلة تنفيذه خاصة. ولعل السبب في ذلك هو التخوف التشريعي والقضائي من إطلاق ذلك المبدأ وتعميمه. فكلاهما من حيث المبدأ، يشعر بتبعيته لمؤسسة العقد وضرورة إعماله لسلطان الإرادة، فالمشرع ألزم بالتدخل في تلك المؤسسة، وليس ذلك إلا في الحالات الاستثنائية، وتحت تأثير ضغوط خارجية قاهرة، في حين أن القضاء بحسب النزعة التقليدية عليه الارتباط ارتباطا كليا بإرادة الطرفين، وكل تعديل لها من خلال التدخل في العقد الذي أبرمته مهما كان مصدره (قواعد العدالة، المحافظة على المدين) معناه إحلال إرادته – القضائية – محل الإرادة العقدية وهذا أمر لا يتفق مع المبادئ القانونية الراسخة .
لقد وضع المشرع المدني نظرية عامة لزوال العقود كما بينا: فالعقد قد يبطل لعيب رافق تكوينه وقد يفسخ أو يلغى بسبب أحواله تلت إنشاءه، بيد أنه لم يعرض شأن المشرع الفرنسي لنظرية عامة لإعادة النظر في العقود، بل اكتفى بإيراد تطبيقات قليلة لها على ما سنرى. كما أن النظرة العامة إلى أعمال المحاكم تدل على أن تلك النظرية ما برحت في طورها الفتي. فبالرغم من أن القضاء قد كرس النظرية في حالات متعددة كإنقاصه لأجر الوكيل، أو تفسيره المصطنع لبعض النصوص، أو للإرادة العقدية... إلا أنه لم يجرؤ على البوح بأنه يقوم بتعديل العقد. بل اكتفى بإيجاد مبررات لذلك التعديل من خلال القواعد التقليدية المقبولة. ولا نجد الوصف لذلك العمل القضائي – الذي يسري في نظريات تخفف وطأة ذلك العمل على الذهنية التقليدية إلا في الأعمال الفقهية التي تتصف بروح النقد والتحليل المنطقي.
"إن الفقه وحده قد لمس الحاجة إلى الانطلاق من تلك التطبيقات المستترة لمراجعة العقود إلى وضع أسس عامة لتلك النظرية كفيلة برفعها إلى المرتبة التي تستحقها، بفعل انسجامها في الكثير من الحالات مع مبادئ– قانونية، أو مع التطور، وخاصة الاقتصادي منه. فعدم السماح للقاضي بتعديل العقد عند الاختلال بتوازنه بصورة غير مألوفة – وبفعل الظروف الطائرة خاصة من شأنه تكريس الاستغلال ورفض العدالة" . فالإرهاق الذي يصيب المدين بنتيجة ذلك يفرض مراجعة العقد ويبرر إعادة النظر به. ففكرة الحق هي في صميم ذلك التعديل ومن مسبباته. كما أن المصلحة الاقتصادية العامة تفرض البحث عن وسائل ترمي إلى إبقاء العقود والعمل على عدم إزالتها أو على الأقل على عدم إيقافها بسبب العجز الذي قد يقع به المدين نتيجة لذلك الاختلال. "فالعقد هو نواة في سلسلة متماسكة يقوم عليها البنيان الاقتصادي الشامل، وما يؤثر في ذلك العقد لابد من أن تتأثر به تلك السلسلة. إذن لا بد، من العمل على إزالة تلك المؤثرات بفرض مساعدة للمدين يتحملها الدائن تمكن من متابعة العقد واستمرار تنفيذه" .
ومن هنا برز الاهتمام الفقهي بالنظرية: فالعوامل الإنسانية العليا تضاف إليها النزعة المادية والاقتصادية الماثلة دفعت إلى إجراء بعض المحاولات في دراسة تلك النظرية، وعليه فأية محاولة لوضع تعريف بإعادة النظر في العقود لابد من إيجادها في تلك الأعمال الفقهية رغم حداثتها.
إن التعريف الأولي الذي يمكن وضعه لنظرية تغيير الظروف وآثارها على العقود هي كونها المرادف لفكرة تعديل العقد بغير الإرادة التي أوجدته. فما هو المقصود بهذا التعديل الخارجي للعقد؟ لقد بينا أن التعديل الطبيعي للعقد كما يراه الفقه التقليدي لا يكون إلا عن طريق المتعاقدين، فكيف يمكن تفسير التعديل الذي يصدر عن مثل تلك الإرادة الخارجية عن العقد؟ يجيب الأستاذ تناغو في كتابه عن الالتزام القضائي بأن المقصود بذلك التعديل – أي بإعادة النظر – "هو إحلال التزامات جديدة غير عقدية، في محل الالتزامات السابقة التي تستمد من التعاقد بعبارة أوضح: إن الالتزام العقدي الذي وضعه أطراف العقد بإرادة واعية سليمة يترك مكانه بفعل ذلك التعديل لالتزام آخر مفروض ينبع من مصدر خارج عن تلك الإرادة، ويفرض نفسه على تلك الإرادة، وقد يكون أصل ذلك المصدر قضائيا بحثا، فنكون أمام إعادة نظر قضائية، وقد يكون تشريعيا بحثا، فنكون أمام إعادة النظر تشريعية تحتكر فيها الإرادة التشريعية سلطة الفرض والتعديل. فإعادة النظر في العقود تؤدي إلى إنشاء التزام جديد هو الالتزام القضائي – عندما يكون ذلك التعديل مصدره القضاء، أو الالتزام التشريعي – عندما يكون ذلك التعديل مصدره القانون –. فالقرار القضائي – أو التشريعي – قد حل بنتيجة ذلك التعديل في محل التقرير الاتفاقي" . ولو تتبعنا جليا هذا التحليل إلى نهايته، لتبين لنا، أن الطبيعة القانونية لإعادة النظر في العقود، ليست غريبة عن النظريات القانونية المعروفة. فهي بنتيجتها – أي إحلال الالتزام القضائي (أم تشريعي) في محل الالتزام الاتفاقي – ليست إلا صورة جديدة من صور "التجديد" الوارد في المادة 347 الالتزامات والعقود المغربي. فالتجديد على ضوء النظرية العامة هو استبدال الالتزام الأول ( الالتزام الاتفاقي ) بالتزام جديد وهو هنا الالتزام القضائي أم التشريعي" وليست نظرية إعادة النظر في العقود بعيدة عن هذه التقنية القانونية المكرسة: فالواقع أن القضاء عندما يعدل العقد- أي يعيد النظر فيه– إنما ينشئ للعقد محتوى جديدا في مكان المحتوى الذي أراده المتعاقدون. فالالتزام الأول وهو الالتزام الاتفاقي قد ترك مكانه أي استبدل بالتزام آخر، يصدر عن القضاء مباشرة أم عن المشرع.
والتجديد في حالة إعادة النظر قد حتم ثانيا بإدخال عنصر جديد في الموجب، فجاء بذلك متفقا مع نص المادة 350 من قانون الالتزامات والعقود التي أشارت على أنه " يحصل التجديد باتفاق الدائن والمدين على إحلال التزام جديد محل القديم..." ، وفي حالة إعادة النظر، فأن العنصر الجديد الذي تم إدخاله في الالتزام قد تم بإبدال السند القانوني للالتزامات التي جرى تعديلها: فبعد أن كان العقد أو بالأحرى الإرادة التعاقدية هي في مصدر ذلك الالتزام الاتفاقي يستمد منها وجوده، أصبحت الإرادة القضائية – أو التشريعية -، أي الإرادة المفروضة هي التي تؤسس تلك الالتزامات. فمصدرا جديدا للالتزام قد أصبح ملزما للأطراف المتعاقدة يفرض عليها، فإذا بالالتزامات التعاقدية أصلا والتي كانت تعتبر في العقد شريعة للمتعاقدين، قد سقطت بفعل تلك الإرادة الخارجية التي أوجدت التزاما آخر هو في حقيقته شريعة مفروضة على المتعاقدين.
فتقنية إعادة النظر في العقود إذن تدور في فلك تجديد الالتزام، إلا أنه تجديد له طابعه الخاص كما سنرى. فالقرار القاضي بتعديل العقد سواء أكان مصدره إرادة القضاء أم المشرع يؤدي عمليا، كما بينا إلى إسقاط الالتزام التعاقدي لينشئ في مكانه التزاما جديدا مفروضا لا يمكن تفسيره أو تحديد محتواه إلا بالرجوع إلى تلك الإرادة التي أعلنتها الأطراف المتعاقدة في التعاقد، وإنما على العكس من ذلك بفعل إرادة تكون في واقعها، مغايرة للإرادة العقدية، هي إرادة السلطة التي فرضت، قضائية كانت أم تشريعية. فعندما لا ينشأ التعديل من بند وارد في العقد، أو تطبيقا لما ارتضاه المتعاقدون ضمنا، أو إعمالا لنص مكمل أو مفسر لنية المتعاقدين بل من قواعد يضعها القاضي أو المشرع وتلازم المتعاقدين، وقد تكون موجهة ضد إرادتهم،لذلك فإن التعديل المفروض يصبح في واقع أمره صورة من صور إعادة النظر في العقود. بعد هذا التجديد لمفهوم إعادة النظر في العقود يمكننا أن نرجع إلى التعريف الذي خلص إليه الأستاذ أسامة في بحثه، وهو " إحلال إرادة خارجية محل الإرادة العقدية، وذلك بفرض التزامات قضائية -، في محل الالتزامات التي ارتضياها عند إبرام التعاقد".
من هذا التعريف نستطيع أن نضع الشرطين الأساسيين الذين تؤسس عليهما هذه النظرية: الأول يقوم على عملية "الفرض" على المتعاقدين لالتزامات لم يرتضياها أصلا عند التعاقد. والثاني أن يكون مصدر ذلك "الالتزام المفروض" الإرادة القضائية – أم التشريعية –. مما يعني إذن أننا أمام نتيجتين:
النتيجة الأولى: إن الالتزام المفروض لابد وأن يتجه في مواجهة الإرادة العقدية: فهو في حقيقته فرض على تلك الإرادة، والفرض لا يقوم إلا بإلزام من وقع عليه ذلك الموجب رفضا عن إرادته. وفي واقع الحال لابد وأن يكون مغايرا لتلك الإرادة. فإعادة النظر إذن والإرادة العقدية متناقضات لا مجال لجمعهما: فإما أن تعمل الإرادة العقدية بصورة متكاملة وإما أن تعمل الإٍرادة الخارجية فتزول أمامها نية المتعاقدين، وتختفي لتترك مكانها لنية القضاء أو المشرع. وعلى هذا الأساس لابد من التمييز بين أوضاع ثلاثة يمكن من خلالها التمييز بين إعادة النظر وتعديل العقد بإرادة القضاء أو المشرع، وبين إعادة النظر وتعديل العقد إعمالا لإرادة المتعاقدين . فالقضاء عند بحثه في التعاقد إما أن يلجأ أولا إلى عملية تعديل العقد تطبيقا لبند صريح وارد فيه. وإما أن يلجأ ثانيا إلى التعديل تفسيرا للنية الحقيقية للمتعاقدين عند عدم وجود مثل ذلك البند الصريح. وإما أن يتولى أخيرا فرض الالتزامات على المتعاقدين من خارج إرادتهم إعمالا لنص قانوني أو لاعتبارات الإنصاف والعدالة (كتعديل أجر الوكيل). وقد يتولى المشرع نفسه بإرادته التقديرية عملية ذلك الفرض والتعديل في الوضعين الأولين، لا نكون أمام إعادة النظر بمفهومها التقني الذي نحن بصدده، بل على العكس نكون أمام تعديل للعقد نتيجة تفسير الإرادة العقدية. فالمسألة في هذه الحالة إذن لا تتعدى منطقة تفسير العقد وإعمال الإرادة. أما في الوضعية الأخيرة فالتناقض الذي خلفته عملية إيجاد الالتزامات القضائية أم التشريعية بين كل من هاتين الإرادتين وبين الإرادة العقدية كفيل بذاته بتأكيد التعديل الخارجي للعقد بمعزل عن الإرادة التي أوجدته. ففرض التعديل على الإرادة بفرض التزام قضائي أم تشريعي في محل الالتزام التعاقدي يشكل العنصر الأول المكون لهذه النظرية موضوع البحث – إعادة النظر في العقود – .
والنتيجة الثانية، لهذين الشرطين هي أن موضوع مراجعة العقد يقوم أساسا على إعطاء القاضي أو المشرع سلطة خلاقة تمكنه من التصرف بمحتوى العقد بحرية تقديرية تعود له، وتستطيع أن تفرض ما تراه مناسبا على ما أراده المتعاقدون. فالمهم إذن أن يتمتع القاضي أو المشرع بتلك الحرية في فرض الالتزامات، وفي تقدير ما يفرضه دون الالتفات إلى المصدر الذي يعطيه تلك السلطة: فقد يكون المصدر هو القانون نفسه، فيأتي عمل القاضي تطبيقا مباشرا له، وقد يمنح نص القانون نفسه القاضي حق تعديل بعض العقود وفرض الالتزامات. وقد يكون المصدر قواعد الأخلاق والإنصاف والعدالة، أو التطورات الاقتصادية الحاصلة التي تبرر إخضاع العقد عن طريق تعديله بسلطة القضاء أو المشرع لكي يأتي منسجما مع الأوضاع المستجدة. ففي مختلف هذه الحالات وطالما أن التعديل الذي حصل قد تم بفعل السلطة التقديرية المطلقة للإرادة القضائية أم التشريعية، فإن العنصر الثاني لإعادة النظر يكون قد اكتمل وجوده ليحل ما أوجده من التزام في مكان الالتزامات التي سبق للإرادة العقدية إن أوجدتها.
بعد هذا التحديد لتعريف ومفهوم إعادة النظر في العقود بصورتيها القضائية والتشريعية ننتقل لنبين الأنظمة المشابهة لهذه النظرية.
المبحث الثاني: إعادة النظر في العقود والنظريات المشابهة
لقد تبين لنا من خلال العرض لتعريف مراجعة في العقود بأنها تقوم على أساسين: الأول: تعديل العقد بفرض التزامات على المتعاقدين والثاني أن يكون ذلك الفرض في إرادة القضاء أو المشرع بحسب الطبيعة القانونية لإعادة النظر، قضائية أم تشريعية. كما بينا أن النتيجة القانونية لعملية الفرض تلك، هي إحلال التزامات قضائية أم تشريعية، في محل الالتزامات التعاقدية، أي استبدال التزام بالتزام، فيزول الالتزام الأول، ليحل محله الالتزام الجديد. وهذه العملية القانونية التي تنشأ عن إعادة النظر كفيلة بإعطاء هذه النظرية طابعا خاصا ومستقلا عن نظريات أخرى مقاربة. فهي رغم أنها تدور في فلك نظرية التجديد في الالتزام، إلا أنها تجديد من نوع خاص. وهي وإن كانت تقع في منطقة تنفيذ الالتزام بعد نشوئه، إلا أنها تتميز عن نظريات أخرى تدخل في نفس النطاق، كنظرية زوال العقد وتفسيره، وأخيرا عن التعويض الناشئ عن المسؤولية العقدية وهذا ما سنوضحه فيما يلي:
المطلب الأول: إعادة النظر في العقد ونظرية زوالها
لقد استعرضنا في مقدمة هذا الفصل الحالات التي عينها المشرع لزوال العقد، ورأينا أنها تنقسم إلى البطلان والإلغاء والفسخ والانفساخ بحكم القانون. وأوضحنا الأسس التي تقوم عليها كلا من هذه الصور: فالبطلان هو جزاء رتبة المشرع على مخالفة قاعدة من قواعد تكوين العقد، والفسخ هو وليد الإرادة التعاقدية التي اختارت وضع حد للعقد قبل انتهائه، وقد تختار ذلك بالنسبة للمستقبل أو بمفعول رجعي، وقد يكون أيضا وليد إٍرادة المشرع بمنحه أحد المتعاقدين الحق بإنهاء العقد بإرادته المنفردة. والإلغاء يتم أساسا بمفعول رجعي. وهو يقف مع المسؤولية العقدية في مرتبة واحدة هي مرتبة مخالفة القوة الملزمة للعقد : فامتناع أحد المتعاقدين عن تنفيذ التزاماته يعطي المتعاقد الآخر الحق إما بطلب إلغاء العقد أو المطالبة بتنفيذه عن طريق التعويض. والانفساخ يتكون بانحلال العقد بسلطة القانون. أما إعادة النظر في العقود فإنها تقوم كما بينا على تعديل العقد بإرادة القضاء ، وهي بذلك تختلف عن نظرية الزوال اختلافا جذريا من الناحية العملية فمسألة تعديل العقد، وإن كانت تطرح عند تنفيذه كمسألة إزالته إلا أنها ليست جزاء لمخالفة قاعدة قانونية، ولا تتصل بمبدأ الإرادة وسلطانها، وإنما هي تخرج عن الإٍرادة العقدية وتخضع المحتوى العقدي لمحتوى جديد تفرضه الإرادة القضائية أو التشريعية.
فنظرية إعادة النظر في العقود تختلف عن نظرية زواله إذن، أولا لجهة الحالات التي تبرر إجراءها. فهي تظهر في الغالب عند فقدان العقد لتوازنه المألوف في العادة، ويكون ذلك إما بتحميل المدين أعباء غير عادية ولو كان ذلك بنتيجة التعاقد (كما في حالة البند الجزائي، أو إنقاص أجر الوكيل...) أو عند حصول تحولات اقتصادية تقضي بذلك التعديل، أو حصول أحداث جديدة أو تطورات أخلت بالظروف التي أبرم العقد في ظلها .
وهي تختلف ثانيا عن زوال العقد لجهة النتيجة التي تترتب على كل منهما، فزوال العقد معناه إنهاؤه ووضع حد له قبل نهايته الطبيعية. أما إعادة النظر في العقد فغايتها الأساسية إبقاء العقد وضمان استمراره بصورة معقولة. فاختلال التوازن في اقتصاديات العقد بصورة غير مألوفة كما في حالة الظروف الطارئة من شأنه إرهاق المدين وتهديده بالتوقف عن التنفيذ، مما ينهي العقد بسبب ما ينشأ عنه من صعوبات تحول بينه وبين الاستمرار في عقده . فيتبرر تعديله العقد وتأمين استمراره وبقاءه. وقد تكون الغاية المنشودة من تعديل العقد وإعادة النظر فيه – مجرد تطبيق العدالة وقواعد الإنصاف بفرض مراجعة العقد لمصلحة الطرف الضعيف منعا للاستغلال والظلم. فقد نصت المادة 149 من القانون المدني المصري على أنه " إذا تم العقد بطريق الإذعان، وكان قد تضمن شروطا مشينة جاز للقاضي أن يعدل هذه الشروط أو أن يعفي الطرف المذعن منها وذلك وفقا لما تقضي به العدالة، ويقع باطلا كل اتفاق على خلاف ذلك" كما أن تعديل عقود الإيجار بتخفيض السومة الكرائية المعدة للسكنى أو إنقاصها أو الإعفاء منها بالنسبة للأراضي الفلاحية يكون رائدة دائما منع استغلال أحد المتعاقدين للآخر أو حماية المستأجر الذي يكون في الواقع الغالب طرفا ضعيفا يستحق الحماية .
