6- أن يكون الزوج كفؤا للزوجة
ذكرنا غير مرة أن الزواج فى مراد الإسلام عقد عمرى يدوم ، ولهذا يحتاط له ما لا يحتاط لغيره من العقود ، ومن احتياطهم له أنهم بحثوا ما إذا كان يلزم أن يكون الزوجان متكافئين أم لا؟
والملاحظ فى المصنفات الفقهية كثرة الجدال فى هذا الشأن حتى أن من أئمة المذاهب من يروى عنه الرأى ونقيضه فى مسألة الكفاءة ، سواء من حيث اعتبارها فى الأصل ، أو فيما تعتبر فيه ، أو أثر تخلفها .
وإنما دعا إلى هذا أن الإسلام دين المساواة ، قال تعالى " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم "( ) وقال " الناس سواسية كأسنان المشط ، لا فضل لعربى على عجمى ، إنما الفضل بالتقوى "( ) فسوى الله بين الناس فى أصل الإنسانية.
ولكنا من جانب آخر نلمح أن الله سبحانه وتعالى فرق بين المؤمن والكافر ، والمطيع والعاصى ، وبين سبحانه أنهم لا يستوون ، كما أن النبى أرشد إلى رجال لا يردون ، فقال " إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه"( ) إذن فهناك مرضى وهناك غير مرضى .
ومن هنا تعددت الاجتهادات ، فمن الناس من وقف عند قول الله تعالى "إنما المؤمنون أخوة " ( ) فنفى أن يكون بين الناس ثمة تفاضل إلا بالتقوى ، ومنهم من راعى حديث القرآن والسنة فى التفاضل ولو فى أمر الآخرة ، وقدر أن للزواج ثمرات ومقاصد فاعتبر التكافؤ ليتحقق الغرض من هذا العقد الخطير .
الكفاءة معتبرة فى الجملة
وعلى كل حال فإنه يندر أن نجد من بين العلماء من لم يعتبر الكفاءة بوجه ما ، قال ابن قدامة " وما روى فيها يدل على اعتبارها فى الجملة ولا يلزم منه اشتراطها"( ) بل إن ابن حزم أكثر الناس رفضا لاعتبار الكفاءة يعتبرها فى عدم الزنا يقول " وأهل الإسلام كلهم أخوة ، لا يحرم على ابن زنجية لغية ابنة الخليفة الهاشمى ، والفاسق الذى بلغ الغاية من الفسق – وهو مسلم – ما لم يكن زانيا – كفؤ للمسلمة الفاضلة ، وكذلك الفاضل المسلم كفؤ للمسلمة الفاسقة ما لم تكن زانية ، والذى نختاره فنكاح الأقارب بعضهم لبعض " ( ).
والإمام مالك رحمه الله " أجاز نكاح الموالى فى العرب ، وتلا قول الله عز وجل " إن أكرمكم عند الله أتقاكم " ( ) ومع ذلك يقول " وللمرأة أن ترد الرجل إن وجدته لقية – أى لقيطا – إن انتسب لها : فلان ابن فلان ، وكذلك ترده إن كان عبدا ، وغرها بالحرية من نفسه "( ) وقال سحنون أشهر رواة فقه مالك " ليس العبد مثله كفؤا لذوات المنصب والقدر ، لأن الناس مناكح قد عرفت بهم وعرفوا بها "( )
والشافعى يقول فى الجديد " وليس نكاح غير الكفء بمحرم فأرده بكل حال ، إنما هو نقص على الزوجة والولاة " ( )
وعن الإمام أحمد أن الكفاءة شرط لصحة النكاح ، قال المرداوى " وهى المذهب عند أكثر المتقدمين ، قال الزركشى : هذا المنصوص المشهور ، والمختار لعامة الأصحاب من الروايتين ، وصححه فى المذهب ومسبوك الذهب والخلاصة ، قال ابن منجا فى شرحه : هذا المذهب وقطع به الخرقى ، وقدمه فى الهادى والرعايتين ، والحاوى الصغير ، وهو من مفردات المذهب"( )
وظاهر مذهب الجعفرية أن المسلمين أكفاء بعضهم لبعض ، وعلى التحقيق فإن باب الكفاءة عندهم متسع ، لأنهم – كما يقول الدكتور البلتاجى – "يقولون إنه لا يصح نكاح المُناصب ، وهو المعلن لعداوة أهل البيت عندهم ، وذلك لارتكابه ما يعلم بطلانه من دين الإسلام ، ومجال التفكير عندهم بهذا الاعتبار متسع لكل من يرون فيه معاداة لأهل البيت حسب مقاييسهم فى ذلك "( )
وينسب ابن قدامة إلى أصحاب الرأى – أبى حنيفة ومدرسته – أنهم لا يشترطون الكفاءة ( ) وهذا لا يصدق إلا على الكرخى ، أما أئمة المذهب وعامته فهم يقولون بها ، يقولون السرخسى " وأبو حنيفة رحمه الله كان من الموالى – أى من غير العرب – فتواضع ولم ير نفسه كفؤا للعرب "( ).
إذن لا محل للزعم بأن الكفاءة مختلف فيها ، حيث لم يخل مذهب من اعتبارها فى الجملة ، وأولى أن تعتبر " لأن النكاح يعقد للعمر ويشتمل على أغراض ومقاصد من الصحبة والألفة والعشرة ، وتأسيس القرابات ، وذلك لا يتم إلا بين الأكفاء ، وفى أصل الملك على المرأة نوع ذلة ، وإذلال النفس حرام ، وإنما جوز ما جوز منه لأجل الضرورة ، وفى استفراش من لا يكافئها زيادة الذل ولا ضرورة فى هذه الزيادة ، فلهذا اعتبرت الكفاءة ، والمراد من الآثار المروية فى أصل المساواة – أحكام الآخرة "( ).
فيم تعتبر الكفاءة؟
الكفء فى اللغة : هو النظير والمساوى ، قال " المسلمون تتكافأ دماؤهم " ( ) أى تتساوى .
ويراد بها فى مسائل الزواج : المماثلة بين الزوجين فى أمور مخصوصة ( ).
أولها : الدين
والفقهاء متفقون على اعتبار أصل الدين فى الكفاءة ، أما التدين بالحرص على الطاعات واجتناب النواهى ، فقد رأينا ابن حزم يخالف فيه فيرى الفاسق الذى بلغ الغاية من الفسق ، كفئا للمسلمة الفاضلة .
والأحناف يقاربونه فى ذلك ، فلم " ينقل عن أبى حنيفة رحمه الله شئ من ذلك ، والصحيح عنده أنه غير معتبر "( ) واختلف النقل عن محمد ، فقيل لا يمنع الفسق الكفاءة إلا إذا كان صاحبه متهتكا يُصفعُ ويسخرُ الناس منه ، ويخرج سكرانا إلى الأسواق والشوارع ، وقال أبو يوسف يمنع إن جهر بنفسه ( ).
أما جمهور العلماء : فيرون أن الكفاءة فى العفاف والفجور معتبرة ، بقول الله تعالى " أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون " ( ) وقوله "الزانى لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك "( ).
" ولأن الفاسق مرذول ، مردود الشهادة والرواية ، غير مأمون على النفس والمال ، مسلوب الولاية ، ناقص عند الله وعند خلقه قليل الحظ فى الدنيا والآخرة، فلا يجوز أن يكون كفؤا لعفيفة ، ولا مساويا لها ، لكن يكون كفؤا لمثله" ( ).
هل للتناسل من مسلمين أثر ؟
لو أن مسلما أبواه أو أحدهما على غير دين الإسلام تقدم لنكاح مسلمة من أبوين وأجداد مسلمين أيعتبر كفئا لها ؟
يرى الإمام أبو حنيفة أن عدم تكافؤ الآباء ينفى تكافؤ الأبناء ( ) وجمهور العلماء يخطئونه ويقولون فضل النسب يتعدى ، وفضل الدين قاصر ، وأن الصحابة رضوان الله عليهم ، أكثرهم أسلموا وكانوا أفضل الأمة ، وكان آباؤهم على غير الإسلام ، فهل يجوز أن يقال إنهم غير أكفاء للتابعين؟!!( )
الثانى النسب :
وهو معتبر حتى عند المالكية ، وقد نقلنا آنفا عن سحنون قوله " الناس مناكح قد عرفت بهم وعرفوا بها " وفى مختصر خليل وشرح الدردير" وللعربية وهى التى لم يتقدم عليها رق لأحد رد الزوج المولى العتيق المنتسب لفخذ من العرب ، أى تزوجته لانتسابه إليهم ، فوجدته عتيقا لهم ، لأنه بانتسابه كأنه مشترط ذلك فثبت لها رده "( ).
والحقيقة أن للفقهاء فى معيار النسب كلاما يطول ، وفيه نوع مغالاة فى رفعة العرب والقريشيين خاصة ، على غيرهم من الأمم والبطون ، ويبدو أن دعوة الشعوبية التى قويت فى العصر العباسى قد ألقت بمزيد من القار على النار التى كانت قد خمدت فى عصر الإسلام الأول – حيث آمن الناس أنهم أخوة ، وأنهم سواسية كأسنان المشط إذ رأوا نبيهم يعتق صفية ويتزوجها ، ويزوج مولاه زيد بن حارثة من ابنة عمته – وزوجته من بعد – زينب بنت جحش ، ويأمر بعض الخزرج أن يزوجوا حجاما يدعى أبا هند ( )- ولكنها ما لبثت أن هاجت من جديد وطاش لسانها حتى يحكى أن أبا جعفر المنصور أمر ألا تزوج منا فيه – أى من آل عبد مناف – إلا من منافىَّ "( )
ولا شك أن التعالى بالأنساب ليس من الإسلام فى شئ فالله سبحانه وتعالى يقول " يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ، ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن "( ) ولكن من مصلحة الزوجين أن يكونا على مستوى متقارب فى الوضع الأسرى ، حتى لا تتعالى الزوجة على زوجها فتسوءه ، أو تقلقه رفعتها وأهلها فيتطلع إلى منابذتهم فى الرفعة فيضر ذلك بدينه ويرهقه من أمره عسرا ( ).
وثالثها المال .
وفيه يروى أن النبى قال " الحسب المال "( ) وقال : إن آحساب الناس بينهم فى هذه الدنيا المال "( ) وقال لفاطمة بنت قيس حين أخبرته أن معاوية خطبها قال " أما معاوية فصعلوك لا مال له "( ).
ويقولون " إن من لا يقدر على مهر امرأة ونفقتها لا يكون كفؤا لها ، لأن المهر عوض بضعها ، والنفقة تندفع بها حاجتها ، وهى إلى ذلك أحوج منها إلى نسب الزوج "( ).
ورابعها : الكسب أو الحرفة
ومردها فى رأيهم إلى العادة ، حتى أن الإمام أحمد كان يرد خبراً يقول " العرب بعضهم لبعض أكفاء إلا حائكا أو حجاما " فينكره ويضعفه ومع ذلك يقول باعتبار الحرفة ، فقيل له : كيف تأخذ به – أى تقول بمقتضاه – وأنت تضعفه ؟ قال : العمل عليه ، يعنى أنه ورد موافقا لأهل العرف( ) .
ويذكر السلف من أمور الكفاءة : الحرية أو عدم الرق ، وهى قضية ليست محل وجود فى عصرنا .
وزاد الشافعية شرطا تكلمنا عليه من قبل وهو التقارب فى السن قال الماوردى إذا اختلفا فى طرفيه فكان أحدهما أول سنه كالغلام والجارية ، والآخر فى غاية سنه كالشيخ والعجوز ففى اعتبار الكفاءة وجهان :
أحدهما : أنه شرط معتبر ، فلا يكون الشيخ كفؤا للطفلة ، ولا العجوز الأنثى – كفؤا للطفل ، لما بينهما من التنافى والتباين ، فإنه مع غايات السن تقل الرغبة ، ويعدم المقصود بالزوجية .
والثانى : أنه غير معتبر … ( ).
ويرى المالكية والشافعية : أن الكفاءة معتبرة فى السلامة من العيوب ويتوسع المالكية فيها توسعا كبيرا ، وللاشتراط مدخل فيها عندهم ( ) وتحقيقا – كما يقول ابن قدامة – فإن " السلامة من العيوب ليست من شروط الكفاءة ، فإنه لا خلاف فى أنه لا يبطل النكاح بعدمها ، ولكنها تثبت الخيار للمرأة دون الأولياء، لأن ضرره مختص بها "( ).
الكفاءة فى الدنيويات اعتبار عرفى .
فى الاعتبارات الدنيوية نجد الفقهاء يلمحون إلى العرف كحاكم فى الأمر محل النظر.
ففى النسب مثلا وجدنا ابن قدامة يقول " ولأن العرب يعدون الكفاءة فى النسب ، ويأنفون من نكاح الموالى ، ويرون ذلك نقصا وعارا ( ) ويقول نحو هذا فى شرط اليسار ( ) وفى الحرفة : وجدنا السرخسى يعلل لقول أبى يوسف قائلا " وكأنه اعتبر العادة فى ذلك " ( ) و الماوردى الشافعى يفرق بين وجوه الكسب – الحرف – بمراعاة الأعراف يقول " وكل واحد فيها يفضل على غيره بحسب اختلاف البلدان والأزمان …. وإنما يراعى فيها العرف
والعادة …( ) .
ويفرق فى التفاخر بالمال أو النسب بحسب المتعارف فى الأوطان، فيقول أهل الأمصار يتفاخرون بالأموال " وأهل البوادى وعشائر القرى يتفاخرون بالأنساب "( ) ويتحصل من ذلك أن مقياس الكفاءة عرفى ، فيقضى فيه حسبما تقضى أعراف المجتمع .
وقت اعتبار الكفاءة
الكفاءة معتبرة حال العقد ، فإن كان الرجل كفئا للمرأة عند العقد ثم تغيرت حاله بعده فليس لها ولا لأوليائها حق الاعتراض " لأن النكاح قد تقرر فلا يفسخ بهذه الأمور العارضة ، ولا عار فى بقاء المرأة مع زوجها وإن تغيرت حاله ، بل هو الصبر والرضى بحكم القدر ، وهما أمران محمودان " ( ) .
الجانب الذى تعتبر فيه الكفاءة
ينص الفقهاء على أن الكفاءة معتبرة فى الرجل دون المرأة ، فالشرط أن يكون الرجل كفئا للمرأة ، ولا يلزم أن تكون المرأة كفؤا للرجل ، وعلة ذلك أن المرأة تعير بضعة زوجها ، وتشرف بشرفه ، ولا يسهل عليها الخلاص منه فالطلاق بيده وحاجتها من المهر والنفقة إليه ، وهذا بخلافه فهو الأسبق بالاختيار عادة ، ويملك طلاقها ولا يناله منها ضرر( ) ، وفى الحديث الصحيح " من كانت عنده جارية فعلمها وأحسن تعليمها ، وأحسن إليها ثم اعتقها وتزوجها فله أجران " ( ) .
واستثناء من هذه القاعدة اعتبر الأحناف الكفاءة فى جانب المرأة فى حالتين ( ) :
1- إذا زوج غير الأب والجد صغيرا بمن لا تكافئه ، فإن الزواج لا يصح رعاية لحق الصغير ، وهو فرض مستبعد بعد أن رجحنا اعتبار البلوغ فى الزواج .
2- إذا زوج الوكيل موكله بامرأة لا تكافئه ففى هذه الحالة لا ينفذ العقد استحسانا ، لأن المعروف عرفا كالمشروط شرطا ، والغالب فى العرف أن يحرص الراغب على الزواج بمن تكافئه .
صاحب الحق فى الكفاءة
الذى عليه الجمهور أن الكفاءة حق للمرأة ولوليها العاصب ،( ) ويثبت هذا الحق لكل منهما على حدة ، بحيث لو أسقطه أحدهما لم يسقط حق الآخر فمثلا إذا زوجت المرأة نفسها – وفق مذهب أبى حنيفة – بغير كفء ، ولم تشترط الكفاءة ، أو علمت أنه دونها فى المنزلة ورضيت ، سقط حقها فى الاعتراض ، ولم يسقط حق وليها ، وكذلك إذا زوجها وليها بغير كفء سقط حق الولى فى الاعتراض وبقى حقها هى ، ما لم يشترط الولى الكفاءة ، أو أخبرهم بها وقت العقد فزوجوها على ذلك ثم ظهر أنه غير كفؤ ( ). والأمر هين إن كان للمرأة ولى واحد ، ولكن إن تعدد الولاة وكانوا على درجة واحدة كالأخوة مثلا أو الأعمام فهل يكفى رضاء البعض أم لابد من رضاء الجميع ؟ ( ).
جمهور العلماء يقولون برضاء الجميع ، فلو رضوا به إلا واحدا كان للواحد حق الاعتراض لما يلحقه من عاره .
ويرى الحنفية أن رضاء أحدهم يكفى لأن اشتراط الكفاءة حق لا يتجزأ ، وعلى رأى أبى حنيفة يجرى العمل فى القضاء المصرى .
أثر تخلف الكفاءة :
للفقهاء فى أثر تخلف الكفاءة رأيان ( )
أولهما : يقول ببطلان العقد من أصله ، لأن النكاح عقد لا يقع موقوفا على الإجازة فإذا لم ينعقد لازما كان باطلا . وهذه إحدى الروايتين عن أحمد ، وقول بعض الشافعية.
والثانى : يقول إنه يقع صحيحا موقوفا على إجازة صاحب الحق ، وهذا قول الحنيفة والمالكية وأصح الروايتين عن أحمد وبعض الشافعية والزيدية وغيرهم .
وثمة اتجاه ثالث حمل عليه الماوردى اختلاف النقل عن الشافعى فى هذه المسألة ، قال " والذى يقتضيه نصه – أى نص الشافعى – فى هذا الموضع من بطلان النكاح هو إذا كان الولى العاقد عالما بأن الزوج غير كفء قبل العقد ، والذى يقتضيه نصه فى الإملاء من جواز النكاح وثبوت الفسخ فيه لباقى الأولياء هو إذا لم يعلم الولى بذلك إلا بعد العقد ، وهذا أصح المذهبين وأولى الطريقين ، لأنه مع العلم مخالف ، ومع التدليس مغرور"( ).
وكأنه اعتبر تخلف الكفاءة من قبيل العيوب ، فكما لا يمنع العيب انعقاد العقد وصحته ويعطى للطرف المضرور حق الخلاص فكذلك الكفاءة.
وهذا فى رأيى أرجح الأقوال لأن خطر النكاح ، والنهى عن تأقيته لا يسوغ تقبل فكرة العقد الموقوف فيه.
سقوط الحق فى الاعتراض على الزوج
يسقط الحق فى طلب الفسخ لعدم الكفاءة بحصول الرضا بالزوج وللرأى فى تقديره مجال ، وفى المذهب الحنفى – وهو ما يجرى عليه العمل فى مصر والدول العربية – يسقط طلب الفسخ متى حملت الزوجة أو ولدت رعاية لحق الولد ، وهو أقوى من حق الأولياء( ).
وفى التقنينات المعاصرة
يجرى العمل غالبا على مذهب الإمام أبى حنيفة إلا بعض تفردات فى هذا القانون أو ذلك ، ومن ذلك مثلا :
1- أن القانونين الأردنى والمغربى اعتبرا التناسب فى السن بين الزوجين، وإن كان الأول قد حده بأكثر من عشرين عاما فى الخاطب بينما أوكله الأخير إلى العرف " م 7 أردنى ، فصل 15 مغربى ".
2- تفرد القانون السودانى باعتبار الكفاءة فى الدين والخلق ( م21) ويعاب عليه أنه اعتبر الكفاءة من شروط صحة الركن "الزوجان"(م 13/د)، وفى التطبيق اعتبرها شرط لزوم الزواج (م 24).
3- تفرد القانون اللبنانى بالنص على اعتبار الكفاءة فى المال والحرفة وأمثال ذلك ( م 45) بينما أوكلت التقنينات الأخرى أمور الكفاءة إلى العرف.
وفيما عدا ذلك تجرى التقنينات على نمط واحد تقريبا أساسه مذهب الحنفية ، ومعلوم أنه المعمول به فى مصر.
الفصـــــــل الثانى
شروط الـــزواج
تمهيد
الشروط : جمع شرط ، وهو ما يتوقف عليه وجود الشئ ولا يكون جزاءاً من حقيقته ، فهو عبارة عن أمر معتبر للانعقاد أو الصحة أو اللزوم أو النفاذ.. وعلى ذلك تنقسم شروط العقود ، ومن بينها عقد الزواج إلى أربعة أنواع:
شروط انعقاد : وهى التى يلزم توافرها فى أركان العقد ، بحيث يترتب على فواتها البطلان بالاتفاق .
وشروط الصحة : وهى التى يلزم توافرها لترتب الأثر الشرعى على العقد ، ويترتب على فواتها فساد العقد عند الأحناف وبطلانه عند الجمهور .
وشروط النفاذ : وهى التى تلزم لتنفيذ العقد بعد انعقاده وصحته ، ويترتب على فواتها أن يكون العقد موقوفا .
وشروط اللزوم : وهى التى يترتب عليها استمرار العقد وبقاؤه ، ويترتب على فواتها أن يكون العقد جائزا أو غير لازم ، مما يتيح لكل من طرفيه أو لغيرهما فسخه .
ما تقدم من الشروط :
فى كلامنا عن الصيغة والزوجين عرضنا لجملة من الشروط منها ما يندرج تحت شروط الانعقاد كشروط الإيجاب والقبول ، وكون العقد بين مختلفى الجنس يقينا ، وكون الأنثى حل للرجل أو غير محرمة عليه تحريما قاطعا لا شبهة فيه .
ومنها ما يندرج تحت شروط الصحة ككون الأنثى غير محرمة على الرجل تحريما مؤقتا ، أو تحريما فيه شبهة أو خلاف بين الفقهاء ، وعلى ما رجحنا يلزم أن يكون الزوجان أهلا للزواج من حيث السن والسلامة العقلية ، وأن يكونا طائعين.
ومنها أن تكون صيغة العقد مؤبدة ، وأن يكون الزواج على ما رجحنا مقصوداً ،
ومن شروط اللزوم : أن يكون الرجل كفئا للمرأة على قول جمهور الفقهاء وأن يكون الزوج خلوا من العيوب التى لا ترضى الزوجة بالمقام معها حتى يكون العقد لازما .
وقد تكلمنا فى الفصل السابق عن الكفاءة ، وسنتناول التفريق بالعيب فى الكتاب الثانى .
وجدير بالذكر أن العلماء يعتبرون من شروط اللزوم أن يكون المزوج لناقص الأهلية أو عديمها الأب فقط ، أو الأب والجد على بعض الآراء أو الأب أو وصية على رأى الإمام مالك ، فإن كان غير من ذكرنا وقع العقد غير لازم للقاصر، حتى يكون له الخيار متى بلغ أو أفاق ، كما يكون غير لازم وإن كان الولى الأولى معروفا بسوء الاختيار .
ومن جانبنا فقد أهملنا هذا الشرط لأننا اشترطنا الطوع والإذن من جانب الزوجين ، ولا إذن ما لم يكن الزوجان بالغين عاقلين مختارين ، مما ينفى وجود ولاية الإجبار فى الزواج .
ما بقى من شروط الزواج
بقى من شروط الزواج شرطان :
أولهما : شرط أن يكون العاقد أهلا لمباشرة العقد .
والثانى شرط يتناسب وشكلية الزواج وهو شرط الإشهاد عليه .
وهما ما نعنى بمعالجته هنا .
المبحث الأول
أهلية العاقد فى الزواج
تذكرة :
عرفت فى نظرية العقد أن الأهلية تعنى لغة : الصلاحية ، وتطلق فى اصطلاح الفقهاء على معنيين :
أحدهما : صلاحية الإنسان لوجوب الحقوق المشروعة له أو عليه ، وتسمى أهلية الوجوب .
والثانى : صلاحية الإنسان لصدور الفعل منه على وجه يعتد به شرعا وتسمى أهلية الأداء .
وتنقسم هذه الأخيرة إلى أهلية أداء كاملة ، وأهلية أداء ناقصة ، فالكاملة تعنى : الصلاحية لإصدار كل التصرفات دون توقف على إجازة من أحد . والناقصة تعنى : الصلاحية لإصدار بعض التصرفات دون البعض ( ) وتتوقف أهلية الأداء الكاملة على العقل والبلوغ والرشد ، فمن بلغ عاقلا غير محجور عليه لسفه صحت كل تصرفاته فى حق نفسه ، وفى حق غيره إن كانت له عليه ولاية أو نيابة .
ولكن هل كل شخص ذكرا كان أو أنثى أهل لعقد الزواج ؟
الجواب على هذا السؤال هو موضوع مبحثنا .
1- تميز عقد الزواج عن غيره من العقود ، يتميز عقد الزواج عن غيره من العقود الأخرى بأنه عقد أبدان ففيه يرتبط بدن ببدن ، وأنه عقد عمرى يبطله التأقيت كما رأينا ، وموضوعه وإن كان حل استمتاع ذكر بأنثى إلا أنه يوجد قرابات وصلات اجتماعية تتعدى دائرة الزوجين ، ومن ثمراته النسل الذى بقوته يقوى المجتمع ، وبضعفه يضعف ، ولهذه الأخطار والآثار خصه الله بوصف لم يخلعه على غيره ، وهو كونه " ميثاقا غليظا " . ومن المنطقى والزواج كما نرى أن يخص عقده بما لا يلزم فى غيره ، وأن تراعى فى عاقديه شروطا لا تعتبر فى غيره ، وقد برز فى هذا العقد شرطان ، أحدهما : أن يكون العاقد ذكرا، والثانى أن يشهد على العقد ، وسيأتى كلامنا عن الثانى فى المبحث التالى .
2- أن يكون العاقد ذكرا
على خلاف كافة العقود الأخرى التى يعقدها الشخص لنفسه يشير ظاهر القرآن الكريم ونصوص صريحة من السنة المشرفة إلى شرط أن يكون العاقد فى الزواج ذكرا ، ولما كان الزواج رباطا بين مختلفى الجنس فمضمون هذا الشرط يعنى ألا تتولى المرأة – خاصة – تزويج نفسها ، بل يباشر عنها الأهل لذلك من الذكور وقد ظن بعض الناس أن هذا افتيات على المرأة ، وانتقاص لأهليتها وحرمان لها من مباشرة أمر يتعلق بشخصها ، مما حدا بهم أن يصفو حضارة الإسلام بأنها حضارة ذكورية لا مكان للنساء فيها وهذا زعم معروف لا يحتاج إلى تذكرة .
ولكن الذى يستحق وقفة تأمل وتفنيد هو ذلك الخلط المتعمد لأوراق قضية " ذكورية العاقد فى الزواج " وطرحها وكأنها نتاج فكرى لعصر الحجاب الذى ابتدأ كما يقولون بعد الفتوحات الإسلامية وانتشار النعم ، حيث " غلب على الناس حب الشهوات فتراخت عرى الأخلاق وتحرر اللاهون من قيود العفة والطهارة ، وهنا خشى الآباء والأولياء على النساء من الفتنة التى أخذت تشيع بعد غزو الإماء والجوارى المجتمع الإسلامى ، فألزموا الحرائر البيوت ، ومنعوهن من العلم إلا ما كان من تلاوة القرآن ، وما يتعلق بالعبادات ، وفرضوا عليهن الحجاب الكثيف حتى الوجه والكفين ، وهو ما كان يباح كشفهما ، وقرر جمهور الفقهاء ولاية الآباء والأولياء على النساء ولاية إجبار ، أبكارا كن أم ثيبات ، لجهلن حال الرجال ، بعد حجبهن عنهم حجبا كاملا ، فكان على البنت أن ترضخ لاختيار أبيها ، لأنه أدرى بحال الرجال ، وقد حجبت عنهم ، ويدفعه حبه وحرصه على نفعها أن يختار لها الكفء ، وعلى ذلك قرر الشافعى وابن حنبل أنه ليس للمرأة بكرا أم ثيبا أن تنفرد بعقد زواجها دون وليها فهى وهو شريكان فى زواجها ، ويتولى هو صيغة العقد ، ولا يصح نكاحها بغيره أو بدونه.
غير أن الولى لا يستطيع أن يمنع زواج وليته بغير حق ، فيكون عاضلا، والعضل ظلم ، ولا يعتبر الولى عاضلا إلا إذا تحقق منه قصد الإضرار بها ، كما لو أراد تزويجها من رجل غير كفء لها ، أو من كانت له مصلحة فى تزويجها منه ، وهى لا ترغب فيه ، أما إذا كان طالب الزواج كفئا لها فليس لها أن تخرج عن رأى وليها ، وإرادته ، بل عليها أن تذعن له ما دام يرى فيه الكفاءة كما يقررها الشرع " ( ) .
