[phpBB Debug] PHP Warning: in file [ROOT]/includes/bbcode.php on line 483: preg_replace(): The /e modifier is no longer supported, use preg_replace_callback instead
[phpBB Debug] PHP Warning: in file [ROOT]/includes/bbcode.php on line 483: preg_replace(): The /e modifier is no longer supported, use preg_replace_callback instead
[phpBB Debug] PHP Warning: in file [ROOT]/includes/bbcode.php on line 483: preg_replace(): The /e modifier is no longer supported, use preg_replace_callback instead
[phpBB Debug] PHP Warning: in file [ROOT]/includes/bbcode.php on line 483: preg_replace(): The /e modifier is no longer supported, use preg_replace_callback instead
[phpBB Debug] PHP Warning: in file [ROOT]/includes/bbcode.php on line 483: preg_replace(): The /e modifier is no longer supported, use preg_replace_callback instead
[phpBB Debug] PHP Warning: in file [ROOT]/includes/bbcode.php on line 483: preg_replace(): The /e modifier is no longer supported, use preg_replace_callback instead
[phpBB Debug] PHP Warning: in file [ROOT]/includes/bbcode.php on line 483: preg_replace(): The /e modifier is no longer supported, use preg_replace_callback instead
[phpBB Debug] PHP Warning: in file [ROOT]/includes/bbcode.php on line 483: preg_replace(): The /e modifier is no longer supported, use preg_replace_callback instead
[phpBB Debug] PHP Warning: in file [ROOT]/includes/bbcode.php on line 483: preg_replace(): The /e modifier is no longer supported, use preg_replace_callback instead
[phpBB Debug] PHP Warning: in file [ROOT]/includes/bbcode.php on line 483: preg_replace(): The /e modifier is no longer supported, use preg_replace_callback instead
[phpBB Debug] PHP Warning: in file [ROOT]/includes/bbcode.php on line 483: preg_replace(): The /e modifier is no longer supported, use preg_replace_callback instead
[phpBB Debug] PHP Warning: in file [ROOT]/includes/bbcode.php on line 483: preg_replace(): The /e modifier is no longer supported, use preg_replace_callback instead
[phpBB Debug] PHP Warning: in file [ROOT]/includes/bbcode.php on line 483: preg_replace(): The /e modifier is no longer supported, use preg_replace_callback instead
[phpBB Debug] PHP Warning: in file [ROOT]/includes/bbcode.php on line 483: preg_replace(): The /e modifier is no longer supported, use preg_replace_callback instead
[phpBB Debug] PHP Warning: in file [ROOT]/includes/bbcode.php on line 483: preg_replace(): The /e modifier is no longer supported, use preg_replace_callback instead
[phpBB Debug] PHP Warning: in file [ROOT]/includes/bbcode.php on line 483: preg_replace(): The /e modifier is no longer supported, use preg_replace_callback instead
[phpBB Debug] PHP Warning: in file [ROOT]/includes/bbcode.php on line 483: preg_replace(): The /e modifier is no longer supported, use preg_replace_callback instead
[phpBB Debug] PHP Warning: in file [ROOT]/includes/bbcode.php on line 483: preg_replace(): The /e modifier is no longer supported, use preg_replace_callback instead
[phpBB Debug] PHP Warning: in file [ROOT]/includes/bbcode.php on line 483: preg_replace(): The /e modifier is no longer supported, use preg_replace_callback instead
[phpBB Debug] PHP Warning: in file [ROOT]/includes/bbcode.php on line 483: preg_replace(): The /e modifier is no longer supported, use preg_replace_callback instead
[phpBB Debug] PHP Warning: in file [ROOT]/includes/bbcode.php on line 483: preg_replace(): The /e modifier is no longer supported, use preg_replace_callback instead
[phpBB Debug] PHP Warning: in file [ROOT]/includes/bbcode.php on line 483: preg_replace(): The /e modifier is no longer supported, use preg_replace_callback instead
[phpBB Debug] PHP Warning: in file [ROOT]/includes/bbcode.php on line 483: preg_replace(): The /e modifier is no longer supported, use preg_replace_callback instead
[phpBB Debug] PHP Warning: in file [ROOT]/includes/bbcode.php on line 483: preg_replace(): The /e modifier is no longer supported, use preg_replace_callback instead
[phpBB Debug] PHP Warning: in file [ROOT]/includes/bbcode.php on line 483: preg_replace(): The /e modifier is no longer supported, use preg_replace_callback instead
[phpBB Debug] PHP Warning: in file [ROOT]/includes/bbcode.php on line 483: preg_replace(): The /e modifier is no longer supported, use preg_replace_callback instead
[phpBB Debug] PHP Warning: in file [ROOT]/includes/session.php on line 1038: Cannot modify header information - headers already sent by (output started at [ROOT]/includes/functions.php:3876)
[phpBB Debug] PHP Warning: in file [ROOT]/includes/functions.php on line 4764: Cannot modify header information - headers already sent by (output started at [ROOT]/includes/functions.php:3876)
[phpBB Debug] PHP Warning: in file [ROOT]/includes/functions.php on line 4766: Cannot modify header information - headers already sent by (output started at [ROOT]/includes/functions.php:3876)
[phpBB Debug] PHP Warning: in file [ROOT]/includes/functions.php on line 4767: Cannot modify header information - headers already sent by (output started at [ROOT]/includes/functions.php:3876)
[phpBB Debug] PHP Warning: in file [ROOT]/includes/functions.php on line 4768: Cannot modify header information - headers already sent by (output started at [ROOT]/includes/functions.php:3876)
كتاب الوسيط فى أحــــــكام الأسرة : مسائل الاحوال الشخصية

كتاب الوسيط فى أحــــــكام الأسرة

كتاب الوسيط فى أحــــــكام الأسرة

مشاركة غير مقروءةبواسطة BAHRAIN LAW » الاثنين أكتوبر 06, 2008 10:48 am

[align=center][/align]

[align=center]الإهـــــداء
إلى كل
الممسكين بالمعروف
الطائعات فى غير معصية الله

وإلى
زوجتـــــى
أهدى ثواب هذا العمل
إن كتب الله لــــه القبـــــول[/align]

BAHRAIN LAW
مدير الموقع
مدير الموقع
 
مشاركات: 758
اشترك في: الأربعاء سبتمبر 17, 2008 5:36 pm
الجنس: ذكر

Re: كتاب الوسيط فى أحــــــكام الأسرة

مشاركة غير مقروءةبواسطة BAHRAIN LAW » الاثنين أكتوبر 06, 2008 10:50 am

تقــديم
أحمد الله ذا النعم ، خالق الإنسان من عدم "الذى علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم"( ) وأسبغ علينا نعما لا تعد ولا تحصى ، ومن نعمه ما بينه سبحانه فى معرض امتنانه والتحذير من مخالفة شرعه فقال " والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون"( ) والصلاة والسلام على سيد المرسلين ورسول الله إلى الخلق أجمعين خير الأزواج ، وأبر الأبناء ، وأحنى الآباء، الرءوف الرحيم ، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واهتدى بهدية إلى يوم الدين.
وبعد ….. فإن الإنسان صنع الله ، خلقه وركب فيه شهوتين أساسيتين هما شهوة البطن وشهوة الفرج ليبقى بالأولى ويحفظ نوعه بالثانية ، وحتى لا يختل النظام الذى أراده الله فى الكون لسعادة البشر أرسل الرسل وأنزل الكتب لينضبط سبيل إشباع هاتين الشهوتين على سبيل المباح الذى تقر به الأعين ويتحقق به السكن والسكينة ، ويتصل به العمل بعد الممات ، وتؤمل معه الشفاعة فى الآخرة ، وبقدر ما يسر الله طريق المباح شنع على باب الحرام لما فيه من اعتداء على الآدمية وتخريب للأمن وافتيات على حدود الله تعالى ، وطريق الإشباع المباح لشهوة الفرج هو الزواج ، والزواج كما قال السلف عقد أبدان ، وهو عقد عمرى يدوم ، إن استقام على هدى الله كان سكنا ومودة ، وإن اختل كان على المرأة رقا وحبسا ، وعلى الرجل هما وعناء ، ثم إن الزواج ينتج ولداً فإن وقع على الاستقامة كان الأولاد والأزواج قرة عين ، وإن كان على غيرها فالأولاد فتنة وهم مع الأزواج عدو، وحرصا على المصالح ودفعا للمفاسد عنيت الشريعة الإسلامية بأحكام الزواج تفصيلا ، حتى أنه ليندر أن نجد معاملة ظفرت بمعشار ما ظفر به الزواج من الشرع المنزل ناهيك عن الشرع المؤول "الاجتهاد"، وقد تميز هذا الأخير بتعدد الحلول التى لا تمثل فى نظر البعض اختلاف أقوال بقدر ما تعنى استجابة لأحوال ، مما ييسر لذوى الحاجة فسحة ويسراً ، فيأخذ كل عصر بما يناسب زمانه ومكانه، مع مراعاة قاعدة الشرع فى الترجيح عند التعارض، ولأن كلام الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فإن ما حذر منه القرآن فى آية النحل من الإيمان بالباطل والكفر بنعمة الله وقع من البعض ، فرأينا أناساً منا يكفرون بنعمة الله فى الزواج ، وينادون بالباطل فى أحكامه ، متبعين سنن الآخرين ، حتى أنهم لو دخلوا جحر ضب دخلوه وراءهم ، فتنكروا للمشروع ، وترخصوا فى الممنوع ، واعتدوا على الحقوق ، زاعمين أنهم يحمون بذلك المرأة والأسرة ، وهم كاذبون أو غافلون ، ولو صدق زعمهم لعضوا على شرع الله بالنواجز، ومراعاة لكل ذلك أعددت هذا التصنيف ، الذى لا يعدو أن يكون تقريبا لحكم ، وتخيرًا لفتوى ، ومؤازرة للواقفين فى ساحة النزال ، يصدون عن المجتمع المسلم غوائل التغريب وافتراءات المفترين ، فلست إلا تلميذا لجمع عظيم من المربين والمعلمين الذين أرجو أن لا يخيب الله مسعاهم، والشئ الأوحد الذى خرجت فيه على سنة الخلف من العلماء أننى قصدت أن أعرف بالمعمول به فى أكثر التقنينات العربية المعاصرة ، راجيا بذلك مصلحتين.