وخلاصة القول هو أن الفرق بين نظرية إعادة النظر في العقد وبين نظرية زواله تدور حول نقطتين: أساس ومجال كل من النظرتين، والغاية المتوخاة من طرح كل منهما.
المطلب الثاني: إعادة النظر في العقود ونظرية تفسيرها
يقول الأستاذ كاربونييه " إن تفسير العقد هو تأكيد لمبدإ سلطان الإرادة. أما إعادة النظر فهي إخلال بالعقود ومخالفة لهما" . فالقاضي عند تفسيره للعقد، عليه أن يحث عن إرادة المتعاقدين، وعن إرادتهم الحقيقية، فلا يحق له كما يقول الأستاذ السنهوري أن يحل إرادته محل تلك الإرادة إذن، ومن مقارنة كلا من تفسير العقود وإعادة النظر فيها، نتبين في أن الاختلاف الأساسي بين كل من النظرتين يكمن في مدى احترام الإرادة العقدية عند عرض العقد على القضاء، فنظرية التفسير تقوم على إعمال تلك الإرادة، ونظرية إعادة النظر تتجه في مقابل تلك الإرادة.
وفي الواقع فإن عنصر " فرض الالتزامات" على الإرادة العقدية من خارج العقد، والذي تقوم عليه نظرية إعادة النظر في العقود يؤمن المعيار الرئيسي والمميز بين التفسير وإعادة النظر. فعند تفسير العقد لابد من أن يصار إلى الحق عن نية الأطراف الحقيقية، فالمهم بحسب هذه النظرة، ليست العبارة المستعملة من المتعاقدين، بل ما قصده المتعاقدون من وراء استعمالها. في حين أنه عند إعادة النظر، لا يلتفت القاضي إلى العبارة المستعملة، أو إلى ما يمكن أن تخفي وراءها من مقاصد. فما يهمه ليست الإرادة العقدية، حقيقية كانت أم ظاهرة، بقدر ما يهمه البحث عن الحل المناسب الذي يراه ملائما بمعزل عن تلك الإرادة أو تلك المقاصد" . فإعادة النظر في العقود هي بحسب تعريفها لا تتلاءم أساسا مع النية العقدية أو الإرادة العقدية، وذلك إما تطبيقا لنص من القانون أو بسبب اعتبارات أخرى تتعلق بمصلحة العدالة أو المصلحة العامة اقتصادية كانت أم أدبية. فالاختلاف إذن بين كل من النظرتين يتمثل بالتقنية المتبعة في كل منهما. فالتفسير يبحث من خلال مقاييس وضعها المشرع عن الإرادة العقدية الحقيقية، وإعادة النظر في العقود تبحث عن حل ملائم يرضي الاعتبارات التي أوجدته ولو جاء معارضا لتلك الإرادة. إلا أن تطرف المشرع في التأكيد على الإرادة في التفسير قد أوصله دونما قصد إلى إعطاء القاضي عمليا سلطة تخرج به عن المبدإ الذي أراد تأكيده، وتقرب الحلول التي وضعها من الحلول التي تفرضها نظرية إعادة النظر.
من كل ذلك نستنتج أمرين أساسيين:
أولهما: الغاية من تفسير أي عمل قانوني على ضوء التشريع المغربي المستمد من المذهب الفرنسي القائم على الإرادة الباطنة وهو الكشف عن تلك الإرادة وإظهارها بعد إبعاد الغموض والتناقض الذي قد يلحق بها، أو الذي قد يصيب العبارة والإرادة معا.
وثانيهما: البحث عن الإرادة الحقيقية للمتعاقدين والتي تشكل المعيار المميز بين التفسير وبين إعادة النظر في العقود، ففي حين فإن فرض التفسير هو الأخذ بالإرادة العقدية تطبيقا لمبدإ سلطان الإرادة الذي يسود نظرية العقد والغاية من إعادة النظر هي فرض التزامات غير عقدية على المتعاقدين، لتحل محل الالتزامات التي سبق لهم أن حدودها في تعاقدهم، فعند تفسير العقد لا يحق للقضاء الخروج عن تلك الإرادة عندما تكون البنود العقدية واضحة ومعلنة. وعند إعادة النظر يصبح على القضاء أن يعدل العقد بإخضاعه لإرادته ومشيئته، دون الالتفات إلى ما قد تنطوي عليه تلك الإرادة.
وخلاصة القول "إن المغالاة في البحث عن نية الطرفين سمحت للقضاء بالتدخل في العلاقة التعاقدية، وتعديل الالتزامات بفرض التزامات جديدة محل الالتزامات الاتفاقية. فمهما كانت المبررات أو الأسباب التي اعتمدها القضاء في حيثياته، فإنها لا تعدو أن تكون مبررات اختلقها القضاء تحقيقا لغايات توخاها تخالف في واقعها القواعد العامة، ولا تستطيع إخفاء التقارب الذي حصل عمليا بين التطرف حتى استعمال قواعد التفسير وبين نظرية إعادة النظر في العقود.
المطلب الثالث: إعادة النظر في العقود والتعويض في المسؤولية العقدية
إن الاختلاف واضح بين كل من نظرتي إعادة النظر في العقود وبين المسؤولية العقدية وذلك من ناحيتين: الأولى تتعلق بالغرض الذي تهدف إليه كل من النظريتين، والثانية تتعلق في مجال إعمال كل منهما، ومع ذلك يرى البعض التقريب بينهما على الشكل الآتي:
إن كلا من النظرتين – إعادة النظر في العقود والمسؤولية العقدية – تتولى مهمة متميزة عن مهمة أخرى، فالمسؤولية العقدية فرضها "معاقبة" الإخلال بالقوة الملزمة للعقود، فهي جزاء لعدم احترام المتعاقد لتعهداته التي وعد بها عند التعاقد، سواء بعدم تنفيذها، أو بتنفيذها بصورة لا تتفق مع المبادئ التي تسود طريقه لتنفيذ الالتزامات عامة. كأن يتأخر في تنفيذها، أو يخالف مبادئ حسن النية في المعاملات ، في حين أن الغرض من إعادة النظر في العقود هو المحافظة على ذلك التنفيذ بتجنب نتائج الاختلال في التوازن العقدي والتفاوت الذي قد يحصل عادة في الالتزامات، وذلك بتحميل الدائن جزءا من العبء الذي لا يجوز تحميله للمدين وحده بصورة كاملة.
ثم إن لكل من النظرتين إطارا فنيا مختلفا ومتميزا عن الآخر، فالمسؤولية العقدية لا توجد إلا في حالة الإخلال بالالتزامات التي يفرضها العقد أو الاتفاق. فهي تتطلب إذن وجود التزامات تعاقدية وعدم تنفيذ المتعاقد – المدين بها – لتلك الالتزامات التي يفرضها العقد أو الاتفاق. فهي تتطلب إذن وجود التزامات تعاقدية، وعدم تنفيذ المتعاقد- المدين بها- لتلك الالتزامات . أما إعادة النظر في العقود فإنها لا تطرح فيها مسألة عدم التنفيذ أساسا، بل كيفية الوصول إلى متابعة ذلك التنفيذ. فالمدين في المسؤولية العقدية يتشبث بعدم التنفيذ، في حين أنه في حالة إعادة النظر يتمسك بالتنفيذ، إلا أنه يطلب بالمقابل الوسيلة التي تمكنه من تحقيق ذلك. فالتعويض الذي يحصل عليه الدائن كنتيجة لمسؤولية المدين العقدية، يتخذ – من الناحية العملية – معنى التعويض عن خطإ، في حين أنه يتخذ معنى المساعدة والمعاونة عند تعديل العقد وإعادة النظر بالتزاماته .
ورغم ذلك فقد حاول بعض الفقهاء في فرنسا، المقاربة بين كل من المسؤولية التعاقدية والتجديد في الالتزام الذي يلتقي بدوره عند نقطة الاستبدال في الالتزامات – القديمة بالجديدة – مع إعادة النظر في العقود كما بينا.
يقول الأستاذ سامي بديع منصور: إن التعويض الناتج عن المسؤولية العقدية ليس في واقع أمره سوى "استبدال الالتزام الرئيسي في التعاقد- وهو التنفيذ – بالتزام آخر جديد، هو دفع العطل والضرر" ومصدر هذا التجديد في الالتزامات التعاقدية الذي تولد عن الخطإ في تنفيذها، هو نص المادة 382 م.فرنسي. المتعلق بالمسؤولية التقصيرية. فالالتزام الجديد يتولد بنظر بلاينول عن الخطإ، ويحل محل الالتزام القديم الذي يجد مصدره في التعاقد. فالمسألة بنظره إذن مسألة تجديد ضروري للالتزام. فالالتزام بالتنفيذ قد زال أمام الالتزام الجديد بالتعويض .
ويبدو أن هذه النظرة التي قد تبدو لأول وهلة نظرة سليمة، قد لاقت الـتأييد لدى بعض الفقهاء المجددين. فالأستاذ ديغي، يرى بأن " الوضعية القانونية التي تنشأ عن الحكم – في المسؤولية العقدية – هي وضعية جديدة، فهي ليس لها دائما نفس الموضوع القديم الذي حلت محله. فقد كان الالتزام السابق هو التزام بأداء عمل، فحل محله التزام جديد بالعطل والضرر"2.
إذن نستنتج مما سبق بأنه عند عدم تنفيذ المتعاقد – المدين – لما يرتبه عليه العقد من التزامات فعن رابطة قانونية جديدة تتولد، لتحل محل الالتزامات التي كان على العقد ترتيبها. فالالتزام بالتنفيذ قد ترك مكانه لالتزام آخر هو التعويض. ولكلا الالتزامين منابع مختلفة على الأقل من الناحية النظرية "فإذا كان الأول مصدره الإرادة العقدية فإن الالتزام الثاني يوجد بمعزل عن تلك الإرادة" فالمشرع قد فرض التعويض في حالة عدم تنفيذ أحد المتعاقدين لالتزاماته، ليحل محل التنفيذ العيني الذي افترضته الإرادة.ونخلص إلى القول على ضوء هذا التحليل بأن المسؤولية العقدية ليست بحسب طبيعتها سوى نوع من التجديد للالتزام طالما أن التزاما جديدا وهو التعويض وقد حل محل الالتزام القديم النابع من العقد وهو التنفيذ. ومن هذا الالتقاء بين هذا التعويض في المسؤولية، وبين المساعدة – وهو الالتزام المعدل – في نظرية إعادة النظر في العقود فكلاهما يعتمد على استبدال التزام قديم بالتزام جديد، وكل منهما يترتب عليه التجديد في هذه الالتزامات .
إن التحليل الدقيق لعناصر الالتزام وبصورة عامة يبين الخطأ الذي يكمن في هذه النظرية. فالالتزام كما يقول الأستاذ أسامة عبد الرحمان يحتوي مبدئيا على عنصرين: عنصر المديونية وعنصر المسؤولية. فالدين هو موضوع الالتزام، والمسؤولية تحل محله عند عدم تنفيذه، فالمسؤولية العقدية ليست إذن كما رأى أصحاب تلك النظرية مصدرا من مصادر الالتزام بالتعويض، بل هي عنصر من عناصره، فرضها ضمان تنفيذ العنصر الأول وهو عنصر المديونية. فعدم تنفيذ المدين لدينه الناشئ عن الالتزام ليس معناه إزالة الالتزام ككل، وإحلال التزام آخر مكانه، بل معناه إزالة عنصر من العنصرين المكونين للالتزام، وهو عنصر المديونية ليتحرك بعد ذلك العنصر الآخر، وهو عنصر المسؤولية. فالمسألة لا تبدو على ضوء هذا التحليل مسألة تجديد للالتزام بل مسألة تطبيق وإعمال لعناصر الالتزام.
فالتجديد لا يكون بحسب تعريفه إلا عند استبدال التزام بالتزام، بمعنى أنه لابد من الخروج من إطار الالتزام الأول للدخول في إطار التزام آخر حل محله. وهذه ناحية غير متوفرة عند البحث في المسؤولية العقدية. فالالتزام بالتنفيذ لم يستبدل بالتزام آخر بالتعويض؛ بل إن الالتزام الأصلي الناشئ عن العقد قد بقي هو ذاته، وكل ما في الأمر هو أن الإخلال بعنصر ذلك الالتزام الأول وهو المديونية قد تسبب بإعمال عنصره الثاني وهو المسؤولية. فنحن إذن لم نخرج كما ذهب إليه أنصار النظرية القائلة بالتجديد من دائرة الالتزام العقدي إلى دائرة التزام آخر مصدره الخطأ، بل على العكس فقد بقينا ضمن دائرة الالتزام الرئيسي الذي لم يتبدل.

الفصل الثاني
الشروط العامة للنظرية ومجال تطبيقها
يتطلب تطبيق النظرية توافر عدة شروط، ورغم ذلك كما يقول أستاذنا الدكتور أسامة عبد الرحمان " لا يوجد اتفاق تام بشأن هذه الشروط في القانون المقارن، فبينما تلجأ بعض النظم القانونية إلى التوسع في نطاق هذه الشروط يضيق بعضها الآخر فيه بحيث لا يتطلب سوى عدد قليل منها.
ويرجع الفضل أساسا في استنباط شروط هذه النظرية إلى الفقه، ومع ذلك فلم تتوحد خطة الفقه المقارن فيما يتعلق بتفصيل هذه الشروط أو تقسيماتها المختلفة، فمثلا نجد بعض الفقه الفرنسي يتوسع في هذا التفصيل فيشترط أولا أن يكون العقد:
1- دوره التنفيذ أو مؤجل التنفيذ – 2 عددا من العادة أو احتماليا في بعض الأحيان أو عقد معاوضة.
كما يشترط ثانيا أن يطرأ حادث يكون 1- استثنائيا 2- لاحقا لانعقاد العقد، ومعاصرا لتنفيذه 3- غير متوقع الحدوث 4- خارجا عن إرادة المتعاقدين 5- من شأنه أن يجعل تنفيذ التزام أحد المتعاقدين مرهقا.
أما الفقه العربي بوجه عام فيتطلب لتطبيق هذه النظرية شروطا أربعة وهي: 1- أن يكون العقدالدي تثار النظرية في شأنه متراخيا.
2- أن يطرأ بعد صدور العقد حادث استثنائي عام.
3- أن يكون هذا الحادث الاستثنائي العام ليس في الوسع توقعه.
4- أن يجعل هذا الحادث تنفيذ الالتزام العقدي مرهقا له مستحيلا.
إلا أننا سنقوم بعملية تركيبة لهذه الشروط، فنربط العناصر الثلاثة الأولى بالحادث الطارئ من حيث عدم توقعه، و أما العنصر الرابع الذي هو الإرهاق فسنناقشه باعتباره طرفا غير متوقع.
وبعد أن نتثبت من مضمون الشروط الواجبة لتطبيق النظرية ننتقل لدراسة مجال تطبيقها، فنتحدث عن الالتزامات التعاقدية وعن الالتزامات السابقة على التعاقد
لذلك نقسم هذا الفصل إلى فرعين:
الفرع الأول: الشروط العامة للنظرية
الفرع الثاني: مجال تطبيقها







الفرع الأول: الشروط المتطلبة لمراجعة العقد
توطئـــــــــة :
لتحديد مضامين الشروط، ولبيان مفهومها يعرض الفقهاء تعريفات مختلفة، ولكنها تدور جميعها في فلك شروط واحدة. فالأستاذ السنهوري يرى أن الظروف الطارئة تفترض الوضع الآتي " عقد يتراخى وقت تنفيذه إلى أجل أو آجال، كعقد التوريد، ويحل أجل التنفيذ، فإذا بالظروف الاقتصادية التي كان توازن العقد يقوم عليها وقت تكوينه قد تغيرت تغيرا فجائيا لحادث لم يكن في الحسبان، فيختل التوازن الاقتصادي للعقد اختلالا خطيرا... نفرض فيما قدمناه أن تنفيذ الالتزام من جهة لم يصبح مستحيلا، ومن جهة أخرى صار مرهقا يهدد بخسارة تخرج عن الحد المألوف، ثم نفرض أن هذا كله لم يكن قائما وقت نشوء العقد، بل وجد عند تنفيذه، فماذا يكون الحكم؟ تقول نظرية الحوادث الطارئة: لا ينقض التزام المدين لأن الحادث الطارئ ليس قوة قاهرة، ولا يبقى التزامه كما هو لأنه مرهق، ولكن يرد القاضي الالتزام إلى الحد المعقول حتى يطبق المدين تنفيذه، يطبقه بمشقة ولكن في غير إرهاق". أما الأستاذ عبد المنعم الصدة فيعرض للظروف الطارئة على الشكل التالي: " هناك عقود يتراخى فيها التنفيذ إلى أجل أو إلى آجال، ويحصل عند حلول أجل التنفيذ أن تكون الظروف الاقتصادية قد تغيرت بسبب حادث لم يكن متوقعا، فيصبح تنفيذ الالتزام شاقا على المدين مرهقا له إلى الحد الذي يجعله مهددا بخسارة فادحة ، الأمر الذي يجيز للقاضي أن يتدخل ليوزع تبعة هذا الحادث على عاتق الطرفين وبذلك يرد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول".
أما الفقيهان كولان وكابيتان فيعرفان الظروف الطارئة على أنها تلك الأحداث التي تطرأ أثناء تنفيذ العقد، وهو عادة متتابع التنفيذ، بحيث يصبح بالنسبة للمدين أكثر إرهاقا مما توقعه عند التعاقد، بفعل تلك الظروف". والأستاذ جوسران يعرفها بدوره على أنها تلك الظروف التي تعترف للقاضي بحق الأخذ بعين الاعتبار، أثناء العمل بالاتفاقات التعاقدية في الظرف أو الحدث غير المتوقع أو غير المنتظر الذي قد يحصل أثناء الاتفاق، ويكون من نتيجة هذه الظروف الخارجية وغير العقدية أن تخل بالتوازن العقدي، ويكون بالتالي من حق المدين أن يفرض على المتعاقد الآخرإما فسخ العقد وإما إعادة النظر به بإعادته إلى سابق توازنه .
فمن مختلف هذه التعريفات (وسواها) نستخلص أن الظرف الطارئ الذي من شأنه أن يؤدي إلى إعادة النظر في التعاقد هو الظرف الذي تتوافر فيه الشروط التالية:
- أن يكون ظرفا غير متوقع عند التعاقد
- أن يكون ظرفا استثنائيا غير مألوف
وهذا الظرف لا يصيب بحسب مفهومه العملي سوى الأعمال الإرادية وحدها وأخصها العقود.
المبحث الأول: الظرف غير المتوقع
ما برح الفقه يشدد على أهمية هذا الشرط معتبرا أنه أساسي لإعادة النظر في العقود للظروف الطارئة. بل أن البعض يذهب إلى أبعد من ذلك، فيعتبر أن شرط عدم التوقع يغني عن شروط استثنائية الظرف نفسه " إلا أنه إذا صح أن الحادث الاستثنائي قد يكون متوقعا، فإنه على العكس من ذلك، فإذا كان الحادث غير متوقع فلا بد من أن يكون استثنائيا". والأصل أن يكون كل شيء متوقعا: فالتوقع هو القانون، وعدم التوقع هو الاستثناء، وعلى القاضي أن يكون حذرا عند استنتاجه.