وبعد أن يتكلم الكاتب عن أبى حنيفة كاستثناء على هذا الاستبداد ويلمح إلى أنه لم يحرر المرأة تحريرا كاملا فى أمر الزواج ، حيث قيد لزوم زواجها بأن تختار كفئا ، يعود إلى فكرته الأولى فيقول " على أن الرأى الغالب هو رأى جمهور الفقهاء " المالكى والشافعى وابن حنبل " وهو الذى رسخ فى التقاليد التى شاعت منذ فرض الحجاب على المرأة ، وفرضت عليها العزلة عن الرجال ، إشفاقا عليها من الفتنة " ( ) .
هذا قول أستاذ حقوقى رصين ( ) ، ومع هذا يتضح منه أنه :
1- خلط بين حكمى الرضا بالعقد ومباشرته ، وقد بينا فى الفصل السابق أن رضا المرأة بالزواج شرط لصحة زواجها ، وأن القائلين بولاية الإجبار على البكر البالغ قلة من كثرة ، ومع هذا فإنهم قيدوا هذه الولاية بكثير من القيود ، أهمها أنها مراقبة قضاء .
2- وهذا هو المهم أن رأيهم أدى إليه اجتهادهم فى النصوص من الكتاب والسنة لا الاعتبارات الاجتماعية والسياسية التى ذكرها الكاتب ، خاصة وأن الثلاثة الذين نقلت عنهم ولاية الإجبار " مالك والشافعى وأحمد " هم عمداء مدرسة الأثر ، ولو كانت القضية قضية تقاليد لكان أولى بها أنصار مدرسة الرأى ، وحاضرتهم الكوفة ومن بعدها بغداد عاصمتا الخلافة ، وموطن التحضر والصدام الحضارى .
3- ثم هل من المنطق السوى أن ندع فى قضية الحجاب ظاهر الكتاب وصريح السنة ، إلى عبارات الأدباء والمؤرخين كالجاحظ وابن تغرى بردى وغيرهم فنوهم أن المرأة فى عصور الإسلام الأولى كانت برزة تخالط الرجال ، وتبرز المفاتن ، وتلم بالأحوال ، ثم ضرب عليها الحجاب بعدئذ نزولا على عادات الفرس والترك وغيرهم ( ) ، مع أن الفرس والترك دخلوا الإسلام مغلوبين ، فالمعقول أن تغلبهم قيم الإسلام لا أن يغلبوها .
ومن المفارقات الغريبة أننا بينما نرى إصرار بعض المحسوبين على أهل الإسلام على رد ظاهرة الحجاب إلى مؤثرات خارجية عن الإسلام نجد كاتبة بريطانية – تقول عن نفسها أنها لا تنتسب إلى دين ، علما بأنها كانت يوما مترهبة فى أحد الأديرة المسيحية – ترد ظاهرة الحجاب إلى اقتداء المسلمات بزوجات النبى طلبا للرفعة وتمسكا بالشرف ، تقول " وفى الواقع فلم يقصد بالحجاب الحط من شأن نساء محمد بل كان رمزا على رفعة منزلتهن ….. وفيما يبدو أنه فيما بعد تملكت الغيرة من النساء إزاء منزلة نساء النبى ، وهكذا طالبن بالسماح لهن بارتداء الحجاب أيضا ، فالحضارة الإسلامية حضارة مساواة، ولذا كان من التناقض أن تتميز نساء النبى وتشرفن بذلك الأسلوب ، وهكذا رأت النساء اللاتى ارتدين الحجاب فى البداية فيه رمزا للقوة وحسن الأثر، وليس شارة تدل على اضطهاد الذكور لهن ، وقد أخذت نساء الصليبيين فيما بعد فى ارتداء الحجاب على أمل أن يعلمن ذويهن من الرجال أن يحسنوا معاملتهن حين رأين الاحترام الذى كانت تلقاه النساء المسلمات ( )
4- ومع هذا فلست أزعم أن متأخرى السلف أبرياء من تهمة المغالاة فى حجب النساء ، فقد روى مسلم فى صحيحه عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال : سمعت رسول الله يقول " لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم إليها" فقال له – أى لعبد الله بن عمر – بلال ابنه ، والله لنمنعهن ، فأقبل عليه عبد الله ابن عمر فسبه سبا ما سمعته سبه بمثله قط ، قال أخبرك عن رسول الله ، وتقول: والله لنمنعهن !!!
فقط الذى أريد إبرازه أن لا صلة للولاية فى النكاح بقضية الحجاب ، وإن ظهر أثره فى التبرير العقلى لها – من قبل الفقهاء – فهذا فقط لبيان انسجام الحكم مع الواقع ، لكن أن يكون الواقع هو الذى أدى إلى الحكم ، فهذا ما نرفض أن يكون ديدن المجتهدين خاصة ، فالعهد بهم دائما أنهم لا يقدمون بين يدى الله ورسوله ، وأصول اجتهادهم الثابتة تقرر هذا ، وآخرهم الإمام أحمد بن حنبل شديد الاتباع نفور من الابتداع ، وكثيرا ما تتعدد أقواله فى المسألة بتعدد الآثار فيها.
خلاصة القول أن شرط ذكورية العاقد فى النكاح ليس محدثا فى الإسلام، ولكنه ثابت بالكتاب والسنة ولم يعلم عن الصحابة فيه مخالف ، وانظر ما يلى.
اشتراط ذكورية العاقد فى النكاح عند الفقهاء:
يبرز الحديث عن شرط الذكورة فى مباحث الفقهاء الولاية فى النكاح ، وفيما خلا الرافضين لزواج الصغار فإن جمهرة أهل الفقه يسلمون بثبوت الولاية على الصغار ومن فى حكمهم من المأفوفين عقليا ، أما البالغون العقلاء فالذكور منهم لا ولاية عليهم إلا أن يكونوا سفهاء فى رأى البعض ، والأكثرية على نفيها.
وأما النساء فإما أن يكن أبكاراً أو ثيبات . بالغات عاقلات ، وفيهن وقع الخلاف الفقهى ، هل تنفرد المرأة بالعقد على نفسها أم يعقد عنها وليها ؟
قال الماوردى " الفقهاء فيه على ستة مذاهب :-
مذهب الشافعى :
أن الولى شرط فى نكاحها ، لا يصح العقد إلا به ، وليس لها أن تنفرد بالعقد على نفسها وإن أذن لها ، سواء كانت صغيرة أو كبيرة ، شريفة أو دنيئة ، بكرًا أو ثيبا ، وبه قال من الصحابة : عمر وعلى وابن عباس وابن عمر وعائشة، ومن التابعين : الحسن وابن المسيب ، وعمر بن عبد العزيز ، وشريح والنخعى ، ومن الفقهاء: الأوزاعى والثورى ، وابن أبى ليلى وأحمد واسحاق .
وقال أبو حنيفة : إن لم يكن عليها فى مالها ولاية لبلوغها وعقلها ، لم يكن عليها فى نكاحها ولاية ، وجاز أن تنفرد بالعقد على نفسها ، وترده إلى من شاءت من رجل أو امرأة .
وقال مالك : إن كانت ذات شرف أو جمال أو مال يرغب الناس فى مثلها لم يصح نكاحها إلا بولى ، وإن كانت دنيئة صح نكاحها بغير ولى .
وقال داود الظاهرى : إن كانت بكرا لم يصح نكاحها إلا بولى وإن كانت ثيبا صح بغير ولى .
وقال أبو ثور : إن أذن لها وليها جاز أن تعقد على نفسها وإن لم يأذن لها لم يجز .
وقال أبو يوسف : تأذن لمن شاءت من الرجال فى تزويجها دون النساء، ويكون موقوفا على إجازة وليها( ).
ويمكن جمع هذه المذاهب فى ثلاثة اتجاهات :
الاتجاه الأول : ويشترط الذكورة فى العقد ( ).
الاتجاه الثانى : لا يشترط الذكورة فى العقد .
الاتجاه الثالث : يفرق بين عقد البكر وعقد الثيب فيشترط الذكورة فى الأول دون الثانى .
الأدلة :
أولا : متمسك القائلين بصحة عقد المرأة لنفسها أدلة من الكتاب والسنة والمعقول .
1- أما الكتاب فقوله تعالى " فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره"( ) والاستدلال به من وجهين :
أحدهما : أنه أضاف النكاح إليها ، فيقتضى تصور النكاح منها .
الثانى : أنه جعل نكاح المرأة غاية الحرمة ، فيقتضى انتهاء الحرمة عند نكاحها نفسها( ).
وقوله عز وجل " فلا جناح عليهما أن يتراجعا " ( ) قالوا : أى يتنكاحا، فأضاف النكاح إليهما من غير ذكر الولى ( ).
وقوله سبحانه " فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن " ( ) والاستدلال به من وجهين :
أحدهما : أنه أضاف النكاح إليهن فيدل على جواز النكاح بعبارتهن من غير شرط الولى .
والثانى : أنه نهى الأولياء عن المنع عن نكاحهن أنفسهن من أزواجهن إذا تراضى الزوجان ، والنهى يقتضى تصور المنهى عنه ( ).
2- وأما السنة : فما روى عن النبى أنه قال " ليس للولى مع الثيب أمر" ( ) وهذا قطع ولاية الولى عنها .
وما روى أنه قال " الأيم أحق بنفسها من وليها " والأيم اسم لامرأة لا زوج لها ، أى أن الحقية ثابتة لكل امرأة لا زوج لها .
3- وأما المعقول : أن الولاية على الحر – غير الرقيق – استثنائية تثبت بطريق الضرورة ، والضرورة تحصل بالعجز عن التصرف وهذا العجز كائن مع فقد العقل والصغر ، فإذا زالا بالعقل والبلوغ زالت الضرورة وانتفت النيابة.
ولأن الولاية منتفية عن البالغ العاقل فى مالها فتنتفى عن نفسها بطريق الأولى( ).
ثانيا : ومتمسك القائلين بالتفرقة بين البكر والثيب :
قول النبى " ليس للولى مع الثيب أمر " فنفى الولاية عن الثيب وبقيت على البكر .
ولأن الثيب قد خبرت الرجال فاكتفت بخبرتها عن اختيار وليها ، والبكر لم تختبر فافتقرت إلى اختيار وليها ( ).
ثالثا : ومتمسك الجمهور على شرط الذكورة . أدلة كثيرة نذكر منها :
1- أن خطابات القرآن الكريم فى النكاح والإنكاح متعلقة بالذكور ، قال تعالى " وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وامائكم " ( ) فجمع فى ولاية النكاح ثلاثا : الأيامى اللاتى لا زوج لهن ، والعبيد والإماء ، وذكر العبيد ينفى أن يكون المقصود تزوجوا ، فلا بد وأن يكون المقصود زوجوا وهو خطاب للذكور كما هو واضح( ).
وقال سبحانه " ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا " ( ) أى لا تزوجوا المسلمة من المشرك ( ). وقال " فانكحوهن بإذن أهلهن " ( ) فجعل إذن الأولياء شرطا فى نكاحهن ، فدل على بطلانه لعدمه ( ) وقال حكاية عن شعيب فى قصة موسى عليهما السلام " إنى أريد أن أنكحك إحدى ابنتى هاتين " ( ) ولو لم يكن الإنكاح إليه ما صح قوله ( ).
وقال سبحانه " فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن " ( ) فنهى عن العضل لما فيه من إساءة استعمال الحق ، ويؤيد ذلك سبب نزول الآية فى معقل ابن يسار وأخته ، وقد بيناه من قبل ، والنهى عن استعمال الحق يثبت ضمنا ثبوت الحق ، وهو الولاية " إذ لو جاز لهن التفرد بالعقد لما أثر عضل الأولياء ولما توجه إليهم نهى "( ).
ومن السنة أحاديث كثيرة : قال الشوكانى " قد سردها الحاكم من طريق ثلاثين صحابيا ، وفيها التصريح بالنفى" ( ) وقال ابن حزم أثبتت شرعا زائداً على معهود الأصل ، لأن الأصل – بلا شك – أن تنكح المرأة من شاءت بغير ولى ، فالشرع الزائد هو الذى لا يجوز تركه ، لأنه شريعة واردة من الله تعالى ، كالصلاة بعد أن لم تكن ، والزكاة بعد أن لم تكن ، ولا فرق "( ).
وأشهر هذه الأحاديث قوله " لا نكاح إلا بولى " ( ) فأفاد انتفاء النكاح الشرعى بانتفاء الولى ، وما أفاد هذا المفاد اقتضى أن ذلك شرط لصحة النكاح ، لأن الشرط ما يلزم من عدمه عدم المشروط "( ).
وهذا يعنى أن قوله " لا نكاح " نفى للصحة لا للكمال ، يؤكد ذلك قول النبى " أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل – ثلاث مرات " ( ) وقوله " إن المرأة لا تزوج المرأة ، ولا تزوج المرأة نفسها "( ).
ومقتضى هذا كله : أن الولى شرط من شروط النكاح التى لا يصح إلا بها، وإلا فولاية ذلك إلى السلطان.
3- وحكى عن ابن المنذر أنه قال : لا يعرف عن أحد من الصحابة خلاف فى اعتبار الولى . ( )
4- وقال ابن قدامة " والعلة فى منعها صيانتها من مباشرة ما يشعر بوقاحتها ورعونتها ، وميلها إلى الرجال ، وذلك ينافى حال أهل الصيانة والمرؤة.( )
تحقيق :
هذه أدلة الفقهاء كل على ما يرى ، ويظهر من مجموعها أن :
1- أن التمسك بالإسناد فى ظاهر القرآن الكريم يؤيد القائلين بالاشتراط ولا يؤيد غيرهم .
لأن قوله تعالى " حتى تنكح زوجا غيره " مراده الدخول والوطء لا العقد ، وقد مر بنا أن الحنفية كغيرهم أن المطلقة لا تحل لمطلقها إلا أن يدخل بها الثانى ( )، وأمر الوطء إلى الزوجة لا الولى لا شك فيها ، فتكون الآية بعيدة عن حكم مباشرة العقد( ).
وقوله " فلا جناح عليهما أن يتراجعا " أظهر فى الرضا لا فى مباشرة العقد ، بدليل قوله بعدها " إن ظنا أن يقيما حدود الله " ( ) والظن أمر نفسى من أعمال القلوب ( ).
وقوله " فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن " نهى عن منعهن من الزواج والتضييق عليهن فى شأنه ، وقد نهى الله الأولياء عن ذلك ولو لم يكن لهن فى ذلك مدخل لكان النهى لغوا ، لتوجه الخطاب إلى غير مالكى الأمر .
2- وكذلك التمسك بالسنة يفيد الجمهور ولا يفيد غيرهم ، إذ مع الجمهور يمكن إعمال كل الأدلة ، بحمل بعضها على رضا المرأة وإذنها والبعض الآخر على ولاية الذكر القريب العقد .
ولهذا لم يجد الأحناف مفراً من تضعيف الأحاديث التى يتمسك بها الجمهور ، بطرائق غير مقبولة عند أهل العلم بالحديث ( ) وربما لتحرجهم من ردها كلية حملوها على الندب والاستحباب ( ) وقالوا " يطالب الولى بالتزويج كيلا تنسب إلى الوقاحة " ( ) وتناقضوا كما يقول ابن حزم ( ) حين أجازوا للولى طلب الفسخ إن زوجت نفسها من غير كفء ، ولو كان حقا خالصا لها – كما قالوا – للزم ولم يتوقف على إجازة أحد .
والحقيقة أن أقوى ما يستدل به الحنفية هو المعقول ، من قولهم " إنها تصرفت فى خالص حقها وهى من أهله لكونها عاقلة مميزة ، ولهذا كان لها التصرف فى المال ولها اختيار الأزواج " ( ) وهى حجة قوية تتفق والأصل فى المسئولية ، ولكنها مع ذلك تبقى اجتهادا فى مقابلة النص الثابت عن النبى ، ولا اجتهاد مع النص .
وحاصل المروى عن النبى
أنه لا ينفذ على المرأة أمر وليها بغير إذنها ولا تنكح إلا من شاءت ، فإذا أرادت النكاح لم يجزلها إلا بمباشرة وليها ، فإن أبى أنكحها السلطان على رغم أنف الولى الآبى .
هذا هو الحق ، ولا ينبغى أن يكون – كما يقول أستاذنا الدكتور يوسف قاسم – محلا لخلاف ( ) .
ثم إن الغرض منه تشريف المرأة وتكريمها ، ودفع مغبة الاندفاع عنها ، وإعانتها على نيل حقوقها التى قد يحرمها حياؤها من النص عليها فى العقد ، أو يغلبها فتسقطها ، ومشاركة الأولياء لها فى تحمل مسئوليات الزواج ، والمحاماة عنها إن خاب الظن بالزواج ، فتعتز بهم فى العشرة ، وتحتمى بهم عند الضرر.
وقد أثبتت التجربة صحة قول الجمهور ، فأبعد الزيجات عن الفشل تلك التى تتم برضا الولى وأذنه ، " ويندر أو يبعد – عندئذ – أن تتولى هى صيغة العقد " ( ) وأكثرها انهيارا ما كانت المرأة فيه مراغمة لأوليائها بتزويجها نفسها دون إذنهم ورضاهم .
ولو لم يكن من آثار مذهب الحنفية فى ولاية النكاح إلا الإسهام فى بدعة ما سمى بالزواج العرفى لكانت هذه الإسهامة كافية فى الصد عنه ، فقد نال من أمن مجتمعنا ، واستقرار الأسر وأفقد الشباب الثقة فى البنات ، وقد يحفز – إن استمر – الآباء عن التوقف عن تعليم البنات ، أو على الأقل استكمالهن تعليمهن .
والتقنينات المعاصرة
تمضى فى الغالب على مذهب الحنفية ، فلا تشترط مباشرة الولى عقد النكاح ، وتكتفى فقط بموافقته على خلاف بينها للإذن بزواج المراهقة ( ) ولزومه ( ) فيمن بلغت سن الزواج القانونى .
وشذ عن ذلك – فيما طالعت – قانونان : -
أولهما : القانون المغربى
والذى ينص فى الفصل الثانى عشر منه على الآتى :
2- لا تباشر المراة العقد ، ولكن تفوض لوليها أن يعقد عليها .
3- توكل المرأة الوصى ذكرا تعتمده لمباشرة العقد على من هى تحت وصايتها
وثانيهما : القانون السودانى
ويشترط فى المادة 25 منه لصحة عقد الزواج …. ح – الولى بشروطه طبقا لأحكام هذا القانون .
وشرط الولى فى القانونين أن يكون ذكرا عاقلا بالغا مسلما إذا كانت الولاية على مسلم ( ) .
ولكنهما يختلفان فى ترتيب الأولياء ، فالقانون السودانى يأخذ بترتيب الإرث . أما القانون المغربى فيرتب الأولياء على النحو الآتى " الابن ثم الأب ، أو وصيه ، ثم الأخ ، فابن الأخ ، فالجد فالأقربون بعد بالترتيب – ويقدم الشقيق على غيره – فالكافل ، فالقاضى ، فولاية عامة للمسلمين " .
ومصدر القانون المغربى فى الترتيب مذهب مالك ( ) ، أما القانون السودانى فمصدره مذهب مذهب أبى حنيفة ( ) ، والفرق بينهما من وجوه :
أولها : أن مالك ينزل وصى الأب فى الزواج منزلة الأب وليس كذلك أبو حنيفة.
والثانى : أن مالك يقدم الأخ فابنه على الجد ، وأبو حنيفة يقدم الجد عليهما .
والثالث : أن مالك يجعل الولاية فى حالة عدم العصبات إلى الكافل ثم القاضى " أما أبو حنيفة فيجعلها بعد العصبات إلى ذوى الأرحام فإن عدموا فالولاية للقاضى ( ) .
ومعلوم إننا فى مصر نأخذ بمذهب الإمام أبى حنيفة وقوامه أن الولى ليس شرطا لصحة نكاح الحر والحرة العاقلين البالغين ، بل ينفذ نكاحهما بلا ولى( ) .
وقد اقتضى إعمال هذا الحكم الخروج على القاعدة العامة فى أهلية التصرفات الدائرة بين النفع والضرر المقررة بالمادة 111/2 مدنى متى كان العاقل البالغ دون سن الرشد ، ومعنى هذا أن المقنن المصرى لا يرى الزواج فى منزلة التصرفات المالية الدائرة بين النفع والضرر ، بل اللافت للنظر أنه أحرص على أموال القصر أكثر من حرصه على نفوسهن ( ) فهو يقيد فى قانون الولاية على المال 119/1952 زواج القاصر الذى له مال بإذن المحكمة ، فإن أذنت المحكمة فى زواجه كان ذلك إذنا له فى المهر والنفقة ما لم تأمر المحكمة بغير ذلك عند الإذن أو فى قرار لاحق ( م 60 ) .
ويقيد فى لائحة المأذونين " مباشرة عقد زواج اليتيمات القاصرات اللاتى لهن معاش أو مرتب فى الحكومة ، أو لهن مال يزيد قيمته على مائتى جنيه بصدور تصريح من محكمة الأحوال الشخصية المختصة " ( م 33/ ا )
هل للعاقد عن المرأة أن يزوجها من نفسه ؟
ولى المرأة قد يكون ذا رحم محرم منها كأبيها أو جدها أو عمها وقد يكون حلا لها كابن عمها مثلا ، فإن كان الأخير وافترضنا أنها فوضت إليه أمر تزويجها بمن يشاء فزوجها من نفسه ، فهل يصح هذا ؟
الظاهر من كلام الفقهاء أن الولى لا يزوج موليته من نفسه إلا بإذن خاص ، " لأن إطلاق الإذن يقتضى تزويجها من غيره " ( ) وخالف فى ذلك بعض الحنابلة فقالوا " وأما من ولايته بالشرع كالولى والحاكم وأمينه فله أن يزوج نفسه " ( ) أى بمطلق الإذن . ولعل القائلين بالمنع احتاطوا لدفع التهمة ، جاء فى عبارة الماوردى " ولأن الولى مندوب لطلب الحظ فى التماس من هو أكفأ وأغنى ، فإذا صار زوجها انصرف نظره إلى حظ نفسه دونها ، فعدم فى عقده معنى الولاية فصار ممنوعا منه " ( ) .
فإن أذنت له فى أن يزوجها من نفسه فهل يتولى طرفى العقد ؟
جمهور العلماء يقولون بجواز ذلك ( ) لما روى البخارى قال : قال عبد الرحمن بن عوف لأم حكيم ابنة قارظ : أتجعلين أمرك إلى ؟ قالت : نعم ، قال قد تزوجتك"( ) ولأنه عقد وجد فيه الإيجاب من ولى ثابت الولاية والقبول من زوج هو أهل للقبول فصح ، كما لو وجدا من رجلين ، وقد روى أن النبى أنه أعتق صفية وجعل عتقها صداقها ( ) .
وقال الشافعى والإمام أحمد – فى رواية – وهو قول بعض المالكية وزفر بن الهذيل من الحنفية ( ) لا يتولى طرفى العقد " لأن الولى مندوب لطلب الحظ لها فى التماس من هو أكفأ وأغنى ، فإذا صار زوجا انصرف نظره إلى حظ نفسه دونها فعدم فى عقده معنى الولاية فصار ممنوعا " .
غير أن الإمام أحمد أجاز له أن يوكل عنه رجلا يزوجه إياها بإذنها لماروى أن المغيرة بن شعبة " أمر رجلا زوجه امرأة كان المغيرة أولى بها منه"( ) .
أما الشافعى فقال إن لم يكن لها ولى آخر فى درجته زوجه الحاكم ولا يصح التوكيل لأن وكيله بمنزلته ( ).
وفى رأيى : أن الاحتياط للمرأة بنصب ولى آخر أو رفع الأمر إلى الحاكم يبدو وجيها ليراعى حظها فى التماس المصلحة لها ، لأن المرأة خاصة البكر قد تتحرج من الولى فتفرط فيما ينبغى لها الحرص عليه ، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة مرتين فى سورة النساء قال تعالى " فإن خفتم ألا تقسطوا فى اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء " ( ) وقال " ويستفتونك فى النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم فى الكتاب فى يتامى النساء اللاتى لا تؤتوهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن " ( ) وقد روى الأئمة عن عائشة قالت : "هى اليتيمة تكون فى حجر وليها ، تشاركه فى ماله ، فيعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها من غير أن يقسط فى صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره ، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ، ويبلغوا بهن أعلى سنتهن من الصداق " ( )
وإذا كان أهل الفضل والورع من الصحابة قد راعوا حرمات الله فى هذا الباب ، فلسنا مثلهم فى ذلك .
وإن كان الولى هو الحاكم قال الشافعية يزوجه من هو فوقه من الولاة( ) وقال الأحناف " ليس للقاضى تزويج الصغيرة من نفسه ولا من لا تقبل شهادته له " كأصوله وإن علوا وفروعه وإن سفلوا ، لأن فعله حكم ، وليس له أن يحكم لنفسه ، لأنه فى حق نفسه رعية " ( ) ويزوج الكبيرة بإذنها من نفسه ( ) ، وقد راعت بعض التقنينات النص على زواج المولى عليها ولكنها خصت ذلك بالقاضى دون غيره من الولاة ، فنصت على أنه " ليس للقاضى أن يتولى بنفسه تزويج من له الولاية عليه من نفسه ولا من أصوله ولا من فروعه " ( ) .
وتفرد القانون السورى بالنص على تزويج الموكل موكلته من نفسه فنص على أن " ليس للوكيل أن يزوج موكلته من نفسه إلا إذا نص على ذلك فى الوكالة " ( ) .
وهو حكم يسرى على زواج الكبيرة عامة لأنها تملك – وفقا للمذهب الحنفى – تزويج نفسها فيكون أولياؤها بمنزلة الوكلاء، ليس لأحدهم أن يزوجها من نفسه إلا بالنص .
المبحث الثانى
الإشهاد على الزواج
أولا : الأدلة على الإشهاد
لا يختلف الفقه أن حقوق الأموال أخفض من حقوق الأبدان ، وقد أمر الله أو ندب على اختلاف آراء العلماء ( ) بالإشهاد فى المعاملات المالية ، قال سبحانه " وأشهدوا إذا تبايعتم " ( ) " لمصلحة حفظ الأموال والأديان " ( ) بمراعاة صلاح ذات البين ، ونفى التنازع المؤدى إلى فساد ذات البين ، لئلا يسول له الشيطان جحود الحق وتجاوز ما حد له الشرع ، أو ترك الاقتصار على المقدار المستحق"( ) وهذا وحده كاف فى اعتبار الشهادة فى الزواج لأنه أولى لما يتعلق به من الحل والحرمة والحد والنسب ، فإذا أمر – أو ندب – إلى الاحتياط فى الأقل فالاحتياط فيما هو أعلى أوجب أو أكثر استحبابا.
وهذا ما نجده فى أمر الله بالإشهاد على فرع الزواج كالطلاق والرجعة قال تعالى " فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوى عدل منكم وأقيموا الشهادة لله "( ) قال ابن العربى " وهذا ظاهر فى الوجوب بمطلق الأمر عند الفقهاء ، وبه قال أحمد بن حنبل فى أحد قوليه والشافعى " ( ) وما وجب فى الفرع كان فى الأصل أوجب .
وقد جاءت السنة المشرفة بالصريح الذى يشهد لدليل الخطاب القرآنى، ويدفع عنه الاحتمال ، ففى الحديث الصحيح أن النبى قال " لا نكاح إلا بولى وشاهدى عدل ".
وهذا الحديث وإن كان فى آحاد طرقه ضعف لكن مجموعها وماله من شواهد يرتقى بها درجة الصحة ( ).
وفيما روى الترمذى عن ابن عباس أن النبى قال " البغايا اللاتى ينكحن أنفسهن بغير بينة " وراويه ثقة ( ).
قال الشوكانى " وظاهر الأحاديث المقتضية للنفى أن الإشهاد شرط للنكاح لا يصح بدونه ، لأن النفى حقيقة يتوجه إلى الذات الشرعية، فيفيد ارتفاعها بارتفاعه ، وذلك معنى الشرط، وعلى فرض وجود قرينة تدل تمنع من اعتبار المعنى الحقيقى فنفى الصحة أقرب المجازين إلى الذات ، وذلك يفيد الشرطية أيضا ، قال الترمذى : والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبى ومن بعدهم من التابعين وغيرهم ، قالوا : لا نكاح إلا بشهود ، لم يختلفوا فى ذلك إلا قوم من المتأخرين من أهل العلم " ( ).
ثانيا : حكم الإشهاد على الزواج عند الفقهاء
أشار الترمذى فى كلامه إلى أن الإشهاد لم يخالف فيه إلا قوم من المتأخرين من أهل العلم .
والمخالفون فريقان :-
فريق نفى الإشهاد كلية فلم يستلزمه أو يستلزم له بدلا ، وهؤلاء هم الشيعة الجعفرية ، تمسكا بخلو القرآن الكريم عن النص صراحة على الإشهاد فى الزواج بيد أنه نص على الإشهاد فى البيوع والديون( ).