الأولى : اعتبار المعمول به فى تشريعات القانون الدولى الخاص ، والتى تقرر أن الأصل أن يطبق فى مسائل الأحوال الشخصية قانون الجنسية أو الموطن ، وقد انقسم وطننا إلى دويلات لكل منها جنسيتها وقانونها الخاص، ولكن هذا لم يمنع التقارب الدينى والاجتماعى بين شعوبنا ، فظل التزاوج بين رجالنا ونسائنا قائما ، وهذه حقيقة معلومة مشاهدة ، بل إن إخوتنا فى السودان يقولون من كان خاله غير مصرى فليس سودانيا ، ولأن الأصل فى ممارسة المحاماة أن يكون المحامى وطنيا فالحاجة تستدعى أن يكون محامونا على دراية بالمعمول به فى الأقطار الشقيقة .
الثانية : أن الاجتهادات الفقهية كما قلت تمثل حلولاً ، تخير المقننون منها كل بما قويت عنده مصلحته ، ووضعها جنبا إلى جنب مع الحلول التى تخيرها المقنن المصرى تدفع عنه أولا ما يوجه إليه إحياناً من اتهام بالافتيات على أحكام الشرع ، وتتيح ثانيا للمصلحين أن يستأنسوا بما ليس مقررا عندنا من حلول عسانا أن نعالج الخلل فى أطر شرعية بأدمغة مسلمة لا بمكائد شيطانية ، وأخيراً فإن شيئا خير من لا شئ ، لهذا فإننى وإن لم ألم بالمعمول به فى كافة التقنينات العربية ، فقد وقفت على بعضها ، وآمل أن يمكننى الله من الوقوف على المقرر فيما لم أقف عليه فى القريب ، لتكون الطبعة التالية جامعة إن شاء الله تعالى وأرجو القارئ الكريم أن يغفر لى هذا القصور ، وفى زعمى أن هذه تجربة غير مسبوقة على المستوى العربى الواسع .
وفى الختام فإن الكمال لله وحده ، والعصمة لا تكون إلا لنبى ، وما أحسن قول القاضى الفاضل عبد الرحيم البيسانى إذ يقول " إنى رأيت أنه لا يكتب إنسان كتابا فى يوم إلا قال فى غده : لو غير هذا لكان أحسن ، ولو زيد هذا لكان يستحسن ، ولو قدم هذا لكان أفضل ، ولو ترك هذا لكان أجمل ، وهذا من أعظم العبر ، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر "، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ، وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ، والحمد لله رب العالمين .
د. / أحمد محمد أحمد بخيت الغزالى
القاهـــرة
العاشر فى رمضان 1420 هـ
الثامن عشر من ديسمبر 1999م

الباب الأول
تعريف النكاح وحكمه وحكمته ومقدماته
تمهيد
لا يختلف اثنان أن أكثر النظم استقراراً فى تاريخ الجنس البشرى هو نظام الزواج ( ) ، وعلى الرغم من ترهات المبطلين فى الماضى والحاضر التى تنزع إلى النيل من هذا النظام الخالد " بابتداع أنماط وأشكال جديدة من الحياة الاجتماعية والاقتصادية تحطم الحواجز الأخلاقية ، وتعارض القيم الدينية ، وتنشر الإباحية باسم الحرية ، وتشجع على التحلل باسم التحرر" ( ) على الرغم من ذلك فإن الزواج باق لا محالة ، لأنه سنة الله التى فطر الناس عليها ، وسنة النبيين والمرسلين ، ومصدر الدفء والسكينة والرضا ، والروابط المستقرة والصلات الحميمة ، وقرب الذات من الذات ، وهى حاجات إنسانية لا يغنى عنها شئ .
ومنذ أن عُـرِفَ الزواج نظاماً اجتماعياً وقانونياً ، " تتمثل فيه بيئة الجماعة وتتجلى فيه طبائعها وخصائصها ، وهو يخضع فى نشوئه لتقاليد وأعراف ترتبط بعقيدة الجماعة وسلوكها الاجتماعى والأخلاقى ( ).
وما دام الأمر كذلك فلا بد وأن يصطبغ الزواج فى الإسلام بصبغة إسلامية، غايتها بناء أسرة تكون عماداً قويماً للمجتمع الإسلامى ، الذى أراده الله مجتمعاً متماسكاً ، عماده المودة والرحمة ، وسمته التناصح والتوازن ، وغايته إعمار الدنيا وربحان الآخرة ، توصد دون البغضاء والفاحشة فيه ألف باب ، وتيسر إلى السكينة والطاعة فيه كل السبل .
ولأن الزواج شأن خطير باستقامته تقوى الأسرة ومن ثم المجتمع ، وباعوجاجه تنحرف الأسرة ، ويختل نظام المجتمع وقد ينهار ، لذا فقد عنى الشرع المنزل – كتاباً وسنة – بتفصيلات عقد الزواج – حتى أننا لا نرى عقداً فى الإسلام ظفر بمعشار النصوص التى تناولت الزواج فى مقدماته وانعقاده وبقائه وآثاره وانتهائه .
ولم يتخلف الاجتهاد – ولا يظن به – عن الاقتداء بالتنزيل كيفا وكما ، فأفرد الفقهاء من أبواب الفقه أبواباً طوالاً عالجوا فيها أحكام الزواج ومتعلقاته فى وعى نادر بالنفس البشرية وأحوالها ، وبنظر ثاقب وفراسة مؤمنة أخذت فى الحسبان التغيرات والأحوال ، فكان ولم يزل أكثر قضاء الأمس وفتاواه هو الأقدر على حفظ البناء الاجتماعى لمن ينشد قوة ، والسكن العائلى لمن ينشد دفئاً ورضا .
وقد كان من أثر العناية الإسلامية بأحكام الزواج بتفصيلاتها ودقائقها أن تحصنت الأسر فى المجتمعات المسلمة – وإن كان بعض هذه الأسر لا يدين بالإسلام – بينما انفرط عقد الأسرة فى المجتمع الغربى لتحلله من كل القيود والضوابط الأخلاقية .
وللأسف بدلاً من أن يراجع الغرب نفسه ، ويؤوب إلى ربه ، إذا به يمكر بالشرق المسلم " ويعقد المؤتمرات أو المؤامرات مستهدفاً الأسرة المسلمة ، لأنها تعتبر من أواخر الحصون الإسلامية التى لم تسقط بعد ، سواء على المستوى الثقافى أو الاجتماعى أو القانونى ، لذلك لابد من إسقاطها وإغراقها فى الفلسفات والممارسات التى سقطت فيها الأسرة فى الحضارة والثقافة الغربية " ( )
وفى تعريفنا بالزواج وبيان حكمه وحكمته ومقدماته لابد أن نأخذ كل ذلك فى الحسبان فنتلو النص أو نرويه ، ونبسط الاجتهاد أو ندل عليه ، ونبصر بالمؤامرة وموضع الخلل عساناً أن نؤدب قبل أن نعلم ، فحاجتنا إلى الزوج السكن والأم المدرسة والراعى المسئول أرجح فى ميزان المصالح من الطالب النابغة ، والفتاة البرزة .

الفصل الأول
تعريف الزواج وحكمه وحكمته
المبحث الأول
تعريف الزواج
تمهيد :
فى حديث القرآن والسنة عن الزواج يرد لفظان أحدهما وهو أكثرهما ذكراً لفظ الزواج ، والثانى هو لفظ النكاح ، والمتدبر لآى القرآن الكريم يدرك أن مراد الله بالزواج هو تلك الرابطة التى تقوم بين الرجل والمرأة على أساس العقد . أما لفظة النكاح فليست خالصة فى معنى العقد ، بل قد يراد بها الوطء ، أى الاتصال الجنسى .