ولاكتمال شرط عدم التوقع يحاول الاجتهاد أن يضع معيارا يفيد بوجوده، ويحدد ما يترتب من التزامات تقع على المتعاقد حال وجوده. كما أنه يحاول أيضا أن يحدد الحالات التي يقوم عليها عدم التوقع: هل هي حالة الحادث نفسه أم حالة نتائجه كذلك. وهل توقع المتعاقد الحادث أو نتيجته في حالات معينة ، والعمل على تجنبها بإيراد بنود وقائية في العقد تؤدي إلى الأخذ بالتوقعات العقدية، أم رفض تكريسها لما قد يشكله هذا النوع الخاص من التوقع من مخاطر، كما في حالة توقع التغيرات النقدية أو الاقتصادية ومحاولة تفاديها بوضع بنود تستلزم ابتعاد تطبيقها اتقاء للنتائج المحتملة لتلك التغيرات.
المطلب الأول: عدم التوقع: معياره ونتائجه
إن الوقوف عند معيار مميز بين الظروف على أساس توقعها أو عدم توقعها هو من الأمور المهمة التي تمكن من رسم خط واضح فيما بينها. لقد قام الفقه ومن ورائه الاجتهاد في البحث أولا عن ذلك المعيار وثانيا عن قياس لذلك المعيار تعرف من خلاله حالات التوقع أو عدمه. كما أن الفقه والاجتهاد لم يتوقفا عند حد إيجاد ذلك المعيار، بل بحثا بعد ذلك فيما يترتب على عدم التوقع من نتائج تلقي على عاتق المتعاقد بعض الالتزامات لاكتمال ذلك الشرط وقيامه.

الفقرة الأولى: معيـار عـدم التوقـع
إن إيجاد المعيار المميز الذي أشرنا إليه بين التوقع وعدمه، هو من الأمور المرنة، وخاصة في وقت وصلت فيه العلوم والتقنيات الحديثة مرحلة جعلت من "المستحيل" عبارة ذات مفهوم نسبي أمام الموجبات المتدفقة من الغزو البشري للمجالات الجديدة والبروز الواضح للاكتشافات التي كانت لوقت مضى ضربا من الاستحالة والتخيل. إن كل شيء يبدو ماثلا أمام الذهن البشري قد فتحت له "التجارب العلمية مجالات جديدة، وعلمته الأزمات والحروب أشكال المعاناة والمصاعب، وألقت وسائل الاتصال المتطورة أمامه بالأحداث من كل نوع، وما يترتب على تلك الأحداث من نتائج على صعيد التعامل والارتباط. لقد بات التصور البشري نتيجة لذلك مستغرقا الحاضر والمستقبل، تخطر أمامه مختلف الظروف التي حدثت في السابق أو من المحتمل حدوثها في المستقبل، حتى لأصبحنا نتساءل وبحق هل هناك فعلا ما هو غير متوقع؟ وهل هناك ضرورة للبحث عن مقياس مميز بين التوقع وعدمه؟".
أ- مفهوم عدم التوقع
إن النزعة التقليدية ما برحت تسلم بالتمييز بين التوقع وعدم التوقع. فهي لم تزل تحاول إيجاد المعيار الذي تبحث على ضوئه شرط عدم التوقع المطلوب كركن مكون بنظرها للنظريات المفاجئة كنظرية القوة القاهرة وإعادة النظر في العقود للظروف الطارئة، فتقيم لذلك تمييزا من نوع آخر في درجة التصور الذهني لدى الرجل المتوسط، فالأستاذ أسامة عبد الرحمان في أطروحته يقيم تفريقا في درجة التوقع بين ما هو ممكن وما هو محتمل. فإذا كان الحادث لم يتجاوز مرتبة الإمكان إلى مرتبة الاحتمال فهو يشكل الحادث غير المتوقع المشروط لتطبيق هذه النظريات. فالإنسان يتوقع في الغالب أمورا متعددة وأحداثا مختلفة، وتلك الأمور أو هذه الأحداث تتخذ في ذهنه ثلاث تصورات: فهي قد تقف في مرحلة أولى عند مرتبة التنبؤ، أو قد تصل في مرحلة ثانية مرتبة الإمكان، أو قد تتخطى في مرحلة ثالثة تلك المراتب لتصل مرتبة الاحتمال. في الحالتين الأوليين فان الظرف الذي جرى تصوره بالتنبؤ به أو بإمكان حصوله يبقى ظرفا غير متوقع. فالتنبؤ شيء والتوقع شيء آخر. وفي تلك الحالتين لم يتخط التصور مرتبة التنبؤ، فيبقى الظرف المتصور غير متوقع على ضوء النظرة القانونية، مع أنه قد جرى توقعه بالتنبه إلى إمكان حدوثه من الناحية العادية على ضوء المراقبة العملية. ولكن في الحالة الثالثة – مرتبة الاحتمال – فإن الوضع يبدو مختلفا: فالمرء لا يكفي بتنبؤ الحادث، ولا يتوقع مجرد "الإمكانية" بحصوله بل يتجاوز ذلك إلى حالة "احتمال" ذلك الحصول. فمرتبة الاحتمال إذن هي مرتبة تقف وسطا بين مرتبة الإمكانية بحصول الفعل وبين مرتبة حصوله فعلا، وهذه هي الحالة التي من شأنها أن تنفي عن الظرف صفته المفاجئة. فاحتمال حصوله، معناه توقع حصوله من الوجهة القانونية، فكان ينبغي اتخاذ التدابير المناسبة لمجابهة ذلك الاحتمال" . فوقوع الحادث بعد ذلك لا يبقيه في بوتقة من الأحداث غير المتوقعة. فالمعيار المميز بين ما هو متوقع وما هو غير متوقع، كامن إذن، على ضوء هذه النظرة في عنصر الاحتمال أو عدمه لحصول الظرف المفاجئ.
وتطبيقا لذلك لا يشكل الحادث المفاجئ: هطول المطر، أو الحروب في بلد تعصف به النزاعات، في حين أن شركة الملاحة تتنبأ دائما بحصول العواصف، ولكن مع ذلك قد لا تعتبر هذه الأحداث أحداثا طارئة إذا لم تحتمل وقوعها. ففي الحالات الأولى هناك احتمال بسقوط المطر أو وقوع الأزمات، طالما أن الظروف تفترض ذلك، بينما في الحالة الثانية شركة الملاحة تتنبأ فقط بمجرد إمكانية هبوب عاصفة ولكنها لا تحتمل حصوله. كما أن تأرجح الباخرة بمفعول المد والجزر هو من الأمور المألوفة والملحوظة في أكبر المرافئ، فلا تعتبر الأَضرار الناتجة عنها غير متوقعة. وكذلك فإن تأخير السلطة في إعطاء الترخيص أو رفضه أو توقيف المؤجر عن متابعة البناء أو التحول الحاصل في الاجتهاد هي من الأمور المحتمل حصولها، تنتفي عنها حال وقوعها صفة المفاجأة وعدم الترقب .
فاعتبار الفعل متوقعا لا يكفي إذن كما بين، أن يكون وقوعه ممكنا بل أن يكون محتملا بصورة جدية ومعقولة على أن ينظر في ذلك وقت التعاقد لا وقت حصوله ، ويؤيد الأستاذ سامي بديع منصور هذا الاتجاه، إذ أن الاكتفاء بمجرد إمكانية وقوع الحادث لاعتبار الظرف متوقعا تعترضه صعوباتان: بالإمكان يبقى الإبهام والغموض قائما، كما أن الاكتفاء به لتحديد الفعل المتوقع من شأنه أن يجعل من كل الأفعال ظروفا متوقعة.
وخلاصة القول أنه لا يقتضي أن نعتبر أي فعل أنه متوقع إلا إذا كان هناك احتمال كافيا لدى الشخص العادي والمتبصر في حصوله.
ب- معيار عدم التوقع
بعد أن حدد الفقه معيار الاحتمال كعامل يميز بين التوقع وعدمه كان عليه كما قلنا أن يبحث عن مقياس تطبيقي لإعمال ذلك المعيار: هل أن ذلك المقياس هو شخص المتعاقد بالذات أم هو شخص آخر لابد من تحديده.
إن الأصل بنظر الفقهاء هو أن على القضاء أن يبحث في كل حالة تعرض أمامه لإيجاد حل خاص لها. فالمسألة كما يقول الأستاذ محمد عبد الجواد هي في أساسها مسألة خاصة بجوهرها، تتعلق بصفات المدين وترتبط ارتباطا وثيقا وضيقا بشخصه الذي يتغير بتعدد المدينين.
فالقضاء هو أمام متعاقدين تناقشا قبل التعاقد ، ووقعا العقد بعد ذلك، فعليه إذن أن يبحث عما اتفقا عليه وعلى ما توقعاه فعلا وقت التعاقد، ليس عند إرادة لغيرهما بل في إرادتهما وحدها فقط، إذ أن من المفترض أن ما توقعه المتعاقد وما احتمل حدوثه قد أخذه على عاتقه عند التعاقد. فالمعيار الأولي هو إذن المعيار الشخصي" .
إن اعتماد هذا المعيار المنطقي لا يخلو من مخاطر نظرية وعملية على السواء، فاللجوء أولا إلى تقصي ما كان يدور في نفس المتعاقد وقت التعاقد هو عمل صعب إن لم يكن مستحيلا.
فالقول بأن الحادث غير المتوقع هو الحادث الذي لم يكن في وسع المدين المتعاقد أن يتوقع حدوثه عند التعاقد هو من الأمور الباطنية التي تختلف باختلاف الأفراد والمتعاقدين، والتي تتطلب جهدا واختصاصا نفسيا لا يفترض في القضاء الخبرة في حقله.
والصعوبة والمخاطر تبرز بصورة أوضح على الصعيد النظري، فالتوقع أو عدمه يشكل قاعدة سلوكية ينبغي الرجوع عند تحديدها إلى السلوك العادي والمألوف للمتعاقد، فنتساءل، هل يتبين من خط سير حياته العادية أنه كان دائما متبصرا يقظا متوقعا بسبب يقظته للأمور والأحداث، أم أنه في الغالب كان مهملا متبلدا لا يتوقع أكثر الأمور توقعا؟ في الحالة الأولى يقتضي اعتبار الحادث متوقعا ولا يقبل ادعاؤه بالظرف الطارئ، إذ لابد من تحميله نتيجة تبصره. وفي الحالة الثانية نعتبر أن الحادث ليس متوقعا طالما أنه لا يمكنه نتيجة لعدم تبصره عادة أن يتوقعه. إن النتيجة التي توصلنا إليها ليست في حقيقتها سوى ضربا من العقوبة يصيب المتعاقد النبيه بسبب نباهته، وفي المقابل يكافأ المتعاقد المهمل، برفض اعتبار ما كان ينبغي أن يتوقعه ظرفا متوقعا بسبب إهماله في المادة .
للابتعاد عن هذه النتيجة غير المنطقية التي نتوصل إليها باعتماد ذلك المعيار الشخصي للمتعاقد التجأ الفقه والقضاء إلى معيار آخر، موضوعي ينظر من خلاله ليس إلى أي من المتعاقدين بالذات، بل إلى شخص أجنبي عن التعاقد يؤخذ كمثال أو نموذج يقاس عليه معيار احتمال وقوع الحادث أو عدم احتماله: هو معيار الشخص المعتاد.
والمقصود بالشخص المعتاد هو ذلك الشخص المتوسط الذكاء والتبصر، فلا هو على حد تعبير الأستاذ السنهوري، خارق الذكاء فيرتفع إلى الذروة ، ولا هو محدود الفطنة خامل المهمة ينزل إلى الحضيض" بل هو رجل ذو عناية واهتمام. والوقت الذي ينبغي اعتماده لتقدير احتمال التوقع أو عدمه هو وقت إبرام العقد. يعتد بما قد يطرأ بعد ذلك من ظروف تجعل حصول الحادث متوقعا. على أن هناك اتجاها أقل تشددا يشترط بالإضافة إلى مدى احتمال الرجل المتوسط الذكاء والبصيرة لحصول الحادث ضرورة وجود سبب آخر خاص يحمل على التفكير والاعتقاد بأن حادثا معينا سيقع. فكل فعل قابل للحصول لا يشكل بالحتم ظرفا طارئا، بل لابد من أن تنبئ الأوضاع بوجود سبب خاص يفيد بحصول الحادث .
إن هذا "السبب الخاص" والإضافي لاستنتاج التوقع أو عدمه قد لقي نجاحا في التطبيق القضائي الذي أخذ به في بعض مراحله. فبعض الأحداث بنظره تبقى غير متوقعة حتى ولو كانت ممكنة بحد ذاتها، حتى ولو كانت إمكانية حصولها وتحققها قد تبادرت إلى ذهن المتعاقدين. فخطر الاصطدام بالصخور البحرية هو خطر يهدد الملاحة بصورة عامة، فهذا الحدث المتوقع يبقى محتفظا بصفته كحادث مفاجئ إذا حصل في مكان لا يوجد فيه أي خطر خاص من هذا النوع يكون سببا لتوقع خاص لحصوله.
كما أن الحريق الذي نشب في إحدى عربات السكك الحديد هو أيضا متوقع، إذا كان هنالك من سبب خاص يحمل على ذلك، كوجود 39 راكبا في العربة، في حين أن سعتها 17 راكبا فقط، وكانت غالبية أولئك الركاب من الصيادين الذين يحملون معهم أمتعتهم التي تحتوي على المواد المحرقة .
وتأكيدا لهذا الاتجاه العملي في استخراج عنصر التوقع أو عدمه، اعتبرت محكمة استئناف بيروت غرفتها الثالثة في قرار حديث لها، أن الاصطدام الذي حدث بين زائر للفندق وبين الواجهة الزجاجية للمدخل يبقى تجاه ذلك الزائر حادثا غير مرتقب، ذلك لعدم وجود سبب خاص يحمله على توقع وجود مثل ذلك الحاجز الزجاجي لشفافيته، فتبقى إدارة الفندق مسؤولة عن ذلك الحادث.
من كل ذلك نتبين عدم إمكانية الجزم في إيجاد معيار مستقر وثابت يفرق بين ما هو متوقع وبين ما هو غير متوقع. ففي الحالة نفسها التي وجد فيها القضاء معيارا قد يبدو مقنعا، وهو معيار "الاحتمال" في وقوع الحادث، قد بقي الأمر غامضا يصعب الجزم أمامه بطبيعة الأحداث الاحتمالية أو الممكنة، وسبب ذلك هو في صعوبة إيجاد تمييز واضح بين الإمكان والاحتمال من جهة، وللاختلاف الذي يحصل في الغالب في الحالة الواحدة بنتيجة الاختلاف في الظروف المكانية والزمانية للحادث من جهة ثانية.كما أن المقياس لذلك المعيار الذي يبدو فيه الفقه والقضاء قد استقرا حوله ، وهو الشخص المتوسط الذكاء والبصيرة، لا يبدو فيه قد تحرر من بوتقة المقياس الشخصي الذي سبق أن انتقده الفقه، إلا من ناحية واحدة هي تبسيطه لذلك المقياس. فكلاهما يدور في فلك التحليل النفسي وكلاهما يستند إلى عنصر شخصي وتصور يخرج عن اختصاص القضاء ووظيفته، مع الفارق أن المعيار الشخصي البحث يعتمد في تطبيقه على تحليل نفسية المتعاقد ذاته، في حين أن المعيار الثاني يعتمد على دراسة نفس أخرى، هي شخصية الرجل العادي. فهذا المعيار لا يعدو أن يكون إذن شكلا مبسطا للمعيار الأول، فهو بدلا من أن يلجئ القاضي إلى تحليل لنفس المتعاقد يحمله على تحليل نفسية الشخص المعتاد. ولتلافي ذلك الارتباط القائم بين المقياس المعتمد وبين الناحية الشخصية في التحليل تبرز الحاجة إلى إيجاد معيار موضوعي بحث، يتجاهل شخصية أي من المتعاقدين كما يتجاهل شخصية الرجل المتخذ كنموذج للقياس. وللوصول إلى ذلك، لابد من وضع مؤشرات نهتدي من خلالها إلى المعيار المنشود. فيقتضي أولا استبعاد النظرة إلى شخصية أي من المتعاقدين عند البحث في مدى توقعه للحادث ويقتضي ثانيا استبعاد العودة إلى الرجل – النموذج والتوقف عن اعتباره مثالا يلجأ إليه لقياس عنصر التوقع. فالمقياس المطلوب لا يمكن أن نجده إلا بالنظر إلى الحادث بحد ذاته، بمعزل عن الناحية الشخصية – بشكليها المتجدد أو المبسط – بل بالنظر إلى " عادية الحادث" أو عدم "عاديته" بحسب المجرى الطبيعي للأمور. فنعتبر أن الحادث يكون متوقعا عندما يكون عاديا، ويكون غير متوقع عندما لا يكون عاديا . فهذا المعيار الجديد يقوم على عنصرين موضوعين: عنصر الحادث بمجرده، وعنصر العادية المتخذ كمقياس للتوقع كبديل عن المقياس المعتمد، وهو الشخص المعتاد. وبذلك نكون قد تجنبنا البحث فيما تقف عنده النفس البشرية وابتعدنا عن الغوص في غوامضها سواء أكانت تلك النفس تعود إلى أحد المتعاقدين أم إلى شخص معتاد متخذ كنموذج. إذ أنه كما يقول الفقيه الصدة: يقتضي توقع ما هو عادي،وليس علينا أن نتوقع ما هو استثنائي – غير عادي– .
الفقرة الثانية: عدم التوقع: نتائجه
إن الوقوف على شرط عدم التوقع من خلال المعيار الذي وضعه الفقه والاجتهاد لا يكفي بذاته لاكتماله، إذ لابد من أن يستتبع وجوده حصول نتيجتين عمليتين: هما عدم إمكانية تفادي الحادث أو نتيجته، أو عدم إمكانية دفع الحادث أو نتيجته. فالحادث لا يمكنه أن يشكل ظرفا طارئا مفاجئا إلا إذا كان هنالك استحالة في تفاديه أو تخطي نتائجه ، سواء نظرنا إلى الحادث بمجرده أو إلى نتيجته بمجردها.
فمنطق فكرة عدم التوقع يقضي إذن بالا يكون باستطاعة المدين أن يدفع الظرف عن نفسه، وإلا تعرض لخطر عدم الاستفادة من تطبيق النظرية. فإمكانية دفع الحادث حتى ولو استحال توقعه يمنع من تكون الحادث الفجائي الذي هو العصب في الظروف الطارئة .
وعليه فقد يكون الحادث أو النتيجة متوقعة، وفقا للمعيار الذي سبق تحديده، ولا يتولى المدين العمل للحيلولة دون وقوعه، فيكون بذلك قد ارتكب خطأ يبرر مسؤوليته. فالظرف الطارئ أساسا غير متوفر لافتقاره إلى عنصر المفاجأة والحتم، وبالتالي كان على المدين أن يقوم بما يمليه عليه التزامه وهو اتخاذ التدابير الكفيلة لمنع حصول الظرف المتوقع. وعدم تنفيذه لالتزامه وهو اتخاذ التدابير الكفيلة لمنع حصول الظرف المتوقع. وعدم تنفيذه لالتزامه بشكل خطأ يسأل عن نتائجه .