وهذه وجهة خاطئة لأن اعتبار الشهادة فى الأدنى يسوغ اعتبارها فى الأعلى من باب أولى ، وكما قلنا فإن حقوق الأموال أخفض من حقوق الأبدان ، والنكاح عقد أبدان ( ).
والفريق الثانى : لا يرى الشهادة شرطا محتما فى الزواج ، وإنما يراها وسيلة إلى الإعلان ، فيحصل الغرض عندهم بالإشهاد أو بالإعلان فأيهما حدث تم النكاح .
وبهذا قال أهل الظاهر والإمام أحمد فى رواية عنه ، وهو ظاهر مذهب المالكية ، وبعض السلف ( ).
غير أن المالكية لا يرون الإعلان كافيا بذاته عن الشهادة بل لا بد من الشهادة ولكنها ليست محتمة عند العقد ، بل تتحتم قبل البناء والدخول ، فمن عقد ولم يشهد فعقده صحيح لكن لا يدخل بها حتى يشهد.
والفرق بين المالكية وغيرهم من هذا الفريق أن من لم يشهد عند الزواج ثم أعلنه عند الدخول فزواجه صحيح عند الظاهرية وأحمد ، وعند مالك غير صحيح فيفرق بين الرجل والمرأة بطلقة بائنة ولكن لا يحدان للشبهة ( ).
وأساس الكفاية بالإعلان عن الشهادة :
حمل الأحاديث الواردة فى هذا الباب على بعضها ، بيان ذلك : أن النبى قال " لا نكاح إلا بولى وشاهدى عدل " ، وقال " أعلنوا النكاح " ( ) والجمع بين الخبرين يقتضى أن يكون الغرض من الشهادة الإعلان ليتميز النكاح عن السفاح ، يدل على ذلك أن النبى " نهى عن نكاح السر " ( ).
ولهم أيضا : أن النبى " اشترى جارية بسبعة أرؤس ، فقال الناس ما ندرى : أتزوجها النبى أم جعلها أم ولد ؟ فلما أراد أن يركب حجبها فعلموا أنه تزوجها "( ).
والمعنى : أن النبى تزوج بغير شهود ، ولم يستدل على نكاحه إلا بإعلانه وذلك بحجب زوجته ، فاستدلوا على تزويجها بالحجاب ( ).
ونقلوا عن بعض السلف أنهم تزوجوا بغير إشهاد ( ).
والحقيقة : أن أحدا لم يقل إن مجلس النبى أو السلف الذين نقل عنهم عدم الإشهاد كان خاليا من حضور نفسين فصاعدا حتى يقال لم يشهده أحد، بل يبعد أن تخلو مجالسهم عن حضور ، فلا يكون الاستدلال النقلى حجة لاحتماله.( )
ومن جانب آخر فإن الشهادة لها فوق الإعلان جانب آخر هو الاستيثاق للحقوق ، فإن كان الإعلان لدفع الظنة فالشهادة لمنع التجاحد وحفظ حقوق الزوجة والولد ، لهذا افترقا ، فلا يغنى الإعلان عنها.
وقول مالك فى استحباب الشهادة عند العقد ووجوبها عند البناء والدخول لأنها " اشترطت لترتب الآثار ، والآثار تبنى على الدخول"( ).
وهذا غير صحيح لأن من الآثار ما يبنى على مجرد العقد كالمتعة أو نصف المسمى والتوارث فضلا عن حل الاستمتاع ، فهذه حقوق وحدود ينبغى حفظها .
الراجح فى حكم الإشهاد:
وعلى ما تقدم يكون قول الجمهور بوجوب الإشهاد على الزواج عند العقد هو الراجح للأدلة التى تلوناها ورويناها ، ولأن الزواج عقد عظيم الشأن فى نظر الشارع ، ولا يتعلق بالعاقدين وحدهما وإنما يتعلق بحق ثالث هو الولد، لهذا اشترطت الشهادة فيه لئلا يجحده أبوه فيضيع نسبه ( )، ولأن الشارع اشترط الولاية احتياطا للحظ ، وهو بالنظر إلى الحق فضلة ، فلأن يحتاط للحق فهذا أولى.
هل تكفى الشهادة عن الإعلان فى الزواج ؟
غرض الإعلان عن الشئ حصول العلم به ، وبالشهادة يعلم الشاهدان بالزواج ولكن هل يكفى علمهما أم لا بد من إشاعة الزواج ؟ وبعبارة الكمال ابن الهمام " هل يحصل الإعلان بالإشهاد حتى لا يضر بعده توصية الشهود بالكتمان، إذ لا يضر بعد الإعلان التوصية بالكتمان أو لا يحصل – الإعلان – بمجرد الإشهاد حتى يضر " ( ) التوصية بالكتمان ؟
جمهور العلماء( ): يقولون لا تضر التوصية بالكتمان ، لأن الشرط هو الإظهار فيعتبر فيه ما هو طريق الظهور شرعا ، وذلك شهادة الشاهدين ، فإنه مع شهادتهما لا يبقى سراً ، قال القائل :
وسرك ما كان عند امرئ .0. وسر الثلاثة غير الخفى
والغالب فى الزواج أن يحضره أربعة عدا المرأة وهم الخاطب والولى والشاهدان ، فيعلم به خمسة فخرج عن أن يكون سراً ، ومع هذا يستحب الإعلان لحديث " أعلنوا النكاح ".
وذهب الإمام مالك ( ) إلى أن التواصى بالكتمان يبطل الزواج وله على ذلك أدلة نذكر منها :
1- أن النبى قال " أعلنوا النكاح " وفى رواية " أعلنوا هذا النكاح واضربوا عليه بالدف " وظاهر الأمر الوجوب .
2- أن النبى " نهى عن نكاح السر " وحض على العلانية ولو باللهو المباح ، ففيما روى البخارى " أن عائشة زفت امرأة إلى رجل من الأنصار فقال لها الرسول : يا عائشة ما كان معكم لهو ، فإن الأنصار يعجبهم اللهو "( ).
3- ولهم من المعقول : أن الاستكتام طلب للسرية ، والسر فى العلاقة الجنسية هو الحرام ، فالحلال لا يكون إلا ضده ، وذلك بالإعلان لتنتفى التهم( ).
فضلا عن هذا فإن الاستكتام يتنافى مع الحكمة التشريعية من الشهادة ، وهى الإعلان فلا يحصل غرضها فيكون النكاح نكاح سر( ).
وفى نكاح السر " يعاقب الزوجان إذا تواطئا على الكتم ، ويعاقب الشهود أيضا إذا تعمدا " ويجب فسخه بطلقة بائنة ( ).
تعليق
الظاهر من كلام الجمهور أنهم عولوا على الناحية القضائية الصرفة فى وجود عقد الزواج ، فمتى وجد بأركانه وشروطه فقد استوفى حقه ، والإعلان عنه بعد وجوده أو التوصية بكتمانه لا تؤثر فى ذاته ، باعتبارها أموراً زائدة خارجة عن العقد ( ) وهذه النظرية مع منطقيتها( ) تغفل أن الزواج لا يراد لذاته وإنما لأغراض ومقاصد شتى منها الإحصان ، والولد ، ومع الاستكتام لا يحصل الإحصان ، لأن المحصنات هم العفائف ، وكيف لمن تلوكها الألسنة وتلحقها الظنة وتنالها الريبة والشك أن توصف فى نظر الناس بالعفة ؟؟ وحماية العرض مقصد من مقاصد الشرع .
وبالاستكتام يكون الولد عرضه للجحود فيضيع نسبه وتلحقه المعرة والأذى ، وحماية النسل من مقاصد الشرع.
والخلاصة أنه لو لم تكن معنا إلا الحكمة من الإعلان لكفى ذلك فى تضعيف رؤية الجمهور ، فكيف إذ معنا أخبار تحض على الإعلان، وتنهى عن الكتمان ، وتشير إلى أنه من قبيل الإثم قال " الإثم ما حال فى الصدر وكرهت أن يطلع عليه الناس " ( ).
ورحم الله علماء عصرنا فهم لا يقولون برجحان مذهب مالك فحسب ، بل يوصون " بالتوثيق حتى لا يكون هناك مجال للتلاعب وتعريض الأعراض والأولاد للضياع ومقالة السوء "( ) وأكاد أحس فى عبارة العلامة الشيخ أبى زهرة رحمه الله الدعوة إلى اعتبار الكتابة شرطا فيه ، يقول تحت عنوان " عقد الزواج عقد شكلى " :
" عقد الزواج ينفى الشارع اعتباره ، ولا يرتب أحكامه ، ولا يظللها بحمايته بمجرد تراضى الطرفين عليه ، بل لا بد من الشهر والإعلان ، بالشهادة على مذهب الجمهور ، وبغيرها معها على المشهور عند مالك ، فهو إذن عقد شكلى ، وإن كان الرضا أساساً فيه عند جمهور الفقهاء .
ولا جدوى فى أن يقال أن الشهادة فى النكاح شرط صحة لا شرط انعقاد، لأنه لا فرق بين باطل النكاح وفاسده من جهة ، ولأنه على أى اعتبار لا يعترف الشارع الإسلامى بوجود العقد ويرتب الأحكام عليه مجرداً إذا لم ينشأ بشهادة الشهود "( ).
شروط الشهادة :
لا يختلف العلماء أنه يلزم فى الشهادة على الزواج أن يكون الشاهد عاقلا بالغا ، مسلما إذا كان الزوجان مسلمين ، ولا تكفى شهادة الواحد ، بل لا بد من التعدد ، وأن يسمع كلا الشاهدين معا كلام كل من العاقدين ، ويفهمان أن المقصود منه الزواج ، واختلفوا فى مواضع هى :-
1- قبول شهادة النساء فى الزواج .
2- قبول شهادة الأصول أو الفروع فيه .
3- قبول شهادة غير المسلم إذا كانت الزوجة غير مسلمة .
4- اشتراط العدالة فى الشهود .
أولا : شهادة النساء فى الزواج
يرى الأحناف والزيدية والأباضية والإمام أحمد فى رواية وبعض التابعين أن النكاح كغيره من العقود يصح بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين . لقول الله تعالى " واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء " ( ) فهذا حكم عام لم يخص منه إلا الحدود والقصاص فيبقى ما وراءها على الأصل ( ).
والمالكية والشافعية والحنابلة وجمهور أهل العلم على أن الذكورة شرط فى الشهادة على النكاح ، لقول الله تعالى " واشهدوا ذوى عدل منكم "( ) وهذا فى الرجعة ، أمر فيها بشاهدين وهى أخف حالا من عقد النكاح ، فيكون الحكم كذلك فى النكاح من باب أولى ( ).
وتمسكوا من السنة بظاهر قول النبى " لا نكاح إلا بولى وشاهدى عدل " والشاهدان مثنى فى الذكور فيقتصر عليه .
وقالوا : مضت السنة أن لا تجوز شهادة النساء فى الحدود ولا فى النكاح ولا فى الطلاق "( ).
ويرى ابن حزم الظاهرى : أنه لا يلزم فى الشهادة على النكاح الذكورة مطلقا ، فلو أن أربع نسوة شهدن بنكاح صح ، وسنده فى ذلك :
أن الشارع جعل شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل( )، ولم يبلغنا عنه من طريق صحيح أنه خص شهادتهن بحق دون حق ، ولم يبلغنا أيضا أنه يلزم أن يكون ومعهن رجل حتى تقبل شهادتهن فكان اشتراط الذكورة خالصة أو مشاركة تحكما بلا دليل ( ).
والحق أن لكل رأى من الآراء الثلاثة وجهة معقولة ، وكل منها يصلح لظرف ما ، فليكن إعمالها بحسب الحالة ، والذى يظهر من خطاب الله تعالى فى القرآن الكريم أن الذكورة هى الأصل فى الشهادة ، والاستعانة بالأنثى استثناء على ذلك ( ) فمتى توفر الأصل كما هو الحال فى البلاد الإسلامية فالشهادة للذكور ، وإن غابوا أو ندر العدول المرضيين عند العقد فرجل وامرأتان ، وقد يحدث فى غير البلاد الإسلامية ألا يوجد رجل مسلم يشهد ، فعندئذ تظهر الحاجة إلى شهادة الأربع من المسلمات .
ثانيا : شهادة الأصول والفروع فى الزواج
لا يمنع الأحناف أن يكون الشاهدان أو أحدهما من أصول الزوجين أو فروعهما ، لأن الشهادة فى الزواج للإعلان والإظهار وليست لمجرد الإثبات ، وقطعا متى جازت شهادة الأصول والفروع جازت شهادة الحواشى ( ) وبقول الأحناف يقول أهل الظاهر ( ) وقال جمهور العلماء : لا يجوز أن يكون الشاهد ممن يتهم فى شهادته كأب الزوجة أو ابنها ، ولا يجوز أن يكون الولى أحد الشهود لأن هؤلاء جميعا يتهمون بالستر على المرأة إذا وجدت مع رجل ادعت أنه زوجها حتى لا يقام عليها الحد ولا تفتضح ( ) .
وفى رأيى أنه ينبغى أن يكون الفيصل فى ذلك هو تقدير الشهادة أمام القضاء ، فحيث كان الشاهد متهما فى شهادته لا ينبغى أن يكون شاهدا فى الزواج ، وحيث لا يتهم يشهد ، لأن الشهادة فى الزواج تراد للإنشاء والإثبات .
ثالثا : شهادة غير المسلم إذا كانت المرأة غير مسلمة .
يرى أبو حنيفة وأبو يوسف وبعض الحنابلة أن الشهادة فى الزواج تقع على المرأة ، لأن الاستمتاع بها مقصور على الرجل بخلافها ، فإن استمتاعها به يحتمل المشاركة بزواجه بغيرها ، لذا فإن حقه أكثر من حقها ، فلزم أن تكون الشهادة للزوج عليها ، فيراعى لذلك جانب المشهود عليه .
ومعنى ذلك أن الزوجة إن كانت كتابية صحت شهادة أهل الكتاب عليها، فهم أولياء بعض ( ) .
وقال الجمهور : لا تصح شهادة غير المسلم على زواج المسلم( ) مطلقا، لأن الله قال " واستشهدوا شهيدين من رجالكم " وقال " واشهدوا ذوى عدل منكم " فشرط أن يكون الشهود منا أى المسلمين .
وواضح أن تمسك الجمهور بالنص ، وتمسك الأحناف بالاجتهاد ولا اجتهاد مع النص .
ولكن الله سبحانه وتعالى أجاز شهادة غير المسلم على المسلم فى السفر قال تعالى " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم فى الأرض فأصابتكم مصيبة الموت " ( ) وقد فهم منه ابن القيم وشيخه ابن تيمية أن شهادة غير المسلم تجوز للضرورة مطلقا ( ) ، وقال الجصاص هو الذى يقتضيه ظاهر الآية " فإن الله حين أجاز شهادتهما عليه – يعنى الميت – حين الوصية لم يخص بها الوصية دون غيرها ، وحين الوصية قد يكون إقرارا بدين أو بمال ، عين وغيره لم تفرق الآية بين شئ منه " ( ) .
وعلى ذلك فالرأى عندى أنه حيث يوجد مسلم لا تجوز شهادة غيره على زواج المسلم ، بخلاف حال الضرورة ولا تتصور إلا فى السفر ، فعندئذ تقبل شهادة غير المسلم إن كانت الزوجة كتابية بشرط ألا يكون هناك مسلمون .
رابعا : اشتراط العدالة فى الشهود .
الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الواردة فى الشهادة تصف الشهود بكونهم عدولا ، أو مرضيين .
وقد أخذ بذلك جمهور الفقهاء ، فشرطوا فى الشاهد أن يكون عدلا يجتنب الكبائر ، ولا يصر على الصغائر ، ويتجنب ما يخل بالمروءة ، وتتحقق العدالة فى شهود الزواج بأن يكون الشاهد مستور الحال غير معروف بالفسق ، أى أنه يكتفى بظاهر الحال ( ) .
وعدالة الشاهد مطلوبة فى كل حال ، ولكنها فى الزواج أكثر طلبا لأنه مكرمة ، والفاسق أهل للإهانة لا التكريم ( ) .
وأجاز الحنيفة والإمام أحمد - فى رواية - شهادة الفاسق ، لأنه يصلح أن يتولى الزواج بنفسه ، فيقبل لنفسه ولغيره ، وكل من يصلح أن يكون وليا فى الزواج يصلح أن يكون شاهدا فيه ( ) .
ولا شك أن قول الجمهور أقوى دليلا ، وأنفع عملا ، لأن الشهادة كما قلنا تراد للإنشاء والإثبات ، والفاسق يرجح جانب الكذب فيه على جانب الصدق فيخشى أن ترد شهادته عند الحاجة ، فلا يكون لتحملها نفع ( ) .
ومن جانب آخر فإن الشهادة نوع ولاية وقد أجاز العلماء ولاية الفاسق للضرورة ، وتخريجا عليه نقول لا تقبل فى السعة شهادة الفاسق وتقبل فى الضرورة ، وقياسا على شهادة غير المسلم متى دعت الحاجة إليها .
وفى التقنينات المعاصرة ( )
لا خلاف أن الشهادة شرط صحة الزواج ، كما لا خلاف بينها فى أن يكون الشاهدان حاضرين فى مجلس العقد ، سامعين الايجاب والقبول ، فاهمين المقصود بهما ، كما لا خلاف بينها أن يكون الشاهدان مسلمين إن كانت المخطوبة مسلمة .
واختلفت اتجاهات التقنينات فيما وراء ذلك :
1- بالنسبة لشرط الذكورة
أخذت القوانين : السورى والأردنى والسودانى والليبى ( ) بمذهب الحنيفة فى قبول شهادة رجل وامرأتين فى الزواج ، وهذا مايجرى عليه العمل فى مصر ، بينما أخذت القوانين : اللبنانى ، والعراقى ، والمغربى بمذهب الجمهور ، حيث نصت على " شهادة شاهدين " .
2- وخالفت بعض التقنينات فى أهلية الشهادة
فالقانون : السورى ، والأردنى ينصان على كونهما بالغين عاقلين ، وهو الظاهر من حكم القانون المغربى ، لخلوه من النص على الأهلية فيرجع فيه إلى المذهب المالكى ، والشرط فيه العقل والبلوغ ، وفى مصر يجرى العمل بمذهب الحنيفة وهو كمذهب المالكية فى هذا .
وقد عبر القانون السودانى بلفظ " مكلفين " فإن كان قد أراد به المعنى الشرعى فالتكليف بالبلوغ والعقل ، وكذلك فعل المقنن اللبنانى .
وتفرد القانون العراقى باعتبار الأهلية القانونية ، وهى لا تثبت كاملة إلا لمن بلغ سن الرشد .
3- وبالنسبة لشرط الإسلام
تميزت القوانين " السورى والليبى والسودانى " بالنص على إسلام الشاهدين مطلقا ، والظاهر من القانون المغربى أنه يإخذ بهذا لأنه وإن لم ينص على شرط الإسلام فقد نص على شرط العدالة ، والعدالة تتضمن الإسلام وزيادة.
وقيد القانون الأردنى شرط الإسلام بما إذا كان الزوجان مسلمين ، ومعناه أنه إذا كانت الزوجة غير مسلمة فإسلام الشهود غير شرط كما هو مذهب الحنفية .
ولم ينص القانونان اللبنانى والعراقى على شئ ، ومن ثم يطبق الراجح فى المذهب الحنفى ، وعلى ذلك يجرى العمل فى مصر .
4- وبالنسبة لشهادة الأصول أو الفروع : فقد أجازها صراحة القانونان اللبنانى والأردنى ، ولم تذكرها التقنينات الأخرى ، ومن ثم تجوز فى سوريا والعراق طبقا للمذهب الحنفى ، ولا تجوز فى المغرب إعمالا لمذهب مالك .
وموقف التقنين السودانى مشكل ، لأنه شرط أن يكون ، الشاهدان من أهل الثقة " وشهادة الأصل لفرعه أو العكس يختلف القول فيها عند المذاهب ، ولم أقف على مصدر هذا الحكم فيه .
والمطبق فى مصر هو مذهب الحنفية .
5- وبالنسبة لشرط العدالة
فقد نص عليه القانون المغربى ، ونص القانون السودانى على أهل الثقة ولا يكونون إلا عدولا ، وخلت التقنينات الأخرى من نص عليه ، ومن ثم يطبق الراجح من المذهب الحنفى وهو كما رأينا لا يستلزم عدالة الشاهدين ، وعليه يجرى العمل فى مصر .
وأخيرا تنص المادة (8) من مشروع القانون العربى الموحد على أنه :
( أ ) يشترط لانعقاد الزواج حضور شاهدين بالغين ، عاقلين ، رجلين أو رجل وامرأتين ، سامعين معا كلام المتعاقد ، فاهمين أن المقصود به الزوجان
(ب) وإذا كان الزوجان مسلمين يشترط أن يكون الشاهدان مسلمين ويكتفى بشهادة كتابيين فى زواج المسلم بالكتابية .الباب الثالـــــــث
آثــــــــــار الـــــــزواج
تمهيد وتقسيم :
إذا وجد عقد الزواج مستوفيا جميع أركانه وسائر شروطه كان صحيحا نافذا لازما فتترتب عليه آثاره التى رتبها الشارع عليه ، أما إذا اختل ركن الزواج أو شرط من شروط انعقاده فقد وقع العقد باطلا ولم يرتب أى أثر من آثار العقد الصحيح ، وإن حدث بناء عليه دخول مع العلم ببطلانه كان ذلك زنا يستوجب الحد فى رأى كافة الفقهاء ، إلا أبا حنيفة الذى رأى مجرد العقد شبهة تمنع الحد ،ولأنه وطء محرم فلا ينشر المحرمية على رأى الشافعى وجماعة، وفى رأى أبى حنيفة وجماعة ينشرها ، ويجب شرعا التفرقة بين الرجل والمرأة.
وإن اختل شرط من شروط صحة العقد كان العقد فاسدا ، والفاسد بمجرده لا يثبت حقا ، ولكن إن حدث فيه دخول ترتبت على الدخول جملة من الآثار أظهرها : وجوب الأقل من المسمى أو مهر المثل ، وثبوت النسب ، وعدم الحد للشبهة ، ووجوب العدة ، وتستحق المدخول بها نفقة قبل فسخ العقد ، وينشر المحرمية بين كل من الرجل والمرأة وأصول الآخر وفروعه ، ومع هذا يجب فسخه لفساده .
وإن اختل شرط النفاذ كان موقوفا يتوقف على إجازة من يملكها ، فإن أجازه صار صحيحا نافذا ، وإن رده كان كأن لم يكن ، وقبل إجازته لا يترتب عليه أى أثر من الآثار ، وبإجازته تترتب عليه كل آثار الزواج الصحيح ، وإن حدث فيه دخول : إن أمكن حمله على الرضا فهو فى حكم الدخول فى الزواج الفاسد ، وإن وقع بعد الرد والرفض مع العلم بالبطلان كان زنا يوجب الحد .
وإن كان العقد غير لازم لفقده شروط اللزوم ، كالكفاءة مثلا ، فحكمه حكم الصحيح ، غير أنه يقبل الفسخ بالإرادة المنفردة ممن ثبت له هذا الحق ، ما لم يوجد منه ما يدل على رضاه بالزواج ، أو مضى المدة التى يمكن الفسخ فيها ، وصورتها المثلى كما قلنا أن تحمل المرأة التى تزوجت أو زوجت بغير إذن وليها غير العاضل .
وفى العقد غير اللازم : إن حدث الفسخ قبل الدخول والخلوة الصحيحة لا يجب شئ مطلقا ، وإن كان بعد الدخول وجب ما يلزم بالعقد الصحيح .
وفى هذا الباب نتقصى آثار الزواج الصحيح ، وهى فى الواقع جملة من الحقوق والواجبات والأحكام الشرعية وتظهر هذه الأخيرة فى التوارث كالنسب وحرمة المصاهرة ، وقد تكلمنا عن الأخيرة منها ، وثبوت التوارث بين الزوجين له موضعه فى أحكام المواريث، أما النسب فسيأتى الكلام عنه تفصيلا فى الكتاب الثالث ، أما الحقوق والواجبات فهى جملة من الأمور المتكافئة ، بمعنى أن كل حق يقابله واجب ، فما يثبت من الحقوق لأحدهما يقع واجبا على الطرف الأخر .
ومن عظيم حكمة الله تعالى أنه رتب حقوق الزواج وواجباته بوضعه وجعله ، حفظا للحياة الزوجية من العبث ، وإخضاعها للأهواء ، وقد صنفت على ثلاث مجموعات :
1- حقوق مشتركة بين الزوجين
2- حقوق خاصة بالرجل
3- حقوق خاصة بالمرأة
الفصـــل الأول
الحقوق المشتركة بين الزوجين والحقوق الخاصة بالرجل
المبحــث الأول
الحقوق المشتركة بين الزوجين
لفظة الحق فى استعمالات القرآن الكريم تدور حول معنى الثابت الواجب، والحقوق الثابتة للزوجين مقررة بنصوص الكتاب والسنة المشرفة ، غير أن منها ما هو مادى المظهر والجوهر يسهل ضبطه ومراقبته قضاء ، ومنها ما هو نفسانى الجوهر خفى المظهر لا يقف عليه كل أحد ، ويشق ضبطه إلا بعنت ، والأهم من هذا كله أن من هذه الحقوق حقا يداخله الحياء – حقا أو توهما – من كل جانب .
وأبرز الحقوق المشتركة بين الزوجين هو ذلك الحق الذى خف الكلام الصريح فيه وهو الاستمتاع والمعاشرة ، بيد أنه السبب إلى مصالح الزواج ، وأهمها التناسل والسكن والمودة والرحمة ، وكيف لا يكون وهو إرواء " إحدى شهوتين عليهما تقوم الحياة ، ومن أجلهما كان التشريع كله " ( ) .
وقد درج أستاذتنا على أن يضموا إلى حق الاستمتاع والحق فى حسن العشرة والمساكنة حق الإرث ، والحق فى ثبوت النسب ، وثبوت حرمة المصاهرة بسبب الزواج ، ولست أرى هذا الأخير حقا ، بل هو حكم شرعى خارج عن الاختصاص ، ولا تتوقف مراعاته قضاء وديانة على طلب من أحد .
وحقا الإرث والنسب لكل منهما موطنه العامر بتفصيل أحكامه فنحيل إليهما ، وتقتصر هنا على بيان حقى الاستمتاع وحسن العشرة .
أولا : حق الاستمتاع .
الاستمتاع طلب التمتع ومعناه " التلذذ ، يقال تمتع بالشئ أى تلذذ به ، والمتاع كل شئ يتمتع به ، وأصله من قولهم : حبل ماتع أى طويل ، وكل من طالت صحبته مع الشئ متمتع به " ( )
1- ومع أن التعبير بالاستمتاع لم يبرز فى التبويب الفقهى القديم فإن بعض مشايخنا من المعاصرين أخذوه من تعبير الإمام الكاسانى الحنفى قى بدائعه حيث قال " وهذا الحكم وهو حل الاستمتاع مشترك بين الزوجين فإن المرأة كما تحل لزوجها يحل لها " ( ) وهو فى رأيى أفضل ما يعنون به فى هذا الباب .
وقد أنس الكاسانى فى استعماله بالتعبير القرآنى " فما استمتعتم به منهم فآتوهن أجورهن " ( ) وكان رحمه الله موفقا إذا عول على هذا الاستعمال دون غيره ، لأن الاستعمالات الأخرى الواردة فى القرآن الكريم كالإفضاء ( ) والمس( ) والتغشى ( ) والإتيان ( ) واللمس ( ) والقرب ( ) كلها دون لفظة الاستمتاع فى العموم ، وهو يشملها جميعا ، ويفوقها فى إيحائاته النفسية ، بحصول الألفة والمودة والسكن ، وهى مداخل الاستقرار والعفة .
2- ومواضع ذكر الاستمتاع فى القرآن الكريم تثير تأملات تصل إلى حد العجب .
(أ) ففى سياق متصل فى شرعة الصوم ، وهو سر خالص بين العبد وربه ، والاعتكاف وهو انقطاع عن الدنيا ابتغاء الآخرة ، يقرر المولى عز وجل دقائق العلاقة بين المرء وزوجه فيقول " أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل و لا تباشروهن وأنتم عاكفون فى المساجد " ( ) ، وقد خص زمن المتعة بليل جعله الله قياما وهذا يلفت إلى أمرين : -
أولهما : انه إذا جاء الليل أجيبت شهوة البطن بالإفطار وحلت شهوة الفرج لمن ابتغى مباحا .