ثم إن السلف قد ركزوا فى تعريفهم الزواج على حق كل من الزوجين فى الاستمتاع بالآخر ، باعتباره طريقاً إلى العفة وسبباً لإيجاد الولد ، ولم يزيدوا على ذلك ، ولأن عهدنا بهم دقة التعبير ، فهل تعريفهم الزواج على هذا النحو كاف فى الدلالة على الصبغة الإسلامية ؟ أم أنه منتقص ؟ .
هذا ما سنعنى بيانه فى هذا المبحث .
أولاً : الزواج والنكاح فى اللغة .
1- الزواج :
الزوج فى لغة العرب ( ) خلاف المفرد ، يقال زوج وفرد وهذه اللفظة من العموم بحيث تصدق على كل ماله نظير ، كالأصناف والألوان ، وماله مقابل كالرطب واليابس ، والذكر والأنثى والليل والنهار .. وفى قول الله تعالى " ومن كل شئ خلقنا زوجين لعلكم تذكرون " ( ) قال الفخر الرازى " الزوجان إما الضدان ، فإن الذكر والأنثى كالضدين ، والزوجان منهما كذلك ، وإما المتشاكلان – المتماثلان – فإن كل شئ له شبيه ونظير وضد وند ، قال المنطقيون : المراد بالشئ الجنس ، وأقل ما يكون تحت الجنس نوعان ، فمن كل جنس خلق نوعين"( ) ولفظة " الزوج " تطلق فى الأصل على الرجل والمرأة فيقال للمرأة زوج ، وللرجل زوج ، وهى لغة القرآن ( ) ، قال الله تعالى " وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة " ( ) والمقصود بالزوج هنا المرأة حواء ، وقال "وإن أردتكم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطاراً " ( ) والمقصود هنا المرأة أى إن أردتم استبدال امرأة مكان امرأة .
قال الأصمعى " ولا تكاد العرب تقول – عن المرأة – زوجة ، وحكى الفراء أنه يقال زوجة " ( ) وهو الصحيح ، فقد أخبرنا بذلك عن النبى  ( ) وهو أفصح العرب ، ففيما روى البخارى عن عمار بن ياسر فى شأن عائشة أم المؤمنين  قال " والله إنى لأعلم أنها زوجته – أى زوجة النبى  - فى الدنيا والآخرة ، ولكن الله ابتلاكم " ( ).
ومادام الزوج هو ضم الفرد إلى الفرد ، فالزواج هو اقتران أحد الشيئين بالآخر بعد انفراد ، وقد غلب استعماله فى اقتران الذكر بالأنثى اقتراناً تنشأ به الأسرة .
ومن خصائص هذه التعبير الرائع الراقى – أعنى لفظ الزواج – أنه يكشف عن علاقة فريدة بين ذاتين ، لا تفنى إحداهما فى الأخرى ، ولا تنفصل عنها ، وإنما ترتبطان برباط لا شبيه له ، يتداخل معه الإحساس بالذات مع الإحساس بالغير ، ويتداخل الشعوران فى انسجام تنفرد به المخلوقات العليا من خلق الله"( )
2- النكاح : وهو فى اللغة ( ) يعنى الضم والتداخل .
ويقال : تناكحت الأشجار : إذا تمايلت وانضم بعضها إلى بعض . كما يطلق بمعنى الاختلاط ، يقال : نكح المطر الأرض إذا أختلط فى ترابها .
وفى الخطاب القرآنى أكثر ما يستعمل لفظ النكاح بمعنى عقد الزواج ، وفى القليل النادر يستعمل بمعنى الوطء ( ) ، فمن الأول قول تعالى " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن " ( ) ، وقوله " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف " ( ) ، ومن الثانى قوله تعالى " فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره " ( ).
أى حتى يطؤها الزوج الآخر ، وهو معنى قول النبى  "لا حتى تذوقى عسيلته ويذوق عسيلتك" ( ) .
ونظراً لتعدد الاستعمال فقد اختلف الفقهاء فى حقيقة إطلاق لفظ النكاح ( ) قال البعض : إنه حقيقة فى العقد والوطء جميعاً ، أى أنه لفظ مشترك يطلق على كليهما إطلاقاً حقيقياً .
وقيل : إنه حقيقة فى الوطء مجاز فى العقد ، وقال الجمهور : النكاح حقيقة فى العقد مجاز فى الوطء .
والحقيقة أن لفظ " النكاح " وإن كان قد استعمل – فى لسان الشرع بالمعنيين جميعاً ، إلا أنه قد اشتهر استعماله فى العقد فيحمل على ما شاع استعماله فيه ولا ينصرف إلى الوطء إلا بقرينة ، كقولنا نكح فلان زوجته ، إذ بذكر الزوجة يستغنى عن ذكر العقد ، فلم تحتمل الكلمة غير المجامعة . ( )
ثانياً الزواج فى اصطلاح الفقهاء :
غلب فى تعريفات السلف الزواج إبراز أنه " عقد وضع لتملك أو لإباحة المتعة قصداً " ( ) الأمر الذى يشبه أن موضوع الزواج " هو مجرد حل الاستمتاع " ولا شك أن هذا الغرض وإن كان أوضح أغراض الزواج فى عرف الناس ، فهو ليس غرضه الأسمى فى عرف الشرع ( ) مما جعل تعريف السلف عرضه للانتقاد خاصة من أولئك الذين يتصيدون للسلف الهنات ، ويغالون فيها ، حتى إن بعضهم ليزعم أن الزواج فى عرف الفقه القديم هو " شراء الزوج للزوجة بالمهر أو استئجارها للأغراض الجنسية " ( ) ، ويزعم البعض الآخر أن " الزواج وفق تعاريف السلف يعطى – مثل الرهن الحيازى – حقاً يخول للزوج سلطة على جسد زوجته ، لأنه يقصر بيانه على أن الزواج مجرد علاقة مادية تنصب على المرأة … ثم يقول .. لقد كانت هذه التعاريف تصلح عندما كانت الرابطة القانونية ذات طابع شخصى محض ، فكان للدائن حق على شخص المدين ، وكان المدين وقتئذ فى حالة عبودية بالنسبة للدائن ، كان يوضع فى السجن ولا يفرج عنه إلا إذا دفع دينه ، ولو قضى حياته كلها حتى مات .. ولكن هذه التعاريف لم تعد تصلح بعد أن أخذت تلك الرابطة تقترب من المبادئ الإنسانية ومن قواعد المدنية والحرية " ( ) .
وهذا تصور خاطئ فى تعليل منهج السلف ، ففضلاً عن زور القول بحبس المدين حتى يؤدى أو يموت – من المنظور الإسلامى ( ) فإن اختصاص الرجل – الزوج – بالمرأة – الزوجة - دون غيره حتى يفارق هو مار أراد الفقهاء إبرازه ، حتى يتميز النكاح عن السفاح ، واقتصار بعضهم على " تملك الرجل " دون المرأة قصد به الإشارة إلى حرمة الجمع بين زوجين فى حق المرأة ، لأن الرجل يباح له التعدد بشرط العدل كما سنرى ، وليست كذلك المرأة .
وبعيداً عن هذا الهزر فإن مشايخنا المعاصرين يأخذون على تعريف السلف قصوره عن إبراز حقيقة النكاح فى الإسلام ( ) بيد أن هذه الحقيقة السامية مما نبهت عليه الآيات والأحاديث نصاً وإشارة ، ونوه بإدراكها الفقهاء فى شروحهم .
فمن قبيل النصوص قول الله تعالى " والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ، وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة " ( ) وقوله " ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة " ( ) فأبرزت أن غرضه السكن والمودة والتناسل .
ومن قبيل أدارك الفقهاء لهذه الحقيقة ما أبرزه الإمام السرخسى الحنفى المتوفى سنة 490 هـ ، وهو من أقدم شراح الحنفية ومن كبار أصوليهم فى موسعته المعروفة بالمبسوط ( ) من قوله " النكاح فى اللغة عبارة عن الوطء … وحقيقة المعنى فيه هو الضم ، .. ثم يستعار للعقد مجازاً لأنه سبب شرعى يتوصل به إلى الوطء ، أو لأن فى العقد معنى الضم ، فإن أحدهما ينضم به إلى الآخر ، ويكونان كشخص واحد فى القيام بمصالح المعيشة … ثم يتعلق بهذا العقد أنواع من المصالح الدينية والدنيوية ، من ذلك حفظ النساء ، والقيام عليهن، والإنفاق ، ومن ذلك صيانة النفس عن الزنا ، ومن ذلك تكثير عباد الله تعالى بالتناسل – وهذا التناسل عادة لا يكون إلا بين الذكور والإناث ، ولا يحصل ذلك بينهما إلا بالوطء ، فجعل الشارع طريق ذلك الوطء النكاح … ثم يقول .." وليس المقصود بهذا العقد قضاء الشهوة ، وإنما المقصود ما بيناه من أسباب المصلحة ولكن الله تعالى علق به قضاء الشهوة ليرغب فيه المطيع والعاصى"( )
وكما سيأتى فى حكمة النكاح فإن غير السرخسى من الحنفية وغيرهم قد أدركوا هذه المصالح ووعوها ورعوها حق رعايتها ، ولكن ما الداعى إلى عدم إبرازها فى التعريف ؟ .