وقد يكون الحادث وفي هذه المرة غير متوقع فتتوافر شروط الظرف الطارئ،إلا أنه مع ذلك قد لا يؤدي ذلك الشرط إلى تطبيق نظرية – إعادة النظر للظروف الطارئة – إذا كان بإمكان المدين تجاوز الحادث أو نتيجة ذلك بالعمل على تجتنبه. فالإضراب ليس بالضرورة أمرا متوقعا. فقد يحصل نتيجة لعمل قام به المدين لا يفضي بحسب طبيعته إلى إحداث الإضراب، ولكن يبقى على رب العمل في هذه الحالة أن يعمل على تجنبه وذلك بالقيام بمفاوضات، أو بدعوة ممثلي العمال للمناقشة إذا كانت البوادر تشير جميعها إلى أن الإضراب غير محتمل الوقوع ولكن ممكنا حصوله. وفي حالة حدوثه يجب على رب العمل أن يعمل على تجنب نتائجه وذلك باتخاذ التدابير الكفيلة بذلك، كدعوة العمال إلى العمل أو تحقيق بعض الشروط المعقولة" ... فقد اعتبرت محكمة النقض الفرنسية أن عملية الصرف من الخدمة أو إضراب العمال لا تشكل ظرفا طارئا لمجرد وقوعها بل لا بد من أن نبحث في كل حالة على حدة للتأكد من أن المدين الذي يتذرع بذلك لم يكن بإمكانه تجنب الحادث أو توقيفه أو الحد من نتائجه".
وينتج عن ذلك أمران:
الأول: إن إمكانية تجاوز الحادث أو النتيجة التي تجمع في كنهها إمكانية تجنب الظرف الطارئ أو تخطيه من شأنها أن تستبعد نظرية الظروف الطارئة لأنها أخلت بالنتائج المنطقية لشرط عدم التوقع. فعدم التوقع يقوم كما بينا على عنصر المفاجأة والحتم الذي من شأنه أن يشل عمليا حركة المدين،ويعطل عليه كل محاولة أو جهد للعمل على مجابهة ذلك الظرف. فإذا لم يصل ذلك الظرف إلى مرحلة يكون فيها المدين أمام استحالة دفع الحادث بصورة مطلقة سواء في تجنبه أو تخطيه، فإن ذلك يضيع على المدين فرصة الاستفادة من النظرية – إعادة النظر في العقود للظروف الطارئة.
والثاني: إن تجاوز الحادث أو النتيجة يفترض كما بينا، بذل الجهد،أي اتخاذ التدابير لتجنب الحادث أو تخطيه. ولذلك لابد من وضع معيار ينظر من خلاله فيما إذا كان قد بذل المدين الجهد المطلوب لتجاوز الظرف أم أخل بالتزاماته بعدم بذله لذلك الجهد. فقد عرضت مسألة وضع معيار لقياس قيام المدين بالتزاماته أم إخلاله بها، عند البحث في شرط الحادث الاستثنائي،وعند البحث في شرط عدم التوقع، حيث تبين أن المعيار الذي يميل إليه الفقه والاجتهاد هو المعيار الموضوعي لا الشخصي، والذي لا يتخذ كأساس له المدين بالذات بل مدينا نموذجيا سمي برب العائلة الصالح . وهنا أيضا لا يقتضي أن ينظر إلى الوضع القائم من زاوية المدين الشخصية ، أو ينظر إلى الوضع القائم من زاوية المدين الشخصية أو أن ينظر إلى المسألة بصورة موضوعية،فنتساءل هل أن أي مدين آخر في مكانه كان سيقع أيضا في استحالة تجاوز الحادث أو نتيجته، فلا يستطيع تجنبه أو تخطيه. والمدين المقصود هو المدين العادي المتوسط الذكاء والحنكة، وذلك بالرجوع إلى النشاط العادي الذي يبذله أو عليه أن يبذله ذلك المدين- النموذج.
وخلاصة القول هي أن شرط عدم التوقع المعتبر كشرط جوهري لتكوين النظرية التي نحن في صددها، وفي تكوين نظريات مشابهة تقوم على الحتم والمفاجأة كنظرية القوة القاهرة، يتطلب لاكتماله، كما بينا، أن يكون أولا محتمل الوقوع، وثانيا لا يمكن تجاوزه بتلافي أو تخطي ذلك الوقوع، وكل ذلك على أساس معايير موضوعية بحتة وضعها الفقه والاجتهاد تتخذ أساسا لها شخص الرجل المتوسط والمعتاد.
الفقرة الثالثة: حـالات عـدم التوقــع
بعد أن بينا في الفقرة السابقة ماهية الظرف غير المتوقع ومفهومه على ضوء الفقه والاجتهاد، يعترضنا تساؤلان: الأول هو في إظهار المقصود بالظرف غير المتوقع، هل هو الحادث بمجرده، أم أنه يشتمل أيضا على أثره ونتيجته، أم أنه يكتفي بتحقق الحادث أو بمعنى نتيجته، للإبقاء على الصفة غير المتوقعة للظرف الطارئ، وهو الشرط المطلوب لتكوين النظرية، والثاني يرتبط أساسا بطبيعة خاصة لشرط عدم التوقع، هل يمكن استبعادها بإرادة الأطراف المتعاقدة ، أم أن ذلك الاستبعاد لا يقتضي إعماله أو مجرد الأخذ به لمخالفته مصالح عليا تفرض المحافظة عليها ولو كان ذلك عن طريق التضحية بالمصالح الخاصة والفردية للمتعاقدين، وهي حالة توقع التغيرات النقدية والتحول في الظروف الاقتصادية العامة عن طريق المحاولة لتلافي نتائجها بوضع بنود واشتراطات عقدية خاصة تعالج ما قد يستجد من تقلبات.
إن عدم التوقع لا يشترط احتواؤه لكل من الظرف ونتيجته،فعدم توقع الظرف بمجرده توقعه مع عدم توقع نتائجه كاف لتطبيق النظرية التي نحن بصددها،كما أن البنود العقدية الموضوعة لتوقي الانخفاضات المتوقعة في سعر العملة أو التقلبات الاقتصادية العامة قد تقضي باعتبارها شرعية مما يفرض الأخذ بمضمونها، وقد تقضي بعكس ذلك فيصار إلى إبطالها، وقد تؤدي إلى إبطال العقد بكامله وذلك بحسب طبيعتها وبحسب خطورتها على المصالح العليا التي تبرر حمايتها كما سنرى.
أ- إذن فما المقصود بالظرف غير المتوقع: الحادث أم النتيجة
إن ما يحملنا على البحث عن المقصود بالظرف غير المتوقع بعد أن بينا المقصود بماهيته هو سببان:
الأول: يتعلق في عمومية ما ينطوي عليه عدم التوقع، إذ أنه يعني أمرين أو أحدهما: الحادث بحد ذاته ونتيجته فقد يكون الحادث متوقعا أو غير متوقع بمعزل عن نتيجته، وقد تكون نتيجته متوقعة أم غير متوقعة بمعزل عن الحادث نفسه.
والثاني: أهمية التمييز بين ذلك الوضعين المشار إليهما الحادث ونتيجته على عكس ما يراه البعض. فالمشرع المصري قد اتخذ موقف الجمع بين الحالتين دون تفرقة بينهما بنص المادة 147 فقرة 2 من القانون المدني لسنة 949، كما أنه قد سبق لبعض رجال الفقه أن اعتمد هذه النتيجة،والسبب في ذلك يعود إلى التحليل القائل بأن توقع الحادث يستتبع معه فرضا توقع كامل نتائجه. فارتفاع الاسعار أثناء الحرب هو من نتائج الحرب نفسها. فالشخص العادي يتوقع مثل ذلك الارتفاع المرافق لحالة الحرب وما قد تفرضه من تشريعات وتدابير من شأنها أن تزيد في الأثمان أو في الأجور عامة. فكل شخص متبصر لحقائق الأمور من شأنه أن يتوقع أي ارتفاع في سعر سلعة معينة سيما أثناء الحرب إذا كانت لم تنته وقائعها. فتوقع الحرب يترك في حقيقته توقع نتائجها .
إن هذا الدمج بين الحادث مجردا، وبين ما قد يترتب عليه من نتائج لا يخلو من عدم الدقة في الواقع. فعدم التوقع لا يقتضي أن ينظر إليه من زاوية الحادث نفسها بل من زاوية نتائجه كذلك. فماذا يهم عند البحث في انطباق النظرية- أن يكون الحادث قد جرى توقعه إذا كانت نتائجه مما لم يصر إلى توقعها.
إن التوقع أو عدمه يفترض لإيضاحه استعراض حالات أربع، ذكرها الأستاذ عبد السلام الترمانيني تكون حسبما يكون فيها الحادث ونتيجته، كلاهما غير متوقع – الحالة الأولى – أو كلاهما متوقعا – الحالة الثانية – أو أن يكون الحادث وحده غير متوقع دون نتيجته التي تبقى متوقعة – الحالة الثالثة -، أو أن يكون الحادث نفسه متوقعا، ولكن نتيجته هذه المرة هي التي بقيت غير متوقعة – الحالة الرابعة –.
في الحالة الأولى: ليس هناك من مشكلة: فالنظرية تطبق تلقائيا طالما أن عدم التوقع هو واحد في كلا الوضعين.
وفي الحالة الثانية: لا مجال لإعمال النظرية طالما أن التوقع موجود في الحالتين: سواء بالنسبة للحادث ذاته أم لنتيجته.
وفي الحالة الثالثة: أيضا لابد من أن تنزل منزلة الحالة السابقة لجهة استبعاد النظرية، إذ أن توقع نتائج معينة يفترض أحد أمرين: إما أن يكون المتعاقد قد أخذها على عاتقه وتقبل تحمل مخاطرها. وإما ـن يكون في وضعية غير المتبصر، وينبغي تحميله لنتائج عدم تبصره، ولو كان الحادث نفسه المسبب لتلك النتيجة، هو نفسه غير متوقع.
أما الحالة الرابعة والأخيرة وهي الأهم، فيبقى مجال النظرية مفتوحا لتطبيقها. فما يهم عند مراجعة العقد للظروف الطارئة هو ليس الحادث مجردا عن نتيجته، بل النتيجة نفسها ولو تجردت عن ظرفها. فالنظرية ما وجدت أساسا كما بينا إلا لمجابهة النتيجة الحاصلة وليس لمواجهة الحادث بذاته ففيضان نهر في أوقات الشتاء الصعبة مثلا هو من الأمور المألوفة والمتوقعة،ولكن ما قد يترتب عليه من نتائج قد تكون متوقعة،كذلك وقد لا تكون في كل مرة تتجاوز فيها لجهة مداها وأثرها ما سبق أن ترتب عليه من نتائج. فما يطلب من المتعاقد هو توقع النتائج العادية التي تحصل بصورة مستمرة، أو بما قد يتجاوزها بقليل، وليس تلك النتائج غير المألوفة التي تقلب اقتصاديات العقد، ولو كان سبب حصولها هو نفسه من الأمور المتوقعة" .
إذن من خلال تلك الحالات التي سبق عرضها هناك حالتان يكون فيهما شرط عدم التوقع متوفرا: الحالة الأولى:عندما يكون الحادث ونتيجته كلاهما غير متوقع. والحالة الثانية: عندما تكون فيها نتيجة الحادث وحدها غير متوقعة رغم أن الحادث نفسه كان متوقعا. مما يستتبع استبعاد الافتراضات الأخرى التي يكون فيها الحادث ونتيجته، أو نتيجته متوقعة. كل ذلك يبين بوضوح الأهمية العملية لذلك الفصل بين الواقعتين: الحادث ونتيجته، خلافا لما قال به أنصار الدمج بينهما .
الفقرة الرابعة: المحاولات العقدية لتوقي الحادث ونتيجته
"إن الأزمات الاقتصادية المتوالية التي بدأت بوادرها تتكون منذ مطلع هذا القرن، قد تولد عنها عمليا نتيجتا ن الأولى موضوعية وعامة، تقوم على التأكيد على مبدأ يحاول الاقتصاديون تلافي حصوله، وهو مبدأ عدم الاستقرار الذي يسيطر على الحياة الاقتصادية عامة، والنقدية خاصة، والثانية نفسية وخاصة تتمثل في انعدام الثقة عند الأفراد في إمكانية حصول مثل ذلك الاستقرار أو الثبات الذي لابد من أن يترك انعكاسات هامة على صعيد التعامل.
ولعل الضحية الأولى لمبدأ التقلب الاقتصادي وعدم استقراره، هو من الوجهة القانونية مؤسسة التعاقد، وخاصة العقود التي يفصل بين تاريخ انعقادها وتاريخ تنفيذها فترة زمنية معينة. فالثابت أن جميع العقود يدخل الزمن في تكوينها، سواء كعنصر جوهري من عناصره (كعقد المدة) أو كعنصر عرضي (كالعقود الفورية المؤجلة)، والتي هي عرضة لتأثيرات خارجية مستمرة من ارتفاع في الأسعار أو انخفاض ذريع في قيمة العملة وقدرتها الشرائية، مما قد يولد نتائج شاذة وخارجة عن المألوف تصيب التعاقد،وتكون سببا هاما في فقدان الأمان العقدي والاستقرار المطلوب على الصعيد القانوني.
إن الشك الذي تخلفه الأوضاع الاقتصادية غير الثابتة، والتخوف من اصطدام المتعاقد بظروف طارئة تخل بصورة فادحة في التوازن العقدي الذي يقصده من تعاقده، قد دفعت به إلى البحث عن وسائل فنية تمكنه من مجابهة تلك الظروف والأوضاع حال حصولها، وقد تم التوصل فعلا إلى خلق بنود وطرق اتفاقية تهدف أولا إلى توقي النتائج المحتملة التي قد تترتب على تلك التقلبات،وثانيا المحافظة على التوازن العقدي من أي خلل قد يصيبه،وبخاصة من الظروف الاقتصادية والطارئة" .
المبحث الثاني: الظـروف الاستثنائـــي
إن الظرف لا يكفي بحسب النزعة التقليدية لكي يكون ظرفا طارئا أن يكون غير متوقع فقط، بل لابد من أن يتصف أيضا بصفة " الاستثنائية". فعدم ارتقاب الحادث إذا ما أضيف إليه عنصر الاستثناء يجعل من الظرف، الظرف الطارئ المقصود لإعادة النظر في العقود بصورة عامة.
لقد وضحت في المبحث الأول المفهوم القانوني لعدم التوقع، ولابد من أن نبحث في هذا المبحث استكمالا لشروط الظرف الطارئ في عنصر الاستثناء المكون له.
إن الاستثناء بحسب طبيعته هو في أن يكون الظرف غير عادي، أي أن يخرج عن الحالات العامة المعروفة،و بعبارة أخرى أن يكون من حيث وقوعه ونتائجه غير مألوف،و نادر الوقوع. وعدم ألفة الظرف وندرته تكون في مرحلتين: الأولى هي مرحلة الظرف نفسه، منظورا إليه لذاته، والثانية هي مرحلة نتيجته، منظورا إليه من حيث تأثيره في التعاقد .
في المرحلة الأولى يكون الظرف استثنائيا كلما كان في وقوعه أو في مدى وقوعه خارجا عن حالاته العادية العامة، كهطول مطر قوى في وقت لا تمطر فيه السماء في العادة، أو هبوب عاصفة قوية تخرج في حدودها عن حدود المألوف في الغالب... وفي المرحلة الثانية، يكون الظرف استثنائيا كلما كانت نتائجه خارقة، أدت إلى قلب اقتصاديات العقد، وأخلت بالتوازن العقدي إخلالا غير مألوف في التعامل العادي .
المطلب الأول: مفهوم الظرف الاستثنائي
إن مختلف التشريعات التي كرست نظرية إعادة النظر في العقود بسبب الظروف الطارئة بنصوص صريحة لم تحدد ماهية الاستثناء في الحادث. فإذا استثنينا القانون البولوني الذي أعطى في المادة 267 من القانون المدني بعض الأمثلة على أحداث تعتبر استثنائية كالحروب والأوبئة وهلاك المحصول هلاكا كليا، فإن بقية التشريعات قد اكتفت بذكر ماهية الحادث الذي يشكل الظرف الطارئ المقصود، وهو كونه استثنائيا دون أن تضيف إلى ذلك أي مقياس أو معيار يؤهل إلى التوصل إلى ما أرادته بذكرها لعنصر الاستثناء. ومن هنا برزت مهمة الفقه والاجتهاد في البحث عن ذلك المعيار يستند إليه للدلالة على الحادث الاستثنائي الذي ينطوي عليه الظرف الطارئ المكون لإعادة النظر في العقود. كما برزت أيضا في تحديد ماهية ذلك الظرف وطبيعته .
أ- طبيعة الظرف الاستثنائي:
إن المعيار الذي يبدو ماثلا من خلال الأعمال الفقهية أو في قرارات القضاء، هو معيار " الندرة" في وقوع الحادث لاعتباره استثنائيا، ويتحدد ذلك المعيار على أساس موضوعي.... ولتحديد طبيعة الظرف الاستثنائي يشير الأستاذ السنهوري إلى مجموعة من الأحداث المختلفة هي بنظره استثنائية كالزلزال أو الوباء أو الحرب،أو قيام تسعيرة رسمية أو إلغاؤها،أو ارتفاع باهظ في الأسعار أو نزول فاحش فيها. والقضاء المغربي قد اعتبر كذلك بأن " وجود طبقة صخرية متلاصقة غير منظورة وجسيمة جدا يستحيل إزالتها دون متفجرات " تشكل الظرف الاستثنائي المطلوب لتكوين نظرية " الحدث غير المتوقع". ولكن هطول المطر في فصل الشتاء. أو حصول الفيضان ،و صدور القرار الذي حد من كمية الاستيراد هي بنظرها من الأمور المألوفة والعادية. إلا أن تلك الحالات قد تصبح استثنائية إذا تخطت تلك الحدود الطبيعة المعروفة،فغزارة المياه وعدم ترقبها، وتجاوز الفيضان حده المألوف في العادة، وتخطي القرار الإداري بنتائجه ما هو متعارف عليه تشكل أحداثا استثنائية تبرر مساعدة المتعاقد الذي أثرت تلك الأحداث في تعاقده. وقد يكون الحادث مألوفا بذاته ولكنه يتجاوز في نتائجه حيز المألوف، كفيضان كبيرإلى درجة يندر وقوعها فلا يفقد رغم ذلك عنصر الندرة والاستثناء" .
فمعيار الاستثناء كما يبدو من خلال العمل الفقهي والتطبيق القضائي هو إذن معيار "الندرة" في وقوع الحادث بذاته. والمقصود بعامل الندرة كما برز في تلك الأعمال والتطبيقات هو ألا يكون الحادث في وقوعه مألوفا أو عاديا، بل يكفي أن يكون شاذا عن المألوف سواء بحصوله أو بالنتيجة التي يخلفها .