الثانى : أن يذكر الله ما ذكر فى شهر العبادة فهذه إشارة إلى أن إشباع الشهوة عبادة ، وقد قال النبى " فى بضع أحدكم صدقة " قالوا : يا رسول الله: أيأتى أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ قال : أرأيتم لو وضعها فى حرام ، أكان عليه وزر ؟ قالوا : بلى ، قال " فكذلك إذا وضعها فى الحلال كان له أجر " ( )
ومن بالغ لطف الله تعالى انه حرم الرفث فى يوم الصوم فقال " إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث " ( ) وأحله بنص قرآنى يتعبد به، متى كان المرء مع زوجه فى ليلة الصيام فقال " أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم " والرفث على ما فسره ابن عباس " ما يتكلم به عند النساء من معانى الإفضاء"( ) أى الكلام المتعلق بالجنس والشهوة ، ولا شك أنه أفحش الفاحش إن لم يكن فى محله ، وكأن الله سبحانه يقول إذا حرم عليكم فى يوم صومكم أدنى الفحش فقد أحل لكم فى ليله مع نسائكم أشده وأعلاه .
وقد ذكر العلماء فى معنى الرفث وجها أخر فقالوا : هو الجماع بكل مشتملاته من الكلام والمباشرة ، وقد ذكره الله مع الأكل والشرب فكانت مباحات ثلاثة ، هى محذورات الصيام ، فقال " فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل " فجعل أمر الإباحة إلى طلوع الفجر ثم تحرم حتى يدخل الليل .
وخلصوا منها إلى أن هذه المحذورات الثلاثة هى فقط التى تحرم أما المباشرة التى لا جماع فيها – أى مجرد الالتصاق – كالقبلة والجسة وغيرها لا تمنع على الصائم ، وهذا يدل " على صحة صوم من قبل وباشر – أى ضم زوجته إليه دون معاشرة – لأن فحوى الكلام إنما يدل على تحريم ما أباحه الليل وهو الأشياء الثلاثة ، ولا دلالة فيه على غيرها بل هو موقوف على الدليل …. وروى البخارى عن عائشة قالت كان النبى يقبل ويباشر وهو صائم " ( ) .
والمعنى الذى نود الكشف عنه : أنه إذا كان الاستمتاع بغير الجماع حلا للصائم ، فهو لغير الصائم فوق مجرد الحل ، بل لعله من قبيل التقديم والتهيؤ والتهيئة ، وفى الحديث الشريف " فإنه أحرى أن يؤدم بينكما " وهذا فى النظرة ، فالجسة مثلها وأشد .
(ب) ويرد ذكر الاستمتاع فى حديث القرآن عن الحيض ، وهو كما أخبر الله سبحانه وتعالى " أذى " تتأذى منه المرأة صحيا ونفسيا ويتأذى من حولها برائحته ، ورثاثة حالها ، وفى هذا السياق يحكم الله فى الاستمتاع فيقول "ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء فى المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين " ( ) وتقريبا للمعنى ندل على معانى بعض الألفاظ .
أولا : قوله " ولا تقربوهن " بفتح الراء معناه لا تتلبسوا بفعل القرب، والقرب أى الاتصال .. ولم يقل الله " لا تقربوهن " بضم الراء لأن القرب بالضم معناه مجرد الدنو ( ) .
وقوله " فأتوهن " كناية عن الجماع ( ) بقرينة قوله " من حيث أمركم الله " أى فى الموضع الذى أمر الله به .
والمعنى إذا كان الحيض أذى فلا تتصلوا بالنساء حتى يطهرن لأن الموضع المباح مشغول بالأذى ، ولكن هذا لا يمنعكم الدنو منهن والاستمتاع بهن دون اتصال .
يوضح هذا سبب نزول الآية ، فقد روى مسلم عن أنس قال " كان اليهود إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ، ولم يجامعوهن فى البيوت – أى لا يجمعهم بهن مكان واحد ، فيبيت الرجل فى بيت غير ما تبيت فيه زوجه – فسأل أصحاب النبى فأنزل الله تعالى " ويسألونك عن المحيض .. الآية .." فقال رسول الله " اصنعوا كل شئ إلا النكاح " – أى الوطء – فبلغ ذلك اليهود فقالوا : ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه …"( ).
فالسياق يلفت إلى أن الاستمتاع نوعان : تام وناقص ، فإن حظر التام فى زمن الحيض فلا تمتنعوا عن الناقص ربما ليكون ذلك تخفيفا من الأذى عن المرأة ، وإشعارها أن الرغبة فيها قائمة حتى مع سوء حالها .
وقد روى عن غير واحدة من زوجات النبى ما يشعر أن النبى كان يعمد التودد إلى نسائه فى الحيض ، ففيما روى عن عائشة قالت " إن كان رسول الله ليؤتى بالإناء فأشرب منه وأنا حائض ، ثم يأخذه فيضع فاه على موضع فى ، وإن كنت لآخذ العرق (اللحم المختلط بالعظم ) فآكل منه ، ثم يأخذه فيضع فاه على موضع فى " .
وقد روى عن عائشة وميمونة وأم سلمة زوجات النبى أن النبى كان يباشرهن وهن حوائض . وروى أبو داود عن بعض أزواج النبى ولم يسمهن ذلك . ( ) وقد ذكرت عائشة رضى الله عنها وصفاً فى النبى يشير إلى أنه كان يفعل ذلك تطييباً لأنفس نسائه ، قالت : " وأيكم يملك إربه كما كان النبى يملك إربه " ( ) أى أنه كان شديد التحكم فى نفسه .
ثم أن يروى عن النبى نساؤه ، فهذا يعنى أنها وقائع حدثت وللنبى زوجات لا زوجة واحدة ، ويصعب أن يظن أنهن يحضن فى وقت واحد ، فلابد وأن تكون منهن من هى طاهرة ، فلو كان فعله قضاء وطر لأتى الطاهرة واعتزل الحوائض ، فلم يبق إلا أن يكون فعله إرشاداً إلى العناية بالمرأة فى حال عذرها ، وأكثر ما يسرها عندئذ التعلق بأنوثتها .
حـ- وفى سياق ثالث يتعلق جوهره بالصلاة والمسجد والطهارة الأصلية والبدلية يرد ذكر الاستمتاع . يقول الله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنباً إلا عابرى سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامسستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه . " ( )
والآية تتضمن أحكاماً أولها النهى عن الصلاة حال السكر والجنابة ، وقد نسخ الأول بتحريم الخمر تحريما تاما ، أو النهى عن الاقتراب من المسجد ولو لمجرد العبور للجنب إلا أن يكون مسافراً حتى يحدث الاغتسال .
والثانى : أن الله سبحانه ذكر أصنافاً أربعة ، أولهم مريض يخشى عليه من استعمال الماء . والثانى : مسافر حاجته للشرب أقوى من استعمال الماء فى غيره . والثالث : صاحب حاجة يشق الصبر عليها ، وهى حاجة الغائط من البول والبراز ، ومعهم رابع هو من انتقض طهره بملامسة النساء جماعاً أو ما دونه .
وقد أباح الله لجماعتهم أن يتيمموا إن لم يجدوا ماء .
ولا شك أن المعنى الظاهر منها هو إيجاب الغسل والوضوء فإن لم يكن ماء فالتيمم ، وأنه يرفع الحدث الأكبر كما يرفع الحدث الأصغر .
ومع هذا فإن الجمع بين ذوى الأعذار الثلاثة ( المريض والمسافر وذو الحاجة إلى الغائط ) والمستمتع يشير إلى شئ ، هو أنه لا يصدنكم عن الاستمتاع عدم الماء ، فقد خفف الله عنكم ، أو أن الاستمتاع حاجة كحاجة المريض يريد الشفاء ، والمسافر يريد الماء ، والمضغوط يريد الراحة ، فاشفوا ، وارووا ، واستريحوا وتيمموا .
3- ونتوقف عن لفظتين من مرادفات الاستمتاع المذكورات فى القرآن الكريم .
أولاهما : الإفضاء وقد ذكرت فى قوله تعالى " وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً " ( )
فالإفضاء : على وزن أفعل من الفضاء . وهو كل موضع خال ( ) وأصله فى اللغة المخالطة ، ويقال للشئ المختلط فضاً ، ومعناه هنا قيل : الجماع، وقيل : أن يخلو الرجل والمرأة وإن لم يجامعها"( ).
والآية نص فى وجوب المهر بالخلوة أو الدخول ، ولكن فى التعبير القرآنى معنى آخر ، وهو أن الافضاء يكون من كلا الزوجين ، وعلى أن معنى اللفظة مأخوذ من الموضع الخالى ففى ذلك إشارة إلى أنه ينبغى إذا خلا الرجل بزوجة ، والزوجة بزوجها ، أن ينصرف كل منهما إلى الآخر خاليا عن الانشغال بغيره ، ليجمع إلى خلو المكان خلو البال ، فيقبل كل منهما على الآخر بكليته .
ومثل هذا الإقبال الحميم لا يحصل فى الواقع إلا إذا روعيت آداب الإسلام فى الزواج ابتداء وبقاء .
وقد علمت أن من آدابه فى الابتداء التخير والنظر ، وقد علله النبى بأنه " أحرى أن يؤدم بينكما " وعلل إنكاح ذا الدين بأنه " إذا أحبها أكرمها ، وإذا أبغضها لم يظلمها " على أنه إن كان مؤمنا حقا ، وكانت كذلك فلن يقع منه بغض تام وفى الحديث الشريف " لا يفرك مؤمن مؤمنة ، إن كره منها خلقا رضى منها خلقا آخر "( ).
ومن آدابه فى البقاء – كما سيأتى – المعاشرة بالمعروف ، ومنها فى باب الجماع أمور كثيرة منها أن تحرص المرأة على زينتها .
وفيما روى أبو داود أن النبى قال لامرأة أهملت زينة يديها " يد امرأة هذه أم كف سبع اذهبى فغيرى "( ) وتحرص على نظافتها، وقد كانت الصحابيات يسألن النبى عن الغسل من المحيض ، فعن عائشة " أن امرأة سألت النبى عن غسلها من المحيض ، فقال : خذى فرصة من مسك فتطهرى بها ، قالت : كيف أتطهر ؟ قال : تطهرى ، قالت : كيف ؟ قال سبحان الله !! تطهرى . تقول عائشة : فاجتذبتها إلى فقلت : تتبعى بها أثر الدم "( ).
وقد بلغ من حرص النبى ألا تقع عين الرجال على ما يكرهون أنه كان يأمرهم عند العود من السفر " أن يمهلوا حتى تستحد المغيبة – أى تزيل الشعر الزائد فى جسمها – وتمتشط الشعثة "( ).
وإذا كان واجب المرأة نظافة وزينة ، فواجب الرجل فضلا عن ذلك التمهيد للإفضاء ، وفى الأثر " لا يقعن أحدكم على امرأته كما تقع البهيمة وليكن بينكما رسول ؟ قيل : ما الرسول يا رسول الله ؟ قال: القبلة والكلام "( ) وقد تلونا فيما سبق قول الله تعالى " أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ".
وعلى معنى أن الإفضاء من الخلطة ، فإن الخلطة معناها أن يمتزج الشيئان حتى لا يتميزا ، وهو معنى قوله تعالى " هن لبس لكم وأنتم لباس لهن " ولا شك أن الامتزاج يستدعى ما قلنا فى " الخلوة " وزيادة ، لأن الإشباع المراد بالاستمتاع أو الإفضاء إشباع نفسى قبل أن يكون إشباعا جسديا .
الثانية : التغشى :
وقد ذكرت فى قوله تعالى " هو الذى خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا .. "( ).
فقوله تغشاها : أى جامعها ، وهذه اللفظة تعنى الاحتواء التام ، قال الرازى " إذا علاها فقد صار كالغاشية لها ، ومثله يجللها ، وهو يشبه التغطى واللبس "( ).
ومعنى الاحتواء الذى تشير إليه الآية يؤكده الحديث الشريف " إذا جامع أحدكم زوجته فليصدقها ، فإن قضى حاجته قبل أن تقضى حاجتها فليصبر حتى تقضى حاجتها "( ) والمعنى ليكن الاستمتاع صادقا ، حتى لا تنفر المرأة من زوجها أو يزهد الرجل فى زوجه .
ولكن إن أعدنا تلاوة الآية وجدنا أن الاحتواء والصدق فى اللقاء مرهون بسابقه وهو السكن ، أى السكينة والاطمئنان وقد أمر الله به فى سورة البقرة كلا الزوجين ، قال تعالى " وقلنا يا أدم اسكن أنت وزوجك الجنة "( ) فإن تحقق السكن تحقق أثره ، وإن اختل السكن اختل أثره ، وسندلك على ذلك فى بيان الحق التالى :
4- وإذ يذكر الاستمتاع فى هذه المواضع وغيرها على نحو ما رأينا فلابد وأن يكون شأنا خطيرا تتعلق به الأحكام ، ومن ذلك :-
أ- أنه حق للرجل على زوجته يجب عليها أن تجيبه إليه إذا طلبه وإلا كانت عاصية لربها ، بشرط أن يكون طلبه للمحل المباح ، وفى الوقت المباح ، وهو ما عدا زمن حيضها ونفاسها وصومها المفروض وإحرامها بالحج ؛ مع ملاحظة أن الاستمتاع بغير الجماع فى الحيض والنفاس والصوم لا يحرم إن أمن نفسه وبشرط ألا يضر بها ( ).
ب- أنه حق للزوجة على زوجها يلزمه ديانة ويجب عليه فى الحكم فى رأى أكثر العلماء.
ولم أجد من آئمة المذاهب من لم يوجبه فى الحكم إلا الشافعى رحمه الله، فقال : الجماع موضع تلذذ لا يجبر أحد عليه ( )، وبه قال بعض الحنفية ( ).
وقال الإمام مالك : يؤخذ الزوج بجماع زوجته كل مدة ليحصنها ويقطع شهوتها ، فإن أطال ترك جماعها وحاكمته إلى القاضى فسخ النكاح بينهما إن لم يجامع ( )، وهو قول بعض الأصحاب من الحنفية( ).
وقدر الحنابلة وبعض الحنفية المدة التى يؤاخذ بتركها الزوج بمدة الإيلاء، وهى أربعة أشهر ( ).
ويرى الإمام ابن حزم الظاهرى أن أقل الواجب على الرجل مرة كل شهر إن لم يكن له عذر ، لقول الله تعالى " فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله "( ) حيث أمر بإيتائهن عقب الطهر والأمر للوجوب ( ).
وما دون الجماع فى الاستمتاع كالمبيت بمضجعها ومداعبتها وملاعبتها وإيناسها واجب مرة على الأقل كل أربع ليال ، وقال الشافعى لا يجب لأنه من دواعى الشهوة والمحبة التى لا يقدر على تكفلها ( ).
والصحيح الأول لما روى كعب بن سوار أنه كان جالساً عند عمر بن الخطاب فجاءت امرأة فقالت : يا أمير المؤمنين ما رأيت رجلا قط أفضل من زوجى ، والله إنه يبيت ليلة قائما ، ويظل نهاره صائما ، فاستغفر لها وأثنى عليها، فاستحيت المرأة وقامت راجعة ، فقال : يا أمير المؤمنين هلا أعديت المرأة على زوجها ، فقال : وما ذاك ؟ فقال : إنها جاءت تشكوه ، إذا كان هذا حاله فى العبادة متى يتفرغ لها ، فبعث عمر إلى زوجها ، وقال لكعب اقض بينهما فإنك فهمت من أمرها ما لم أفهمه ، قال – كعب - : فإنى أرى أنها امرأة عليها ثلاث نسوة وهى رابعتهن – أى افترض أنها كذلك – فأقضى له بثلاثة أيام وليالهن يتعبد فيهن ، ولها يوم وليلة ، فقال عمر : والله ما رأيك الأول بأعجب إلى من الآخر ، اذهب فأنت قاض على البصرة " قال البهوتى: هذه قضية اشتهرت ولم تنكر فكانت كالإجماع ( ).
حـ –والصحيح أن ليس للاستمتاع حد فيستمتع كل من الزوجين بالآخر بما يروى شبقه ويذهب نهمه ، على أى وضع كان ، وفى حرية تامة ، وليس لذلك فى الإسلام حد إلا أن يأتى الرجل المرأة فى الموضع المحرم ، فالله سبحانه وتعالى يقول " نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم "( ) أى من أين شئتم أو كيف شئتم ، وما يقال غير ذلك من تقيد حرية الزوجين فى النظر أو اللمس أو الهيئة فكلام ساقط لا يسنده دليل ( ).
ثانيا : حسن العشرة
ظاهر القرآن الكريم أن حسن العشرة يلزم الأزواج لا الزوجات لورود الخطاب فيه للرجال ، كقوله تعالى " وعاشروهن بالمعروف"( ) وقوله " فإمساك بمعروف " ( ) وقوله " فأمسكوهن بمعروف " ( ) ولكن هذا فهم قاصر فالخطاب للجميع ( ) ولكن أوثر به الرجال لاحتمال وجود دواعى الإساءة من تملك القوامة وحق التعدد، فضلا عن إرث الجاهلية فى الإساءة إلى النساء .
وأبلغ دليل على ذلك أن غاية حسن العشرة حصول السكن ، وقد أمر الله به الرجل والمرأة فقال " وقلنا يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة " ( ) ثم إن المرأة مأمورة فى الكتاب والسنة بطاعة زوجها ( ) وليس فى الإحسان أقوى من التزام الطاعة ومراعاة الغرض .
ولوازم حسن العشرة كثيرة ومتنوعة ، وحاصلها الحرص على إرضاء الآخر فى غير معصية ، واجتناب ما يسوؤه فى بدنه ونفسه وماله ، ليكون الزوجان على وفاق ومحبة .
وقد نبهت الدكتورة عائشة عبد الرحمن إلى بيان قرآنى غاية فى الروعة والإعجاز مفاده أن مسمى الزوجية فى القرآن لا يطلق إلا على الارتباط الذى يؤنس فيه سكن كل من الزوجين للآخر ومودتهما وتراحمهما " فإذا تعطلت الزوجية من السكن والمودة والرحمة بخيانة أو تباين فى العقيدة فامرأة لا زوج"( ).
وبيان ذلك أن الله تعالى حين تحدث عن آدم قال " وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك " ( ) وحين تحدث عن المتقين ذوى العشرة الحسنة قال " والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما " ( ) وقال " والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا " ( ) أما الارتباطات الخربة التى لا سكن فيها ولا رحمة فليست زواجا ، وإن سماها الناس كذلك ، قال سبحانه " وقال نسوة فى المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه " ( ) وقال " ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين . وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لى عندك بيتا فى الجنة ونجنى من فرعون وعمله ونجنى من القوم الظالمين " ( )
المبحـــث الثانـــى
حقــــوق الـــــــــزوج
أغرب ما يجده الإنسان اليوم من داعيات التحرر أنهن لا ينشغلن بحقوق المرأة قدر ما يسعين إلى سلب حقوق الرجل على زوجته ، لأن هذه الحقوق هى التى تحول دون مرامهم من أن تكون المرأة كما يريدها المحركون مستقلة لا سلطان لأحد عليها فى قرارها وترحالها ، وعلى الرغم من علم الفطنات من النساء لهذه المكيدة ، إلا أن الحاملات لدعاوى التحرر مازلن سادرات فى طريقهن ، تقول الدكتورة بنت الشاطئ " إن الرجال ساقونا لنعمل لحسابهم….. وهم يوهموننا أننا نعمل أو يعملون لحسابنا ، ذلك أن الرجال زينوا لنا الخروج زاعمين أنهم يؤثروننا على أنفسهم ولكنهم كذبوا فى هذا الزعم فما أخرجونا إلا ليحاربوا بنا السآمة والضجر فى دنياهم …… إن المرأة دفعت ضريبة فادحة ثمنا للتطور ، ويكفى أن أشير فى إيجاز إلى الخطأ الأكبر الذى شوه نهضتنا ، وأعنى به انحراف المرأة الجديدة عن طريقها الطبيعى وترفعها عن التفرغ لما نسميه خدمة البيوت وتربية الأولاد ، ونحن نرى البيوت خالية منهن ، أما الأبناء فتركوا للخدم وقد نشأ هذا الانحراف الضال نتيجة لخطأ كبير فى فهم روح النهضة " .
ولأننا نعلم يقينا أن الله متم نوره ولو كره الكافرون فإننا نطرح هدى الإسلام فى هذه المسالة راجين أن يكون من بناتنا وأخواتنا جنديات يدفعن عنهن وعن بنات جنسهن غائلة التغريب ، والاسترقاق العصرى تحت هذه الدعاوى الزائفة .
أولا : حقوق الرجل قسم إلهى
يدرك المؤمنون بالإسلام دينا أراد الله به خير البشرية وبمحمد رسولا خاتما إلى الناس أجمعين أن الحقوق والواجبات لم تتقرر على هوى الرجال أو النساء ، وإنما حكم الله فيها بما يصلح الدنيا ، ويكسب فلاح الآخرة ، ولأن الله يعلم أن من النفوس الإمارة بالسوء من قد تدعى يوما أن هذا الحق أو ذاك قد صنعه الاغتصاب ، أو قررته السلطة على هواها فقد أنزل فى ذلك قرآنا يتلى ويتعبد به ، فقال تعالى " ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسئلوا الله من فضله إن الله كان بكل شئ عليما " ( ) .
قال المفسرون " نهى الله عن التمنى لما فيه من دواعى الحسد ، ولأن الله أعلم بمصالحهم منهم فوضع القسمة بينهم على التفاوت على ما علم من مصالحهم " ( ) .
فإذا كان هذا حكم الله فى التمنى فما بالنا بحكم الله فى إبطال حق الغير بالكلية ، لا شك أنه سيكون بوبال فى الدنيا ونار فى الآخرة .
ثانيا : أطر حقوق الرجل محدودة بالنصوص
وإذا كنا ننتقد اللاتى ينكرن على الزوج حقه باعتدائهم على قسم الله فإن من الرجال من يسيئون استعمال الحقوق التى قدر الله لهم فيتعدون حدود الله ، غافلين عن تحذيره ، فحقوقهم كما أمر الله ليست تسلطا ، بل هى أعباء ، وواجب الزوجات ليس رقا بل عمل لا يقدر عليه سواهن .
1- حق الطاعة فى المعروف
حق الطاعة مقرر بقول الله تعالى " فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله " ( ) .
قال المفسرون " هذا كله خبر ، ومقصوده الأمر بطاعة الزوج والقيام بحقه فى ماله وفى نفسها فى حال غيبة الزوج " ( )
فهو إذا ليس مجرد احترام لأمر ، ولكنه حفظ لرغبة وتلبية لغرض لأن الغائب لا أمر له ، وربما لأن الطاعة قد تثقل على النفس ، خاصة إذا كانت على غير هوى ما تهوى ، بشر النبى المطيعات بالجنة ، قال " أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة " ( ) وتحذيراً لهن من التفريط فى ذلك قال " والذى نفس محمد بيده لا تؤدى المرأة حق ربها حتى تؤدى حق زوجها"( ) وعد المرأة الطائعة كنزا ، بل خير ما يكنزه المرء فقال لعمر رضى الله عنه " ألا أخبرك بخير ما يكنزه المرء ، المرأة الصالحة إذا نظر إليها سرته ، وإذا أمرها أطاعته ، وإذا غاب عنها حفظته " ( ) .
هذا ما ينتظر القوانت من الزوجات ، وهو ثواب عظيم لمن تعيه ، وواضح من النصوص أنه حق مقرر للرجل دون نظر إلى شخصه ، او توقف على تقديرها لمراده ، مادام فى غير معصية الله ، فطاعتها له ظاهرا وهى لله فى الحقيقة والواقع .
على أن هذه الطاعة مقيدة بمرضاة الله تعالى ، وبحياتهما الزوجية لا تتعداها ( ) ، وبما لا يضر بحقوق الغير ، فإن أمرها بمنكر فلا طاعة ، وإن أمرها فى مالها الخاص لا تلزمها طاعته ، وإن أمرها بما يضر بحقوق الغير كالولد مثلا فلا طاعة .
ومن الفطنة أن يعلم الرجل أن طاعة المرأة تبتدئ من عنده ، فإن وجدته هينا لينا محبا عطوفا متعقلا ، مقدرا لمشاعرها وهواها المشروع كانت على طاعته أحرص وعلى إرضائه أوفر ، وقد ضرب النبى المثل فى ذلك ، فكان بالغ التودد إلى نسائه ، فعن عائشة قالت " كنت ألعب بالبنات (العرائس) عند النبى ، وكانت عندى صواحب يلعبن معى فكان رسول الله إذا دخل ينقمعن منه – أى يقضن إجلالا له – فيسربهن – أى يرسلهن سرا – ليلعبن معى" ( ) وعنها أيضا قالت " دعانى رسول الله والحبشة يلعبون بحرابهم فى المسجد فى يوم عيد ، فقال لى يا حميراء : أتحبين أن تنظرى إليهم ؟ فقلت نعم ، فأقامنى وراءه فطأطأ لى منكبه لأنظر إليهم ، فوضعت ذقنى على عاتقه ، وأسندت وجهى إلى خده ، فنظرت من فوق منكبه ، وهو يقول : دونكم يابنى أرفدة ، فجعل يقول : ياعائشة " ما شبعت ؟ فأقول : لا لأنظر منزلتى عنده ، حتى شبعت .
قالت : وما بى حب النظر إليهم ، ولكن أحببت أن يبلغ النساء مقامه لى ، ومكانى عنده ، فأقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو " ( )
وروت أيضا أن النبى كان يدعوها إلى المسابقة فسبقته مرة، وسبقها فى الثانية وبين السبقتين زمن تغير فيه بنيان عائشة فجعل النبى يضحك ويقول هذه – أى السبقة الثانية – بتلك السبقة " ( )
2- حق القرار فى البيت
قرار المرأة فى البيت وعدم الخروج منه إلا لداع إلزام عام يلزم كل مسلمة زوجة كانت أو غير زوجة ( ) غاية ما هنالك من فرق أن على الزوجة أن تستأذن زوجها فى الخروج ، والأصل فى هذا الحكم قوله تعالى " وقرن فى بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى" ( ) .
وقد فهم بعض الناس خطأ أن حق القرار الواجب بالآية خاص بزوجات النبى ( ) وليس كذلك ، لأن الله خاطبهن بوصفهن مؤمنات، فشمل غيرهن من المؤمنات ، قال القرطبى " وإن كان الخطاب لنساء النبى فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى ، ولو لم يرد دليل يخص جميع النساء ، كيف والشريعة زاخرة بلزوم النساء بيوتهن ، والانكفاف عن الخروج إلا لضرورة " ( ) .
ومن أسف أنه بينما تزعم عصبة " الاتحاد النسائى " أن قعود المرأة فى بيتها يعطل مرافق الدولة وينذر بموات المجتمع من جراء عيشته برئة معطلة يعنين ويعنون هؤلاء الباقيات فى بيوتهن ، نجد كاتبة غربية غير مسلمة تقول " إذا كانت النساء المسلمات اليوم يرفضن بعض الحريات التى نشعر أننا قدمناها إليهن فلا يرجع سبب ذلك إلى العناد ، بل التخبط فى النظرة الغريبة إلى المرأة ، وفى العلاقات بين الجنسين ، فنحن ندعوا إلى المساواة والتحرر ، ولكننا فى الوقت نفسه نستغل المرأة ونمتهنها فى الإعلانات وفى الكتابات والفنون الإباحية، وفى كثير من أشكال الفرجة الشعبية بأسلوب يستهجنه المسلمون ويتأذون به"( ).
وقد بلغ السخف بالعقول أشده عندما ينتقد أحد الفوضويين صورة المرأة فى الكتب المدرسية أنها مبرزة لدور الأم الحانية والزوجة الصالحة ، مغيبة للدور الوطنى والاجتماعى العظيم – كما يزعم – الذى لعبته المرأة فى العصر الحديث ( ) .
وبعيدا عن تبصرة المرأة بما تيقن العقلاء أنه مكيدة تكاد لها ولأولادها ولمجتمعها المسلم ، فإن حق القرار فى البيت لا يعنى حبس المرأة ، وإنما يعنى أن يكون البيت هو همها الأول ، فقد كفاها الله مشقة الكدح وألزم الزوج النفقة عليها ، ولكن إن تهيأ لها عمل مناسب وأذن لها زوجها بذلك فليس عليها من سبيل ، على أن تلتزم فى خروجها بآداب الشرع وتعاليمه .
وثمة حالات لا ينبغى للزوج أن يمنع زوجته الخروج فيها كزيارة والديها وعيادتهما ، والخروج إلى المساجد لأداء الفرائض ، وصلة الأرحام ونحو ذلك مما لا تتأتى منه مفسدة ( ) .
وقد أناط جمهور الفقهاء القرار فى البيت بحق النفقة ، فقالوا تسقط نفقتها إن خرجت بغير إذنه ، ورأى ابن حزم أن هذين حقان مستقلان لا تأثير لأحدهما على الأخر ( ) .
ويبدو لى أن الحق مع الجمهور لتتكافأ الحقوق والواجبات.