يظهر من عبارة السرخسى أن إبراز " المتعة " قصد به غرض الكافة المطيع والعاصى ، ونضيف إليهما الصحيح والعقيم ، وذوات الحيض والآيسات والعاقرات ، أو أن هذا الغرض هو السبب إلى المصالح المقصودة .
وفى رأى بعض أساتذتنا أن تصرف الفقهاء فى التعريف دفعهم إليه أن "الاستمتاع" كحق يمكن ضبطه ، أما المودة والسكن النفسى والإمساك بالمعروف وحسن المعاشرة وما إلى ذلك من غايات الزواج فحقوق لا يسهل ضبطها لأنها تناط بالديانة ، وعناية الفقه فى المعاملات تتركز فيما يجب قضاء – أى يمكن الحكم به فى الدنيا – لا ديانة . ( ).
ولأن التعريف قاصر – فى رأى بعض علمائنا – فقد حاولوا ، وشايعتهم فى ذلك التقنينات المعاصرة ، وضع تعريف يبرز حقيقة النكاح ويستجمع أغراضه ، فعرفوه بأنه " عقد يفيد حل العشرة بين الرجل والمرأة ، وتعاونهما ، ويحدد ما لكليهما من حقوق ، وما عليه من واجبات " ( ) .
والشطر الأول من التعريف لا يخرج عن عبارة السلف خاصة الحصكفى والشربينى ، وتتمة التعريف من التعاون وتحديد الحقوق والواجبات ، لا تميز "شركة" الزواج ، فلا نجاح لشركة إلا بتعاون الشريكين ، ثم إن الحقوق والواجبات الزوجية لا يحدها العقد ، لأنها " من جعل الشارع " ( ).
وعرفه مشروع قانون الأحوال الشخصية الموحد للإقليمين المصرى والسورى بأنه " عقد بين رجل وامرأة تحل له شرعاً لإنشاء رابطة للحياة المشتركة والنسل"( ) . ويعيبه فى رأيى أن " رابطة الحياة المشتركة " تعبير لا يرقى بالخلطة إلى معنى السكن والمودة ، فمن الشركاء من يمارى ويدارى ، وكثير من الخلطاء يبغى بعضهم على بعض .
وعرفه القانون الليبى رقم 10 لسنة 1984 بأنه " ميثاق شرعى يقوم على أسس من المودة والرحمة والسكينة ، تحل به العلاقة بين رجل وامرأة ليس أحدهما محرماً على الآخر " ( ) ويمتاز بإبراز الجانب الإنسانى فى علاقة الزوجية فى روح قرآنية ، ولم يغفل الأثر الذى عنى به الفقهاء ، غير أنه لم ينص على الآثار والأغراض الأخرى ، وإن نوه على ذلك بوصف الشرعية .
وعرفه القانون المغربى بأنه " ميثاق ترابط وتماسك شرعى بين رجل وامرأة على وجه البقاء ، غايته الإحصان والإعفاف مع تكثير سواد الأمة ، بإنشاء أسرة تحت رعاية الزوج ، على أسس مستقرة ، تكفل للمتعاقدين تحمل أعبائها فى طمأنينة وسلام ، وود واحترام " ( ) .
وهو تعريف تغلب عليه أدبيات الإسلام ، وحميمية العلاقة ، فضلاً عن عنايته بأهم سمات الزواج فى الإسلام وهى :
1- الأبدية أو عدم التأقيت .
2- قوامة الرجل وإن عبر عنها بالرعاية ، وهى إلى إفادة المسئولية أقرب منها إلى القيادة .
3- مراعاة أسباب الاستقرار .
هذا فضلاً عن ذكر أهم غاياته من الإحصان والإعفاف وطلب النسل ، ولكنه – فى رأيى – تزيد فى قوله " تكفل للمتعاقدين تحمل أعبائها فى طمأنينة وسلام ، وود واحترام " لأن الوفاء بالحقوق وآداء الواجبات تعهدات مستقبلية ، قد يرجح إيفاءها التكافؤ وحسن الاختيار ، ولكنه لا يحتم ذلك ، فقد تتقلب القلوب، وتتبدل الأحوال .
وفى رأيى : فإن غاية التعريف إبراز الماهية بما يميز التصرف عما يشتبه به، دونما حاجة إلى التعرض إلى الغايات والآثار ، لأن الأغراض تختلف باختلاف نفوس الراغبين حقيقة ، وإن توهمت باعتبار الكثرة أو حسن النية ، وأما الآثار فهى من جعل الشارع سبحانه وتعالى ، والإرادة وأن كان لها دور فى العقود ، فإن دورها فى عقد النكاح قاصر إلى حد كبير .
والفقهاء إذ عرفوا النكاح قصدوا إلى تمييزه عن عقد وتصرف ، أما العقد فهو عقد شراء الأمة – الجارية – فهو يفيد ملكها وحق الاستمتاع بها ( ) ، وليست كذلك المرأة ، فهى لا تملك بعقد النكاح ولكن يختص الزوج – دون غيره حتى يفارق – بالاستمتاع بها ، وهو ما عبر عنه بعضهم بقوله " ملك المتعة قصداً " أى الاختصاص الحاجز بالاستمتاع .
وأما التصرف فهو السفاح – أى العلاقات الجنسية غير المشروعة – إذ لما كان " الأصل فى الأبضاع التحريم ( ) " احتجنا إلى إبراز ما يذهب هذه الحرمة، وهو فى الحرة عقد النكاح .
ثم إن ما شنع به البعض تحت حياء مصطنع يلفظه الإسلام الذى عنيت نصوصه بدقائق العشرة ، فى أدب راق ، وأسلوب محتشم عادوا يستصرخون به اليوم ، فالصحف السيارة ، والسينما والمسرح والتلفاز ، والإذاعة تشتكى بلسان المرأة " النائمين فى العسل " وتدق الأجراس قائلة " إنها الصغائر التى تكبح الكبائر " . ألا يعيد ذلك إلى الوجدان عبارة السرخسى رحمه الله تعالى .
ولله در القائل : ( وإذا أراد الله نشر فضيلة … طويت أتاح لسان حقود )
وحاصل رأينا أننا نمتدح خطة السلف فى التعريف لسلامتها علمياً وواقعياً ، غير أننا لا نرتضى فى التعريف لفظتى " ملك " و"قصداً" " ، كما نعيب عليه خلوه من وصف الحل " بالتأييد " ، لأن لفظة " ملك " تبخس حق المرأة فى الاستمتاع ( ) ، وهو حقها بدليل أنها تملك طلب التطليق للعنة والهجر ، والغيبة كما سنرى ، وليست المرآة مالكة المتعة على الرجل إذ بوسعه شرعاً أن يجمع بينها وبين ثلاث أخريات فى عصمة واحدة .
ولفظة " قصداً " مضى زمنها ، فقد ذهب الرق ونرجوا ألا يعود .
لهذا كله فإننى أختار عبارة القانون السودانى رقم 43/1991 فى المادة الحادية عشر والتى عرفت الزواج بقولها " الزواج هو عقد بين رجل وامرأة على نية التأبيد ، يحل استمتاع كل منهما بالآخر على الوجه المشروع " .
وأهم ما يبرزه التعريف من معان أن :
1- الزواج رابطة بين مختلفى الجنس ، فلا زواج شرعاً إلا إذا كان بين محقق الذكورة ومحققة الأنوثة ، فإن اتفق الجنس أو اشتبه فالرابطة المدعاة لا يمكن أن تكون زواجاً ، وإنما هى شذوذ فى الطبع وانحراف عن الفطرة ، حرمه الإسلام وحذر من عواقبه فى الدنيا والآخرة ، وقد قص علينا القرآن الكريم نبأ قوم لوط وسجل عاقبتهم ، يقول الله تعالى " إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون "( ) "أتأتون الذكران من العالمين . وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم . بل أنتم قوم عادون . قالوا لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين . قال إنى لعملكم من القالين . رب نجنى وأهلى مما يعملون . فنجيناه وأهله أجمعين . إلا عجوزاً فى الغابرين . ثم دمرنا الآخرين " ( ) .