من هنا يتحدد الاختلاف بين معيار الندرة في تحديد شرط الاستثناء وبين معيار " الاحتمال" المعتمد في تحديد شرط عدم التوقع. فالأول ينظر إليه بصورة موضوعية على ضوء الحادث ذاته أو مداه، فيؤدي إلى التساؤل عن مدى تكرار حصوله وعن المدى الذي تصل إليه آثاره في حال حصوله. فإذا كان الحادث معتادا ومألوفا في وقوعه أو أثره، فقد فيه عنصر الندرة والمفاجأة. والثاني ينظر إليه بصورة موضوعية كذلك ولكن على ضوء مقياس الرجل العادي المتخذ كنموذج في حساب الاحتمال أو عدمه، فيؤدي إلى التساؤل عن مدى ما يتوقعه الرجل المتوسط الذكاء والبصيرة في الظروف الخارجية التي وجد فيها المدين المتعاقد، ليتحدد بعد ذلك اكتمال شرط عدم التوقع أو عدم اكتماله .
في الحالة الأولى إذن تبحث المسألة من زاوية "عادية" الحادث أو "استثنائيته" بمعزل عن مقياس – نموذج يتخذ أساسا للتقدير، وبذلك يتفق معيار "الندرة" مع المعيار الذي سبق أن أشرنا إليه لقياس عنصر الاحتمال في شرط عدم التوقع،ويتجنب بالتالي عيوب المقياس المعتمد فقها وقضاء: مقياس الرجل المتوسط .
ب- تحديد الظرف الاستثنائي
لقياس معيار الندرة كما بيناه، لابد من الرجوع إلى علاقة موضوعية لا شخصية، فنرد الحادث إلى إطار زمني ومكاني معين، لنبحث على ضوئه في عنصر الندرة، سواء بالنسبة للحادث نفسه أو بالنسبة إلى نتائجه. فمن الظروف ما هي استثنائية في مكان وزمان معينين، ومنها ما هي عادية في مكان وزمان آخرين. بل إن من الظروف ما هي غير مألوفة في مكان وزمان معينين ولكنها مألوفة في نفس المكان ولكن في زمان آخر. فالفيضانات مثلا، قد تكون معروفة في زمن معين وفي بلد معين، ولكنها قد لا تكون كذلك في بلد آخر وفي زمان آخر، فلا يسع المتضرر من الفيضان في الحالة الأولى أن يطلب إشراك الدائن في تحمل نتيجة الظرف الطارئ ، إذ أن ذلك الظرف يفتقد عنصرا جوهريا يدخل في تكوينه، وهو عنصر المفاجأة والندرة، في حين أنه يبقى محقا في مطالبته في الحالة الثانية لتوفر ذلك العنصر الذي افتقد في الحالة الأولى .
فالمسالة إذن مسألة واقع، يعود أمر تقديرها لقضاة الأساس، يسترشدون لذلك بمعايير موضوعية مختلفة: زمانية ومكانية وواقعية.
وليس المهم مصدر الحادث،فقد يكون حادثا طبيعيا أو اقتصاديا أو إداريا أو تشريعيا، إنما المهم أن يكون ذلك الحادث مهما كانت طبيعته استثنائيا. فقد يكون الفعل بحد ذاته غير مألوف و نادر الوقوع ويشكل ظرفا غير متوقع،وقد يكون كما بينا مألوفا، ولكن موضوعه أو نتيجته غير مألوفة، فليس هناك ما يمنع في هذه الحالة الأخيرة من تطبيق النظرية مهما كان منشأ الحادث أو ماهيته .
فالتمييز الذي كان يثار بين أعباء مصدرها ظروف اقتصادية وأعباء مردها إلى عوامل إدارية لتطبيق النظرية على الحالة الأولى وحدها لم تعد موجودة، والاجتهاد بدوره قد تجاهلها.
فذلك التفريق إذا كان قد قبل به في مرحلة الحرية الاقتصادية المطلقة، يبدو لا أساس له في وقت أصبحت فيه سلطات الدولة متداخلة فيما بينها وفي حياة الأفراد، تتدخل بواسطتها في مختلف النشاطات، توجهها بدافع المصلحة العامة والمحافظة على مصالح المجتمع، بحيث أن الاختلال الاقتصادي في العقود قد يكون في منشئه ناتجا في الغالب عن تلك الحالات من تدخل الدولة " في تلك النشاطات. ولكن السؤال الذي يطرح الآن هو أنه إذا كان من المتفق عليه فقها واجتهادا، ألا اختلاف بين حادث وحادث من حيث مصدره، طالما اجتمعت فيه شروط النظرية .
فهل التدابير التي تتخذها السلطة من ضمن حدود اختصاصها الذي تمارسه بصورة مستمرة، يبقى داخلا في نطاق الحوادث الاستثنائية التي تتطلبها النظرية لتكوينها؟
إن الذي يحمل على هذا التساؤل هو أن السلطة وخاصة في هذه المرحلة الجديدة من حياتها تمارس اختصاصاتها التشريعية والإدارية، وفي شتى المجالات، بصورة مستمرة حتى أصبحت تلك التدابير أمورا عادية ومألوفة متعارف عليها، مما يفقد معها عنصر "الاستثنائية" التي يقوم عليها الحادث الطارئ صفة الندرة وعامل المفاجأة، فهل يبقى بالتالي من مجال للقول بوجود عمل تشريعي أو إداري مشكل للظرف الاستثنائي المقصود؟
هناك رأيان متقابلان: رأي أ ول يرفض إعطاء تلك الأعمال التي أصبحت مألوفة أية صبغة طارئة. ورأي ثان أكثر واقعية يميز بين حالة وحالة ولا يتخذ موقفا مبدئيا تجاه هذه الناحية الدقيقة.
يقول الأستاذ عرفه في هذا الصدد : "إن التشريع لا يمكن وصفه بالاستثناء". ويؤيد الأستاذ حنفي غالي هذا الموقف: فقانون الإصلاح الزراعي بنظره لا يعتبر حدثا استثنائيا لكونه قانونا .
إن هذا الرأي على ما يبدو، وكما يقول الأستاذ مصطفى الجمال : "إنما يستند في أساسه على موقف قضائي قديم سبق أن اتخذته المحاكم الفرنسية، يرفض اعتبار القانون أو القرارات الإدارية في مصاف الأحداث المفاجئة والنادرة، وسبب ذلك أنها تدخل في اختصاص السلطة العامة الذي كرسه الدستور والقوانين المعمول بها. بل إن السلطة لا يمكنها إلا أن تمارس هذا النشاط الشرعي والمفروض. فقد اعتبرت محكمة النقض الفرنسية أن قانون 13 أكتوبر سنة 1856 الصادر في فرنسا لا يشكل حادثا استثنائيا غير متوقع، إذ أنه تدبير شرعي اتخذته السلطة في حدود صلاحيتها" .
إلا أن ذلك الموقف المعتمد ما لبث أن تبدل. "فالقانون أو القرار الإداري وإن كان مألوفا إلا أنه ليس هناك ما يحول دون اعتباره في بعض الحالات وبحسب الظروف استثنائيا غير مألوف. فإذا كانت السلطة تملك حق التشريع، لكنها لا تملك هذا الحق إلا في الحدود التي يرسمها لها الدستور والقوانين المرعية الإجراء. ولكن ليس هناك ما يمنع السلطة من أن تتوسع في ممارسة اختصاصاتها فتتعدى الحدود المألوفة إلى مجالات لم يكن التدخل فيها في السابق معروفا،ذلك إما عن طريق تعديل دستورها،أو عن طريق التغيير في أنظمتها عن طريق ثورة اجتماعية مثلا ،و أن تتخذ بعد ذلك تدابير لم تكن متصورة أو مألوفة فليس ما يمنع عند ذلك من اعتبار التدبير المتخذ استثنائيا طالما توفرت فيه صفة الندرة والمفاجأة" . فقد اعتبرت المحاكم المصرية بأن الحركة التي قام بها الجيش هي من أهم الحوادث الاستثنائية العامة التي لم يكن في الوسع توقعها،وبالتالي فإن قانون الإصلاح الزراعي الصادر غداة الثورة يعتبر أيضا حدثا استثنائيا يؤهل تطبيق النظرية على عقد أبرم قبل صدوره"،كما أن المحاكم الفرنسية كانت قد سارت في هذا الاتجاه بقرارات متعددة .
فالقرارات القاضية بمصادرة مال من الأموال تكون في بعض الحالات استثنائية لا يمكن توقعها أو دفعها، وبالتالي رفضت اعتبار الناقل مسؤولا عن تلك المصادرة كما أنها رفضت في قرار آخر إعلان أي خطأ في جانب المصرف لتسليمه إلى السلطات المحتلة سبائك ذهبية موجودة في إحدى خزائنه تعود لزبون لهذا المصرف بحجة أنه لم يتخذ الاحتياطات لتوقي المصادرات التي تكون مألوفة ومتوقعة. وكان قد سبق لها أن اعتبرت أن قرارات المصادرة للقمح أو الطحين في مدينة محاصرة يشكل فعلا استثنائيا، وكذلك القرار الذي يمنع استيرادها .
إن هذا الموقف يبدو في واقعه سليما يتفق مع الغرض الذي تسعى إليه نظرية إعادة النظر في العقود للظروف الطارئة، وهو التخفيف من الضغط الذي يقع على المدين من جراء الصعوبات التي يولدها الظرف الطارئ بإيجاد تعاون بينه وبين الدائن، هدفه تخطي تلك الصعوبة ومجابهة الخطر الذي يهدده. فارتفاع الأسعار وما ينشأ عنها من عواقب تشكل بذاتها ظرفا طارئا رغم أن ذلك الارتفاع قد يعود بمصدره إما لصدور قانون يخفض من قيمة العملةأو بفرض ضريبة جديدة،أو يعود لظروف الحرب كظروف طبيعية خفضت من نسبة العرض وزادت في نسبة الطلب. فلا شيء يمنع من تطبيق النظرية في أي من هذه الحالات. إذ ما هو غير مفهوم هو حصر النظرية في الحالة الثانية دون الحالة الأولى طالما أنه في الحالتين هناك اختلال في التوازن الاقتصادي بفعل ذلك الظرف دون الالتفات إلى مصدره وطبيعته .
ج- معيار الظرف الاستثنائي
لقد تبينا أن الظرف الاستثنائي هو الظرف الذي يندر وقوعه أو يخرج في وقوعه من الحدود المألوفة،ولكن هل ذلك يعني أن أي ظرف يتوفر فيه عنصر الندرة والمفاجأة هو بذاته كاف لأعمال النظرية – إعادة النظر في العقود للظروف الطارئة – أم لابد من توفر عنصر آخر يشترط وجوده لتكوينها؟
هناك اتجاهان: الأول يفترض العمومية في الظرف الاستثنائي المحرك للنظرية، والثاني يكتفي بحصول الظرف الاستثنائي ولو كان خاصا أصاب المدين بذاته لاكتمالها.
1- الاتجاه الأول: الظرف العام
يقول الأستاذ الكوراني في معرض بحثه في طبيعة الظرف الاستثنائي الذي تتطلبه الظروف الطارئة: " ينبغي أن يتصف الحادث بشيء من العمومية في آثاره، فيتحملها كثرة من الأشخاص لا رابطة قانونية فيما بينهم تتعلق بذلك الحادث"، ويقول الأستاذ بيارنيه في تعليقه على قرار المحكمة الإدارية في كان " أن الظروف الطارئة لا تنطبق إلا في الحالة التي يكون فيها التدبير الذي يتمتع بصفة العمومية، ويقصد بذلك خاصة الحدث الذي يصيب مجموعة من المشاريع من طبيعة واحدة والقائمة على مدى إقليم محدد" .
فكلا الرأيين كما يتضح يركز على عنصر العمومية كشرط إضافي وضروري تفترضه الظروف الطارئة لتخويل القضاء حق التدخل في العقود بتعديل محتواها. ولكنهما يختلفان لجهة المحل الذي ينبغي أن يكون عاما. فالأول يرى أن صفة العمومية لابد من أن تصيب الحادث في آثارهeffets ،والثاني يركز على اتصاف الحادث ذاته بتلك الصفةévénements والمراد بإضافة هذا الوصف هو أن الحوادث الاستثنائية التي تشترطها الظروف الطارئة يقتضي ألا تكون خاصة بالمدين وحده، "بل يجب أن تكون عامة شاملة لطائفة من الناس كفيضان كبيرغير منتظر يكون قد أغرق مساحة من الأرض أو أدى إلى انتشار وباء...." . وبعض الأحداث قد تكون بطبيعتها عامة لا يتصور إصابتها لشخص معين كالارتفاع غير المنتظر في أسعار السلع،تعرض للاختلال كافة العقود أو على الأقل فئة معينة منها. والبعض الآخر يعتبر عاما " لشمول أثره عددا كبيرا من الناس كأهل بلد أو إقليم معين، أو طائفة معينة منهم كالزرع في جهة ما، أو منتجي سلعة بذاتها أو المتاجرين فيها....". ولا يشترط أن يعمم ذلك الأثر جميع البلاد" .
إذن يستبعد من إطار الظرف الطارئ الحادث الخاص الذي يصيب المدين وحده ولو كان استثنائيا، وهو ما يميز بحسب هذا الاتجاه نظرية إعادة النظر في العقود بسبب الظروف الطارئة عن نظرية القوة القاهرة التي تؤدي إلى انفساخ العقد بقوة القانون .
2- الاتجاه الثاني: الظرف الخاص
ينتقد أصحاب هذا الاتجاه اشتراط العمومية في الحادث الاستثنائي لأنه يتعارض مع الغاية التي شرعت من أجلها نظرية التعديل القضائي للعقد بفعل الظروف الطارئة: " فغاية النظرية تحقيق مبدإ العدالة الذي يقضي برفع الإٍرهاق عن المدين. فهي إذن خاصة بالمدين المرهق، فإذا تقيد الحادث الاستثنائي بشرط العموم امتنع تحقيق العدالة في حالات كثيرة قد لا يكون الحادث الاستثنائي فيها عاما، وبذلك يضمحل شأن النظرية وتفقد كثيرا من معناها". فالظرف الاستثنائي بحسب هذه النظرة هو المطلوب في النظرية سواء كان ظرفا عاما أو خاصا. بل إن هناك من يذهب إلى أبعد من ذلك فيقيم تمييزا بين الظرف العام كالانخفاض في سعر العملة،وبين الظرف الخاص الذي يصيب المدين بذاته، ليرفض بالنتيجة إمكانية التعديل القضائي للعقد في الحالة الأولى، لأن المسألة تخرج عن اختصاصه وتدخل في إطار الوظيفة الموضوعية للمشرع. " فإعادة النظر لا تكون مقبولة، وقانون العقد يبقى قائما إذا كان الاختلال في الواجبات العقدية يصدر ليس عن ظرف خاص يصيب المدين،ولكن عن ظرف عام تعرض له سكان إقليم معين كالانخفاض في سعر النقد مثلا. وفي غير هذه الحالة وعند وقوع الغبن على فئة معينة من المدينين، فإنه يعود للمشرع واجب التدخل لرفع الظلم وإعادة التوازن" .
من استعراض هذين الرأيين يتضح بأن الغرض من تقييد الاستثنائية في الظرف الطارئ باشتراط "العمومية" فيه، أو بحصر التعديل القضائي للعقد بحدوث ظرف خاص بالمدين دون الظرف العام هو محاولة التضييق من المجال العملي للنظرية، والمحافظة بقدر على الثقة في التعامل" بعدم زعزعة القوة الملزمة للعقد ، ولكنه هل تلك المحاولة لها ما يبررها من الناحية القانونية، وهل تحد من خطورة النظرية، فيكون وجودها ضروريا لحفظ الثقة والثبات في التعاقد؟
إن النظرة إلى مؤسسة إعادة النظر في العقود التي اختل توازنها بفعل الظروف الطارئة تظهر أن المذهب التضييقي لا يتفق أساسا مع جوهر النظرية وأهدافها، كما أنه لا يحقق الأغراض المبتغاة من إيجاده، فالنظرية ما وضعت إلا لتلافي النتائج المرهقة والشاذة التي تخلفها أحداث خارجية على المحتوى العقدي دون البحث في طبيعة تلك الأحداث عامة أو خاصة، إذ يكفي أن تشتمل على عنصر الاستثناء والندرة دون خطأ قد ينسب إلى المدين في عدم احتمالها أو تجاوزها، لتبرر التدخل في العقد الذي أخلت بتوازنه. فما يهم هو وقوع الحادث الاستثنائي سواء بذاته أو بنتيجته، ولا يهم بعد ذلك أن يكون الحادث قد شمل طائفة من الناس أو مدينا على وجه التحديد. بل إن إعادة التوازن العقدي الذي أخلت به الظروف الطارئة قد يكون أكثر إلحاحا في هذه الحالة منه من الحالة الأولى.
أما التخوف المثار حول ما قد تخلفه إطلاقية الظروف الطارئة من آثار تهدد التعاقد، فهو تخوف في غير محله بدليل أن نظريات أخرى تتفق مع النظرية التي نحن في صددها لجهة المحرك إلى تطبيقها – وهو الظرف الاستثنائي – كالقوة القاهرة مثلا، لم تميز بين حادث عام وآخر خاص ، ومع ذلك عمل بها دون أن يؤدي تطبيقها إلى "زعزعة" الثقة أو تهديد التعامل، رغم أنها تبدو أكثر خطورة على مؤسسة العقد من النظرية لجهة ما يترتب عليها من نتائج .
إن إقامة التمييز في الطبيعة القانونية بين الظرف الاستثنائي المكون للقوة القاهرة، وبين الظرف الاستثنائي المكون للظروف الطارئة هو تمييز مصطنع. ومن هنا انصراف معظم القوانين التي كرست النظرية بنصوص صريحة عن اعتمادها كالقانون البولوني والإيطالي واليوناني مثلا.
المبحث الثالث: الإرهاق والخسارة الفادحة
لقد بينا في الفقرة السابقة ما قصدته النزعة التقليدية بشروط استثنائية الحادث لمجرده بمعزل عن تأثيراته في التعاقد في معرض تعريفها للظرف الطارئ محل إعادة النظر في العقود،ولابد في هذه الفقرة من أن نبين الوجه الآخر لعنصر الاستثنائية – وهو الأهم – الذي يتناول العقد بذاته، فيؤثر في عناصره ويقلب اقتصادياته، فيكون الموجه للمشرع والقضاء في تعديل العقد والتخفيف من ذلك الأثر.
إن المعيار الذي اعتمده الفقه والاجتهاد لتحديد الظرف الاستثنائي المجرد عن نتائجه العقدية هو معيار ندرة ذلك الظرف وخروجه عن حيز المألوف كما بينا. وهذا المعيار هو نفسه المعتمد، ولكن بشكل آخر في تحديد تلك النتائج المترتبة على ذلك الظرف. فخروجها عن المألوف عادة في التعامل هو الذي يحدد ذلك الوجه الآخر للظرف الاستثنائي، وهو أثره غير العادي على التعاقد .