ومما يتصل بهذا الحق أن يهيئ الزوج لزوجته المسكن الشرعى الذى تستقل فيه بنفسها وأولادها . مما يليق بأمثالها ، وعليه أيضا أن يكفيها حوائجها التى لابد منها ، فإن قصر فى هذين الحقين فخرجت بلا إذن منه للضرورة فلا سبيل له عليها ( ).
وأخيرا فإن مما يعين على الوفاء بهذا الحق أن يكون الزوج لزوجته كما يريدها لنفسه ، فيوفيها حقها عليه من الإيناس والاستمتاع والمشاركة فى الأعباء المنزلية ، والترويح عنها ما استطاع إلى ذلك سبيلا ، فإن أغناها بنفسه استغنت عن غيره ، وإن انصرف عنها كلت ومالت إلى الخروج .
3- حق القوامة والتوجيه
من البديهى أن يكون لكل سفينة ربانها الذى يدير عجلتها ويسأل عن سلامتها ، وقد قضى الله أن يكون زمام الزوجية بيد الزوج يدبرها كما أمر الله أن تدبر ، وفق أوامره ونواهيه ، فقال سبحانه " الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتى تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن فى المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا " ( ) .
فالآية تقطع على أصحاب الأهواء أهواءهم وتقرر حكما أبديا
أن لعموم الرجال القوامة على عموم النساء ، دون نظر إلى تدنى بعض الرجال ورفعة بعض النساء ، فقد كملت بنص حديث رسول الله فاطمة بنت محمد ولم ينزع هذا قوامة على كرم الله وجهه عنها ، وتميزت نساء بيت النبوة فاشتهرن بالعلم والحكمة فضلا عن مكانتهن من رسول الله ولم تقل احداهن مع تصدرهن فى الحياة العامة – إنها أنفة من قوامة الزوج عليها .
وقد قضى ربنا سبحانه وتعالى أن سبب قوامة الرجل أمران :
أولهما : ما ركبه الله فيه من طبيعة خاصة تفضل طبيعة المرأة فى القيام بهذه المسئولية .
والثانى : التزامه بالإنفاق على الأسرة
والسبب الثانى تكليف يقبل الإعفاء أو الإبراء ، ومن ثم روعى فيه حال المراة كما سنرى ، وما يناط به من حكم فى الزوجية مرتبط بحال العدم لا حال الوجود ، فليس لامرأة أن تشكو زوجها لأنه واجد النفقة ، سخى العطاء ، وإنما تشكوه لامتناعه عن الإنفاق أو لعجزه .
والنفقة مال ومن طبع المال أنه غاد ورائح ، ولهذه الخصائص أخر الله هذا السبب ليكون مع الأول كالمكمل ، ولكنه لا يعود عليه بالإبطال ، لأن الأول فطرى والثانى مكتسب ، وهذا يعنى أن مشاركة الزوجة لزوجها فى الأعباء المنزلية خلق كريم وإحسان مجازى إن شاء الله ، لكن لا تأثير له فى القوامة لبقاء السبب الأصلى فيها .
أما السبب الأصلى وهو أن الرجل بحكم تكوينه البشرى وما جبله الله عليه من سجايا وخصال ، ودوافع وقدرات أقدر على القيام بهذه المهمة من المرأة ففضلا عن كونه حكما إلهيا فإنه واضح للعيان من نظرة فى البنيان ، وتأمل فى النبات والحيوان ، وقد ثبت بالتشريح الطبى " أن كيان المرأة الجسدى قد خلقه الله على هيئة تخالف تكوين الرجل ، بل إن كل خلية من خلايا جسم المرأة تختلف فى خصائصها وتركيبها عن خلايا الرجل ، وآية ذلك الفروق الهائلة بين الأنسجة والأعضاء فى كل من الذكر والأنثى " ( ) .
كما لوحظ فى علوم الأحياء أن القيادة والتوجيه لذكر الحيوان لا أنثاه إلا فى ندرة من المخلوقات تعتبر فى التصنيف العلمى أخس أنواع الأحياء ، وفيها فقط تكون القيادة للأنثى ، وفيما عداها فالذكر هو القائد ، يستوى فى ذلك الأليف الهادئ ، والمتوحش الهائج .
وفى علوم النبات وجد أن عضو التذكير فى الزهرة يعلو عضو التأنيث ، ويتطاول عليه .
وتبدو الملاحظة أوضح فى اللقاء بين الزوجين ، فأحب الأوضاع إلى الفطرة وضع " التغشية " الذى يعلو فيه الرجل المرأة ويحتويها احتواء تاما ، فإن ضعف احتواؤه نفرت منه زوجته " ( )
فمع كل هذه الفوارق الظاهرة للعيان يقتضى العقل والمنطق والفطرة السليمة أن تكون مسألة قوامة الرجل خارج دائرة المناقشة ، لكن أعداء المرأة من المتسلطين والمتسلطات عموا ، أو استعموا عن كل هذه الحقائق والمشاهدات وألحوا ومازالوا فى النيل من هذه الدرجة تحت دعوى المساواة ، وأظهر دعاويهم أن المرأة تعلمت وخرجت إلى العمل ، وتفوقت فى بعض ميادينه فغدت ندا للرجل فكيف تكون له عليها قوامة ؟
وهذه دعوى هابطة ردها الأستاذ العقاد منذ زمن بقوله " فى تجارب الأمم شواهد ملموسة على الفارق الأصيل بين الجنسين ، فى الكفاية العقلية والكفاية الخلقية فإن المرأة على العموم لا تساوى الرجل فى عمل اشتركا فيه ، ولو كان من الأعمال التى انقطعت لها المرأة منذ عاش الجنسان فى معيشة واحدة، لا تطبخ كما يطبخ ، ولا تتقن الأزياء كما يتقنها ، ولا تبدع فى صناعة التجميل كما يبدع فيها ، ولا تحسن أن ترثى ميتا عزيزا عليها كما يرثى موتاه ، وهى منذ بدء الخليقة تردد النواح ، وتنفرد بأكثر مراسم الحداد ، ومن اللغو أن يقال هذه الفوارق إنما نجمت من عسف الرجل واستبداده ، فإن الرجل لم يكن ينهى المرأة أن تطبخ وأن تخيط الثياب وأن تتزين …. " ( ) .
وإن سلمنا أن بعض النساء فقن الرجال فنحن نتحدث عن امرأة بعينها، هى الزوجة التى حررها الإسلام من أن تكره على التزويج برجل لا تريده ، أو تراه دونها فى المنزلة والمكانة ، فإن رضيت رجلا فلا بد وأن فيه ما هى محتاجة إليه ، فلتقبله بما له وعليه ، أو ترده ، ولكن أن تريده بما عنده وتسلبه ما عليها فهذا شئ غير الزواج الذى أراده الله منا ، ولا أراها فى ميزان الشرع إلا امرأة العزيز ، أو امرأة نوح أو امرأة لوط ، فارتباطها بالرجل ارتباط بيولوجى شهوانى ، لا سكن فيه ولا مودة ولا رحمة …. وعلى حواء أن تختار أن تكون امرأة أو تكون زوجة .
وليس من السهل علينا أن نغادر هذا المقام دون أن نرى قارءنا الكريم منطلق التحرريين ، وعقيدتهم الدينية فى قضية القوامة وأمثالها ، وتذكر أن القسم فى الحقوق من الله سبحانه ، وتكليف الرجل بالقوامة تكليف إلهى أيضا .
يقول الدكتور زكى نجيب محمود " وتفرعت من مشكلة الحرية مشكلات لها خطرها وعمق أثرها فى حياتنا العربية المعاصرة ، منها حرية المرأة ، فالمرأة العربية الجديدة إنسانة أخرى غير امرأة الأمس ، ومع ذلك فقد وجدت نفسها فى مجالات العرف والتقليد والتشريع حبيسة أوضاع وضعت لسالفاتها من بنات ( الحريم ) و(الجوارى) و ( الغانيات ) ، لقد أصبحت المرأة العربية اليوم طبيبة ومهندسة ومحاسبة ومدرسة فى مختلف مدارج التعليم من المدارس الأولية فصاعدا إلى كراسى الأستاذية فى الجامعات ، أصبحت المرأة العربية اليوم عاملة فى معامل الفيزياء ، وممثلة للشعب فى مجالس النواب ، ووزيرة مع الوزراء فى قيادة أمتها ، نعم أصبحت المرأة العربية اليوم، ثم أصبحت، وأصبحت فهل يعقل أن يقال لها – وهذا كيانها الجديد – ما كان يقال لسالفاتها من قوامة الرجال عليها بالمعنى التقليدى ………. إن امرأة عصرنا لتجد نفسها فى أزمة حادة ،لأنها تجد نفسها مشدودة بين قطبين نقيضين ، فمن هنا تقاليد تضعها موضعا لم يعد يصلح لها ، ومن هنا مشاركة فى نشاط العصر وثقافته تجتذبها جذبا إلى أن تقف مع الرجل الزوج والأخ والزميل فى صف واحد ، فأين عساها أن تجد منافذ الخلاص ؟
إن ذلك لن يكون فى تراث عربى قديم ……… لن نجد للمشكلة حلولها إلا فى حضارة الغرب الحديث " ( ) هذا مشربهم فاختارى أختاه بين حزب الشيطان وحزب الله .
مضمون القوامة وسلطاتها
القوامة فى اللغة والاصطلاح تعنى الإشراف والتدبير ، فالقائم بشئون العمل هو المسئول عنه المشرف عليه المدبر لشئونه ، فهى مسئولية فى المضمون ، سلطة فى الشكل .
فهى أنموذج المسئولية الثابتة بالحديث الصحيح " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته " ( ) وغرضها الفلاح والوقاية من الخسران ، استجابة لأمر الله تعالى " يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا " ( ) وكما يبين من الآية أن الصالحات من الزوجات يرونها كذلك فلا يشغلهن من القوامة سلطاتها ، فقد حكم الله فيهن بالخلاء عن المساءلة فقال " فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا"( ).
أما الخارجات عن الطوع - وقد عرفنا أنه لله فى الحقيقة ، وإن كان للزوج فى الظاهر – فلا يرين من القوامة إلا ما ملك الله الرجل من سلطات ، لعلمهن أنها تطولهن ، ومع هذا فإنها ليست فى الحقيقة كما يصورنها للبسطاء من الناس فهى ثلاث سلطات مرتبة على النحو الآتى : -
أولا الوعظ
أمر الله للزوج أنه إذا ظهرت من زوجه أمارات النشوز وهو العصيان والتعالى فلا ينتظر بها حتى تعصى أو تتعالى بالفعل ، وإنما يبادر إلى وعظها بأن يذكرها " بما أوجب الله عليها من حسن الصحبة وجميل العشرة للزوج ، والاعتراف بالدرجة التى له عليها " ( ) ويصرف فى ذلك كل صنوف الدعوة ، ولا يمل ، آخذا فى الحسبان ما أخبر به النبى " أن النساء خلقن من ضلع أعوج فإن ذهبت تقيمه كسرته ، وإن تركته لم يزل أعوج " وينفذ أمره " فاستوصوا بالنساء خيرا " ( ) .
وعليه أن يتخولها بالموعظة حتى لا تسأمه ، ويتخير من الأوقات والفرص ما يراه أنسب للتأثير ، فلكل مقام مقال .
وفوق هذا وذاك يجب أن يتحلى بعين المحب فيغفر الزلات ، ويعفو عن الهنات ، ولا يكون لكل عيب كاشفا ، وليكن له فى رسول الله أسوة حسنة ، فلم ير أصبر منه على نسائه ، وفيما يروى عن بعضهن ما تطلق بدونه كثير من النساء .
ففيما روى أن النبى كان عند إحدى نسائه فجاءه طعام فى صحفه – إناء من خشب – فضربت التى هو عندها يد الخادم فسقطت الصحفة فانفلقت ، فجمع النبى فلق الصحفة ثم جعل يجمع فيها الطعام الذى كان فى الصحفة .. ويقول غارت أمكم "( ) .
والمعنى أنه لم يؤاخذ الغيراء بما يصدر منها ، لأنها فى تلك الحالة يكون عقلها محجوبا بشدة الغضب الذى أثارته الغيرة ( ).
وفى الحديث الصحيح عن عمر قال " كنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا على الأنصار إذا قوم تغلبهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار ، فصخت – أى غضبت عليها – فراجعتنى ، فأنكرت أن تراجعنى ، قالت : ولـِمَ تنُكر – أى ترفض – أن أراجعك ؟ فوالله إن أزواج النبى ليراجعنه ، وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل.
يقول عمر – فأفزعنى ذلك فقلت لها : قد خاب من فعل ذلك منهن ، ثم جمعت على ثيابى فنزلت فدخلت على حفصة ، فقلت لها : أى حفصة أتغاضب إحداكن النبى اليوم حتى الليل ؟ قالت : نعم ، فقلت : قد خبت وخسرت ، أفتأمنين أن يغضب الله لغضب رسول الله فتهلكى ؟( )
وروى عن عائشة أنها قالت له مرة فى كلام غضبت عنده أنت الذى تزعم أنك نبى الله ، فتبسم رسول الله واحتمل ذلك حلما وكرما ( ).
بل إن الله سبحانه وتعالى أخبر فى قرآن يتلى ويتعبد به أن عائشة وحفصة تعاونتا على النبى ، قال تعالى " إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير"( ).
ورحم الله الغزالى إذ يقول " واعلم أن ليس حسن الخلق معها كف الأذى عنها ، بل احتمال الأذى منها ، والحلم عند طيشها وغضبها اقتداء برسول الله " ( ).
2- الهجر فى المضجع
أن يعتزل معاشرتها وهو على مرأى ومقربة منها ، فإن شاركها الفراش يوليها ظهره ، أو يتخذ فراشا آخر فى نفس الحجرة أو فى حجرة أخرى فى نفس البيت ، وعليه أن يلتزم بالهجر الجميل فلا يخاصمها أو يجافيها ، وإنما يمتنع فقط عن الاستمتاع بها ، وألا يزيد هجره لها عن أربعة أشهر ( )، فإن فاءت فقد عفا الله عما سلف ، وإن مضت فى غيها حلت الوسيلة الثالثة .
والمهم هنا أن الهجر كوسيلة فى التقويم لا يؤتى أكله إلا إذا أخذ على وجهه المشروع ، من كونه ثانى الوسائل ، وقاصراً على المضجع ، وألا يهجر إلا فى البيت ، وأن ينتظر به مدة الإيلاء .
3- الضرب غير المبرح
وكما هو ظاهر من الآية فإنه آخر الوسائل ، ولا محل له إلا مع المشاكسة التى أغراها حسن الخلق ، ولم تنفعها عظة ، ولم يردها عن الأذى هجر .
والضرب المشروع هو الضرب غير المبرح ، وصورته اللكزة باليد ، لا بسوط ولا عصا ، ويتقى فيه الوجه ، والجارحة ، فإن لحقها منه أذى مادى فالزوج ضامن " لأن المقصود منه الصلاح لا غير " وعن عطاء قال : قلت لابن عباس ما الضرب غير المبرح ؟ قال : بالسواك ونحوه "( ) ومع أن الضرب المشروع لا يكاد يفيد إلا التخويف فإن النبى قال " ولن يضرب خياركم "( ) وأخذ منه العلماء باتفاق أن ترك الضرب أفضل ( ).
وثمة كلمة يجب أن تقال هنا وهى أن الدواء الناجع لا يحدث أثره إلا إذا أخذ على الوجه الصحيح من المبتدأ إلى المنتهى ، والسعادة الزوجية لن تتحقق إلا إذا روعيت أحكام الزواج فى الابتداء والبقاء ، فعليك وعليك مراعاة المنهج ابتداء ، والوفاء بما ألزم الله بقاء يتحقق لكما الوعد الجميل " ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب "( ).
الفصــــــــل الثانــــى
حقــــوق الزوجــــــــــة
للزوجة على زوجها نوعان من الحقوق فضلا عن نصيبها فى الحقوق المشتركة التى تثبت لكليهما .
والنوع الأول من حقوق الزوجة يندرج تحت مسمى الحقوق غير المالية ويظهر بوجه خاص فى حقها فى عدم الإضرار بها واساسه قول الله تعالى " ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا " ( ) كما يظهر فى حقها فى العدل أو القسم عند تعدد الزوجات ، وأساسه " فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة " ( ) فأباح الله التعدد بشرط العدل ، على أن العدل المراد هو العدل فى المقدور كالمبيت والنفقة وحسن المعاملة ، أما غير المقدور كالميل النفسى فلا دخول للعدل فيه ، لقول الله تعالى " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة " ( ) .
والحق فى عدم الإضرار ، والحق فى العدل يظهران أكثر عند الحديث عن الإخلال بهما ، وجزاء ذلك ، لذا نرجئ الحديث عنهما إلى الكتاب الثانى .
أما النوع الثانى من حقوق الزوجة فهى حقوق مالية ، وتظهر بوجه خاص فى حقها فى الصداق ، وحقها فى النفقة ، وهذان الحقان هما ما نعنى ببيانه فى هذا الفصل .
المبحث الأول
الصداق وما يتعلق به من أحكام
1- تعريف الصداق
الصداق اسم مصدر للفعل الرباعى " أصدق " مأخوذ من الصدق ، وقد سمى بذلك لإشعاره بصدق رغبة باذله فى النكاح الذى هو الأصل فى إيجاب الصداق .
وحده شرعا : اسم لمال واجب على الرجل بنكاح أو وطء بشبهة ( ) ولفظة الصداق هى الأكثر إشعارا بحقيقة ما يبذل للمرأة والرغبة فيها ، لذا فهى الأكثر شيوعا فى لغة الفقهاء ، وتقاربها فى الشهرة لفظة المهر ، وكلاهما أكثر استعمالا من أسمائه الأخرى ، سواء تلك التى ورد بها الشرع صريحا أو استنبطها الفقهاء من النصوص أو جرى بها العرف اللغوى وهى " النحلة ، الفريضة ، الحباء ، الأجر ، العقر ، العلائق ، الطول ، الخرس ، العطية" ( ) .
وأول مداخل الصداق عند الفقهاء سببه ، هل هو عوض عن انتفاع الزوج بالبضع ، أم تكرمه وعطية من الله تعالى ؟
للعلماء فى ذلك قولان ( ) :
أحدهما : أنه عوض عن الانتفاع بالبضع .
الثانى : أنه نحلة أى عطية وتكرمة من الله تعالى أمر بها الأزواج إبانة لشرف المحل وخطره .
وجمع بعض العلماء بين القولين فقال ما حاصله " أن من نظر إلى الظاهر من كون الصداق فى مقابلة منفعة البضع جعله عوضا عن هذه المنفعة ، ومن نظر إلى الحقيقة والباطن من كون الزوجة تستمتع بزوجها كما يستمتع بها هو أيضا جعل الصداق تكرمة وعطية من الله مبتدأة وصادرة من الزوج لتحصل الألفة والمحبة بين الزوجين " ( ) إذن فهو عوض فى الظاهر فقط بدليل أن الله سبحانه حرره من عنصر الثمنية ، فلم يجعل – فى الصحيح – حدا لأقله ولا أكثره ، وجعل للمطلقة قبل الدخول والخلوة الصحيحة نصف المسمى أو المتعة ، ولو كان عوضا حقا ما وجب لها شئ لعدم الانتفاع بها أصلا .
ثم أن يكون الصداق عطية مفروضة فهذا هو الأنسب لخطر عقد النكاح وعظم شأنه ، وتكريم الآدمى وصيانته عن أن يكون – هو أو جزء منه – محلا للتعاقد ، وصيانة المرأة أن تكون عرضا أو نافجة " ( ) كما هو الحال فى الجاهلية ( ) .
حكم الصداق :
لا يختلف أهل العلم أن الصداق واجب على الزوج ( ) لزوجته وقد ثبت وجوبه بالكتاب والسنة والإجماع .
أما الكتاب : فقوله تعالى " وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مرئيا " ( ) .
وقال سبحانه " فما استمتعتم به منهن فأتوهن أجورهن فريضة " ( ) .
وقال " فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف " ( ) فهذه كلها أوامر من الله سبحانه وتعالى بإيتاء النساء مهورهن .
وآية واحدة تكفى للوجوب ، لكن الله سبحانه عدد الأمر تأكيدا ، ونوع الوصف أو الحال تعظيما وتشريفا ، وحتى لا تكون هناك ثمة حالة لا تأخذ فيها الزوجة صداقا .
ومن السنة : أحاديث كثيرة جمع منها ابن تيمية " الجد " فى منتفى الأخبار خمسة عشر حديثا ( ) ومنها : -
ما روى الشيخان عن سهل بن سعد أن النبى جاءته امرأة ، فقالت : يا رسول الله وهبت نفسى لك ، فقامت قياما طويلا ، فقام رجل فقال : يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة ، فقال رسول الله : هل عندك من شئ تصدقها إياه ؟ فقال : ما عندى إلا إزارى هذا ، فقال النبى : إن أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك فالتمس – اى اطلب – شيئا فقال لا أجد ، فقال التمس ولو خاتما حديد ، فالتمس فلم يجد شيئا ، فقال له النبى هل معك من القرآن شئ قال نعم سورة كذا وسورة كذا ، لسور يسميها ، فقال له النبى قد زوجتكها بما معك من القرآن .
والوجه فيه :
أن النبى طلب من الرجل أن يصدقها شيئا ولو قليلا ، حتى أنه أمره أن يلتمس ولو خاتما من حديد ، ولولا أن الصداق واجب ما أمره ، ولما لم يجد عنده شيئا زوجها له على منفعة تعليمها ما يحفظ من القرآن .
وإلى جوار الأحاديث الكثيرة التى وردت فى المهر لم يثبت عن النبى تركه فى أى زواج ، فلما استمر على اعتبار فعله دل على أنه واجب ( ) وعلى وجوب المهر أجمع العلماء من الصحابة وغيرهم ( ) .
طبيعة الصداق ( ) :
لا يختلف العلماء أن الصداق واجب للمرأة وجوبا أكيدا ولكن هل هو أثر من آثار النكاح أم شرط فيه ؟
عامة العلماء : يرون الصداق أثراً من آثار الزواج وليس شرطا فيه ( ) حتى لو تزوجها على ما لا يصح أن يكون صداقا أو على ألا صداق لها صح الزواج ولزمه مهر المثل .
واستدل الجمهور على ذلك بقول النبى " لا نكاح إلا بولى وشاهدى عدل "
والوجه فيه : أن النبى نفى صحة النكاح بدون الولى والشاهدين ، فإن وجدوا صح النكاح ، أو يقال : انه أوقف الصحة على الأمور المذكورة ، ولا ذكر فيها للمهر فلا يكون المهر شرطا فيه ، وقالوا : إن نفى المهر أو فساد المسمى كعدم المهر ، وقد أجاز الشرع نكاح التفويض ، وهو الذى لم يسم فيه مهرا ، قال تعالى " لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن " ( ) فالآية تفيد نصا صحة الطلاق قبل الدخول والخلوة، وأنه عند عدم الفرض تجب المتعة ، وتفيد بطريق الاقتضاء صحة الزواج دون تسمية مهر ، إذ لا طلاق إلا فى زواج صحيح ( ) وقد روى أن بروع بنت واشق تزوجت بغير مهر ، فحكم لها رسول الله بمثل مهر نسائها ( ) كما أن أبا طلحة الأنصارى تزوج أم سليم على غير مهر فأمضى رسول الله نكاحه( ).
ومشهور مذهب الإمام مالك : أن الصداق شرط لصحة النكاح ( ) وهو قول أبى عبيد من الحنابلة وعلى ابن أبى هريرة من الشافعية ( ) وقول ضعيف عند الأباضية ( ) ويحتمل أن يكون مذهب أهل الظاهر ( ) .
ومستند هذا القول كما بينه ابن العربى " أن الله سبحانه جعل الصداق عوضا ، وأجراه مجرى سائر أعواض المعاملات المتقابلات بدليل قوله تعالى "فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة " فسماه أجرا فوجب أن يخرج به عن حكم النحل إلى حكم المعاوضات " ( ) .
والمعنى : أنه مادام الصداق ما يلزم على سبيل العوض فلا يصح العقد بإسقاطه ، لأنه شرط فيه بدليل نهى النبى عن نكاح الشغار " لأنه نكاح بلا مهر .
كما أن سمة العوض تحتم أن يكون الصداق صحيحا – أى مما يحل قبضه – فإن كان فاسدا فسد النكاح بفساده كما يفسد البيع بفساد الثمن( ).
والحقيقة أن حجج هذا المذهب ضعيفة .
1- لأن المهر ليس عوضا فى الحقيقة ، إذ لو كان كذلك لما وجب بالطلاق قبل الدخول أو الموت قبله شئ ، وقد حكم الله فى الطلاق قبل الدخول بنصف المسمى أو المتعة ، وقيس الموت عليه.
2- أما نكاح الشغار فقد بطل – على رأى من يرى ذلك – بالتشريك بأن أبدل بضعا ببضع ، وقد نهى النبى عن ذلك قصدا فبطل لهذا السبب ( )
3- والقياس على البيع لا يصح ، لأن البيع يبطل بترك الثمن ، والنكاح لا يبطل بترك المهر ، بدليل صحة نكاح التفويض ، فلم يبطل بفساده( ).
وعلى ذلك فالصداق أثر من آثار عقد الزواج ، تؤثر إرادة العاقدين فى تعجيله وتأجيله ، وقلته وكثرته ، ونوعه ، لكنها لا تؤثر فى إيجاده فهو يوجد بالعقد ( ) سواء ذكره المتعاقدان ، أو سكتا عليه ، أو نفياه . أو سميا حلالا أو حراما .
غاية ما هنالك أنهما إذا تراضيا على ما يصح أن يكون مهرا صح ولزم ما تم عليه التراضى ، وفى الأحوال الأخرى يجب مهر المثل .
المهر فى النكاح الفاسد والوطء بشبهة
إذا فسد النكاح لفقده شرطا من شروط الصحة وجب على الرجل والمراة أن يفترقا بأنفسهما ، وإلا فرق بينهما الحاكم ، فإن كان ذلك قبل الدخول لم يلزم الرجل شئ لأن العقد الفاسد لا يرتب شيئا بذاته .
وإن حصل فيه دخول رتب جملة من الآثار منها وجوب المهر على الرجل بالدخول ، ولكن ماذا يجب لها ؟
لا خلاف بين العلماء أنه إذا لم يكن قد سمى لها ، أو سمى ما لا يحل مهرا أن لها مهر مثلها ، لأن موجبه هو الوطء ، والوطء يوجب مهر المثل ( ) ، كذلك الوطء بشبهة يوجب مهر المثل لخلوه عن التسمية.
وإن كان قد سمى لها شيئا .
فالمالكية ورواية عن الإمام أحمد يقولون : لها المسمى إن كان حلالا ،لأن فى بعض ألفاظ حديث عائشة " ولها الذى أعطاها بما أصاب منها " ( ) .
وجمهور الحنفية : على أن لها الأقل من المسمى أو مهر المثل لأنها فى المسمى رضيت بالحط ، وفى مهر المثل لأن التسمية فاسدة بفساد العقد ( ) وبه قال بعض الشافعية ( ) .
والإمام زفر والشافعية والحنابلة - على المختار عندهم - يقولون بمهر المثل بالغا ما بلغ ، لأن العقد ليس بموجب شيئا ، فتفسد التسمية ، وإذا فسدت صرنا إلى مهر المثل ( ) .
وفى رأى الإمام ابن حزم : أن النكاح الفاسد لا يجب فيه شئ ، فلا توارث ولا نفقة ولا صداق ولا عدة ، حاشا التى تزوجت بغير إذن وليها جاهلة فوطئها – الزوج – فإن كان سمى لها مهرا فلها الذى سمى لها ، وإن كان لم يسم لها مهرا فلها عليه مهر مثلها ، فإن لم يكن وطئها فلا شئ لها ……
وإنما وجب المسمى بالحديث " فالمهر لها بما أصاب منها " وصح أيضا " فلها مهرها بما أصاب منها " .
فقوله " فالمهر لها " تعريف بالألف واللام" وقوله عليه الصلاة والسلام " فلها مهرها " بإضافة المهر إليها ، فهذان اللفظان يوجبان لها المهر المعهود المسمى ، ومهرا يكون لها إن لم يكن هنا لك مهر مسمى ، وهو مهر مثلها " ( )
وفى ضوء ذلك فإنه :
1- إذا صحت الرواية " فلها مهرها " أو " فالمهر لها " يكون القول بلزوم المسمى هو الأرجح ، لأن له سندا من السنة ، والمنقول يقدم على المعقول لا شك .
2- وعلى فرض أنها لم تصح فاعتبار المسمى فى رأيى أوجه ، لأن النكاح الفاسد له حكم الصحيح قبل فسخه ، لأنهما لو كانا يعلمان فساده ودخلا فيه كانا زانيين والزنا لا يوجب مهرا ، مسمى ، أو مثلا ، فإذا قدرناه كالصحيح وجب فى الصداق ما يجب فى الصحيح .