أما السحاقيات من النساء اللاتى يفشو بينهن من الشذوذ مثل ما يفشو بين اللوطيين فلهن فى دين الله عقاب صارم يستأصل شأفتهن ، قال تعالى " واللاتى يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن فى البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا " ( )
ونظراً للآثار الوخيمة التى تلحق بمجتمعات اللوطيين والسحاقيات تحرص الثقافات المعادية على النيل من مؤسسة الزواج الإسلامية – وإن شئت فقل عموم الدينية – بتبرير الشذوذ وتقريره والدعوة الحثيثة إليه ، لاسيما بطريق " وضع سياسات وقوانين – تزعم – أنها تقدم دعماً أفضل للأسرة ، وتسهم فى استقرارها شريطة أن تأخذ فى الاعتبار تعدد أشكال الأسرة ". ( )
2- الزواج رابطة عقدية وإن كان عقد الزواج ليس ككل العقود على ما سنعرف لاحقاً .
3- عقد الزواج عقد عمرى لا ينعقد إلا بنية التأبيد وسيأتيك القول فى بيان حكم ما يسمى بنكاح المتعة .
4- أظهر آثار النكاح أنه يحل لكل من الزوج والزوجة الاستمتاع بالآخر على الوجه المشروع .
المبحث الثانى
حكم الزواج
أولاً : مشروعية الزواج :
ثبت بالكتاب والسنة وإجماع علماء المسلمين أن الزواج مشروع .
1) أما الكتاب :
فآيات كثيرة نتوقف عند اثنتين منها لما فيهما من لطائف دقيقة تشير إلى روعة الزواج ، والعلاج الأمثل لمن لم يرزق تلك النعمة بعد .
ففى سورة النور وعقب تشنيع القرآن الكريم بالزنا والزناة ، والقذف والقذفة، يبين الله سبحانه وتعالى لنا أسباب الوقاية من الفاحشة والريبة بالأمر بالاستئذان ، ويتبع ذلك بالأمر بغض البصر ، وحفظ الفرج ، والتحشم فى الملبس والحركة ، وكل ذلك سد لباب السفاح والنظر المحرم ، ولكن الغريزة جزء من التكوين الإنسانى ، وكبتها يؤرق النفس ويقطع النسل ، ويمنع عمارة الكون ، وحتى لا تميل النفوس إلى الممنوع فإن الله قد حثها على المشروع .
قال تعالى " وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم . وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله … " ( )
والمعنى فى الآيتين :
أن الطريق الحلال إلى الاستمتاع بالنظر والفرج هو النكاح ، وقد حث الله عليه ، فأوجب أو ندب – على اختلاف الأقوال – على كل أيم – بفتح الألف وتشديد الياء المكسورة – وهو فى كلام العرب " كل أنثى لا ذكر معها ، وكل ذكر لا أنثى معه " أن يتزوج حتى لا يبقى وحيداً ، ونبه أنه لا يمنعن أحدكم فقره من رغبة النكاح ، ولا تجعلوا الغنى دافعكم إليه ، فالمال غاد ورائح ، وفضل الله لا ينقطع فهو واسع الإفضال عليم بمقادير ما يصلح خلقه من الرزق .
ومن قدر عليه رزقه فلم يتمكن من النكاح لضيق ذات اليد فليجتهد فى العفة ، ولينتظر أن يغنه الله من فضله ، ثم يصل إلى بغيته من النكاح ( ).
ومما يؤسف له أن مثلاً معبراً عن وجدانيات الإسلام يخشى اليوم أن يفقد من ذاكرة الأمة ، وقد كان لزمن طويل هو ديدنها فى الزواج والتزويج ، وذلكم هو قول الناس " خذوهم فقراء يغنكم الله " ( ) وكما ترون فإنه معنى الآية الأولى ، وهو بالضبط ما فهمه السلف منها ، فالصدّيق أبو بكر  يقول " أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى" ، وحبر الأمة عبد الله عباس رضى الله عنهما يقول " التمسوا الرزق بالنكاح " وطلحة بن مصرف أحد التابعين ، وقارئ أهل الكوفة كان يقول " تزوجوا فإنه أوسع لكم فى رزقكم ، وأوسع لكم فى أخلاقكم ، ويزيد فى مروءتكم " ( ).
وقبل هؤلاء جميعاً الصادق الأمين  ، فقد روى ابن ماجة بسنده عن أبى هريرة  أن النبى  قال " ثلاثة كلهم حق على الله عونه : المجاهد فى سبيل الله ، والناكح يريد العفاف ، والمكاتب يريد الأداء " ( )
إذن فليس النكاح باباً إلى كسر الشهوة واتقاء المعصية فحسب ، بل هو باب إلى الغنى المادى والنفسى ، فضلاً عن كونه الطريق الأوحد إلى التناسل وعمارة الكون .
وأمراً على هذه الخطورة لابد وأن يكون مشروعاً ، وأن يكون العزوف عنه .. تحت أى شعار – سبباً للمذمة ، والاستهجان الشرعى .
وهذا ما تجده فى ذم الرهبنة والانقطاع للعبادة ، وهى نظرة تفردت بها الهندوكية فى القديم ، وأمنت بها أكثر طوائف المسيحية واعتبرتها من جوهر العقيدة ( ) ، لأن " غير المتزوج يهتم فيما للرب كيف يرضى الرب ، وأما المتزوج فيهتم فيما للعالم كيف يرضى امرأته ، إن بين الزوجة والعذراء فرقاً . غير المتزوجة تهتم فيما للرب لتكون مقدسة جسداً وروحاً ، وأما المتزوجة فتهتم فيما للعالم كيف ترضى رجلها " ( ).
ولعله احترازاً من تسرب رهبانية التبتل إلى المسلمين تعدد الحث على الزواج بصيغة الأمر ، وانتقدت رهبانية التبتل فى القرآن ، فقال الله تعالى " ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم وجعلنا فى ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون. ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا فى قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فأتينا الذى آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون " ( ) .
والمعنى أنه لم يكتب على أتباع المسيح عليه السلام الاعتزال وتحمل الكلفة ¬الزائدة والانقطاع عن أسباب الدنيا ، ولكنهم أحدثوا ذلك من عند أنفسهم ابتغاء رضوان الله ، إلا أنهم حادوا عن طريق الصواب ( )
2- أما السنة ففيها من الحث على الزواج والنهى عن التبتل والغروبية الكثير، ونتوقف أمام حدثين وحديثين .
أ- روى البخارى عن أنس بن مالك  قال : " جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبى صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبى  ، فلما أخبروا كأنهم تقالوها – أى ظنوها قليلة – فقالوا : وأين نحن من النبى  قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر . قال أحدهم: أما أنا فإنى أصلى الليل أبدا ، وقال آخر : أنا أصوم الدهر ولا أفطر ، وقال آخر: أنا اعتزل النساء فلا أتزوج أبدا ، فجاء إليهم رسول الله  فقال: أنتم قلتم كذا وكذا ، أما والله إنى لأخشاكم لله وأتقاكم له ، لكنى أصوم وأفطر، وأصلى وأرقد، وأتزوج النساء ، فمن رغب سنتى فليس منى"( )
فالحدث يكشف أن نفرا من المسلمين غرهم الانقطاع إلى العبادة ، وظنوا أنه طريق التقرب إلى الله ، وغاب عنهم أن الرقاد والاستطعام والزواج من متطلبات الفطرة التى فطر الله الناس عليها ، وأن تهذيب النفس بالاعتدال فى التمتع بالطيبات ، لا فى التحول عنها ، لأن فى ذلك غلوا ، والغلو يبعث على الملل ، فيتحول الإنسان عن الغلو فى التعبد إلى الغلو فيما يعارضه( ) ، وهى ظاهرة تصدقها الإباحية الأوربية اليوم.
ولما كان رسول الله  لا يسكت على باطل فقد سارع بإبطال خطة هؤلاء النفر، مستهلا حديثه بالتأكيد على أنه أخشى الناس لله وأتقاهم له ، وأكملهم لذة ، حيث جمع بين لذة القلب والروح ، ولذة البدن المباحة ، وهذه لا تنقص حظه من الدار الآخرة ، ولا تقطع عليه لذة المعرفة والمحبة والأنس بربه( ) وكيف ذلك والنوم راحة العقل ، والطعام وقود البدن، والزواج سنة الأنبياء. قال تعالى " ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية"( )
والمعنى الذى نبغى الكشف عنه أنه إذا كان الزواج شرعا لأئمة المتقين ورسل الله الهداة المعصومين ذوى النفوس المحسنة المطمئنة ، فهذا أدعى لأن يكون شرعا لاعتدال النفوس اللوامة ، واستقامة الأنفس الأمارة بالسوء ، ناهيك عن الفاجرة.