وبالفعل فإن التعاقد، أي تعاقد يحمل في طياته الربح أو الخسارة،والمتعاقد كما أن له الحق بالاستفادة من ذلك الربح عليه أن يتحمل مقابل تلك الخسارة لأنها من الأمور الطبيعية التي تفترضها الاتفاقات . فاختلال التوازن العقدي لمصحة فريق دون آخر في أي من العقود هو من الأمور التي باتت مألوفة وعادية. ولكن الذي نقصده بذلك الاختلال في التوازن العقدي الذي يتحمله أحد المتعاقدين دون ألآخر هو ذلك الاختلال الذي يتولد عنه في الغالب عبء مألوف لا يحق لمن تحمله أن يطالب إشراك المتعاقد الآخر في تحمله. أما إذا تجاوز ذلك العبء الناشئ عن ذلك الاختلال ما هو مألوف في العادة أو التعامل، فيهدد المدين بخسارة فادحة وبخطر العجز والتوقف – وهو ما يسميه الفقهاء "بإرهاق المدين" – فإنه يضحى ظرفا استثنائيا لجهة نتيجته، يبرر مطالبة المدين المرهق لدائنه بتحمل جزء من العبء المترتب بمعزل عن إرادته. فإعادة النظر في العقود بسبب الظروف الطارئة ما وضعت إلا لمجابهة هذه الوضعية غير الطبيعية التي قد يخلفها التعاقد. فهي إذن " كصمام الأمان"، تقف في مواجهة الإسراف في التطبيق العملي لبعض المبادئ العقدية التي تجد مصدرها في مبدإ سلطان الإرادة ، وأهمها قاعدة القوة الإلزامية للعقود وما يترتب عليها نظريا على الأقل، من ضرورة إعمال العقد مهما جد عليه من ظروف وأحداث طالما أنها لم تصل في مداها إلى الحد الذي يجعل تنفيذ الالتزام مستحيلا بصورة مطلقة. إذ المدين على ضوء الظروف العادية يتحمل العبء العادي وحده، ولكن عليه أن يتحمل الإرهاق والخسارة غير العادية،فذلك ضرب من ضروب الظلم بفرض مساعدته عن طريق رد التزامه المرهق إلى حده المعقول بإعادة النظر في تعاقده. ولكن دقة البحث إنما تتركز في معرفة الوقت أو المعيار الذي يصبح بعده ذلك الالتزام مرهقا واستثنائيا يستوجب تدخل القضاء للحد من ذلك الإرهاق.
المطلب الأول: طبيعــــة الإرهــــــاق
لقد جرت محاولات متعددة لتحديد الإرهاق العقدي المحرك للنظرية: فقهية وقضائية. وهذه المحاولات تدور حول أساسيين: وجود خسارة فادحة، ومرونة المقياس الذي ينبغي اعتماده لتحديد هذه الخسارة.
يقول الأستاذ السنهوري: " إن الإرهاق الذي يقع فيه المدين من جراء الحادث معيار مرن، ليس له مقدار ثابت. فما يكون مرهقا لمدين قد لا يكون لآخر. وما يكون مرهقا لمدين في ظروف معينة قد لا يكون مرهقا في ظروف أخرى. والمهم أن تنفيذ الالتزام يكون بحيث يهدد المدين بخسارة فادحة (غير مألوفة). فالخسارة المألوفة في التعامل لا تكفي لأن التعامل مكسب وخسارة ".
نستنتج من هذه المحاولة مرونة المعيار الذي ينبغي اعتماده لتحديد الإرهاق الناتج عن الأثر غير المألوف للحادث الطارئ، واختلافه باختلاف الحالات والأوضاع، بحيث يصعب ضبطه وحصره في إطار ثابت يتخذ كمقياس يتحدد على أساسه حصول الإرهاق أو عدم حصوله. فالمسألة إذن تتباين بحسب موضوع الصفقة، وبحسب شخصية المتعاقد. فالإرهاق قد يصيب مدينا معينا، ولا يصيب سواه، وقد لا يصيبه في ظرف آخر مختلف عن الظرف الذي وجد فيه .
لتبرير هذه الصعوبة – الناتجة عن عدم التمكن من ضبط ذلك المعيار – يخلص الأستاذ السنهوري إلى اعتبار الإرهاق قائما كلما كان تنفيذ الالتزام يهدد المدين بخسارة فادحة، كلما نتج عن المقارنة بين مجموع الواردات ومجموع المصاريف خسارة خاصة وليس مجرد نقص في معدل الأرباح أو عدم تحقيق أي ربح".
وواضح من ذلك أن الأستاذ السنهوري يقيم تمييزا بين حالتين:
الحالة الأولى: يختل فيها التوازن العقدي، إلا أنه اختلال مألوف في التعامل تنبغي ملاحظته عند التعاقد. فهناك نوعان من الأعباء التي تنتج عند تنفيذ العقد عادة:الأعباء المتعامل بها وهي التي يتحملها المدين دون أن تستحق له أية مطالبة بتعويض عن تحملها، إذ كان عليه أن يضعها في اعتباره وقت التعاقد، "فالتعامل مكسب وخسارة". والأعباء الاستثنائية هي التي تتجاوز ما هو متسامح به في الغالب، فهذه لابد من تحميلها للمتعاقد إجمالا ولكن بنسب متفاوتة بهدف إزالة الإجحاف الذي قد يصيب المدين المرهق بسببها.
والحالة الثانية: يختل فيها التوازن العقدي اختلالا غير مألوف، تنتج عنه "خسارة خاصة" و"فادحة" بالمدين المتعاقد. وهذه الوضعية الاستثنائية تبدأ في المرحلة التي تتخطى فيه الخسارة الحاصلة الحد المعقول للخسارة المألوفة والمتوقعة بحسب نوع الصفقة وموضوع المعاملة. فلا يكفي إذن أن ينتج عن التعاقد مجرد صعوبة في التنفيذ، بل لابد من أن يكون هناك اختلال فعلي وحقيقي في الالتزامات والحقوق لدى المتعاقدين .
وهذا الاختلال لا يتحقق إلا عند تجاوز الثمن الفعلي المطلوب تنفيذه للثمن المحدد في كل صفقة. ويقصد "بالثمن المحدد" بأنه الخط الفاصل بين الارتفاع المحتمل في السعر الذي كان بالإمكان ملاحظته من الأطراف عند التعاقد، والارتفاع الذي يجاوز ذلك الارتفاع المحتمل .
من كل ذلك نتبين أمرين: الأول: إن الاختلال العقدي الذي يفسح المجال للأخذ بإعادة النظر في العقود للظروف الطارئة هو الاختلال الاستثنائي وغير المألوف في التعامل – وهو الوجه الآخر للظرف الاستثنائي منظورا إليه لجهة تأثيره في العقد-. فأي اختلال في التوازن العقدي لا يؤدي بالحتم إلى تعديل العقد وتدخل القضاء،بل لابد من أن يكون دلك الإختلال جوهريا قد تجاوز في مداه ما يقتضي أخذه في الاعتبار من أعباء، أو القبول به وقت التعاقد. والثاني: إن مسألة إيجاد معيار أو مقياس نتوسط من خلاله للوقوف على حالات ذلك الاختلال الاستثنائي وهي مسألة موضوعية مرنة، يصعب وضع مقياس ثابت لها، ويعود للقاضي أمر تعيينها تبعا للظروف ولموضوع التعاقد. فالقول بأن الاختلال الاستثنائي في التوازن العقدي هو ذلك الاختلال الذي " يقلب اقتصاديات العقد بصورة جدية" أو الذي يهدد بخسارة فادحة، أو الذي يسبب للمدين خسارة خاصة كلها مقاييس تترك للإٍرادة القضائية سلطة واسعة في التحديد على ضوء الوقائع والظروف العامة للتعامل.
المطلب الثاني: معيـار الإرهــاق
إن ذلك المعيار يثير صعوبة هامة على الصعيد العملي. فالخسارة الفادحة التي تشكل الإرهاق المطلوب لتكوين عنصر الاستثناء للظرف الطارئ، منظورا إليه من خلال نتيجته، هل يقتضي أن ينظر عند تحديدها إلى المدين المتعاقد نفسه، أم إلى الصفقة ذاتها.و بعبارة أدق هل قياس ذلك المعيار يجد مكانه في مقياس شخصي خاص أم مقياس موضوعي عام.
1- المقياس الشخصي:
هناك فئة من رجال الفقه ترى في ذلك المقياس المحدد لحصول الخسارة الفادحة مقياسا ذاتيا بحتا. فالأستاذ بديع منصور يرى أن مسألة معرفة حصول الاختلال " المألوف وغير العادي في التعامل هي مسألة خاصة يعتد بها في كل حالة على حدة. فمجلس الدولة الفرنسي يأخذ بعين الاعتبار شخصية المتعاقد عند بحثه الانقلاب الاقتصادي في التعاقد. فهو ينظر إلى رقم أعمال الشركة، لمعرفة مدى ثروتها ومقدار ما تتمتع به من سيولة. كما أنه ينظر إلى نشاطات المتعاقد المختلفة ولو كانت متنوعة شرط أن تكون مرتبطة بالنشاط الرئيسي موضوع التعاقد، بحيث تشكل التوابع الضرورية له، أو إلى كافة النشاطات الأخرى التي يمارسها المتعاقد بموجب عقد يربطه بنفس المتعاقد" .
إن السبب في اعتماد هذا المقياس الشخصي رغم ابتعاد رجال الفقه عن اعتماده في مواطن أخرى هو الأساس الذي يشكل بنظرهم سببا لتعديل العقد عند حدوث ظروف غير متوقعة، فقاعدة العدالة ومبادئ الإنصاف هي التي توجه تكريس ذلك التعديل. والعدالة والإنصاف لا يؤخذ بهما كسبب لإعادة النظر إلا إذا نتج عن إلزامية التعاقد "ضرر" للمتعاقد يصيبه عند الإصرار على فرض تنفيذه لتعاقده. وهذا "الضرر" وتلك الصعوبة لا تصيب المدين إلا إذا كان غير مليء. فالمدين المليء بنظر بديع منصور يسهل عليه تنفيذ تعاقده، بحيث يصبح تحميل المتعاقد الآخر جزءا من الخسارة أمرا متنافيا مع أساس الظروف الطارئة ومع قواعد التعاقد.
إن هذا المقياس الشخصي لا يبدو أنه قد اعتمد من قبل الغالبية من الفقهاء أو في قرارات المحاكم وحتى الإدارية منها. فقرار مدينة آفينيون الصادر عن مجلس الدولة الفرنسي قد قبل بمساعدة المدين عن خسارته بسبب الظروف الطارئة رغم أن ذلك المدين شخصيا قد بقي مستمرا في نشاطه، بل مستمرا في توزيع أرباحه. كما أن ذلك المقياس الشخصي من شأنه أن لا يأتلف مع إعادة النظر في العقود للظروف الطارئة من جهتين: أولا : من جهة القواعد التي يريد أنصار ذلك المعيار تأسيس النظرية عليها. فقواعد العدالة ومبادئ الإنصاف إن كانت تشكل مبررا يساعد على الأخذ بهذه النظرية، إلا أنها لا تكفي بصورة عامة من الوجهة القانونية كسبب لذلك. ولا تتفق بصورة خاصة مع الغاية التي وضعت هذه النظرية لتحقيقها، وهي إعادة التوازن العقدي موضوعيا كلما اختل بفعل ظرف طارئ اختلالا غير مألوف وغير عادي وذلك بمعزل عن وضعية المتعاقد الشخصية أو ظروفه الخاصة.
وثانيا: من جهة مجال تطبيق تلك النظرية،فالأخذ بالمقياس الذاتي من شأنه أن ينتقص من مجال تطبيقها. فهناك أشخاص هم بطبيعتهم مليئين لا يتأثرون إطلاقا من الخسارة التي قد تقع في بعض عقودهم كالدولة مثلا أو الأشخاص المعنويين،أو الشركات الكبرى في الأنظمة الاقتصادية الحرة ولو كانت تلك الخسارة غير مألوفة. بل قد لا يؤدي ذلك الاختلال غير الاعتيادي إلى أي إرهاق قد يصيب المدين ذاته، كما لو كدس المدين كميات من موضوع الصفقة قبل ارتفاع أسعارها، فتنفيذه للعقد رغم ذلك وإن لم يؤد إلى إرهاقه سيؤدي بالحتم إلى معاقبته على يقظته وتبصره ، بحرمانه من أية إمكانية في الاستفادة من تطبيق النظرية لمصلحته، مع أن الوجهة الموضوعية تفترض ذلك. كما أن ذلك المقياس الشخصي كما يقول الأستاذ أسامة عبد الرحمان هو صعب التطبيق من الوجهة العملية. فهناك أولا صعوبة البحث عن أوضاع كل مدين على حدة، والوقوف على حقيقة حالته المادية وخاصة في هذا الظرف الذي انقلبت فيه مقاييس الملاءة والثراء، فلم تعد تظهر بمظاهر مادية واضحة وإنما تستتر وراء العمليات المصرفية أو المساهمة في الشركات الضخمة".
وهناك ثانيا خطورة البحث في أوضاع كل مدين، فالبحث في الوضعية الخاصة للمتعاقد قد يحمله على القيام بأعمال تتنافى مع القواعد الأخلاقية المفروضة: كالغش الضريبي باختفاء الربح وتهريب الثروة.
2- المقياس الموضوعي:
لإتقاء مختلف هذه النواقص التي يتركها المقياس الشخصي في تحديد الحالة التي يكون فيها المتعاقد أمام الخسارة الفادحة المكونة للإرهاق، برز المقياس الموضوعي الذي ما لبث أن التف حوله جمهرة الفقهاء وقرارات المحاكم. فموضوع العقد بحسب هذا المقياس هو الذي يجب أن يتخذ كأساس لتحديد الإرهاق والخسارة غير المألوفة. فلا يعتد على ضوئه بشخص المدين أو بظروفه الخاصة، وإنما يراعى ما يجاوز المألوف من خسارة بالنظر إلى موضوع التعامل. فالنظرة إذن من زاوية هذا المعيار هي إلى الصفقة ذاتها وليس إلى حالة المدين أو ظروفه. فهي لا تكون بالتوجه إلى كل مدين على حدة، كما يذهب إليه أنصار المعيار الشخصي، بل إلى كل صفقة على حدة.
فالتعديل عند تقدير الإرهاق هو على مدى اختلال التوازن الاقتصادي بين التزامات الطرفين بقطع النظر عن ثروة المدين،وعن أي ظرف آخر من شأنه أن يساعد المدين على تحمل الخسارة الفادحة المترتبة على الحادث.
وذلك التقدير لابد من أن يتم طبقا لمعطيات موضوعية عامة فيؤخذ من جهة بظروف التعامل ما هو مألوف فيه،وما هو غير مألوف. فقد يدخل الاختلال العقدي في صفقة معينة في إطار ما هو مألوف عادة بالنسبة لهذا النوع من الصفقات، وقد لا يكون كذلك بالنسبة إلى نوع آخر. ويؤخذ من جهة ثانية بالظروف المكانية والزمانية التي أبرمت أثناءها تلك الصفقات. فما هو مألوف في زمن غير عادي وفي مكان غير عادي لا يكون مألوفا في زمان ومكان عاديين.
والمهم من كل ذلك هو أن نبقى في بوتقة الاعتبارات الموضوعية،فالاعتبار هو للصفقة بظروفها الوضعية، وليس للمدين بظروفه الشخصية. " الالتزام الخاسر، دون الملتزم الخاسر هو الذي يجب أن يتخذ معيارا لتحديد الإرهاق المقصود" .
وبهذا المعيار الموضوعي قد أخذت المحاكم أيضا، وبقرارات عديدة. فقد اعتبرت محكمة النقض المصرية أنه يقتضي لتقرير الإرهاق الرجوع إلى الصفقة أو المعاملة نفسها وليس إلى شخص المتعاقد أو ظروفه. فتقدير "استثنائية" الخسارة، ووجود الإرهاق بنظرها منوط " بالاعتبارات الموضوعية بالنسبة للصفقة ذاتها". وذلك أمر متروك في تقديره إلى محكمة الموضوع تبعا لسلطتها التقديرية والمطلقة .
وليس صحيحا بعد ذلك أن يقال: من أن المحاكم في تقريرها للخسارة تعود إلى تقدير الظروف الشخصية والذاتية غير الموضوعية للمتعاقد المدين. إذ أنه لابد من التمييز بين وضعين: وضع أول يقوم على تحديد إمكانية مبدإ المساعدة وتوجبها. ووضع ثان يقوم على تحديد مقدار تلك المساعدة ومداها. ففي الوضعية الأولى إن المعيار كما بينا هو موضوعي بحث، لا تؤخذ فيها الحالة الشخصية أو أية حالة أخرى للمدين بعين الاعتبار، فالمهم على ضوئها أن نكون أمام اختلال غير مألوف في التوازن العقدي تتجاوز ما هو معروف في العادة بالنسبة لذلك النوع من التعاقد ولو لم يرهق المدين ذاته. وفي الوضعية الثانية قد يسترشد القضاء عند تحديده لمقدار تلك المساعدة ببعض الأوضاع الخاصة، وببعض الظروف الذاتية للمدين شرط أن ترتبط ارتباطا وثيقا بالصفقة موضوع التعاقد. إذ أن المسألة في هذه الحالة لا تعدو أن تكون مسألة تقدير المساعدة، شبيهة بسلطة القضاء بتقدير التعويض عن مسؤولية المدين نتيجة لخطئه وإهماله .
وخلاصة القول أن ما ورد في تحديد الأستاذ السنهوري من أن المهم بالنسبة لشرط الإٍرهاق المكون للظرف الاستثنائي – منظورا إليه لجهة أثره في التعاقد –هو أن يهدد المدين بخسارة فادحة ومعناه إذن على ضوء ذلك المعيار الموضوعي الذي أشرنا إليه هو في أن تصل الخسارة إلى الحد الاستثنائي غير المألوف بالنسبة للصفقة نفسها بمعزل عن شخصية المدين ووضعه وما قد يحيط به من ظروف خاصة.
مما تقدم يتبين بوضوح أن النظرة التقليدية إلى الظرف الطارئ تفترض لاكتماله توفر عنصرين: عنصر عدم التوقع وعنصر الاستثناء فاجتماعهما ليس كاف لتكوين ذلك الظرف بل إنه ضروري كذلك.
كما أن تلك النظرة تبين أيضا بأن أي من ذاك العنصرين لا ينظر إلى توفره إلا في مرحلتين: مرحلة الظرف ذاته ومرحلة نتيجته. فعنصر عدم التوقع يكون متوفرا في إحدى الوضعيتين: الحادث نفسه إذا لم يحتمل الشخص المعتاد وقوعه. ووضعية نتيجته إذا كانت غير طبيعية أو معتادة. كما أن عنصر الاستثناء يكون أيضا إما بالنظر إلى الحادث بمجرده على أساس ندرته وخروجه عن المألوف، وإما بالنظر إلى أثر ذلك الحادث على التعاقد بإرهاقه للمدين وتهديده بخسارة خاصة وفادحة. ولكن الفرق بين العنصرين، أنه يكفي لتوفر عنصر عدم التوقع توفر إحدى حالتيه: عدم توقع الحادث أو عدم عادية نتيجته، بينما لا يتوفر عنصر الاستثناء إلا بتوفر حالتيه: استثنائية الحادث ذاته واستثنائية أثره. فاستثنائية الحادث وحدها لا تكفي لتبرير تعديل العقد وإعادة النظر في مضمونه إذا كان أثره في التعاقد عاديا ومألوفا، كما أن استثنائية تلك النتيجة ليست كافية بذاتها إذا كان الحادث نفسه عاديا ومألوفا.