قال فى الإنصاف " النكاح مع فساده منعقد ، ويترتب عليه أكثر أحكام الصحيح : من وقوع الطلاق ولزوم عدة الوفاة بعد الموت ، والاعتداد منه بعد المفارقة فى الحياة ، ووجوب المهر فيه بالعقد ، وتقرره بالخلوة ، فلذلك لزم المهر المسمى فيه كالصحيح … يوضحه : أن ضمان المهر فى النكاح الفاسد ضمان عقد كضمانه فى الصحيح " ( ) .
مقدار الصداق :
قلنا إن الأحاديث الواردة فى الصداق كثيرة ، وأصحها الحديث المتفق عليه ( ) الذى رويناه قبلا ، وفيه قال النبى " التمس ولو خاتما من حديد " .
وهو يثبت وجوب الصداق من جانب ويشير إلى تيسير المهور من جانب آخر ، وهذا المعنى الثانى تأيد بأكثر من رواية ومن ذلك :
ما روى أحمد بسنده عن عائشة رضى الله عنها أن النبى قال " إن أعظم النكاح أيسره مؤنة ( ) وما روى أبو داود وغيره عن عقبة بن عامر أن النبى قال " خير الصداق أيسره " ( ) وفيما روى مسلم وغيره عن عائشة رضى الله عنها قالت " ما تزوج النبى أحدا من نسائه ، ولا زوج واحدة من بناته على أكثر من اثنتى عشرة أوقية ونشا " قالت : عائشة : أتدرون ما النش ؟ النش نصف أوقية عشرون درهما ، يعنى خمسمائة درهم ، لأن الأوقية أربعون درهما " ( ) .
وعن عمر أنه خطب الناس فقال " ألا لا تغالوا صدقة النساء ، فإنها لو كانت مكرمة فى الدنيا ، أو تقوى عند الله ، لكان أولاكم بها نبى الله ، ما علمت رسول الله نكح شيئا من نسائه ، ولا أنكح شيئا من بناته على أكثر من ثنتى عشرة أوقية " ( ) .
وهذه الروايات تفيد لا شك التيسير فى المهور ، وأنه حكم مستحب على أقل تقدير ، وأن المغالاة فى المهور نهج غير مسنون ، وهو يمثل قطعا أحد أهم معوقات الزواج ( ) فى أيامنا ، خاصة إذا ضمت إليه أزمات الإسكان ونفقات التجهيز ، والمباهاة فى الأعراس ، وإننا لنضم صوتنا إلى أساتذتنا فنهيب بأولياء الأمور أن يتبصروا الواقع فليس فى عنوسة البنات مصلحة ، كما نهيب بالإعلام مقروءا ومرئيا ألا يثير حفيظة المكدودين بأفراح القادرين .
وبعيدا عن استحباب التيسير فإن من الفقهاء كما رأينا من رأى المهر عوضا عن منفعة البضع فجرهم ذلك إلى الاجتهاد فى تحديد أقل ما يستباح به البضع ، وهو عضو من أعضاء الجسد لا جدال فى ذلك .
أقصى المهر
ولم يكن بوسع أحد أن يجعل لأقصى المهر حدا لما ورد فى القرآن الكريم من ذكر " القنطار " إشارة إلى المال الكثير قال تعالى " وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا ( ) " فذكر القنطار على سبيل المبالغة لأنه لا يسترجع إذا كان صداقا " ( ) .
وفى إحدى روايات حديث عمر فى صداق النبى أنه قال " فما بلغنى أن أحدا ساق – دفع – أكثر مما ساقه رسول الله إلا جعلت الفضل فى بيت المال " فاعترضته امرأة من نساء قريش فقالت : يعطينا الله وتمنعنا ؟ كتاب الله أحق أن يتبع ، قال الله تعالى " وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا " فرجع عمر وقال : "كل أحد يصنع بماله ما شاء ، فكل الناس أفقه من عمر حتى امرأة"( ) وعلى ذلك أجمع الفقهاء أن أقصى المهر لا حد له ( ).
ويكشف بعض أساتذتنا عن وضاءة الحكمة التشريعية ألا يكون للمهر حد أعلى أنها توافق متغيرات الأحوال والأزمان والأشخاص ( ) وهو أمر تشهد له تقلبات العملات ، وتغير الأسواق ، والأوضاع الاقتصادية من حين إلى حين ومن بلد إلى بلد .
الحد الأدنى للمهر :
قلنا إن من الفقهاء من رأى المهر عوضا للمرأة ، وعلى رأس هؤلاء الحنفية والمالكية ( ) ، وقد حدا بهم قولهم أن ينظروا أقل عوض يستباح به البضع ، وأعانهم على هذا ظاهر بعض الآيات القرآنية ، وروايات تمسكوا بها، وقياس صح عندهم .
أما ظاهر القرآن فمن قوله تعالى " وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم " ( ) فقالوا : لابد من مهر يدخل تحت مسمى المال المحترم ، والمحترم من المال هو ما وجب فيه القطع ، ولا قطع فى أقل من عشرة دراهم عند الحنفية وربع دينار أو ثلاثة دراهم عند المالكية .
ومنه أيضا " ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات " ( ).
قالوا : إن الله شرط عدم الطول فى نكاح الإماء ، فدل على أن الطول لا يجده كل الناس ، إذا لو كان الفلس والدانق – عملات صغيرة كالقرش والمليم – ونحوهما طولا لما عدمه أحد ، ولأن الطول المال ، ولا يقع اسم المال على أقل من ثلاثة دراهم ( ) فى رأى مالك .
ويستندون إلى رواية تقول " لا مهر أقل من عشرة دراهم " ( ) ويقيسون أقل المهر على أقل ما يجب بسرقته قطع اليد ( ) .
وفى النكاح استباحة البضع وهو عضو أيضا ، فلزم اعتبار التقدير الشرعى فى العضو ( ) .
وجمهور الفقهاء : لا يرون أن للمهر حداً أدنى كما أن أقصاه ليس له حد( ) ، ومتمسكهم فى ذلك القرآن والسنة .
أما القرآن فقوله تعالى " أن تبتغوا بأموالكم " ( ) وهو عام فى قليل المال وكثيره .
وقوله تعالى " وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم " ( ) .
فالفريضة عام فى كل ما يفرض أى يجب صداقاً ، ولا قيد فيه إلا أن يكون له نصف ، فكل ما كان له نصف بمقتضى الآية يصح صداقاً.
ومن السنة أحاديث كثيرة منها :
قول النبى " التمس ولو خاتما من حديد " .
يقول ابن حزم " يضحك الثكلى ويسئ الظن بقائله – أن يقال خاتم من حديث يساوى ثلاثة أو عشرة دراهم – ولا خلقه الله عز وجل قط فى العالم أن تكون حلقة من حديد وزنها درهمان تساوى ما ذكروا ولاسيما فى المدينة ، وقد علم كل ذى حظ من التمييز أن مرورهم ومساحيقهم لحفير الأرض ، وسككهم للحرث ، ومزابرهم للزرجون ، ودروعهم ورماحهم كل ذلك من حديد " ( ).
ومنها أيضاً : ما روى أن امرأة تزوجت على نعلين ، فقال لها رسول الله " أرضيت من نفسك ومالك بها تين النعلين ؟ قالت نعم ، فأجازه . ( )
ولهم من المعقول : أن ما يقابل البضع من البدل لا يتقدر فى الشرع كالخلع . ( )
وفى رأيى : أن اعتبار الصداق عوضاً فى النكاح محل مؤاخذة وقد تقدم، والحديث الذى تمسك به الحنفية ضعيف ( ) وعلى فرض قبوله فإنه معارض بالحديث المتفق على صحته " التمس ولو خاتماً من حديد " ( ) ودلالته كما قال ابن حزم تنفى العشرة وأقل منها ، والعمل بالأقوى يقدم على العمل بالأضعف .
وإناطة الطول بملك ثلاثة دراهم محل نظر لأن الطول مختلف فى تفسيره ( ) ، وإن فسرناه بالسعة والغنى فمالك الثلاثة بل العشرة لا يسمى غنياً موسراً .
وقياس النكاح على السرقة ، والبضع على اليد مفارق من أكثر من وجه، ويكفى أن يقال السرقة جناية والنكاح نعمة ( ) .
وعلى ذلك يكون قول الجمهور هو الراجح هنا ، بل إن الحكمة تقتضيه( ) ، لأن كون الزواج مبنيا على الرضا يرجح إتاحة الفرصة للزوجين أو الأهلين أن يبلغوا بالرضا أقصى حده .
ما يصح أن يكون مهراً وما لا يصح :
تلونا فيما سبق قول الله تعالى " وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم " وقوله " وآتيتم إحداهن قنطاراً " وروينا أحاديث كثيرة منها " التمس ولو خاتما من حديد " وما روى – وإن كان ضعيفا " لا مهر أقل من عشرة دراهم " .
ولا شك أن كل ما يحاز ويحرز ويمكن الانتفاع به شرعا يسمى مالا باتفاق ( )، ومثاله الخاتم والدراهم ونحوهما من كل نقد وعرض ، ولا خلاف أن كل ما حرم الشارع الانتفاع به ( ) لا يسمى مالا كالخمر والخنزير ونحوهما من المحرمات ، وفى حكمها " المعدوم والمجهول ومالا يقدر على تسليمه ، ومالا يتمول عادة "( ) وثمة نوع ثالث لا هو مما يحاز ويحرز بعينه ، ولا هو من المحرمات ، ومثاله الشهير المنافع .
ولأن الله سبحانه وتعالى شرط الابتغاء بالمال ، فقد خرج عن أن يصح مهراً مالا يحل الانتفاع به شرعا كالمحرمات من الأشياء ، واعتبر كل ما يحاز ويحرز ويمكن الانتفاع به شرعا مهرا صحيحا باتفاق( ) غاية ما هنالك أن من شرطوا فى المهر حداً أدنى أوجبوا ألا يقل المال عن الحد المعتبر ، وقد بينا وجه ضعفه .
أما المنافع ففى صحة اعتبارها مهراً ثلاثة أقوال :
أولها : أن المنافع لا تصلح مهراً مطلقا ، قال الدسوقى " القول بالمنع قول مالك وهو المعتمد "( )، ونسبه ابن العربى والقرطبى إلى ابن القاسم ( )، وقال ابن رشد " والمشهور عن مالك الكراهة "( ) وكيف كان النقل فالثابت أن فى مذهب مالك قولا بالمنع من اعتبار المنفعة صداقا .
والثانى : أن المنفعة تجوز مهراً بشرطين .
أولهما : أن تكون لها قيمة مالية ( ).
وثانيهما : أن لا يكون فى استيفائها امتهانا للزوج ( ).
هذا مذهب الحنفية ، ورواية عن أحمد.
والثالث : أن كل منفعة معلومة يجوز أخذ العوض عنها تجوز صداقا
هذا قول جمهور العلماء ( )، وهو الراجح فقها . لأن الله سبحانه وتعالى ذكر فى صداق موسى عليه السلام شرط حميه " إنى أريد أن أنكحك إحدى ابنتى هاتين على أن تأجرنى ثمانى حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك "( ) فأجاز أن تكون خدمة الحر – غير الرقيق – صداقا ( ).
وفى السنة أن النبى قال للملتمس ولم يجد شيئا " زوجتكها على ما معك من القرآن " فجعل صداقها أن يعلمها ما يحفظ من كتاب الله ويقاس على تحفيظ القرآن كل علم نافع ( ).
ومن المعقول : أن الله سبحانه أوجب الابتغاء بالمال والمنافع أموال ، لأنها جعلت لإقامة المصالح ، بل هى أساس التقوم فى الأعيان ، فهى مبعث الرغبات ودافع التعاقدات ، فجاز أن تكون مهراً ( ).
والتفرقة بين المنافع لا تسلم من الاعتراض ، فالنص القرآنى أجاز خدمة الحر صداقا ، والسنة المشرفة أجازت التعليم صداقا وليس بعد قول الله قول .
وعلى أساس الراجح فإن ما يصح أن يكون مهراً هو ما يصح التزامه شرعا من مال أو منفعة ، وهذا يقتضى.
1- أن يكون معلوماً علما ليس فيه جهالة فاحشة فإن كانت فيه جهالة يسيرة فإنها تغتفر ، لأن مبنى النكاح على المكارمة ، والحد الفاصل بين الجهالة الفاحشة واليسيرة هو أن الجهالة الفاحشة ما كان المقدار أو النوع فيها مجهولا ، كأن يقول : تزوجتك على حيوان ، أو على عمل ، أو على جنيهات ، والجهالة اليسيرة ما كان النوع والمقدار فيها معلوما ، ولكن الوصف غير معلوم كقوله تزوجتك على عشرين أردبا من القمح ولم يصفه .
وعند جهالة الوصف يؤخذ بالوسط من النوع أو قيمته ( ).
2- كما تقتضى صحة الالتزام شرعا أن يكون الواجب مقدوراً على تسليمه ، فإن كان مما لا يقدر على تسليمه فالتسمية فاسدة .
3- وأخيرا يجب أن يكون متقوما فى رأى أكثر الفقهاء ، فمن تزوج امرأة وجعل مهرها ألا يتزوج عليها فتسميته فاسدة لأنها لا تقوم بمال ، وقد شرط الله أن يكون الابتغاء بالمال ، وفى رأى البعض يجوز أن يكون مهرها منفعة مقصودة يصح التزامها شرعا وإن لم تقوم بمال ، كشرط أن لا يتزوج عليها ، أو أن لا ينقلها من بلدها ( ).
أثر تسمية مالا يصلح مهراً :
إذا سمى المتعاقدان مالا يصلح أن يكون مهراً وقعت التسمية فاسدة ، وإذا فسدت وجب على رأى جمهور الفقهاء اعتبار مهر المثل ، ولا أثر لفساد التسمية على العقد ، لأن المهر ليس شرطا فيه ( ) – كما بينا – والنكاح لا تفسده الشروط الباطلة.
ويستثنى من ذلك صورة واحدة ، وهى نكاح الشغار :
وهو نكاح جاهلى صورته أن يزوج الرجل ابنته أو أخته فى نظير أن يتزوج هو ابنة الآخر أو أخته من غير صداق فى الحالتين .
وقد صح عن النبى أنه نهى عن هذا النكاح ( ) ولكن هل نهيه عنه لذاته ، أو لما فيه من إجحاف بالمرأة وظلم لها لخلوه من التسمية ؟( )
جمهور العلماء : يرون أن النهى عن نكاح الشغار لذاته .
ويرى الإمام مالك : أن النهى متوجه إلى الصداق ، غير أن فساد التسمية عنده موجب لفساد النكاح .
ويرى الحنفية وبعض الفقهاء : أن النهى متوجه إلى الصداق فتفسد التسمية ، ولكن فساد التسمية لا يوجب فساد النكاح ، لأن غايته أن يدخل فيه شرطا فاسداً ، والنكاح لا تبطله الشروط الفاسدة ، ثم إن فساده لخلوه من العوض ، وعندهم يوجبون فيه مهر المثل فيرتفع ما فيه من فساد ، فلا يكون شغاراً .
والراجح :
ما ذهب إليه الجمهور للسنة الصحيحة التى تنهى عن هذا الفعل القبيح ، الذى تتخذ فيه المرأة سلعة ، وقد أرادها الإسلام مكرمة عزيزة ، فيبطل لما يؤدى إليه من امتهان لكرامتها ، على أنة كما يقول الأمام الشافعى " عقد فيه تمويه، ومعناه : انه ملك الزوج بضع بنته بالنكاح ، ثم ارتجعه منه بأن جعله ملكا لبنت الزوج بالصداق ، وهذا موجب لفساد النكاح " ( ).
أنواع الصداق :
يتنوع الصداق بتنوع النظرة إليه ، فإن نظرنا إلى المسمى فى العقد وهو صحيح ، وغير المسمى فيه ، أو سمى وكان مما لا يصح التزامه شرعا ، فالصداق: مسمى ، وبدل المسمى ، ويسمى صداق المثل .
وإن نظرنا إلى توقيته فالصداق عاجل وآجل ، وقد يحدث أن يتفق المتعاقدان على صداق ، ويظهران عند التسمية صداقا أخر ، والصداق على ذلك نوعان صداق سر ، وصداق ظاهر أو علانية ونعرض لكل من هذه الأنواع أو الأحوال بإيجاز .
أولا : صداق المسمى وصداق المثل
)
1- المسمى من الصداق هو ما يتراضى عليه المتعاقدان ، وينصان عليه فى العقد ، أو يتراضيان عليه بعده بالتراضى .
ويلتحق به ما يضيفه الزوج إلى المهر وتقبله الزوجة ، إذا كانت الإضافة بقصد زيادة المهر ، وحصلت أثناء قيام الزوجية ، والزوج أهلا للتبرع، كما يلحق به كل ما جرى العرف بتقديمه من الزوج لزوجته ، إذ المعروف بمنزلة المشروط ، فيلحق بالمهر ، إلا إذا لوحظ عند التسمية اعتباره أو نفيه .
وشرط وجوب المسمى : صحة العقد والتسمية ، فإن فسدت التسمية سقط المسمى اتفاقا ، أما إن فسد العقد ففى سقوط المسمى خلاف ، وقد رجحت عدم سقوطه ( ).
2- صداق المثل :
ويقصد به ما يدفع لنظائر المرأة من نساء أهلها أو أهل بلدها ، ونظائرها هن المماثلات لها فيما يعتد به من صفات الزوجة . كالدين والأدب والعقل والتعليم والجمال والسن والبكارة والثيوبة ، وكونها ولوداً أو عقيما ، والبلد الذى تعيش فيه ونحو ذلك . مع النظر إلى الزوج فى تلك المماثلة ( ).
الحالات التى يجب فيها صداق المثل :
1- إذا خلا عقد الزواج من النص على صداق .
2- إذا نص فى العقد صراحة على نفى الصداق كلية ( ).
3- إذا فسدت التسمية ، حيث سمى فى العقد ما لا يصح أن يكون صداقا لكونه مما لا يحل التزامه شرعا ( ).
4- إذا لم تثبت التسمية بالبينة واختلف الزوجان فادعى الزوج أقل من صداق المثل ، وادعت الزوجة أكثر منه ( ).
5- إذا حصل الزواج فى مرض الموت ، وسمى صداقا أكثر من صداق المثل ، وما زاد على ذلك يأخذ حكم الوصية ، فلا ينفذ إلا بشروطها ( )
ثانيا : المهر المعجل والمهر المؤجل :
التعجيل والتأجيل حالان فى الصداق المسمى ، وليسا نوعين من الصداق فى الحقيقة .
وكقاعدة فإن الصداق يجوز معجلا ومؤجلا ، ويجوز بعضه معجلا وبعضه مؤجلا ، لأنه عوض فى معاوضة فجاز ذلك فيه كالثمن . ولم أقف على من خالف فى جواز الاتفاق على التأجيل إلا ابن حزم الذى منع منه وعده شرطا باطلا يبطل النكاح ، قال " فمن شرط ألا يؤتيها صداقها أو بعضه مدة ما ، فقد اشترط خلاف ما أمر الله به تعالى فى القرآن " ( ) وكره الإمام مالك التأجيل ومنعه للمدة الطويلة كخمسين سنة ، لأنه يتحايل بذلك على إسقاطه بالكلية ( ) وعلى قول الجمهور إذا اتفقا على التأجيل دون ذكر مدة معينة فما الحكم ؟
يرى الإمام مالك والشافعى وبعض الحنابلة : أن جهالة الأجل تفسد المسمى ، لأنه عوض مجهول المحل ففسد كالثمن فى البيع ، غير أن الشافعى ومن معه من الحنابلة قالوا : بوجوب مهر المثل ، أما مالك فقال : يفسد العقد قبل الدخول ، ويثبت بعده بالأكثر من المسمى وصداق المثل ، ويسقط شرط التأجيل للأجل المجهول .
وقال بعض الحنفية وجمع من التابعين والفقهاء : يبطل الأجل ويكون حالا.
وقال أحمد والنخعى والشعبى وبعض الحنفية : يجوز التأجيل ويقع ذلك على وقت وقوع الفرقة بالطلاق أو الموت .
وقال الأوزاعى : يحل إلى سنة بعد دخوله بها .
وقيل : لا يحل حتى يطلق أو يخرج من مصرها أو يتزوج عليها ، وقد علل ابن قدامة لقول أحمد ومن معه بأن " المطلق يحمل على العرف ، والعادة فى الصداق الآجل ترك المطالبة إلى حين الفرقة ، فحمل عليه ، فيصير حينئذ معلوما بذلك " ( ) .
وإن سمى صداقا مطلقا عن التأجيل والتعجيل فالأصل أنه يقع حالا ، إلا أن يكون هناك عرف فيحمل الإطلاق عليه ، لأن المعروف عرفا كالمشروط شرطا( ) .
أهمية حال الصداق من التعجيل والتأجيل
تظهر أهمية التأجيل والتعجيل فى مدى حق الزوجة منع نفسها حتى تتسلم صداقها .
1- فإن كان الصداق معجلا : فلها منع نفسها حتى تتسلم صداقها بإجماع
الفقهاء ( ) ولا تعد بذلك مخلة بحق الزوج فى المتابعة ، أو عاصية له لأن امتناعها بحق شرعى ….. ويأخذ حكم المعجل كله تعجيل بعضه فقط ، فلها أن تمتنع حتى تقبض معجل صداقها .
واختلف الفقهاء فى حقها فى الامتناع إن مكنته من نفسها قبل القبض . هل يسقط حقها فى الامتناع بعد تمكينها له أم لا ؟
أكثر الفقهاء يقولون : بسقوط حقها فى الامتناع ، لأنها أسقطته برضاها بتمكينه من نفسها ( ) ، وقال أبو حنيفة وبعض الحنابلة وبعض الشافعية : إن لها الامتناع وإن مكنته لأن قبض عاجل الصداق حقها ، ورضاها بإسقاطه فى الماضى لا يترتب عليه إسقاط حقها فى المستقبل ، قياسا على ما لو رضيت بمعاشرة زوجها مع عدم الإنفاق مدة من الزمن ( ) .
ويبدو لى أن رأى أبى حنيفة أوجه ، إذ من المتصور أن تمكينها انخداعا بوعده ، أو محاولة منها لحمله على الوفاء ، فإذا بانت مماطلته كان من مصلحتها منع نفسها حتى تقبض معجل صداقها . ( )
وإن أصر الزوج على عدم دفع المعجل من الصداق ، وامتنع عنه لإعساره ، فهل للزوجة إن تطلب التفريق لعدم دفع المعجل ؟
جمهور العلماء : يقولون لها كذلك .
والحنفية : لا يرون لها الحق فى طلب الفرقة ، وإن سلموا لها حقها فى الامتناع عن تسليم نفسها ، وعدم إلزامها بطاعته ومراعاة إذنه ( ) .
ورأى الحنفية كما ترى ليس عمليا ن وغايته أن تكون الزوجة معلقة ، مما يغريها بالعناد ، ويغرى الزوج بالمماطلة لذا فمن دواعى الاستقرار والصيانة العدول عنه .
وإن كانت المماطلة بعد الدخول فالجمهور على عدم حقها فى طلب الفرقة لعدم دفع المعجل . وقال بعض الفقهاء لها ذلك ( ) .
والحق فى ذلك مع المانعين حفاظا على زوجية قامت بالعقد والفعل ، فمن المصلحة مراعاة بقائها .
2- وإن كان الصداق مؤجلا فليس لها منع نفسها قبل قبضه ، لأن رضاها بالتأجيل رضا بتسليم نفسها قبل قبضه كالثمن المؤجل فى البيع( ) وقال أبو يوسف من الحنفية لها أن تمنع نفسها ، لأن من حكم المهر أن يتقدم تسليمه بكل حال على تسليم النفس ، وقبول الزوج التأجيل رضا بتأخير حقه فى القبض( ).
والراجح هو قول الجمهور ، لأن التعجيل والتأجيل حقها هى فلما رضيت بالتأجيل أسقطت حقها ، فلم يكن لامتناعها سبب ( ) .
ثالثا : مهر السر ومهر العلانية
مهر السر ومهر العلانية حالان فى الصداق المسمى ، وصورته - التى كثيرا ما تقع - أن يتفق المتعاقدان على صداق فى السر قدره كذا ، ويظهران فى التسمية قدرا فوقه أو دونه ، فأيهما الذى يلزم ، صداق السر المقصود ، أم صداق العلانية المسمى ؟
أولا : نستبعد من الحكم الصورة التى ذكرها الحنفية وهى حالة ما إذا اتفقا فى السر على قدر أو جنس ، وأعلنا غيره ، وقالا عند العقد إن الزيادة او الجنس المخالف للرياء والسمعة ، لأنه فرض مستبعد .
ثانيا : يبقى فرض أن يكتما ما اتفقا عليه ، ويعلنان عند العقد قدرا أو جنسا مخالفا .
وفيه حكى العلماء قولان :
أولهما : مذهب جمهور العلماء : أن المهر مهر العلانية لأنه الذى ثبت به النكاح ، إلا أن يكون قد أشهد عليها وعلى وليها الذى زوجها منه أن المهر هو الذى فى السر ، والعلانية سمعة ، فحينئذ المهر ما سمى لها فى السر ، لأنهما فى الإشهاد أظهرا أن مرادهما الهزل بالزيادة على مهر السر ، والهزل ببعض المسمى مانع من الوجوب ( ).
والثانى : والأصل عند المالكية أن الواجب هو صداق السر لأنه الخالى عن الإدعاء ( ) .
ولكن إن تنازع الزوجان – ولم تكن هناك بينة تشهد أن الصداق المعلن لا أصل له – وادعت المرأة أنهما رجعا عن صداق السر ، وأخذا بالصداق المعلن وخالفها الزوج كان لها أن تحلفه على مقاله ، فإن حلف عمل بصداق السر حسب قوله ، وإن نكل عن اليمين عمل بالصداق المعلن بعد حلفها على دعواها( ).
ثالثا : وذكر العلماء فرضا ثالثا : مقتضاه أنهما عقدا عقدين عقدا فى السر وسميا فيه مهرا ما ، وعقدا فى العلن وسميا فيه مهرا مخالفا فى قدره أو جنسه للمهر الأول .
وللعلماء فيه قولان ( ) : أحدهما : الواجب المهر الأول لأنه الذى انعقد به النكاح ، ولأن العلانية ليس بعقد ، ولا يتعلق به وجوب شئ .
والثانى : أن الواجب مهر العلانية ، لأن العقد الثانى وإن كان لغوا فقد وجد منه بذل الزائد على مهر السر فيجب ذلك عليه ، كما لو زادها على صداقها.
قال ابن قدامة " ومقتضى هذا التعليل – للقول الأخير – انه إذا كان مهر السر أكثر من العلانية ، وجب المهر السر ، لأنه وجب عليه بعقده ولم تسقطه العلانية فبقى وجوبه " ( ).
وغالبا ما يكون المهر المعلن مثبتا بوثيقة الزواج الرسمية وعندئذ تثور مشكلة إثبات ما يخالف الكتابة ، والقوانين فى ذلك مختلفة .
فالقانون السورى مثلا يقرر أن " لمن يدعى التواطؤ فى الصورية فى المهر المسمى إثبات ذلك أصولا ، فإذا ثبت أحدهما حدد القاضى مهر المثل ، ما لم يثبت المهر المسمى الحقيقى " ( م 4 ) و " يعتبر كل دين يرد فى وثائق الزواج أو الطلاق من الديون الثابتة بالكتابة ، ومشمولا بالفقرة الأولى من المادة 468 من قانون أصول المحاكمات الصادر بالمرسوم التشريعى رقم 84 لعام1952 " ( م 5 ) .
والقانون الأردنى يقضى بنحو ذلك فى المادة (59) التى تقرر أنه " عند اختلاف الزوجين فى المهر الذى جرى عليه العقد لا تسمع الدعوى إذا خالفت وثيقة العقد المعتبرة ، ما لم يكن هناك سند كتابى يتضمن اتفاقهما حين الزواج على مهر آخر غير ما ذكر فى الوثيقة " وفى ليبيا المعول عليه عند الاختلاف هو المدون فى وثيقة العقد دون غيره ( ) .
وفى مصر فإن بعض المحاكم قد قضت بأن " ادعاء أن المهر المذكور بوثيقة الزواج هو مهر العلانية ، وأن الواجب هو مهر السر ، هو من قبيل ادعاء الكذب فى الإقرار لا يقبل إلا بدليل كتابى " ( ) .