ب- وثانى الحدثين والحديثين عن أبى ذر  قال: دخل على رسول الله  رجل يقال له عكاف بن بشير التميمى فقال له النبى  : يا عكاف هل لك زوجة؟ قال : لا قال : وأنت موسر بخير ؟؛ قال : وأنا موسر بخير ، قال : أنت إذن من أخوان الشياطين ، لو كنت فى النصارى كنت من رهبانهم . إن سنتنا النكاح . شراركم عزابكم . وأراذل موتاكم عزابكم . أبا لشيطان تمرسون ، ما للشيطان من سلاح أبلغ فى الصالحين من النساء إلا المتزوجون . أولئك المطهرون المبرءون من الخنا، ويحك يا عكاف إنهن صواحب أيوب وداود ويوسف . ويحك يا عكاف تزوج وإلا فأنت من المذبذبين. قال زوجنى يا رسول الله ، قال : قد زوجتك كريمة بنت كلثوم الحميرى.( )
والمعنى لا يخفى عليك ، وخلاصته أن النبى  كان يبادر أصحابه بالسؤال عن " حالتهم الاجتماعية " ، وإذا وجد الرجل عزبا لم يزل به ترغيبا وترهيبا حتى يتزوج .. وها أنت ترى أن النبى  يقرر أن شرار الأحياء والأموات هم من وجدوا القدرة على النكاح ولم يتزوجوا، ومبعث الشر أن الشيطان يمكر بهم فتحدثهم نفوسهم بالنساء ، وليس كذلك المتزوجون.. وآخر تحذير النبى  أن من يترك الزواج يتشبه بالمنافقين المذبذبين حيث أسلم بلسانه ومارس الرهبنة وهى ليست من الإسلام ، أو هو مذبذب فى مصالح الدنيا فقد هجرها بفعله وتحدثه بها نفسه، فلا هو منقطع و لا هو فاعل. وما دامت فى العزوبة كل تلك الآفات ( ) فلابد وأن يكون فى الزواج الذى يذهبها كل مصلحة، "وحيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله".( )
3- الإجماع :
قطعا لا يتصور بعد تحضيض القرآن والسنة على الزواج أن يقول أحد بعدم مشروعيته أو يتردد فى ذلك ، بل الذى نقل عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم كانوا حريصين عليه دعاة إليه.
فقد أثر عن عمر رضى الله عنه " انه كان يكثر النكاح، ويقول ما أتزوج إلا لأجل الولد" وكان يقول "لا يمنع من النكاح إلا عجز أو فجور"
وكان عبد الله بن عباس يحفز غلمانه- عبيده- على الزواج، ويقول" لا يتم نسك الناسك حتى يتزوج"والمعنى كما يقول الغزالى " لا يسلم قلبه لغلبة الشهوة إلا بالتزويج ، ولا يتم النسك إلا بفراغ القلب" وكان ابن مسعود رضى الله عنه يقول " لو لم يبق من عمرى إلا عشرة أيام لأحببت أن أتزوج لكيلا ألقى الله عزبا" وماتت امرأتان لمعاذ بن جبل فى الطاعون ، وكان هو أيضا مطعونا فقال زوجونى فإنى أكره أن ألقى الله عزبا"
فهاهم كبار الصحابة وفقهاؤهم يحرصون على الزواج ، ويرون فيه فضلا فوق مجرد التحرز عن غائلة الشهوة( ) .
ثانياً : صفة مشروعية الزواج :
الزواج مشروع ولكن ما صفة مشروعيته؟ هل هو واجب ، أم مستحب ، أم مباح ؟ وهل حكمه واحد فى حق الناس كلهم وفى شتى أحوالهم ؟ أم أنه يختلف بالنظر إلى الأشخاص والأحوال؟
قبل الخوض فى التفصيلات ننبه على ثلاثة أمور:
أولها: أن الفقهاء إذ يقررون أحكاما لا ينشئونها من عندياتهم أو من خلاصة تجاربهم، وإنما يستنبطونها من كتاب الله وسنة رسول الله  ، وهم قد عرفوا الحكم الشرعى بأنه : خطاب – أى كلام – الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء أو تخييرا أو وضعا.
والثانى : أن الأحكام الشرعية أكثر ظهورا فى مجموعة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية اشتهرت بأنها آيات وأحاديث الأحكام ، ولكن حصرها فى عدد بذاته أمر مختلف فيه، بل هو إجراء غير مسلم فى نظر بعض العلماء، لأن عطاء النصوص يختلف" باختلاف القرائن والأذهان، وما يفتحه الله من وجوه الاستنباط، والراسخ فى علوم الشريعة أن من أصولها وأحكامها ما يؤخذ من موارد متعددة حتى الآيات الواردة فى القصص والأمثال"( ) والفقيه وإن بدا أنه يستدل- على ما يقول – بآيه بعينها ، أو حديث بعينه إلا أنه فى الواقع يصدر عن موارد متعددة ( )، بعضها واضح الدلالة مشهور فيها ، والبعض الآخر لا ينتبه إليه إلا المجتهدون المبرزون .
والثالث: أن الاستنباط عمل محكم لكن بعض طرائقه ، وقواعده مما يختلف فى تقديرها العلماء ، وكمثال على ذلك خطاب الله فى الزواج ورد أكثر ما ورد بصيغة الطلب – انكحوا ، تزوجوا – والطلب إن كان من الأعلى إلى الأدنى فهو أمر ، والأصل فى الأمر إنه يفيد الوجوب ، ولكن هل يصرفه عن هذه الإفادة نص آخر أو قرينة ، أو حال المكلف ، أو جنس العمل؟ أم أنه يبقى على حاله فى عموم الأحوال وبالنظر إلى كل الأشخاص ؟ فى ذلك خلاف ، ومن تطبيقاته فى مسألتنا التى نحن بصددها ، هل الزواج فرض باعتبار ظاهر الأمر والنهى عن التبتل ؟ أم أنه مسنون مستحب اقتداء بالنبى صلى الله عليه وسلم ؟ أم أنه مباح ، يجوز فعله ويجوز تركه ، باعتباره من جنس الأعمال الدنيوية كالأكل والبيع ونحوه مما يقع من المسلم والكافر والبر والفاجر؟
ولنأت إلى موضوعنا
وقد ظهر لك أن للفقهاء فى أصل النكاح – أى حكمه الأساسى – ثلاثة اتجاهات ، فجمهور الفقهاء على أنه مستحب مسنون، وأهل الظاهر وبعض الفقهاء على أنه فرض ، والمشهور عند الشافعية أنه مباح يحل فعله ويحل تركه( ) .
ونعود ونؤكد أن هذا هو حكمه الأصلى أى فى الظروف العادية ، أى حالة الاعتدال ولكن الحكم الأصلى قد يعرض له ما يغيره كالأكل والشرب مثلا الأصل فيه الإباحة ، ولكنه يصبح واجبا فى حالة المخمصة بحيث لو تركه الإنسان مات أو لحقته علة شديدة ، ويصبح حراما فى الصوم والصلاة ومع الأمراض المهلكة.
إزاء ذلك وعلى ما درج عليه السلف من مراعاة تغير الفتوى بتغير الظروف والأحوال والأشخاص ، فإن مشايخنا فى تحقيقهم لحكم الزواج قد انتهوا إلى إنه يختلف باختلاف حالة الشخص من حيث طبيعته البشرية ، وقدرته المادية ، ونزعاته النفسية ومن ثم تعترى الزواج الأحكام التكليفية الخمسة :( )
1- فالأصل فيه أنه مستحب( ) – وهو الراجح من أقوال الفقهاء – وذلك فى حالة الاعتدال، وهى " حالة من له غريزة هادئة لا تلح عليه بصورة تدفعه إلى الحرام ، ويستشعر فى نفسه القدرة على الوفاء بحقوق الزوجة ، ولا يخشى ظلمها". ( )
وميزة الاستحباب أنه غير مستوى الطرفين – أى الفعل والترك – بل طلب الفعل فيه أرجح، وقد تبين مما تلونا وروينا – فى مشروعية الزواج – كم رغب الإسلام فيه ، وذم الانقطاع عنه ، وإن لم يكن فى الشرع غير قول النبى  "النكاح سنتى فمن رغب عن سنتى فليس منى " لكفى فى ترجيح الفعل ، وتفضيله على الترك، لكننا وجدنا النبى صلى الله عليه وسلم ينهى عن التبتل نهيا شديدا( ) ناهيك عن تنويه القرآن بمغبة الرهبانية.
ولكن أدلة الحث على الزواج – فى حال الاعتدال – لا تبلغ بالحكم مرتبة الفرضية أو الوجوب ( ) ، لأن الحكم يستقى من مجموع الأدلة لا من بعضها دون البعض ، ومن أدلة الشرع أن النبي  إذ يرغب فى الزواج يقول " يا معشر الشباب من وجد منكم الباءة فليتزوج ، ومن لم يجد فعليه بالصوم فإنه له وجاء " ( ) والصوم المذكور فى الحديث ليس صوم الإلزام ، ولكنه أحد السبل إلى العفة ، وما دام طلب الصوم المقابل لطلب الزواج ليس لازما باتفاق العلماء ، فكذلك مقابله لا يكون لازما ( ) .
وخلاصة القول أن الزواج فى حال الاعتدال أرقى من المباح لما فيه من المصالح الدينية والدنيوية ، ودون الواجب الذى يأثم تاركه ، لأن القول بالوجوب معناه " استحداث فرض جديد على المسلمين لا تقوم الأدلة القاطعة على فرضيته( ).