الفرع الثاني: المجال التطبيقي لإعادة النظر للظروف الطارئة
لقد بينا في الفرع السابق ماهية وطبيعة الظرف الطارئ المبرر الأساسي للتدخل القضائي في التعامل الخاص. فهو ذلك الظرف الاستثنائي الذي يترتب على وقوعه نتائج مرهقة وغير مألوفة تسبب للمدين في التعاقد خسارة خاصة غير اعتيادية دون أن ينسب إليه أي خطإ أو إهمال في حصوله أو بعد حصوله بتوقيه أو تجاوزه. لكن هل ينبغي أن يفهم من ذلك بأن نظرية إعادة النظر للظروف الطارئة لا تصيب إلا الأعمال الإرادية وحدها، أم أنها تصيب كافة الواقعات القانونية من إٍرادية وغير إرادية. وهل تلك النظرية لا تقع إلا على نوع واحد من الأعمال الإرادية، وهي الأعمال المتبادلة كالعقود أم أنها تنطبق أيضا على أي عمل إرادي متبادل أم غير متبادل نابع عن الإرادة المنفردة. وهل النظرية أخيرا تنحصر في تطبيقها على كافة الأعمال الإرادية المتبادلة، وهي المحل الطبيعي لإعادة النظر، أم أنه يقتضي حصر مجالها بأنواع معينة من تلك الأعمال التي لها بعض الخصائص المميزة من دونها جميعا.
إن النظرية في الواقع قد وجدت لتنطبق أساسا على العقود،ولكن ليس على كافة العقود،بل على تلك التي يتراخى موعد تنفيذها فترة زمنية ولو قصيرة يقع خلالها ذلك الحادث الاستثنائي . ولكنها لم توجد في المقابل لتنطبق على الأعمال غير العقدية من جرمية وغير جرمية، فهذه لا تأتلف إطلاقا مع منطق النظرية ،وبين هذين الوضعين،إذ لا مانع من إعمال النظرية في الأعمال الإرادية غير العقدية، كتلك التي تصدر عن إرادة منفردة، وأن تكون تلك الأعمال لا تشكل المحل الحقيقي للنظرية.
وبرجوعنا إلى مصادر الالتزام بصفة عامة نجد أن التأصيل الفقهي لمصادر الالتزام يقضي بردها إلى مصدر واحد هو الواقعة القانونية، فهي مصدر الحقوق جميعا. والواقعة القانونية هي أية حادثة إرادية كانت أم غير إرادية يكون من شأنها أن تعدل وضعا قانونيا قائما.وبعبارة أخرى هي "أمر يحدث فيرتب عليه القانون أثرا هو كسب الحق أو نقله أو تعديله أو انقضاؤه" .
وما يهمنا من تلك الوقائع القانونية في هذا المجال هو تلك الوقائع التي هي من فعل الإنسان وصنيعه. وما يهمنا من هذه الأخيرة هو الأعمال أو التصرفات القانونية، وهي أعمال الإرادة، سواء أكانت إرادة منفردة أم إرادة تعاقدية. فهذه الأعمال تشكل المحل لإعادة النظر في العقود عند حدوث ظروف طارئة واستثنائية. فلا بد إذن من أن نستبعد من إطار هذه النظرية الأعمال الجرمية وشبه الجرمية ولو كانت ناتجة عن فعل الإنسان، حتى ولو أراد الإنسان العمل والأثر المترتب عليه ، كما إذا قام بفعل نافع أثرى به الغير على حسابه. أو أراد العمل دون الأثر كارتكابه عملا غير مشروع. أو ألا يريد العمل أو الأثر، كما لو أضر بالغير عن إهمال ولكن دون أن يقصد العمل أو الضرر.
من هنا يتحدد مجال تطبيق النظرية من زاويتين: زاوية الالتزامات العقدية، وزاوية الالتزامات السابقة على التعاقد:
وسنخصص لكل زاوية مبحثا مستقلا على الشكل الآتي:
المبحث الأول: الالتزامات التعاقدية
المبحث الثاني: الالتزامات السابقة على التعاقد.

المبحث الأول: الالتزامات التعاقدية
ليست كل الالتزامات التعاقدية محل تطبيق نظرية الظروف الطارئة، بل يقتصر تطبيقها على العقود المؤجلة التنفيذ سواء كانت هذه العقود مستمرة أم فورية
إن التصرفات القانونية تنقسم إلى نوعين: فهي إما أن تكون صادرة من جانب واحد، وإما أن تكون صادرة عن الجانبين في التعاقد، والسؤال الذي يطرح نفسه، هل هذه النظرية تنطبق على هذين النوعين من الالتزامات الإرادية، أم ينحصر تطبيقها على أحدهما فقط.
فيما يتعلق بعقود المعاوضة المتبادلة لا نقاش حول خضوعها للنظرية. وكذلك الأمر بالنسبة للعقود المجانية كعقود التبرع. إلا أن النظرية لا تنطبق في هذه الأخيرة إلا على جهة واحدة هي جهة المتبرع وحده، فلا يستفيد منها المتبرع له. ويعلل الأستاذ منصور بديع هذا الرأي، بالأساس الأخلاقي لتلك العقود. فالمتبرع له بنظره لا يسعه أن يطالب بإعادة النظر في العقد الذي يستفيد من التزاماته لعلة أن أحداثا استثنائية قد حصلت فجعلت المتبرع به لا يأتلف أساسا مع قيمته قبل حصول تلك الأحداث، والسبب في ذلك هو قواعد الأخلاق. لأنه لا يتنافى مع القاعدة الخلقية، ومع حسن التصرف أن يتقدم المتبرع له بمطالبة قضائية بوجه من تبرع له مطالبا بزيادة ما تبرع به لأن ظرفا غير متوقع قد أخل في قيمته. فقبول طلبه معناه تناسي الأساس الأخلاقي الذي يستند إليه هذا النوع من العقود. يضاف إلى ذلك أن النظرية لم توجد إلا لتلافي الاختلال في التوازن العقدي بصورة غير مألوفة. وفي عقد التبرع ليس هناك من اختلال أو عجز قد يصيب المتبرع له لأنه يتلقى دون أن يتحمل في مقابل ما تلقاه أي مقابل. بل إن الحق بمطالبته للتخفيض ينبغي أن ينحصر في المتبرع له وحده عند تأثره بالظرف الطارئ، إذ لا يجوز تحميله عبئا مرهقا وإضافيا، وهو الملتزم أساسا بعمل غير متوازن وبعبء لا مقابل حقيقي له .
ولكن النقاش حول مجال النظرية ونطاق تطبيقها قد يثور بالنسبة للأعمال الإرادية الفردية النابعة عن إٍرادة المدين المنفردة.
يقول Boris Starck في هذا الصدد: إن النظرية – إعادة النظر في العقود للظروف الطارئة – لابد من إعطاء مجالها مفهوما واسعا يشمل العمل الإٍرادي بإجماله دون تمييز بين ما كان صادرا منه عن إرادة منفردة أو إرادات متقابلة. فليس هناك من حائل بنظره يمنع من الأخذ بالنظرية بالنسبة "لكل تصرف قانوني حتى ولو كان التزامات بإرادة منفردة، كما لو التزم شخص ببيع شيء بإرادته المنفردة لمدة طويلة ". إلا أن المؤلف يعترف بحقيقة عملية، وهي أن المجال الحيوي للنظرية هو الاتفاقات العقدية المتبادلة.
وفي الواقع إن هذا الرأي الذي قال به Boris Starck وسواه من الفقهاء يبدو متفقا ومتلائما كليا مع مؤسسة تعديل العقد للظروف الطارئة وذلك لسببين :
الأول: هو أنه وإن كانت النظرية – إعادة النظر في العقود للظروف الطارئة – قد أملت وجودها كرة الحيلولة دون بقاء المتعاقد خاضعا لا مرة ظروف خارجية لا يد له في وقوعها وذلك عن طريق إقامة نوع من التوازن التقريبي في التعاقد، فمن باب أولي إخضاع المدين في الالتزام الإرادي الناشئ عن إرادته المنفردة لإعادة النظر في التزامه الذي أصبح أكثر إرهاقا بفعل تلك الظروف الاستثنائية وطالما أنه لا يوجد مقابل مادي ومباشر لللإلتزامات. فالروح التي أملت تخفيف المسؤولية عن الوكيل غير المأجور أو الناقل نقلا مجانيا – وهي روح الإنصاف والعدالة لعدم وجود مقابل مباشر يستفيد منه الوكيل أو الناقل مجانا – هي التي تملي أيضا مساعدة من يلتزم بإرادته المنفردة دون أن يقابل التزامه آنيا التزام آخر .
والثاني: هو أن التدخل القضائي في العقود عند تغير الظروف مرده إلى الإٍرهاق الذي يصيب المدين من جراء إلزامه بمتابعة موجباته. وهذا الإرهاق لا يعفي من نتائجه الملتزم بإرادة منفردة. فمنطق النظرية يقضي بمعاملة المدين في كل من نوعي الالتزامات الإٍرادية معاملة واحدة. فارتفاع الأسعار ارتفاعا ملحوظا يؤدي إلى إضافة أعباء جديدة على الملتزم تؤدي به إلى تحمل خسارة فادحة في حال متابعته لتنفيذ التزاماته سواء أكان مصدر التزامه عقدا من العقود أم إرادته المنفردة، فنتيجة ارتفاع الأسعار تصيب المدين في كلا الوضعين، بل قد تكون تلك الخسارة أشد أثرا على المدين في الالتزام بإرادة منفردة خاصة إذا لم يكن هناك من مقابل يسعى إليه أو على الأقل ليس هناك من مقابل فوري ومباشر يقابل التزاماته عند حصولها.
خلاصة القول إذن، هي أن نظرية إعادة النظر في الظروف الطارئة لها مفهوم عام يشمل العمل القانوني، لا تفرقة فيه بين أن يكون صادرا عن إرادته منفردة أم عن إرادة متعاقدة إن كان الطابع الغالب هو في تطبيقها على العقود.
ولكن السبب الذي يحملنا إلى البحث في مدى ذلك الانطباق هو سبب نظري يعود إلى التقسيمات العديدة المعتمدة لأنواع تلك العقود، مما يحمل على التساؤل، هل كافة العقود بمختلف تقسيماتها تدخل ضمن الإطار العملي للنظرية؟
بداية يمكن القول بأنه هناك أمران لابد من التأكيد عليهما: الأول: أنه لا أثر لمختلف هذه التقسيمات أو لسواها على إطار تلك النظرية. والثاني: هو أنه يكفي أن يكون هناك فاصل زمني ولو ضئيلا بين ابرام العقد وبين تنفيذه ليكون محلا لإعادة النظر كلما اختل توازنه لأحداث وقعت خلال تلك الفترة الزمنية أو لمتابعة التنفيذ .
وبالفعل، فإن العقود مهما كان نوعها أو تقسيمها: سواء أكانت عقود معاوضة أو تبرع، متبادلة أو غير متبادلة، محددة أو احتمالية، رضائية أم غير رضائية... تكون محلا لتطبيق النظرية. فيكفي كما قلنا وجود فترة زمنية فاصلة ولو كان العقد بطبيعته رغم تلك الفترة عقدا فوريا أو احتماليا، وأن يحصل اختلال في توازنه بصورة غير مألوفة بنتيجته لظرف طارئ وقع قبل تنفيذه لكي تكون النظرية في مجال عملها الطبيعي والمطلوب .
إن هذه الوضعية الشاملة لكافة العقود المتراخية التنفيذ للنظرية – إعادة النظر للظروف الطارئة – لم يتوصل إليها الفقه والاجتهاد إلا في فترته الأخيرة. فقد أثير نقاش فقهي حول مجال إعمال النظرية بالنسبة لأنواع العقود ودار حول أساسين: الأول و يتناول العقود الفورية مهما كان الشكل الذي تظهر من خلاله، مؤجلة أم متراخية التنفيذ، هل تخضع لإعادة النظر إذا أصابتها ظروف طارئة، أم أنها بسبب طبيعتها الآنية تخرج من الحيز التطبيقي لتلك النظرية، مما يقضي بحصرها في العقود التي يعتبر الزمن عنصرا جوهريا في تكوينها، كالعقود المتتابعة التنفيذ، أي الدورية، أو العقود الزمنية. الجواب لن يرتبط بالعقود الفورية أو المتتابعة التنفيذ، وإنما يتعلق بالعقود الاحتمالية، فما هو حكم هذه العقود؟
إن عقد الاحتمال هو العقد الذي لا يستطيع فيه كل من المتعاقدين أن يحدد وقت إتمام العقد من حيث القدر الذي أخذ أو القدر الذي أعطى. ولا يتحدد ذلك إلا في المستقبل تبعا لحدوث أمر غير محقق الحصول أو معروف وقت حصوله .
وقد يكون ذلك الاحتمال قائما لجهة المتعاقدين معا. فلا يعرف أحدهما مدى احتمال كسبه أو خسارته وقت التعاقد، كالبيع في مقابل مرتب لمدى الحياة. فالبائع أو المشتري في هذا العقد وإن كان يعرف المقدار الذي أعطى فهو لا يعرف المقدار الذي أخذ. فالاحتمال موجود لدى أي من المتعاقدين.
وقد يكون الاحتمال موجودا في ذهن أحدهما دون الآخر ، ومع ذلك فإن العقد لا يفقد صفته الاحتمالية. ففي عقد التأمين ضد الحريق مثلا، نجد احتمال الكسب أو الخسارة بالنسبة لشركة التأمين لا يكون متوفرا، إذ أنها تبعا لدراسات تقوم بها، تستطيع أن تقدر عمليا الحوادث التي قد تقع وتبنى حساباتها على هذا الأساس. فتحدد قيمة الاشتراك وشروطه وفقا لما تراه ملائما لمصلحتهما بالكسب دون الخسارة. وكذلك الأمر في عمليات الرهان التي تتولاها الدولة. فهي تخرج بالنتيجة بكسب مستمر ناتج عن فائض توزيع جزء مما حصلته من المشتركين على الخاسرين منهم محتفظة بالقسم الباقي، فهذه العقود وسواها لا ينفي عنها وجود الاحتمال لجهة طرف واحد في التعاقد وعدم وجوده بالنسبة للطرف الآخر صفتها الاحتمالية.
والسؤال المطروح هو: هل هذه النظرية – التي وجدت أساسا لإعادة التوازن العقدي- تتفق مع عقود الاحتمال وهي التي تعتمد احتمال الاختلال في التوازن كعنصر من عناصرها أم لا؟
إن الرأي الغالب في الفقه والقضاء يرى أنه من غير المنطقي إخضاع هذه العقود للتعديل القضائي ولو كان مرد ذلك إلى اختلال توازنها بسبب ظرف طارئ غير متوقع. ولكن هل من المنطقي عدم إخضاع عقود الاحتمال وكمبدإ للنظرية؟

1- عقود الاحتمال: إخراجها من حيز النظرية:
يعتمد البعض على الصفة الجزافية التي تسود عقود الاحتمال لإخراجها على أنواعها من النطاق العملي للنظرية – إعادة النظر في العقود للظروف الطارئة – ولاعتبارها استثناء عن مفهومها الشامل. فاحتمال الكسب أو الخسارة التي تشكل المعيار المميز للعقد الاحتمالي لا يتفق إطلاقا مع الطبيعة القانونية للنظرية .
وتنزل عقود المضاربة (في البورصة) وعقود القرض منزلة العقود الاحتمالية لجهة الأخذ بالنظرية. الأولى لأنها " تعرض بطبيعتها أحد المتعاقدين لاحتمال كسب كبير أو خسارة جسيمة، كما أنه يمكن في هذا النوع من العقود لمن يتوقع خسارة فادحة أن يتفاداها بعملية عكسية". والثانية لأن المدين يلتزم فيها بمقدار عددها المذكور في القرض دون أن تتأثر بارتفاع قيمة النقد أو انخفاضه . وقد أخذت عدد من المحاكم بهذا الاتجاه "فالنظرية برأيها لا تطبق على عقود الغرر (الاحتمال) لأنها بطبيعتها تعرض المتعاقدين لاحتمال كسب كبير أو خسارة فادحة".
2- عقود الاحتمال: إخضاعها للنظرية
إن إطلاق مبدإ الرفض في تطبيق النظرية – إعادة النظر في العقود للظروف الطارئة – على عقود الاحتمال أو العقود التي يتوفر فيها عنصر احتمال الربح أو الخسارة هو افتراض يقبل المناقشة. فعنصر احتمال الربح أو الخسارة موجود في أي نوع من العقود ولو كانت من العقود المحددة إلا أن وجوده يكون على درجات متفاوتة. فهو قليل في العقود المحددة، ومتوسط في العقود غير المحددة، وقائم إطلاقا في العقود الاحتمالية. وعلى درجة ذلك الاحتمال يتوقف الإطار العملي للنظرية ومدى شموله. ففي العقود المحددة التي يستطيع فيها كل من المتعاقدين أن يحدد وقت إبرامها والمقدار الذي حصل عليه والمقدار الذي التزم به ولو لم يكن ذلك على وجه الدقة، تكون النظرية في مجالها الطبيعي وفي إطار عملها المنتظم. فاحتمال تغير ما توقعه المتعاقد من تعادل لالتزاماته مع ما يقابلها من التزام عند إبرامه للعقد كان محددا ومقيدا. فطرأ حادث مستقبل وقع عند تنفيذها، غير أنه في ميزان ما احتمله أطراف التعاقد وأخل في التوازن المقصود يفرض تعديل العقد بإعادة النظرية قضائيا لضآلة ذلك الاحتمال. وفي عقود المرابحة المضاربة يتوقع كل من المتعاقدين بصورة أوضح احتمال حصول الربح أو الخسارة. إلا أنه احتمال منوط بمقدار عينته الإرادة المتعاقدة وقت التعاقد. فخروج الربح أو الخسارة بعد ذلك عن حدود ذلك المقدار لظروف استثنائية أخلت بالتوازن المقصود من التعاقد لا يحول أيضا دون الأخذ بالنظرية . فعلى الرغم من أن الفكرة التي سيطرت على المتعاقدين كما يقول الأستاذ مصطفى الجمال، هي فكرة جني الربح على حساب المتعاقد الآخر إلا أنه ربح بمقدار. فهناك توازن أراده المتعاقدون انصرفت إليه إرادتهم،ولكنها لم تنصرف إلى ما قد يتجاوزه. فحصول الإخلال بذلك التوازن المقصود بشكل يخرج عن إطار التوقع العقدي للربح والخسارة يسوغ للقضاء حق التدخل في العقد لإعادة توازنه.
وعلى هذا الأساس فالبحث في قبول النظرية لتنطبق على عقود الاحتمال ينبغي أن يعتمد نهجا آخر يختلف عن النهج الذي اتبع.
ففي عقد الاحتمال يكون احتمال الربح أو الخسارة أمرا متوقعا، إلا أنه احتمال لربح وخسارة من الممكن تحديدها . وذلك في حقيقته يؤدي إلى نتيجتين: الأولى وهي أن المتعاقد عند إبرامه لعقد جزافي يفترض أنه قبل بتحمل المخاطر التي قد تنتج عن ذلك العقد، فيستفيد من الربح ويتحمل الخسارة. والثانية هي أن المتعاقد في العقد الجزافي لم يقبل بتحمل أية مخاطر وإنما تلك المخاطر التي دخلت في إطار توقعه، وإن اتسعت دائرته.