ويبدو لى أن هذا الحكم جانبه الصواب حيث أخضع مسألة من مسائل الأحوال الشخصية لأحكام الصورية المقررة بالقانون المدنى ، والواجب حيث خلا قانون الأحوال الشخصية من حكم أن يطبق الراجح فى المذهب الحنفى إعمالا للمادة 280 من لائحة أحكام المحاكم الشرعية ، وفى " قضاء الأحوال الشخصية يجوز الإثبات بالبينة لإثبات ما يخالف المكتوب ، وذلك على خلاف الأحكام المدنية – وعليه – فإن كل الحقوق يجوز إثباتها بالبينة ومنها حق المعارض فى التمسك بحقيقة الصداق ، لا بما هو مكتوب بوثيقة الزواج " ( ) وحسب المذهب الحنفى فإن الواجب هو مهر السر إذا كان قد برهن عليه ( ) فإن لم يبرهن فالمهر هو المذكور فى العقد ( ) " هذا إذا كان الجنس واحداً ، وإن اختلف الجنس فإن لم يتفقا على المواضعة – أى الاتفاق على شئ وإعلان غيره – فالمهر هو المسمى فى العقد ، وإن اتفقا عليها انعقد بمهر المثل ، وإن تواضعا فى السر على أن المهر دنانير ثم تعاقدا فى العلانية على أن لا مهر لها فالمهر ما فى السر من الدنانير ، لأنه لم يوجد ما يوجب الإعراض عنها ، وإن تعاقدا على أن تكون الدنانير مهرا لها أو سكتا فى العلانية عن المهر انعقد بمهر المثل .
وإن تعاقدا فى السر على مهر ثم أقرا فى العلانية بأكثر ، فإن اتفقا أو أشهدا أن الزيادة سمعة فالمهر ما ذكر عند العقد فى السر ، وإن لم يشهدا ، فعندهما : المهر هو الأول ، وعنده : هو الثانى ، ويكون جميعه زيادة على الأول لو من خلاف جنسه ، وإلا فالزيادة بقدر ما زاد على الأول ( )
هذا ما قرره ابن عابدين ، ورجح الكمال من الهمام اعتبار المهر مهر العلن ورجح دليله ورواياته ( ) .
والحقيقة كما يقول الشيخ الذهبى " أن هذه المسالة اضطربت فيها النقول ونسبة الأقوال لأئمة الحنفية " ( ) .
ومما يلحق بمشكلة السر والعلانية :
1- الاختلاف فى مقدار المهر بأن يدعى أحد الزوجين أو ورثته أن المسمى قدرا ما ، ويدعى الطرف الأخر دونه أو فوقه ، وهى حالة مخصوصة بعدم ثبوت التسمية بالبينة ، وقد عرضنا لها فى بيان الحالة الرابعة من حالات وجوب مهر المثل .
وقد أخذ القانون المصرى فيها برأى القاضى أبى يوسف مع إدخال تعديل عليه ، وبذلك وردت المادة 19 من القانون 25/1920 ونصها " إذا اختلف الزوجان فى مقدار المهر فالبينة على الزوجة فإن عجزت كان القول للزوج بيمينه إلا إذا ادعى ما لا يصح أن يكون مهرا لمثلها ، وكذلك الحكم عند الاختلاف بين أحد الزوجين وورثة الأخر ، أو بين ورثتهما " .
وتعيب المذكرة الإيضاحية لمشروع القانون العربى الموحد على المادة(19) أنها جعلت البدل عما يدعيه الزوج إذا ادعى ما لا يصح مهرا لمثلها، ما تدعيه الزوجة بالغا ما بلغ ، وترى القضاء به " أمرا مشكلا عندما يكون مهر المثل غير شاهد لها أيضا ، إذ يبقى من المحتمل احتمالا كبيرا أن يكون الزوج صادقا وأن الزوجة تساهلت فى القبول".
وقد وجدت اللجنة أن فى تخريج الكرخى لمذهب أبى حنيفة ومحمد وفى مذهب الشافعية والثورى وغيرهما يحكم بمهر المثل بعد تحالف الزوجين ، ورأت اللجنة أن فى هذا الرأى تعديلا حكيما لرأى أبى يوسف ( ) .
لذلك صيغت المادة (44) – من المشروع - على أساس رأى أبى يوسف مع هذا التعديل. وأهم ما فيها هنا الفقرة (ب) ونصها : " إذا كان ما يدعيه الزوج لا يصلح أن يكون مهرا لأمثالها عرفا لقلته فعندئذ يصار إلى تحكيم مهر المثل . فإذا كان مهر المثل شاهدا للزوجة حكم لها بما تدعى مع يمينها وإن لم يكن مهر المثل شاهدا لها حكم لها بمهر المثل مع يمينها أيضا على نفى ما يدعيه الزوج ".
وقد راعى المقننان الأردنى والسودانى هذا التحفظ الذى أوردته اللجنة التى عنيت بوضع مشروع القانون العربى الموحد ، فأخذا برأى يوسف مع تعديله المقترح من تحكيم مهر المثل ، غير أنهما غضا النظر عن تحليف الزوجة، ولم يقضيا لها بما تدعى ، وأوجبا مهر المثل فى كل حال متى عجزت الزوجة عن البينة وادعى الزوج ما لا يصح أن يكون مهرا لمثلها عرفا " م 58 أردنى ، (م 29/5 ) سودانى "
أما القانون اللبنانى فأخذ بصريح قول أبى يوسف فنص فى المادة (87) على أنه " إذا حصل اختلاف فى المهر المسمى فإن كان الزوج يدعى المهر المتعارف فالقول قوله " ( ) .
ومال القانون الليبى إلى قول الإمام مالك فنص فى مادته العشرين على أنه " إذا اختلف الزوجان فى مقدار المهر أصلا أو قيمة كان المعول عليه ما دون بوثيقة النكاح ، فإذا لم يدون بها شئ تحاكما إلى عرف البلاد " وأخيرا فإن القانون العراقى لم ينص على شئ ، ومن ثم يؤخذ فى العراق بقول أبى حنيفة باعتباره الراجح فى المذهب ما لم ينص على خلافه ( ) .
2- الاختلاف فى أصل التسمية :
وصورتها أن يدعى أحد الزوجين أن العقد قد اقترنت به تسمية صحيحة ويدعى الآخر أنه خلا من التسمية .
ولا شك أنها اليوم صورة نادرة بعد أن اطرد توثيق الزواج فى وثائق رسمية بها خانات مخصصة للمهر ومتعلقاته ، كقدره والمقدم منه والمؤخر وموعد حلوله إلخ .
ولكن تحسبا لأية حالة شاذة يعنى الفقه يبحث هذه المسألة وعلى ما اختاره صاحب مرشد الحيران (م 105) فالحكم :
" إذا اختلف الزوجان فى أصل تسمية المهر فادعى أحدهما تسمية قدر معلوم ، وأنكر الآخر التسمية بالكلية ، وليس للمدعى بينة يحلف منكر التسمية ، فإن نكل ثبت ما ادعاه الآخر ، وإن حلف يقضى بمهر المثل بشرط ألا يزيد على ما ادعته المرأة إن كانت هى المدعية للتسمية ، ولا ينقص عما ادعاه الزوج إن كان هو المدعى لها ..
وإذا كان قد وقع الاختلاف بينهما بعد الطلاق قبل الدخول حقيقة أو حكما تجب لها المتعة " ( ) .
وفى المادة (107) " موت أحد الزوجين كحياتهما فى الحكم أصلا وقدرا ( ) فإذا مات أحدهما ووقع الاختلاف بين ورثته وبين الحى فى أصل المهر – أو فى قدره – يحكم على الوجه المتقدم فى المادة السالفة لورثة الزوج ، ويلزمهم ما يعترفون به ، وإن اختلفوا فى أصل التسمية يقضى بمهر المثل ، وعلى ورثة الزوج إن جحدوا التسمية ، ونكلوا عن اليمين ، وكذلك إذا اتفقوا على عدم التسمية فى العقد ".
وفى المادة (108) " إنما يقضى بجميع مهر المثل للمرأة فى الصور المتقدمة إذا وقع الاختلاف قبل تسليمها نفسها ، فإن وقع الاختلاف بعد التسليم …. وادعى الزوج أو ورثته إيصال شئ من المهر إليها ، وقد جرت عادة أهل البلد بأن المرأة لا تسلم نفسها إلا بعد قبض شئ من مهرها تقر بما وصلها معجلا فإن لم تقر به يقضى عليها بإسقاط قدر ما يتعارف تعجيله لمثلها ، ويعطى لها الباقى منه إن حصل اتفاق على قدر المسمى ، وإلا فإن أنكروا القدر فالقول لمن شهد له مهر المثل ، وبعد موتهما القول فى قدره لورثة الزوج "
وتشير عبارة المادة "107" إلى الأخذ بمذهب الصاحبين ،أما مذهب أبى حنيفة فى حالة الاختلاف بين ورثة كل من الزوجين فهو : أنه عند عجز مدعى التسمية عن الإثبات لا يقضى بشئ ، لأن مهر المثل يقدر بمهر أقرانهما وقد فنوا ظاهرا مع تقادم العهد ، فلا سبيل إلى تقديره ، ولأننا لو أجزنا دعوى الورثة بعد موتهما فى مهر المثل ، لأجزنا دعوى ورثة الورثة ، وهكذا يتسلسل الأمر " ( ) والفتوى على قول الصاحبين ( ) وقيل على قول الإمام ( ) .
وحسب تعليل قول أبى حنيفة فإنه إن لم يتقادم العهد فإن قوله يكون كقولهما ( ) فى القضاء لورثة الزوجة بمهر المثل على ورثة الزوج إن جحدوا التسمية ونكلوا عن اليمين ، أو اتفق الطرفان على عدم التسمية " م 107 من مرشد الحيران "
وإن طال العهد فالعمل فى سماع دعوى الصداق أقرب إلى قول أبى حنيفة ، إذ نهى عن سماع الدعوى فى غير الإرث والوقف بعد خمس عشرة سنة من ثبوت الحق ، إلا أن يكون هناك عذر شرعى ، ولم يكن المدعى عليه – ورثة الزوج – منكرا للحق فى كل هذه المدة ( ) فإن انتفى قيد النهى عن السماع ، فقول أبى حنيفة هو الذى سيصار إليه عملاً ، وإن تحقق فمصير العمل إلى مذهب الصاحبين .
والعمل فى العراق والسودان على نحو ما هو عليه فى مصر لعدم النص، وفى ليبيا على ما ذكرنا من تحكيم العرف ( ) وفى سوريا نص فى المادة 61/1 على وجوب مهر المثل فى العقد الصحيح عند عدم التسمية أو فسادها مطلقا ، ولم يشر إلى مسألة الخلاف بين الإمام وصاحبيه مما يعنى الأخذ بقول الصاحبين.
والقانون اللبنانى يأخذ بالمادة " 105 من مرشد الحيران " دون تحليف ، سيرا على أن " المنكر لا يحلف عند أبى حنيفة فى النكاح "( ) وظاهر النص اللبنانى (م 86) أنه يحكم الخلاف بين الزوجين ، أو بين أحدهما والورثة، أو بين ورثة الطرفين ، لأنه عبر بقوله " طرف الزوجة " " وطرف الزوج ".
والمادة (57) أردنى كالمادة (86) لبنانى فى عموم الحكم إلا أنها ذكرت الزوج والزوجة دون إشارة إلى ورثتهما ، ولكن المقنن ذكر فى المادة (58) الاختلاف فى مقدار المسمى ، معمما حكمه فيه على الزوجين أو أحدهما وورثة الآخر ، أو ورثتهما ، ولأن الموضوع واحد فإن المادة (57) تفسر وفقا للعموم الوارد فى المادة (58) .
وأخيرا فإن مشروع القانون العربى الموحد خلا من نص فى هذا الأمر ووفقا للمادتين (33،44) فإنه يحكم بمهر المثل عند عدم البينة مع تحليف الطرفين ، وهو المختار عند الحنفية ، قال ابن عابدين : " قال فى البحر : التحليف هنا على المال لا على أصل النكاح ، فيتعين أن يحلف منكر التسمية إجماعا "( ).
3- الاختلاف فى قبض المهر أو معجله : ( )
وفى هذه الصورة يفرق بين حالتين :-
الأولى : الاختلاف فى أصل القبض أو مقداره قبل الدخول ، وفى هذه الحالة يقع على عاتق الزوج عبء الإثبات ، لأنه يدعى خلاف الظاهر ، ولا تطالب الزوجة بالبينة لأن الظاهر يشهد لها .
الثانية : وإن كان الاختلاف بعد الدخول .
أ- فإن كان فى معجل صداقها فالقول قول الزوج ، ولا تسمع دعواها على المفتى به عند الحنفية لجريان العرف بذلك .
وعليه فإن اختلف العرف ، تغير الحكم ، وإن كنت أرى مع بعض أساتذتنا ( ) أن العرف لا يصلح لإبطال حق ثابت بمقتضى العقد ، فليكن على عاتقها عبء الإثبات ، ولها عند العجز طلب يمين المدعى عليه ، أما أن يبطل حقها بمجرد العرف وقرائن الأحوال فهذا لا يقبل .
وإن كان الخلاف فى قدر المقبوض فعلى الزوج أن يثبت ذلك بالبينة ، فإن عجز فالقول قولها مع يمينها .
والحكم بين أحد الزوجين والورثة ، أو بين ورثة الطرفين كالحكم بين الزوجين ، فهو فى كل الأحوال واحد .
4- الاختلاف فيما يقدمه الزوج على أنه من المهر :
عادة ما يتهادى الزوجان ، فإن قدم الزوج إلى زوجته شيئا كنقود أو حلى أو هدايا منزلية دون أن يذكر عند تقديمها أنها من المهر ، ثم اختلفا بعد ذلك ، فقال الزوج من المهر ، وقالت الزوجة هدية ، فما الحكم ؟
والجواب : ( )
أن أيا من الزوجين يقيم البينة على دعواه يقضى له بها ، ولكن إن أقام كل منهما بينة على ما يدعيه قدمت بينة الزوجة ، لأنها تثبت خلاف الظاهر ، والظاهر هنا شاهد للزوج ، لأن الإنسان يسعى إلى سداد دينه ، والوفاء بما فى ذمته قبل التبرع والإهداء ، وإن عجزا جميعا عن البينة كان القول لمن يشهد له العرف ، مع يمينه ، وإن اشتبه العرف وتعذر تحكيمه كان القول قول الزوج بيمينه ، لأنه هو المعطى ، فيرجع إليه فى الإخبار عن فعل نفسه ، والظاهر يؤيد قوله أن ما دفعه من المهر ، لأنه يسعى إلى إسقاط ما فى ذمته مما وجب عليه من المهر أولا .
فإن قضى له خصم من المهر ، وإن وقعت بينهما فرقة تسقط المهر كله كان عليها رد ما أخذت أو قيمته إن هلك أو استهلك .
مؤكدات المهر
رأينا فيما سبق أن المهر يوجد بوجود العقد الصحيح سواء كان مسمى أو مهر مثل – خلافاً للشافعى – غير أن هذا الوجود غير مستقر فيحتمل التنصيف بالطلاق قبل الدخول ، ويحتمل السقوط بالفرقة بغير طلاق قبل الدخول ، وأسباب أخرى عند بعض الفقهاء ستعرفها فى حينها.
لهذا كان وجود الصداق محتاجاً إلى ما يؤكده استقراره ، ومؤكدات المهر على الراجح فقهاً هى :
1- الدخول الحقيقى :
فإنه يؤكد جميع المهر باتفاق الفقهاء ( ) ، فإن كان قد سمى لها مهراً فلها جميع ما سمى ، لا يسقط منه شئ إلا بإبراء الزوجة أو حطها جزءاً منه ، لأنه بالدخول قد استوفى – الزوج - كامل حقه ، فاستقر لها كامل حقها ، وإن كان لم يسم لها شيئاً أو سمى مالا يصلح مهراً ثبت لها مهر المثل كاملاً دون انتقاص .
2- الموت :
فإن مات الزوج ولو قبل الدخول ، أو ماتت الزوجة قبله أيضاً فلها مهرها كاملاً ، وذلك " لأن المهر كان ثابتاً إلى أن يوجد ما يسقط بعضه أو كله ، وهو الفرقة قبل الدخول ، وبالموت استحال وجود ذلك المسقط فتأكد المهر"( ).
والحكم بثبوت المهر كاملاً بالموت متفق عليه بين الفقهاء فى المسمى لها.
أما المفوضة فإن مات عنها أو ماتت عنه ففى استحقاقها الصداق أو نصفه أو عدم استحقاقها شئ خلاف .
قال فى المغنى " ولو مات أحدهما قبل الإصابة وقبل الفرض ورثه صاحبه . ولا خلاف فيه ، فإن الله تعالى فرض لكل واحد من الزوجين فرضا وعقد الزوجية ههنا صحيح ثابت ، فورث به لدخوله فى عموم النص .
وأما الصداق :
1- فإنه يكمل لها مهر نسائها فى الصحيح من المذهب ، وإليه ذهب ابن مسعود وابن شبرمة وابن أبى ليلى والثورى واسحاق قلت والحنفية ، والظاهرية، وأحد قولى الشافعى ( ).
2- وروى عن على وابن عباس وابن عمر والزهرى وربيعة ومالك والأوزاعى ، وأصح قولى الشافعى أن لا مهر لها ، وهو رواية عن أحمد ، وقول الزيدية ( ).
3- وعن أحمد رواية أخرى أن لها نصف مهر مثلها .
وهذه الرواية الأخيرة ضعفها أصحابه ، بل ردوها ، قال المرداوى " قال الشيخ تقى الدين : فى القلب حزازة من هذه الرواية ،…. قال ونقل عن الإمام أحمد رواية تخالف السنة وإجماع الصحابة ، بل الأمة ، فإن القائل قائلان : قائل بوجوب مهر المثل ، وقائل بسقوطه ، فعلمنا أن ناقل ذلك غالط عليه …. إذ من أصل الإمام أحمد الذى لا خلاف عنه فيه ، أنه لا يجوز الخروج عن أقوال الصحابة ، ولا يجوز ترك الحديث الصحيح من غير معارض له من جنسه ، وكان رحمه الله شديد الإنكار على من يخالف ذلك فكيف يفعله هو من غير موافقة لأحد ؟ ومع أن هذا القول لاحظ له فى الآية ولا له نظير . هذا مما يعلم قطعا أنه باطل " ( ).
والدليل على عدم وجوب شئ كما هو القول الثانى.
القياس على مفهوم المخالفة من قول الله تعالى " وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم "( ) فقد أوجب النص للمطلقة قبل الدخول نصف المسمى ، فإن لم يكن قد سمى لها شئ لا يجب شئ لعدم التسمية ويقاس الموت على الطلاق .
قال ابن العربى " ودليلنا أنه فراق فى نكاح قبل الفرض فلم يجب فيه صداق ، أصله – أى المقيس عليه – الطلاق " ( ).
ولهم أيضا ما روى مالك فى موطئه " أن بنتا لعبيد الله بن عمر ، وأمها ابنة زيد بن الخطاب كانت تحت ابن لعبد الله بن عمر ، فمات ولم يسم لها صداقا، فقامت أمها تطلب صداقها ، فقال ابن عمر : ليس لها صداق ، ولو كان لها صداق لن نمسكه ، ولم نظلمها ، فأبت أن تقبل ذلك ، وجعلوا بينهم زيد بن ثابت، فقضى ألا صداق لها ، ولها الميراث ( ) .
والحقيقة أن هذين اجتهادان فى مقابلة النص الثابت عن النبى ، وذلك ما روى الترمذى وغيره " أن رجلا تزوج امرأة ولم يسم لها صداقا ، ولم يدخل بها حتى مات ، فأتى عبد الله بن مسعود وكان قاضيا ، فاختلفوا إليه مرارا ، وقال: شهرا ، فقال : إن كان ولا بد فإنى أفرض لها مهر نسائها ، لا وكس ، ولا شطط ، ولها الميراث وعليها العدة ، إن يكن صوابا فمن الله ، وإن يكن خطأ فمنى ومن الشيطان ، والله ورسوله بريئان منه ، فقال ناس من أشجع فيهم الجراح بن سنان نشهد أن رسول الله قضاها فينا ، فى بروع بنت واشق ، وكان زوجها هلال بن مرة الأشجعى " ( ).
وقد منع مالك والشافعى من القضاء به أنه لم يثبت عندهم ، حتى أن الشافعى ليقول " إن كان يثبت فلا حجة فى قول أحد دون النبى " ( ) وقال القرطبى وهو من أشياع مالك " إذا صح الحديث فالقياس فى مقابلته فاسد ، وقد حكى أبو محمد عبد الحميد عن المذهب ما يوافق الحديث والحمد لله " ( ) وبالغ الماوردى فى دفع دعاوى ضعف الحديث ( ).
إذن الكل إلى حكم الحديث صائر ( )، وهذا ما حدا بأساتذتنا أنهم لا يوردون المذهب المخالف فى استقرار المهر – ولو صداق المثل – بالموت قبل الدخول .
وعلى ذلك إذا مات الزوج فلزوجته قبل حقها فى الإرث مهرها إن لم تكن قبضته ، أو باقيه إن كانت قد قبضت منه شيئا ، وإن كانت مفوضة فلها مهر مثلها .
وإن كانت هى التى ماتت فلورثتها أخذ مهرها من زوجها ، مع ملاحظة أن الزوجين يتوارثان – إن لم يمنع من ذلك مانع من موانع الإرث – ومن ثم يمكن أن يتقاص الطرفان ، فيخصم ما للزوج من حق فى الإرث ويطالب بالباقى.
ويراعى فى كل الأحوال أن الصداق مستحق بالعقد لكنه تأكد بالموت ، ومن ثم فهو ليس إرثا ، وبالتالى تتقادم دعواه بمضى خمس عشرة سنة من تاريخ الوفاة ، فإن مضت مع انتفاء العذر المانع من المطالبة ، وعدم الإنكار لن تسمع الدعوى ( ).
وليس فى التقنينات العربية ما يخالف فى اعتبار أصل السببين السابقين، اللهم إلا التقنين الأردنى ، الذى يفيد بالجمع بين مادتيه (48 ، 55) أنه يأخذ بالرأى المخالف فى صداق المفوضة التى توفيت أو توفى عنها زوجها قبل الدخول .
فالمادة 48 تنص على أنه " إذا سمى مهر فى العقد الصحيح لزم أداؤه كاملا بوفاة أحد الزوجين ، أو بالطلاق بعد الخلوة الصحيحة ، أما إذا وقع الطلاق قبل الوطء والخلوة الصحيحة لزم نصف المهر المسمى "
فذكرت المادة الطلاق والوفاة والخلوة الصحيحة كأسباب لوجوب المسمى كاملا .
والمادة (55) وهى فى صداق المثل تقول :
" إذا وقع الطلاق قبل تسمية المهر وقبل الدخول والخلوة الصحيحة فعندئذ تجب المتعة " .
فذكرت الطلاق وسكتت عن حكم الوفاة ، والظاهر من حرص المقنن على إبراز التسمية ، ولزوم الأداء الكامل بالوفاة فى المسمى (م 48 ) بيان إنه لا يلزم شئ بالوفاة قبل الدخول فى غير المسمى ، وإن كان هذا مراده فقد أخطأ بمخالفة السنة .
3- الخلوة الصحيحة :
الخلوة من الاختلاء ، أو الخلاء ومعناها الحال التى يمكن للزوج أن يستمتع فيها بزوجته آمنا دون مانع يمنع من الدخول الحقيقى ( ).
والموانع التى ذكرها الحنفية ثلاثة : ( )
1- مانع حقيقى : كالصغر ، أو المرض ، أو العيب المانع من الدخول .
2- مانع طبعى : ويقوم بوجود ثالث يفهم الأشياء .
3- مانع شرعى : ومثاله صوم أحد الزوجين ، أو حيض المرأة فإن انتفت هذه الموانع ، وكان المكان آمنا من اطلاع الغير تحققت الخلوة الصحيحة .
وفى أثرها اختلف الفقهاء على ثلاثة مذاهب : ( )
أولها : إنه لا تأثير للخلوة فى كمال مهر ولا إيجاب عدة .. وبه قال من الصحابة ابن عباس وابن مسعود ، ومن التابعين الشعبى وابن سيرين ، ومن الفقهاء أبو ثور ، وأهل الظاهر ( ) والإمامية ( ) ، وهو المعمول به عند الشافعية ورواية عن أحمد ( ).
والثانى : أن الخلوة يد – أى دليل – لمدعى الإصابة منهما فى كمال المهر ، أو وجوب العدة ، فإن لم يدعيها لم يكمل بالخلوة مهر ، ولا يجب بها عدة، هذا مذهب مالك ، وبه قال الشافعى فى الإملاء ( ).
والثالث : إن الخلوة كالدخول فى كمال المهر ووجوب العدة .
وبه قال أكثر الصحابة وكثير من التابعين وهو مذهب الحنفية وأقوى الروايتين عن أحمد ، ومذهب الزيدية ، وقول الشافعى فى القديم ( ).
وسبب هذا الخلاف :
تفسير معنى " الإفضاء ، والمسيس " المذكورين فى القرآن الكريم ، فمن رأى الإفضاء كالمسيس كلاهما كناية عن الجماع أو الوطء قال لا أثر للخلوة المجردة ، وإن تهيأت بها أسباب الجماع ، فإن لم يحصل المس فالواجب نصف المهر أو المتعة وليس كامل المسمى . بقول الله تعالى " وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم " ( ).
ومن رأى الإفضاء أعم من المس ، وإنه يحصل بمجرد الاختلاء ، وإن لم يحصل وطء ، اعتبر الخلوة موجبة لكمال المهر لأن الله سبحانه وتعالى قال "وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذ منكم ميثاقا غليظا " ( ) وكأنهم اعتبروا الإفضاء شاهدا على حصول الجماع .
وأعانهم على ذلك ما روى زرارة بن أوفى قال " قضى الخلفاء الراشدون المهديون أن من أرخى بابا أو أرخى سترا فقد وجب المهر ، ووجبت العدة " ( ) ورواه أيضا الأحنف عن عمر وعلى وعن سعيد بن المسيب ، وعن زيد بن ثابت .
قالوا : وهذه قضايا تشتهر ، ولم يخالفهم أحد فى عصرهم فكان إجماعا( ).
قالوا : وقد كان عمر يقول " ما ذنبهن إن جاء العجز من قبلكم "( ).
وفى رأيى : أن حمل الإفضاء على ما هو أعم من المسيس يثبت حكما جديدًا ، أما حمله على معناه فيؤكده فقط ، والتأسيس أفضل من التأكيد ( ).
ومن جانب أخر فإن دعوى إجماع الصحابة إن صحت فلا مجال للقول بخلافه .
وبفرض أن بعضهم خالف فظاهر الحال يشهد أن الخلوة لا تنتهى إلى غير شئ غالبا ، والوطء أمر يصعب الاطلاع عليه ، والاحتياط للحقوق عامة والأبضاع خاصة أمر يوجبه الشرع .
لهذا فالقول باعتبار الخلوة من مؤكدات المهر و موجبات العدة ومثبتات النسب هو الأرجح فى رأيى .
ومع هذا فإن الخلوة تختلف عن الدخول فى الأحكام الأتية ( ).
1- الإحصان : لأن الإحصان هو الزواج مع الدخول الحقيقى ، والخلوة لا تقوم مقام الدخول الحقيقى فى هذا .
2- حرمة البنات : فهى مشروطة بالدخول بالأمهات لا الخلوة بهن( ).
3- حل المطلقة ثلاثا لمطلقها : يحصل بالدخول الحقيقى المعبر عنه بذوق العسيلة ، ثم يطلقها وتنتهى عدتها ، ولا تقوم الخلوة مقام الدخول الحقيقى فى ذلك.
4- الطلاق بعد الخلوة يقع بائنا( ) : وبعد الدخول الحقيقى يقع رجعيا ، ما لم يكن مكملا لثلاث وعلى مال .
5-المعتدة من طلاق بعد خلوة : لا ترث ، ولا يرث منها شيئا وإن ماتت فى عدتها ( ) أما المعتدة من طلاق بعد دخول حقيقى فترث وتورث إن كان الطلاق رجعيا ، وكذلك إن كان بائنا واعتبر الزوج فارًا به من الميراث .
وأكثر التقنينات العربية على اعتبار الخلوة الصحيحة( ) من مؤكدات المهر ، واختار المقننون المغربى والسودانى والليبى مذهب الشافعى ومالك فى عدم اعتبارها .
ونص المادة 29/2 سودانى " يلزم المهر كله بالعقد الصحيح ويتأكد بالدخول أو الوفاة ….." وهو نفس نص المادة 19/هـ ليبى ، مع استبدال لفظة " يلزم " بـ " يجب "
تنصيف المهر وسقوطه
إذا تأكد المهر وجب كله ، وإن لم يتأكد فهو على خطر التنصيف أو سقوطه كلية .
ويتنصف المهر بسبب واحد ( ) ذكره الله سبحانه فى قوله " وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذى بيده عقدة النكاح " ( ) .
فالآية دلت على أن المطلقة قبل الدخول وقد سمى لها مهرا هى التى تستحق نصف المسمى ، وقد أخذ العلماء منها أن لاستحقاق نصف المسمى أربعة شروط ( ) :
1- أن يكون عقد الزواج صحيحا ، فالعقد الفاسد بمجرده لا يجعل للمرأة حقا فى شئ من المهر .