2- ويجب ( ) الزواج متى كان الشخص قادرا على أعبائه متحسسا من نفسه العدل مع الزوجة ، وله نفس تتوق إلى الاستمتاع ويتيقن أنه إن لم يشبع رغبته بالزواج وقع فى المحظور .
ووجوب الزواج فى هذه الحالة هو قول عامة الفقهاء ( ) . وحكى الإمام الكاسانى فيه عدم الخلاف ( ) ونسب الإمام ابن حجر إلى الإمام القرطبى مثل ذلك ( ) والصحيح أن القول بالوجوب فى حال التوقان هو قول العامة لا الجميع. فقد اطرد النقل عن الإمام الشافعى قوله أن " من تتوق نفسه فى النكاح يستحب له أن ينكح إن وجد أهبة النكاح ، سواء كان مقبلا على العبادة أو لم يكن كذلك"( ) وهو قول الإمامية .( )
وإنما وجب الزواج فى هذه الحالة ، لأن الزنا حرام ، ولا يتوصل إلى تركه فى هذه الحالة إلا بالزواج ، ومن القواعد المقررة شرعا أن ما لا يتوصل إلى ترك الحرام إلا به يكون واجبا ، فالزواج واجب لا لذاته بل لغيره ، فإن ترك الزنا لازم فيكون ما يؤدى إليه لازما بلزومه.( )
3- وقد يحرم الزواج: وذلك متى تيقن الشخص ظلم المرأة والإضرار بها إذا تزوج ، ومن أمثلته( ) العاجز عن الوطء يطلب التى ترجو نكاحا وعفة ، وكذلك من يعجز عن إعالة الزوجة الواحدة ويطمع فى ثانية وثالثة ، وفى يقينه أنه لن يعدل عند التعدد .. فالزواج بالنسبة لهذين وأمثالهما حرام " وذلك لأنه طريق للوقوع فى الحرام ، وكل ما يتعين ذريعة للحرام يكون حراما ، ولكن حرمته تكون لغيره " ( )
4- ويكره الزواج إذا خاف المرء أن يجور أو يظلم إن تزوج ولكن خوفه من ذلك لا يصل إلى مرتبة اليقين ، وإنما هو من باب غلبة الظن فقط ، وإنما كره لأن المصالح المطلوبة من النكاح لا تظهر فى حالة الجور والجور مفسدة عارضت مصلحة ، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح ( )
ومثل المالكية لحالة الكراهة بمن يقطعه الزواج عن فعل خير غير واجب ، وهو لا يرحو نسلا ولا تميل نفسه إلى الجماع ( ) ونحوه عند الإمام ابن حجر( ) وهذا صحيح إن غرً من سيتزوجها، ولكن إن علمت بحاله ورضيت فلا محل للكراهة ، لأن الأنس بالزوجة يكون أيضا بغير الاستمتاع ، وفى الإقدام اقتداء بسنة النبى  ، وفى تركه عزوبة ، وقد روى عن الإمام أحمد قوله " ليست العزوبة من أمر الإسلام فى شئ " ( ) كما حمل الإمام الشوكانى على من جعل من بعض أقسام الزواج المباح – ناهيك عن التكريه فى صورتنا – وقال " ذلك دفع فى وجه الأدلة ، ورد للترغيبات الكثيرة فى صحاح الأحاديث وحسانها"( )
5- وقد ذكر العلماء صورا أباحوا فيها النكاح ، منها الصورة التى مثل بها المالكية للكراهة ، ومنها صورة المعتدل الذى لا يتزوج إلا لقضاء الشهوة دون أى غرض آخر ، ولا نية عبادة " ( ) .
والحق أن هاتين الصورتين تدخلان فى باب الاستحباب للأدلة التى رغبت فى الزواج ، ونفرت من العزوبة ، ثم إن فى مجرد قضاء الشهوة بالطريق المباح ترك معصية ، وعلى ترك المعصية يثاب المرء ( ).
المبحث الثالث
حكمة مشروعية الزواج
شاهد على الحال
منذ سنوات قلائل عرض التلفزيون مسلسلاً بعنوان " أرابيسك " وفى آخر مشهد من مشاهده أجرى المؤلف على لسان " البطل " حواراً يشخص فيه أسباب المشكلة التى عصفت باستقرار البيوت ، وغيرت من أخلاقيات " الحارة الشعبية" وسلطت بعض أبناء الوطن على البعض ، والبعض الآخر على ثرواته وكنوزه يبيعونها لمن يدفع الثمن ، فرد " البطل " المشكلة إلى حالة التيه التى خلقتها الثقافات المتعارضة وتساءل : من نحن ؟ هل نحن فراعنة ؟ أم نحن عرباً ؟ وهل نحن شرقيون ؟ أم غربيون ؟ أم أوسطيون ؟ وهل نحن عصريون أم سلفيون ؟!!.
وهذا فى رأيى تشخيص حقيقى ينعكس اليوم على كل شئ فى حياتنا ، والقضاء على هذا الداء ليس بالسهل ، فلكل ثقافة من التى ذكرت جنودها المقاتلون فى سبيلها ، لاشك أن ثقافة الإسلام بحكم الانتماء والعقيدة هى التى ينبغى أن تسود ، ولكن الواقع أن الثقافات الأخرى خاصة الغربية تفتح لها كل الأبواب ، وتمكن من شتى المجالات ، ولو لم يكن لها من دعوة غير وصف "التحررية" لكفى ذلك فى إضفاء البريق عليها وجذب العامة إليها ، لاسيما وأن معارضتها توصف " بالرجعية ".
وباعتراف الكثيرين من ذوى الميول الغربية ، فإن أساليب التربية الحديثة والتصرفات الحياتية على النمط الغربى ، ومجموعات القيم والتوجهات ، أصابت الزواج والأسرة والعلاقات الاجتماعية فى مقتل وتنوعت الشكاوى ، وتعددت مظاهر الخلل ، وكثرت المطالبات بالتدخل التشريعى للعلاج ، ولا أظنه يجدى ما لم يعد الناس إلى قيمهم الأصيلة ، ولنستغل المناسبة عسى أن تكون لنا فى ذلك إسهامه .
لكل أمة مدنية خاصة بها :
يقوم الزعيم الشاب مصطفى كامل " لكل أمة مدنية خاصة بها ، فلا يليق أن نكون قردة مقلدين للأجانب تقليداً أعمى ، فالحجاب فى الشرق عصمة ، وأى عصمة ، فحافظوا عليه فى نسائكم وبناتكم وعلموهن التعليم الصحيح ( ) .
ولكن هذه الدعوة الكريمة لم تتبوأ مكانها الصحيح فى المحافل العلمية والإعلامية، فتوارت بفعل فاعل ، بينما أكبرت صيحة قاسم أمين فى كتابه المرآة الجديدة " إنه من المستحيل أن يتم إصلاح ما فى أحوالنا إذا لم يكن مؤسساً على العلاقة العصرية الحديثة " ( ) .
وصيحات الحداثة التى نسمع تنادى – فى أمر الزواج – بنظرية " توماس مالتوس " والتى غدت جزءاً أصيلاً فى الدراسات الاقتصادية والنظريات السكانية ، وهى تدعو – كما تعلم – إلى إيقاف الزيادة السكانية ، لإعادة التوازن بين الحاجات والموارد ، وحل مشكلة الندرة ، والوسيلة الممكنة لذلك هى تقليل النسل ( ) ، إما بالدعوة إلى العزوبة ، أو رفع سن الزواج، أو إباحة الإجهاض .
ولأن العزوبة تضاد الفطرة فلابد من إيجاد أنماط وأشكال أخرى لقضاء الشهوة ، فليكن ذلك بغير طريق الزواج ، ولتشبع الرغبة بأى طريق ، اتحد جنس المتخالطين ، أو اختلف ، تحددت المخالطة أو شاعت .
وأمام السيل الجارف من المثيرات لابد لقنبلة الجنس أن تنفجر ، ومن المنطقى أن يكون أول بارودها البالغون حديثاً ، وهؤلاء فى أول سن اليفاعة ، نشطاء البدن ، قاصروا العقل ، ولو تركوا إلى أنفسهم فى قضاء لذاتهم لاستنزفوا شهوانيا وبدنياً ، ولو تركوا إلى أوليائهم لحالوا بينهم وبين نزواتهم ، ترى بم تحميهم الحداثة ؟ .
إنها تحميهم بالقانون الدولى فتطالب بوثائقه " أن تزيل البلدان العوائق القانونية والتنظيمية والاجتماعية التى تعترض سبل توفير المعلومات والرعاية الصحية والجنسية والتناسلية للمراهقين ، كما يجب أن تضمن – الدول – أن لا تحدد مواقف مقدمى الرعاية الصحية من حصول المراهقين على الخدمات والمعلومات التى يحتاجونها ، وفى إنجاز ذلك لابد للخدمات المقدمة إلى المراهقين أن تضمن حقوقهم فى الخصوصية والسرية والموافقة الواعية والاحترام " ( ) .