"إن تتبع ذلك التحليل لابد من أن يقودنا إلى نتيجة أساسية على الصعيد العملي للنظرية. فإذا كان مبدأ رفض تطبيقها على عقود الاحتمال يعود في سببه إلى وجود التوقع الذي تفترضه طبيعة تلك العقود، فإن مبدأ الرفض المشار إليه لا يكون مقبولا كمبدإ إلا في إطار الاحتمال، أي في إطار التوقع الذي من الممكن تحديده، فتنطبق النظرية على عقود الاحتمال ولكن خارج "الإطار التوقعي" ومحتواه. فيصبح وجود التوقع في عقود الاحتمال ليس سببا لإبعادها من الحيز التطبيقي للنظرية طالما أن الاختلال العقدي في تلك العقود قد يصل في حجمه مقدارا يتجاوز ما توقعته الإرادة الحقيقية للمتعاقدين، أو ما يفترض أنها قد توقعته تبعا للطبيعة الموضوعية للعقد الذي أبرمته. فيؤخذ بها نسبة لهذا الجزء الذي تجاوز ذلك التوقع" ، و يصبح سببا لتحميل المدين قدرا أكبر من العبء، إذ أن هناك قدرا أكبر من الالتزام المرهق بنتيجة الاختلال العقدي يتحمله المدين وحده بسبب توقعه أو افتراض توقعه، ويشترك إضافة في تحمل جزء من القدر غير المتوقع من ذلك الالتزام بمفعول إعمال النظرية، يعود التقسيم في مقداره إلى سلطة القضاء أو استنسابه كما بينا.
نخلص إلى القول بأن نظرية إعادة النظر في العقود بسبب الظروف الطارئة،هي نظرية ذات مفهوم شامل، تتناول في تطبيقها كل عمل قانوني، سواء كان عقدا أو تصرفا بإرادة منفردة، وسواء كان ذلك العقد عقدا فوريا أو زمنيا، متبادلا أو غير متبادل، احتماليا، أم محققا، شرط أن يكون هناك فاصل زمني مهما بلغت مدته بين تاريخ إبرام العقود وتاريخ تنفيذه.

المبحث الثاني: الالتزامات السابقة على التعاقد
نعتبر المرحلة السابقة على التعاقد كما يقول الأستاذ محمد عبد الظاهر حسين : " من أهم مراحله وأخطرها بما تحتويه من تحديد لأهم ومعظم التزامات وحقوق طرفي العقد، وبما ينشأ عنها من مشكلات قانونية عديدة، سواء منها ما يتعلق بالمخالفات اللاحقة للالتزامات السابق تحديدها في هذه المرحلة، أو ما يتعلق منها بنطاق ونوع المسؤولية التي تنشأ على عاتق الطرف الذي بسببه لم ينعقد العقد وتوقفت العلاقات بين الأطراف على هذه المرحلة السابقة على التعاقد. وعادة ما تستغرق هذه المرحلة وقتا طويلا أكثر من الوقت اللازم لإبرام العقد وخاصة في العقود غير التقليدية التي لا تلائمها القواعد التقليدية للإيجاب والقبول. فهذه القواعد أصبحت غير قادرة على الاستجابة لضرورات وسائل الإنتاج الصناعي وطرق التسويق الحديثة وتعجز عن مجابهة المخاطر التي تنطوي عليها عادة العقود غير التقليدية.
وتأتي أهمية دراسة المرحلة السابقة على التعاقد من ناحية عدم اهتمام المشرع بها في كثير من الدول مثل اهتمامه بالمراحل التالية على إبرام العقد،إذ أن الحديث في معظم نصوص التقنين المدني ينصب على تنفيذ كل طرف في العقد لالتزاماته، وكذا المسؤولية المترتبة على الإخلال بهذه الالتزامات أو بعضها من خلال التوسع في الكلام عن المسؤولية العقدية بعناصرها الخطأ والضرر وعلاقة السببية .
وهذا الاتجاه من جانب المشرع أثر بلا شك في اتجاه الفقه الذي ركز بدوره على مراحل تنفيذ العقد وإنهائه أكثر من تركيزه على المرحلة السابقة على إبرامه، ويتضح ذلك من خلال الإطلاع على العديد من الدراسات القانونية المتعلقة بنظرية العقد، إذ نجد معظمها يهتم بدراسة الجوانب والآثار القانونية التي تثيرها المراحل الآلية على إبرام العقد.
وأهم جانب من الجوانب القانونية للمرحلة السابقة على التعاقد يكمن في كيفية حماية أطراف العقد المزمع إبرامه في هذه المرحلة. أي حمايتهم في مرحلة التفاوض للتمهيد لإبرام العقد. إذ أن هذه المرحلة تتطلب التدقيق في مسائل مختلفة بشأن العقد مثل مواعيد التوريد والتنفيذ والأسعار وشروط مراجعة العقد وضمان حسن التنفيذ. ويتم خلال هذه المرحلة عدد هائل من العمليات، مثل القيام بأعمال تحضيرية وفحوص فنية ودراسات اقتصادية وإعداد خطط المشروع محل العقد وتوفير وسائل التمويل والتأمين .
ثم يأتي الجانب الثاني لهذه المرحلة ويتعلق بالحالة التي تفشل فيها المفاوضات على التعاقد،ويكون سبب الفشل راجعا إلى أحد الطرفين.فهنا تثور – بلا شك – مسألة نوع ونطاق المسؤولية التي تنشأ على عاتق هذا الطرف، وكذلك مدى حق الطرف الآخر في المطالبة بالتعويض عن الأضرار التي قد تصيبه من جراء عدم إبرام العقد، فما أحكام دعوى التعويض التي يملك رفعها في هذه الحالة؟".
لن نجيب على هذا السؤال في هذا البحث، وإنما سنقصر بحثنا على مفهوم الالتزامات السابقة على التعاقد فقط،وعلى إمكانية تطبيق آثار الظروف الطارئة عليها.
يقصد بالإجراءات السابقة على التعاقد كل تدبير يسبق إبرام العقد ويعتبر داخلا في المراحل التمهيدية التي قد تؤدي أولا إلى قيام العقد في شكله النهائي. ومن أمثلة هذه الإجراءات التمهيدية الوعد بالتعاقد،والاتفاق الابتدائي،والتعاقد المصحوب بالعربون، والتعاقد المعلق على شرط فاسخ أو شرط واقف، والبيع الايجاري، والبيع بالخيارات والبيع المتوقف على أمر يتطلبه القانون .
والواضح أنني لن أتولى دراسة هذه العناوين جميعها لأنها تتطلب وقتا أطول وصفحات متعددة.
لهذا أثرت أن آخذ نموذجا واحدا من هذه الحالات، وهي حالة الوعد بالتعاقد، والاتفاق الابتدائي، إذن فما المقصود بهما، وما هي الآثار التي تترتب عليهما؟
أ- الوعد بالتعاقد: هو " خطوة نحو التعاقد النهائي" وأمثلته متعددة فقد يأنس شخص في نفسه القدرة على شراء عقار أو منقول بعد مرور فترة من الزمن، حيث تتوفر لديه الأموال اللازمة لذلك، فيتفق مع مالك هذا العقار أو المنقول على أن يعطيه وعدا بالبيع متى أبدى رغبته في الشراء خلال مدة محدودة معينة يبقى المالك ملتزما خلالها بوعده .
وكما يمكن أن يكون الوعد بالبيع وعدا بالشراء إذا كان المشتري في هذه الفترة هو الذي وعد بالشراء متى ما أفصح المالك عن رغبته في بيع الشراء الموعود بيعه .
ب- الاتفاق الابتدائي: الوعد بالتعاقدPromesse de contrat قد يتحول إلى اتفاق ابتدائي Contrat préliminaire إذا أصبح ملزما للجانبين، بدلا من جانب واحد. فقد تتجه إرادة شخصان إلى إبرام عقد بات ونهائيا ولكن يحول دون ذلك قيام بعض العقبات القانونية أو الواقعية، أو ضرورة الحصول على وثيقة هامة يقتضيها تسجيل الشيء المراد بيعه. ومن ذلك أيضا ضرورة الحصول على إذن أو تصريح من إحدى الجهات الإدارية. مثل المحافظة أو من إحدى الجهات القضائية مثل المحكمة الشرعية .
لهذا وحرصا على عدم ضياع الصفقة يحدث كثيرا إزاء هذا الموقف أن يبرم هذان الشخصان عقدا ابتدائيا يتعهد فيه الواحد منهما تجاه الآخر بأن يوقع في مدة معينة على العقد النهائي الذي سينجز بعد زوال العقبة التي كانت تحول دون إبرامه. فالعقد أو الاتفاق الابتدائي ما هو في حقيقة أمره إلا وعد بالتعاقد. ولكنه وعد لا يلزم جانبا واحدا، وإنما يلزم الجانبين على حد سواء .
فإذا تصادف أن وقعت ظروف طارئة بين الوعد بالتعاقد، وقيام العقد النهائي فصل تطبيق أحكام النظرية في هذه الحالة.
لقد عرضت هذه المشكلة على القضاء الفرنسي في محاولة لتطبيق فكرة الغبن اللاحق (n a posteriori ). إلا أن البحث في هذه المشكلة لم يتعد حالات الوعد ببيع العقارات، إذ المعروف في القانون الفرنسي أن الغبن لا يطبق إلا في حالة بيع العقار .
وقد انقسم الفقه الفرنسي إلى فريقين: - اعتد الفريق الأول في تقدير الغبن بما تكون عليه قيمة العقار وقت الاتفاق على الوعد. واستمد أنصار هذا الرأي حجتهم من طبيعة الغبن كعيب من عيوب الرضا (Un vice du consentement).
"ففي حالة الوعد بالبيع مثلا، لا يمكن القول بأن الرضا يشوبه عيب الغبن إلا في وقت الاتفاق على الوعد باعتبار أن هذا الوقت هو الذي يتم فيه التعبير عن الرضا.
أما الفريق الثاني فيرى أن الوقت الذي ينظر فيه إلى قيمة العقار وحالته بغية تقدير الغبن هو الوقت الذي يفصح فيه الموعود له عن رغبته في الشراء "au jour de la levée de l’option" .
وجدير بالذكر أن المشرع الفرنسي أيد هذا الاتجاه بإصداره تشريعا بتاريخ 28 نوفمبر سنة 1949 أضاف به فقرة ثانية إلى المادة 1675 تنص "على أنه في حالة الوعد بالبيع من جانب واحد يقدر الغبن في اليوم الذي يتحقق فيه الوعد" (En cas de promesse de vente unilatéral-la lésion s’apprécie au jour de la réalisation ) كما أخضعت المجموعة المدينة العامة للإمبراطورية النمساوية الوعد بالتعاقد والاتفاق الابتدائي وحدهما لأحكام نظرية الظروف الطارئة إذ لم تعترف هذه المجموعة بأحكام هذه النظرية إلا في حالة مشروعية العقد avant - contrat .
فإذا حدث أن اختل التوازن الاقتصادي بسبب تغير الظروف خلال الفترة الفاصلة ما بين الوعد بالتعاقد، أو الاتفاق الابتدائي وإبرام العقد النهائي البات فإن النظرية حينئذ تجد سبيلها إلى التطبيق بالنسبة إلى هذا العقد النهائي والبات" .

خـــاتمــــــة
مراجعة الالتزامات المرهقة من النظرية الشاملة لمختلف فروع القانون، فهي نظرية القانون العام، وهي نظرية القانون الاقتصادي، وعلى القضاء أن يعترف بها كنظرية في القانون الخاص، ولكن ذلك يتطلب منه إرادة التقرير - إرادة تؤمن للنظرية تقنيتها، وليس عليه إلا أن يعتمد تلك التقنية فيكمل فراغ النص، ويتعامل مع روح العصر ومتطلباته، فهذا العصر هو بحق عصر الظروف المتغيرة. – والقانون وإن قصر في استحداث النصوص المسايرة للتطور، على القضاء أن يسد هذا النقص بما لديه من سلطة تمارس استخدامها في عدة أبواب من القانون رغم أن عمله هذا يخضع لمعايير متعددة ورقابة لا تخضع لها سلطة أخرى كفيلة بإبعاد خطر كل تحكم أو الحذر من التحكم.
فالقضاء وهو الضامن للحقوق الفردية الخاصة والعامة يتوخى تحقيق العدالة بصورة أوسع نطاقا وأجزل نفعا من المشرع،مما يحمل بعد ذلك على التساؤل عن السبب الذي يدعو إلى الحذر من المراجعة القضائية للالتزامات المرهقة. وعلى التنكر لإبعادها... مع أن التدخل القضائي في العقود هو أكثر إيثارا من تدخل المشرع.
لهذا ندعو كما دعا أساتذتنا الدكتور أسامة عبد الرحمان إلى: إما مراجعة تشريعية للنظرية أو ترك المجال مفتوحا أمام القضاء لمسايرة التطور الاجتماعي والاقتصادي عن طريق مراجعة الالتزامات المرهقة.

قائمـــــة المراجـــع
أولا: المراجع العامة :
1- المؤلفات:
- أنور سلطان: النظرية العامة للالتزام، الجزء الأول، مصادر الالتزام، الطبعة الثانية، 1958.
- أحمد حسن البرعي: نظرية الالتزام في القانون المغربي، مصادر الالتزام ، الطبعة الأولى سنة 1981.
- أحمد حشمت أبو ستيت: نظرية الالتزام في القانون المدني المصري، القاهرة، سنة 1950.
- حسين عامر: القوة الملزمة للعقد، الطبعة الأولى، سنة 1949.
- سليمان مرقس: نظرية العقد، القاهرة سنة 1956.
- سامي بديع منصور: التباث والتغيير في القاعدة القانونية، مكتبة الرازي للخدمات، لبنان، سنة 1995.
- عبد الرزاق السنهوري: الوسيط في شرح القانون المدني، مصادر الالتزام ، دار إحياء التراث العربي القاهرة 1964.
- عبد المنعم فرج الصدة: نظرية العقد في قوانين البلاد العربية، بيروت، سنة 1980.
- مأمون الكزبري: نظرية الالتزام في ضوء قانون الالتزامات والعقود، الجزء الأول، الطبعة الثالثة، سنة 1974.
- محمد بونبات: نظرية الظروف الطارئة بين الأخذ والرد في المغرب، سلسلة آفاق القانون (3) سنة 1999/2000.
-وهبة الزحيلي، نظرية الظروف الشرعية، ( مقارنة مع القانون الوضعي )، الطبعة الثانية مؤسسة الرسالة بيروت سنة 1979.
2- الرسائل الجامعية:
- عبد السلام الترمانيني: نظرية الظروف الطارئة ، دراسة تاريخية ومقارنة للنظرية في الشريعة الإسلامية والشرائع الأوروبية وتطبيقات النظرية في تقنيات البلاد العربية، دار الفكر بغداد 1969.
- فاضل شاكر النعيمي: نظرية الظروف الطارئة بين الشريعة والقانون، مطبعة الفكر بغداد 1971.
- أسامة عبد الرحمان: نظرية الظروف الطارئة بين النظرية والتطبيق، رسالة النيل دبلوم الدراسات العليا في القانون الخاص، جامعة محمد الخامس، الرباط 1983.
- أسامة عبد الرحمان: أثر نظرية العذر على الالتزامات التعاقدية، أطروحة لنيل دكتوراه الدولة في القانون الخاص، جامعة الحسن الثاني، الدار البيضاء سنة 1990.
3- المجلات القانونية المغربية:
- مجلة القضاء والقانون، وزارة العدل.
- الملحق القضائي، المعهد القضائي.
- المجلة المغربية للقانون والسياسة والاقتصاد، كلية الحقوق ، الرباط.
4- المجلات القانونية العربية:
- المحاماة، مصر.
- مجلة الحقوق، الكويت.
ثانيا: المراجع بالفرنسية :
- Boris Starck : Droit civil, obligations, Paris 1972.
- Jacques Flour : Droit civil, les obligations, l’acte juridique 2ème tirage Armand colin, Paris 1977.
- Jean Carbonnier : Droit civil themis, tome 4, sociologie juridique, Paris 1972.
- Mustapha El Gammal : l’adaptation du contrat aux circonstances économiques, études comparé de droit civil, tome 2 quatrième éd.1er vol, obligations, théorie général, Paris 19669.
- Samir Tanagho : De l’obligation judiciaire étude morale et technique par le juge libraire générale de droit et de jurisprudence, thèse, Paris 1965.




الفهـــرس
مقدمة..................................................................................... 1
الفصل التمهيدي: إعادة النظر في العقود بسبب الظروف الطارئة................... 4
الفرع الأول: مرحلة ما قبل صدور التقنيات الحديثة.................................... 5
المبحث الأول: مرحلة القانون الروماني............................................ 5
المبحث الثاني: مرحلة الشرائع السماوية............................................... 7
المطلب الأول: مرحلة القانون الكنسي.................................................. 7
المطلب الثاني: القانون الإسلامي....................................................... 10
الفرع الثاني: مرحلة التقنيات الحديثة................................................... 17
المبحث الأول: النظرية في القوانين الحديثة............................................ 17
المطلب الأول: النظرية من التشريعات الغربية......................................... 19
المطلب الثاني: النظرية في التشريعات العربية......................................... 22
المبحث الثاني: الأخذ بها في بعض الأنظمة القانونية عن طريق المحاكم................ 24
الفصل الأول: مفهوم إعادة النظر في العقود.......................................... 29
الفرع الأول: إعادة النظر في العقود وسط بين صحة العقد وزواله...................... 31
المبحث الأول: صحة العقد............................................................ 32
المبحث الثاني: زوال العقد............................................................. 32
الفرع الثاني: إعادة النظر في العقود: التعريف بها وتمييزها عن النظريات المقاربة...... 35
المبحث الأول: التعريف بإعادة النظر في العقود........................................ 35
المبحث الثاني: إعادة النظر في العقود والنظريات المشابهة............................ 40
المطلب الأول: إعادة النظر في العقد ونظرية زوالها................................... 41
المطلب الثاني: إعادة النظر في العقود ونظرية تفسيرها................................ 43
المطلب الثالث: إعادة النظر في العقود والتعويض في المسؤولية العقدية................ 45
الفصل الثاني: الشروط العامة للنظرية ومجال تطبيقها...................... ....... 48
الفرع الأول: الشروط المتطلبة لمراجعة العقد........................................ 50
المبحث الأول: الظرف غير المتوقع............................................. 51
المطلب الأول: عدم التوقع: معياره ونتائجه........................................... 52
الفقرة الأولى: معيار عدم التوقع...................................................... 52
الفقرة الثانية: عدم التوقع: نتائجه...................................................... 58
الفقرة الثالثة: حالات عدم التوقع....................................................... 62
الفقرة الرابعة: المحاولات العقدية لتوقي الحادث ونتيجته............................... 65
المبحث الثاني: الظروف الاستثنائي................................................... 66
المطلب الأول: مفهوم الظرف الاستثنائي. ....................................... 67
المبحث الثالث: الإرهاق والخسارة الفادحة............................................. 76
المطلب الأول: طبيعة الإرهاق........................................................ 77
المطلب الثاني: معيار الإرهاق........................................................ 80
الفرع الثاني: المجال التطبيقي لإعادة النظر للظروف الطارئة.......................... 85
المبحث الأول: الالتزامات التعاقدية................................................... 87
المبحث الثاني: الالتزامات السابقة على التعاقد......................................... 95
الخاتمة................................................................................ 100
قائمة المراجع......................................................................... 101
الفهرس............................................................................... 104