2- أن يكون المهر مسمى عند العقد تسمية صحيحة ، وهذا باتفاق الفقهاء فإن سمى لها بعد العقد ، أو كانت التسمية فاسدة ومن ثم استحقت مهر المثل ، فقد اختلف فيه الفقهاء .
وقد مالت القوانين إلى قول الحنفية والزيدية ورواية عن أحمد فى قصر الحكم على المطلقة التى سمى لها فى العقد أو قبله ( ) بيد أنه مرجوح فى الفقه الإسلامى ( ) ، لأن الله سبحانه وتعالى قال " وقد فرضتم لهن فريضة " هكذا مطلقا عن الوقت والبيان ، فوجب أن يبقى على إطلاقه . ولأن المفروض بعد العقد يستقر بالدخول فتنصف بالطلاق قبله كالمسمى فى العقد ( ) .
وعلى كل حال فإن المعمول به فى التقنينات ( ) أن المطلقة قبل الدخول والخلوة وقد سمى لها فى العقد أو قبله لها نصف المسمى ، وإن لم يسم لها فى العقد أو قبله شيئا فلها المتعة ، ولا يغير من الحكم شيئا إن فرض لها بعد العقد .
3- أن تقع الفرقة قبل الدخول ، والخلوة الصحيحة على قول من يقول بها .
4- أن تكون الفرقة من جهة الزوج .
والحكم فى الفرقة طلاقا محل اتفاق ، وإن كانت بغير طلاق – أو موت – فقد خالف فيها ابن حزم فقال " ومن انفسخ نكاحه بعد صحته بما يوجب فسخه، فلها المهر المسمى كله ، فإن لم يسم لها صداقا فلها مهر مثلها ، دخل بها أو لم يدخل – ولا يقاس على الطلاق – لأن الطلاق فعل المطلق ، والفسخ ليس فعله ، فلا تشابه بين الفسخ والطلاق ، بل الفسخ بالموت أشبه ، لأنهما يقعان بغير اختيار الزوج"( ).
ويبدو أن الشوكانى يميل إلى هذا ، قال " وأما استحقاقه – أى نصف المسمى – بالفسخ فقيل قياسا على الطلاق بجامع العقد والتسمية ، وفى النفس من هذا القياس شئ ، ثم فى النفس أيضا من كون الموجب لذلك من جهته فقط " ( ).
وعلى كل حال فالعمل جار على مذهب الجمهور ، فإن أى فرقة تأتى من جهة الزوج كطلاقه أو ردته ، أو ارتكابه مع إحدى محارمها ما يوجب تحريم المصاهرة – عند من يرى ذلك – كله يوجب نصف المسمى ، ويستثنى من ذلك الفرقة بسبب اختيار الزوج الفسخ عند البلوغ أو الإفاقة قبل الدخول ، فلا توجب شيئا ( ) وقد رجحنا فيما سبق اشتراط البلوغ والسلامة العقلية مما يضيق من هذا الباب .
المتعـــــة
إذا اختلت الشروط اللازمة لاستحقاق نصف المسمى فإما أن يؤدى ذلك إلى سقوط المهر كلية وعدم وجوب شئ ، أو إلى سقوط المهر مع وجوب شئ والحالة التى تستحق فيها المطلقة شيئا هى حالة الطلاق قبل الدخول والخلوة الصحيحة ، إن كانت المطلقة لم يسم لها شئ قط باتفاق ، أو سمى لها ولكن بعد العقد على رأى الحنفية وجماعة .
والمطلقة التى حالها كما وصفنا هى المفوضة ، والمستحق لها بنص القرآن الكريم هو ذلك المسمى متعة .
قال تعالى " ولا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن " ( ) .
وعلى ظاهر الآية فإن المتعة مستحقة للمطلقات – والطلاق سبب إرادى من قبل الزوج – قبل المسيس – مع اختلاف العلماء فى تفسيره – ولم يفرض لهن شئ وقطعاً لا طلاق إلا من زواج صحيح .
فإن توافرت الحالة بشروطها هذه كان للمطلقة متعة مستحقة ( ) باتفاق العلماء ( ) .
أما أن فورقت الزوجة بسبب من قبل الزوج غير الطلاق – والموت – أو كانت قد فرض لها بعد العقد ، أو اختلى بها من غير وطء ففى كل ذلك اختلف العلماء كما عرفت .
حكم المتعة : إن توافرت حالة المتعة ، فهل تستحق للمرأة وجوبا أو استحبابا ؟ جمهور العلماء : يقولون المتعة واجبة ، والإمام مالك وبعض العلماء: يقولون إنها مستحبة .
وسبب هذا الخلاف : هل الأمر فى قوله تعالى " ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين " ( ) على ظاهره من الوجوب ، أم أنه مصروف عن الوجوب إلى الندب بقرينة قوله تعالى" حقا على المحسنين " ؟
يقول الجمهور بالأول ، لأن مطلق الأمر لوجوب العمل ، كما أن الله قال "حقا على المحسنين " وليس فى ألفاظ الإيجاب كلمة أوكد من قولنا " حق عليه"، وكلمة " على " إلزام وإثبات ، فالجمع بينهما يقتضى التوكيد ( ) .
ويقول مالك ( ) المتعة مستحبة لأنها لو كانت واجبة لما قيدها الله بالمتقى والمحسن ، لأن الواجب لا يختلف فيه المحسن وغيره .
والحقيقة أن قول الجمهور أقوى ، لأن الله تعالى جعل المتعة عوضا عن نصف المسمى ، ونصف المسمى واجب ، وبدل الواجب واجب ( ). وستأتيك أدلة الفريقين مفصلة من بعد عند حديثنا عن متعة الطلاق فى الكتاب الثانى .
تقدير المتعة :
القائلون بوجوب المتعة مختلفون فى تقديرها فأكثرهم : على أن المتعة لا تحد بقدر ، وإنما هى إلى اجتهاد الحاكم وتقديره ، وتختلف فى ذلك باختلاف الأعراف( ).
وقال الأحناف : لا تجب أكثر من نصف مهر المثل ، ولا تنقص عن خمسة دراهم ، لأن الخمسة نصف أقل ما يكون مهراً عندهم ( ).
وعلى القول بإيكال تقديرها إلى الحاكم فهل يراعى فى ذلك حال الزوج ، أم حال الزوجة ، أم حالهما ؟
أقوال : لعل أرجحها هو اعتبار حال الزوج ، لقول الله تعالى " على الموسع قدره ، وعلى المقتر قدره " ( ) " وهذا نص فى أنها معتبرة بحال الزوج وأنها تختلف ، ولو أجزأ ما يقع عليه الاسم سقط الاختلاف ، ولو اعتبر بحال المرأة لما كان على الموسع قدره وعلى المقتر قدره " ( )
موقف التقنينات
لم ينص المقننان المصرى والعراقى على شئ فى متعة المطلقة قبل الدخول ، ومن ثم فالراجح فى المذهب الحنفى هو الواجب التطبيق فى القطرين ، وخلاصته كما صاغه قدرى باشا ( م 90 ) " المعتبر فى المتعة عرف كل بلدة لأهلها فيما تكتسى به المرأة عند الخروج ، واعتبارها على حسب حال الزوجين، ويجوز دفع بدل المتعة نقداً ، ولا تزيد على نصف مهر المثل إن كان الزوج غنيا، ولا تنقص عن خمسة دراهم إن كان فقيرا "
والتقنينات الأخرى وضعت حدًا لأقصى الواجب ، فإناطته جميعها بنصف مهر المثل ، عدا القانون اللبنانى الذى جعل الحد الأقصى الذى لا تتجاوزه المتعة مهر المثل ، وليس نصفه .
ونزع القانون السورى إلى اعتبار حال الرجل والمرأة فى التقدير ، فاعتبر حال المرأة فى نوع الواجب وهو " كسوة مثلها عند الخروج من بيتها " وحال الزوج فى قيمة الواجب بشرط ألا يجاوز نصف مهر المثل ( ).
وقانون حقوق العائلة اللبنانى ، ينيط التعيين بالعرف والعادة فى " قميص وإزار وملحفة " وهذا ميل منه إلى حال المرأة .. بشرط ألا يجاوز القدر مهر المثل ( ).
وأخذ القانون الأردنى بالراجح فقها من إناطة التقدير بالعرف والعادة بحسب حال الزوج ، وبقول الحنفية فى ألا تجاوز المتعة نصف مهر المثل ( ).
واتفق القانونان الليبى والسودانى على أن المتعة لا تزيد على نصف مهر المثل ، وحسب منطوق المادتين ( ) (19/ وليبى ) ، 29/3 سودانى فإن تقدير المتعة يراعى فيه حال المطلقة ، بالنص على " نصف مهر مثلها " ، "ومهر مثلها يتقدر بحالها وحال امرأة من أسرتها ، فتكون هى المرجع فى تقدير المتعة "( ) .
سقوط المهر كله
قلنا إن المهر يجب بالعقد – على الراجح – ويتأكد بالدخول والموت – وخالف فى الأخير مالك – وبالخلوة على رأى الحنفية والجمهور ، خلافا لجماعة.
وإذا تأكد المهر فلا سبيل لإسقاطه عن الزوج إلا بعفو الزوجة عنه ، فأبرأت منه الزوج ، أو وهبته له ، وفى الإبراء والهبة ، متى كانت الزوجة جائزة الأمر فى مالها ، يسقط المهر عن الزوج اتفاقا ، قال ابن قدامة " لا نعلم فيه خلافا ، لقول الله تعالى " إلا أن يعفون " ( ) يعنى الزوجات ، وقال تعالى "فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا " ( )( )
وفيما قبل تأكده يسقط المهر بإسقاط المرأة وإسقاط الشارع ، وإسقاط المرأة قد علمته بالعفو ، إبراء أو هبة ، وفى معناهما الخلع على المهر قبل الدخول وبعده ( ).
أما الإسقاط بحكم الشارع فذلك عند جمهور العلماء بكل فرقة من قبل المرأة قبل الدخول – والخلوة على رأى من يقول بها – ومن أمثلتها إسلامها ، أو ارتدادها عن الإسلام ، وإتيانها ما يوجب حرمة المصاهرة ، أو اختيارها الفسخ لعيب فى الزوج أو عدم كفاءة ونحو ذلك ( ).
ويسقط المهر عن الزوج عند الحنفية ، وإن كان الفسخ من جهته، إذا زوجه غير الأب والجد بالولاية واختار الفسخ عند بلوغه أو إفاقته إن لم يدخل بالمرأة( ).
ويعتبر الجمهور الفسخ بالعيب الذى يوجب الخيار مسقطا للمهر ، وإن كان المختار هو الزوج " لأنها أتلفت المعوض قبل تسليمه ، فسقط البدل كله"( ) أو لأن عيبها هو الدافع على فسخ هذا النكاح ( ) وزاد الحنابلة مسقطات أخرى ، كما لو فسخت الزوجة النكاح بسبب إعسار الزوج بمهرها أو نفقها ، أو فسخ الزوج لفقد صفة شرطها فى الزوجة كأن شرط أن تكون بكرا فبانت ثيبا ، أو فسخت الزوجة لإخلال الزوج بشرط صحيح اشترطته حال العقد ، كما لو اشترطت عليه ألا يخرجها من بلدها .
وفى الفرقة بسبب اللعان روايتان . (الثانية) يسقط به مهرها ، لأن الفسخ عقيب لعانها ( ).
وفى رأى الإمام ابن حزم أن المهر إذا وجب بصحة العقد فهو باق ، وإن انفسخ النكاح بسبب من قبله أو من قبلها ، لقوله تعالى " وآتوا النساء صدقاتهن نحلة "( ) والقول بغير ذلك – فى رأيه – باطل ، لأنه إسقاط لما أوجبه الله تعالى بالبرهان … وعلى ذلك فلمن انفسخ نكاحها المسمى كله ، أو مهر مثلها كله ، دخل بها أو لم يقع ، لأن الفسخ بحكم الشرع لا اختيار فيه ( ).
والتقنينات التى بين أيدينا لم تتعرض صراحة فى الغالب لسقوط المهر بإسقاط الزوجة إبراء أو هبة ، وإن كان حرصها على النص على أن " المهر حق الزوجة " ( ) يفيد أنها تقبل بذلك ، ومع هذا فإن القانون الأردنى قد نص صراحة على " الحط من المهر " إن كانت المرأة كاملة أهلية التصرف ، ويلحق ذلك بأصل العقد إذا قبل الزوج ذلك فى مجلس الحط منه ( ).
ولا يمانع القانون السورى فى الإنقاص من المهر أو الإبراء منه فى أثناء قيام الزوجية أو فى عدة الطلاق بشرطين :-
1- أن يجرى ذلك أمام القاضى .
2- أن يقبل به الزوج الآخر ( ).
ولعله أراد بالشرط الأول حماية المرأة من التغرير بها ، أو إكراهها على الإبراء ، فألزم أن يتم ذلك بمجلس القضاء ، وهو اتجاه طيب .
وأكثر القوانين تنص صراحة على أن البينونة بسبب من قبل الزوجة قبل الدخول والخلوة الصحيحة تسقط المهر كله ( ) ، وما لم ينص منها على ذلك كالتقنين المصرى والسودانى والعراقى يأخذ بالراجح من المذهب الحنفى ، وقد علمت أنه يسقط المهر كله بالفرقة التى تعتبر فسخا ( ).
أما سقوط المهر بالفسخ بسبب العيب فإنه مقرر فى التقنينات التى ترى الفرقة بالعيب من قبل الزوج أو الزوجة فسخا ، فيسقط كل المهر إن وقع قبل الدخول والخلوة الصحيحة ، ومن ذلك التقنين المغربى ( ) والإماراتى ( ) والأردنى ، ونذكر نصوص هذا الأخير لشمولها :
م 49 : إذا وقع الافتراق بطلب من الزوجة بسبب وجود عيب أو علة فى الزوج أو طلب الولى التفريق بسبب عدم الكفاءة ، وكان ذلك قبل الدخول والخلوة الصحيحة يسقط المهر كله .
م 50 : إذا فسخ العقد قبل الدخول والخلوة فللزوج استرداد ما دفع من المهر .
م 52 : يسقط المهر كله إذا جاءت الفرقة من قبل الزوجة كردتها أو إبائها الإسلام إذا أسلم زوجها وكانت غير كتابية ، أو بفعلها ما يوجب حرمة المصاهرة بفرع زوجها أو بأصله ، وإن قبضت شيئا من المهر ترده .
م 53 : يسقط حق الزوجة إذا فسخ العقد بطلب من الزوج لعيب أو لعلة فى الزوج قبل الوطء ، وللزوج أن يرجع عليها بما دفع من المهر .
الجهاز ومتاع البيت والمنازعات التى تقع بشأنهما
أولا : تأثيث بيت الزوجية
لا خلاف بين العلماء أن المهر ملك للزوجة ، غير أن جمهورهم ساروا بالملكية إلى منتهاها فقالوا " لا يلزم المرأة فى مهرها شئ فلا تجبر على أن تتجهز إليه بشئ أصلا ، لا من صداقها الذى أصدقها ، ولا من غيره من سائر مالها ، والصداق كله لها تفعل فيه ما شاءت ، لا إذن للزوج فى ذلك ولا اعتراض " ( ) .
وشذ المالكية فقالوا : الجهاز حق على المرأة فى دائرة ما قبضته وما تجرى به العادة بين أمثالها ، فإن لم تكن قبضت شيئا من المهر فليس عليها جهاز، إلا إذا كان العرف يوجب عليها جهازا ، أو كان قد شرط ذلك عليها .
قال ابن عبد الرفيع " وإذا قبضت المرأة نقدها ( ) ، أو قبضه وليها فمن حق الزوج أن يتجهز به إليه ، وهذا مشهور مذهب مالك وجميع أصحابه حاشا ابن وهب فإنه قال لا يلزمها التجهيز بصداقها . قال بعض الموثقين : وإذا كان النقد عرضا أو حيوانا أو طعاما وجب عليها بيعه والتجهيز به …. ولا يلزم الزوجة أن تتجهز بالكالى – مؤخر الصداق – إذا قبضته بعد البناء ، وإن باراها – أى خالعها - الزوج ثم راجعها لم يلزمها أن تتجهز إليه إلا بما يعطيها فى المراجعة " ( ) قال " قال ابن حبيب : وللزوج أن يسأل الولى فيما صرف النقد فيه من الجهاز ، وعلى الولى أن يفسر ذلك ويحلف عليه إذا اتهمه فيه " ( ) .
وفى العقد المنظم للحكام لابن سلمون " وإذا رفع الزوج للزوجة فى صداقها ليسارها ، ولأنها تسوق إلى بيته من الجهاز ما جرت عادة أمثالها به ، وجاء الأمر بخلافه أن للزوج مقالا فى ذلك ، ويحط من الصداق الزيادة التى زادها لأجل الجهاز على الأصح عندنا ( ) وهو دليل ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام " تنكح المرأة لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها " وقال غيره إن ساق الزوج لزوجته سياقة وجرى عرف البلد بإبراز شورة لمن ساق سياقه ثم لم يبرز إليه عند البناء شئ كان للزوج أن يحل النكاح عن نفسه إن شاء .
وأجاب ابن رشد فى نحو هذا إذا أبى الأب أن يجهز ابنته إلى زوجها بما جرى العرف والعادة أن يلتزم – أى الزوج - النكاح أو يرده عن نفسه ويسترد ما نقد ، ويسقط عنه ما أكلأ – أى أجل – وساق ، وأما إن توفيت قبل البناء وأبى الأب أن يبرز لها من ماله ما يكون ميراثا عنها على القدر الذى يجهز به مثلها إلى مثله فلا يلزم إلا صداق مثلها على أن لا يكون جهازها إلا نقدها .
وقال كذلك إن كانت حية وكان الزوج قد ساق لها سياقة وأعطاها حقوقا، وجهزها الوالد بما يجهز به مثلها إلى مثله ، ثم ادعى فى ذلك العارية وأراد أخذه فليس للأب أن يسترد ما أبرزها به إلى زوجها من الحلى والثياب ، ولا يصدق فيما ادعاه من أنه إنما أبرز ذلك إليها على سبيل العارية منه لها " ( ).
وواضح من هذا النقل الطويل كيف أن قضية التزام الزوجة بالجهاز قد رسخت فى الفقه المالكى ، حتى أنهم ليرونها قاعدة تقيد بها أحكام الصداق ، وشرطا يجيز عند تخلفه حق الفسخ .
ولم أقف لهم – فيما طالعت – على دليل إلا ما ذكر ابن حزم أن بعضهم شغب بقول الله تعالى " الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض " ( ) وكأنهم أخذوا منه أن القوامة تقتضى أن يكون له حق فى أن تتجهز له ، وتتزين بما قدم ، وتجبر على ذلك ، وهذا ما اطردت به الفتاوى عندهم ( ) وكأنهم أيضا أخذوا من قوله " تنكح المرأة لمالها " أن مثل هذا النكاح معروف ، والمعروف عرفا كالمشروط شرطا .
ويبدو أن اعتبار العرف هو أساس هذه الفتوى فى مذهب مالك ، بل إن كثيرا من أقضية النكاح مردها – عندهم – تحقيقا إلى العرف ، ومن ذلك مثلا ما حكاه ابن فرحون فى تبصرته قال " وفى سماع ابن القاسم : سئل مالك عن الناكح هل يلزمه لأهل المرأة هدية العرس ، وجل الناس تعمل به عندنا حتى أنه لتكون فيه الخصومة ، أترى أن يقضى به ؟
قال : إذا كان ذلك قد عرف من شأنهم وهو عملهم لم أر أن يطرح ذلك عنهم ، إلا أن يتقدم فيه السلطان ، لأنى أراه أمرا قد جروا عليه .
وفى كتاب عيسى ، قال ابن القاسم : قال مالك قبل ذلك : لا أرى أن يقضى به ، وهو أحب إلى كان مما جروا عليه أو لم يكن "
وفى سماع عيسى ، فى رسم لم يدرك ، قال ابن القاسم : سألنا مالكا عمن تزوج امرأة فأصدقها صداقا ، فطلبت منه نفقة العرس هل ذلك عليه أم لا ؟ قال : ما أرى ذلك عليه ، وما هو بصداق ولا شئ ثابت ، ولا هو لها إن مات ، ولا نصفه إن طلق .
فردد عليه ، وقيل له : يا أبا عبد الله ، إنه شئ أجروه بينهم ، وهى سنتهم !!!
فقال : إن كان ذلك شأنهم فأرى أن يفرض عليهم .
وختم ابن فرحون بحثه فى هذه المسائل وأشباهها بقوله " والمتعارف من أحوال النساء فيما يوسعون به على أزواجهن من أموالهن إنما يردن بذلك موادات الأزواج ، واستدامة عصمتهن معهم ، وتقمن مسرتهم " ( ) .
ولا جدال أن قريبا مما يقول به المالكية غالب فى زماننا ، خاصة فى المدن ، حيث يدفع الأزواج إلى أولياء الزوجة شيئا زائدا على المهر ويطالبونهم بالتجهيز، الأمر الذى يثقل كاهل الأباء ، ويوقعهم فى الحرج .
وقريب منه أيضا ما جرت عليه عادة الناس فى القرى وبعض الأوساط فى المدن من أن يكون حلى المرأة مدخرا لحاجة الزوج متى احتاجه أخذه ، ولا يليق بالمرأة ولا بأهلها الممانعة فى ذلك .
وقد يخفف من غلواء هذا العرف أن كل ما تتجهز به المرأة عند البناء يثبت فى قائمة المنقولات على أنه حق الزوجة ، وليس للزوج فيه إلا الانتفاع معها ما دامت الزوجية باقية ( ) فإن طلقت الزوجة أخذته ، وإن ماتت فالزوج أحد الورثة ليس إلا .
وإجراء كهذا إن أتته الزوجة أو أولياؤها حبا وكرامة وتبرعا وتوددًا فلا مدخل لأحد فى الإنكار عليه ، بل إنه من قبيل التعاف ، وقد قال الله تعالى " وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم " ( ) .
ولكن الذى يؤخذ على مذهب الإمام مالك رحمه الله هو الإجبار على التجهيز بما يقدمه من مهر ، بل وإجبار الأب على أن ينحل ابنته من ماله ، فيرد إلى الزوج صداقه وأكثر ، وتسقط عنه نفقة التجهيز والكسوة ويثبت له فى زينتها حق .
ولو كان لهذا الإجبار سند ثابت لم يكن لأحد أن يعترض عليه ، ولكن سنده كما ظهر من حكاية المذهب هو العرف والعادة ، وهما فى مسألتنا منخرمتان ، فلا يصلحان للتحكيم ، لأن شرطهما :-
1- الاطراد 2- عدم التعارض مع شرع يتعلق به حكم
ولا شك أن إجبار الزوجة أن تتجهز بصداقها أو من مالها أو من مال أبيها ، أو غل يدها عن أن تتصرف فى صداقها كيف شاءت ، كل ذلك عضل وإذهاب ببعض ما أوتين ، وقد نهى الله عنه ، وتفريغ للصداق من معنى النحلة على خلاف أمر الله تعالى ، وإيجاب ما لم يجب ، بل خلاف الواجب ، لأن النبى قضى أن رزق النساء وكسوتهن على الأزواج ( ) .
والمعمول به فى أكثر( ) التقنينات هو مذهب الحنفية ، وخلاصته أن المهر حق خالص للمرأة ، فلا يلزمها فيه شئ ، ولكن إن دفع الزوج شيئا زائدا على المهر لتتجهز به كان عليها ذلك فى حدود هذه الزيادة ، فإن لم تفعل كان له الحق فى استرداد ما دفعه لها ، إلا إذا سكت مدة تدل على رضاه بهبة ما دفع زائدا على المهر ، فيعتبر ما زاد لها هبة غير مشروطة بشرط .
وهذا الحكم إن كانت الزيادة منفصلة عن المهر ، واشترط أن تكون للتجهيز أو جرى بذلك عرف .
وإن لم تكن الزيادة منفصلة عن المهر – وتعرف بكون ما دفع أكثر من مهر مثلها – وقصد بالزيادة على مهر المثل أن تكون هذه الزيادة فى مقابل التجهيز أو مقابل إعداد الجهاز على شكل خاص ، ففى هذا اختلف الحنفية .
فأخذ بعضهم بالظاهر فقال : الزيادة جعلت ضمن المهر فالتحقت به ، والمهر حق خالص للزوجة ، فلا تطالب بإنفاق شئ منه فى الجهاز أو غيره .
وقال آخرون : العبرة بالقصد ويجعل مهر المثل حكما ، وعليه تلزم الزوجة بالتجهيز فى حدود الزيادة ، فإن لم تفعل كان لها مهر المثل فقط ( ) وهذا الخلاف قد حسم إلى حد كبير بعد اطراد العمل على توثيق عقود الزواج والنص فى الوثيقة على قدر الصداق ، الحال منه والمؤجل ، وفى الحالات الشاذة أرى أن يحكم العرف فيما يقدم ، هل هو من الصداق ، أم زيادة نظير الجهاز .
الخلاف حول الأمتعة المنزلية
هذه المشكلة تكاد تكون قد اختفت بعد أن تعارف الناس كتابة قوائم بعفش الزوجية ، والإشهاد على إقرار الزوج بما فيها ، ولكن تحسبا لفقد هذا الدليل ، أو سقوطه نتيجة الطعن فيه بالتزوير ، أو لأن " المتاع أعم من الجهاز وأشمل "( ) بمعنى أن يضاف إلى ما تجهزت به الزوجة عند البناء شئ ، فإن الفقه يعنى ببحث هذه المشكلة ، ونكتفى فيها بإيراد ما يجرى عليه العمل .
أولا : الراجح فى المذهب الحنفى يقضى بالأتى :
1- فى حالة الخلاف بين الزوجين ، أو بين ورثتيهما :
إذا اختلف الزوجان حال قيام النكاح أو بعد الفرقة فى متاع موضوع فى البيت الذى يسكنان فيه ، سواء كان ملك الزوج أو الزوجة فما يصلح للنساء عادة فهو للمرأة ، إلا أن يقيم الزوج البينة ، وما يصلح للرجال أو يكون صالحا لهما فهو للزوج ما لم تقم الزوجة البينة ، وأيهما أقامها قبلت منه ، وقضى له بها ، ولو كان المتاع المتنازع فيه مما يصلح لصاحبه – أى الطرف الآخر – وما كان من البضائع التجارية فهو لمن يتعاطى التجارة منهما ….. ( ) ونفس الحكم فى الخلاف بين الورثة .
2- الخلاف بين أحد الزوجين وورثة الآخر:
إذا مات أحد الزوجين ووقع النزاع فى متاع البيت بين الحى وورثة الميت فالمشكل الذى يصلح للرجل والمرأة يكون للحى منهما عند عدم البينة ( ).
3- الخلاف بين الزوجة وأبيها أو أمها :
إذا جهز الأب بنته وسلمها إلى الزوج بجهازها ، ثم ادعى هو أو ورثته أن ما سلمه إليها أو بعضه عارية ، وادعت هى أو زوجها بعد موتها أنه تمليك لها ، فإن غلب عرف البلد أن الأب يدفع مثل هذا جهازا لا عارية فالقول لها ولزوجها ، ما لم يقم الأب أو ورثته البينة على ما ادعوه .
وإن كان العرف مشتركا بين ذلك ، أو كان الجهاز أكثر مما يجهز به مثلها ، فالقول قول الأب وورثته ، والأم فى ذلك كالأب ( ).
ثانيا : وأكثر التقنينات التى بين أيدينا اكتفت بالنص على أن المهر حق الزوجة ، ولا تجبر على عمل الجهاز منه ( ) ، وتطرق القانون السودانى إلى التفصيل فى الخلاف على المتاع غير أنه نقل مواد مرشد الحيران بنصها ، ولم يزد عليها إلا التحليف ( ) والاختلاف فى المصاغ ، وقضى فيه بأنه " إذا اختلف الزوجان فى المصاغ الذى أحضره الزوج ، فادعى هو العارية ، أو إحضاره للزينة ، وادعت هى الهبة ، فتكلف الزوجة البينة ، فإن أقامتها قضى لها، وإلا فالقول قول الزوج بيمينه "( )
ثالثا : واختار المقنن الليبى مذهب الشافعى وزفر من الحنفية ( ) فى العمل :
فنص فى المادة 21 من القانون على أنه " إذا اختلف الزوجان على أثاث البيت وأدواته ، ولا بينة لكل واحد منهما فما كان صالحا للرجل أخذه الزوج بعد حلفه ، وما كان صالحا للنساء أخذته الزوجة بعد حلفها ، ما لم يكن هناك شرط أو عرف يقضى بغير ذلك ".
والخلاف بين أحد الزوجين والورثة أو بين الورثة كالخلاف بين الزوجين .