هذا ما يعنينا فى موضوعنا من الثقافة الحديثة ، ولا أخا لك تخالفنى الرأى أن صداها فى كثير من المواد المبثوثة إعلاميا – مقروءة أو مسموعة أو مرئية – واضح بين ، ومن أسف أن المقاومة عادة ما تصنف – إعلاميا – فى جانب التطرف والأصولية وخلق العنف ، وإن بالغت فى الجدال بالتى هى أحسن .
وفى خلدى أن الشاب والفتاة فى بلد مسلم ، وبيت مسلم ، وشارع مسلم ، لابد وأن تعانقه كلمة الله شاء أم أبى ، ومثل هذا العناق لن يمضى دون أثر ، فإن استعظم آثامه وأوغل فى التكفير عنها ، ارتمى فى أحضان التطرف أو الانعزال وإن استباحها عاش فى اغتراب عن أكثر المحيطين ، وأظنه فى كل الأحوال سيكون إما عدوا للمجتمع وطموحاته أو منبوذاً فى قومه وبنى جلدته ، وواضح للعيان كم هى مقلقة ظواهر العنف وانتهاك الحرمات ، وترويع الآمنين .
هذا بعض من ثقافة الضد فى الأسرة ، فما هى تعاليم الإسلام فى هذا الجانب؟ سأحاول أن أدلك .
الزواج عبادة :
ألف السلف فى ترتيبهم أبواب الفقه أن يضعوا باب الزواج عقب باب الحج والعمرة ، ومنهم من يأتى عقب الحج والعمرة بباب الجهاد ثم يتبعونه بباب الزواج ، وهذا التصرف لا يأتى من فراغ ، بل ينطلق من عقيدة المسلم البناءة التى ترى أن " المحافظة على الحياة وطلب امتدادها إلى قيام الساعة من تعاليم الإسلام ، فقد رغب فى الزواج لهذا الغرض ، واستحب أن يكون الزوجان آباء ، وأن يكون لهم بعد الأولاد أحفاد ، قال تعالى " والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات " ( ) .
ويوضح لنا الإمام ابن عابدين هذا النهج فى الترتيب فيقول " ذكره عقب العبادات الأربع أركان الدين – يعنى الصلاة والصوم والزكاة والحج – لأنه بالنسبة إليها كالبسيط إلى المركب ، لأنه عبادة من وجه معاملة من وجه ، وقدمه على الجهاد وإن اشتركا فى أن كلا منهما سبب لوجود المسلم والإسلام ، لأن ما يحصل بأنكحة أفراد المسلمين أضعاف ما يحصل بالقتال " ( ) أو " لأن الجهاد وإن كان عبادة إلا أن النكاح سبب لما هو المقصود منه وزيادة ، فإنه سبب لوجود المسلم والإسلام ، والجهاد سبب لوجود الإسلام فقط " ( ) .
وقد ارتضى العلماء وصف العبادة فى الزواج وإن اتخذ لمجرد قضاء الشهوة ليس إلا ، يقولون " فيه – أى النكاح لهذا الغرض – فضل من جهة أنه كان متمكنا من قضائها بغير الطريق المشروع ، فالعدول إليه مع ما يعلمه من أنه قد يستلزم أثقالا فيه ترك المعصية ، وعليه يثاب ، ووعد العون من الله لاستحسان حالته " ( )
وليس لهم كمتبعين لا مبتدعين إلا أن يرتضوه كذلك ، وقد أفاضت النصوص من الكتاب والسنة بأفضليته ، وقررت فى غير لبس أنه سنن النبيين "والأفضلية فى الاتباع لا حينما تخيل النفس أنه أفضل ، نظرا إلى ظاهر عبارة أو توجه ، ولم يكن الله عز وجل يرضى لأشرف أنبيائه إلا بأشرف الأحوال ، وكان حاله إلى الوفاة النكاح ليستحيل بقاؤه على ترك الأفضل ، هذه حياته"( ).
هذا ما تصدر عنه تعاليم الإسلام فى الزواج.
أما الآخر فأول معتنقه " حسن للرجل أن لا يمس امرأة ، ولكن لسبب الزنا ليكن لكل واحد امرأته ، وليكن لكل واحدة رجلها .. أريد أن يكون جميع الناس كما أنا ( بلا زواج ) . وأقول لغير المتزوجين وللأرامل إنه حسن لهم إذا لبثوا كما أنا ، ولكن إن لم يضبطوا أنفسهم فليتزوجوا . لأن التزوج أصلح من التحرق أنت منفصل عن امرأة فلا تطلب امرأة . أما المتزوج فيهتم فيما للعالم كى يرضى امرأته " ( ) وشتان بين متعبد بالزواج وعاص به .
الزواج وسيلة لا غاية :
من سنن الله تعالى الكونية أن العجماوات – من البهائم والطيور ونحوها – تتزاوج لا لتحصيل اللذة ولكن للتكاثر والإبقاء على النوع ، وإذا كان هذا ديدن المسخرات فأولى به أن يكون من غرض من سخر الله له جميع هذه الكائنات ، بل واسجد له الملائكة المقربين ، لا سيما وان الله أراده فى الأرض خليفة . فمقتضى الخلافة القيام بأمر المستخلف من عمارة الكون وإنمائه ، وتوطيد الأمن والسلام بين أرجائه حسب تعاليم الله وشرائعه .
1- والقرآن الكريم يهدينا فى غير موضع إلى أن الزواج يراد لغيره لا لذاته ، فهو كما رأينا قبل قليل ( ) الوقاية الممكنة من الفواحش فهو الأغض للبصر والأحصن للفرج ، وقد بينت السنة المشرفة السبل إلى تحقق الغض والإحصان فأرشدت إلى تخير الأزواج بما يوصل إلى هذا الغرض .
2- وهو الطريق إلى السكن والحياة الرغدة ، فأول أمر الله إلى أول رجل وامرأة فى الكون قوله تعالى " وقلنا يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منهما رغدا حيث شئتما .. " ( ) والفعل سكن بمعنى هدأ ، وذهب اضطرابه واطمأن ، قال تعالى " وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم "( ) قال الرازى " فإذا دعا محمد لهم وذكرهم بالخير فاضت آثار من قوته الروحانية على أرواحهم فأشرقت بهذا السبب أرواحهم وصفت أسرارهم ، وانتقلوا من الظلمة إلى النور ، ومن الجسمانية إلى الروحانية " ( ) كل هذه الوضاءة فى المعنى يأمر الله بها الزوجين، فإن التزموها تحقق الوعد وهو رغد العيش وطيبه .
ويشير النص القرآنى بمعناه إلى أن السكن المؤدى إلى الرغد لا يحصل بالفرد وحده ، ذكرا كان أو أنثى ( ) ويستحيل أن يحصل باختلاط المتحدين فى الجنس الواحد ، لأن الزواج ارتباط بين متخالفين فى الجنس .( )
والرغــد : الخصب والعيش الدار الهنى ( ) وفيه معنى النماء والغنى ، يؤيده قول الله تعالى " إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله " ( ) إذن الزواج المبنى على أسس قويمة باب إلى النماء والخصب ، وليس – ولا يمكن أن يكون – طريقا إلى الندرة الاقتصادية .
3- والزواج وسيلة إلى تحصيل الولد ، قال تعالى " يا أيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها . وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذى تساءلون به والأرحام " ( )
والولد الذى تحذر منه المالتسيه وتنفر من الزواج بسببه ، ويسعى مروجوها إلى إباحة الإجهاض للتخلص منه أسماه القرآن بشرى ، قال تعالى " ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ . فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط . وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب" ( ) وفى قصة زكريا " فنادته الملائكة وهو قائم يصلى فى المحراب أن الله يبشرك بيحيى " ( ) وقال " وإذا بشر أحدهم بالأنثى " ( )
وفى هدى القرآن الكريم أن الولد إذا أطعم من حلال وأحسنت تربيته كان للوالدين قرة عين . قال تعالى " ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين"( )
ولا يتصور ذو عقل أن البشرى وقرة العين تكون وبالا على المجتمع ومعوقا للتنمية ، نعم إن من الأزواج والأولاد عدوا ( ) ولكنها حالة مخصوصة بمن صدوا عن الإسلام والهجرة ( ) والأولاد فتنة لمن عصى الله بسببهم ، وباشر الفعل الحرام لأجلهم ( ) ومن وقاه الله شر ذلك فماله و بنوه زينة الحياة الدنيا .
ومن جانب آخر فإن الولد هو الطريق إلى البقاء المقدور إلى قيام الساعة ( ) فبهم تكون العمارة والبناء ، ومنهم الشعوب والقبائل ومنها تنشأ الدول . وقد عهدنا حكومات بلا أقاليم ، ولكنا لم نعهد أبدا حكومات بلا شعب تسوسه وتحكمه.
وقد عقد الإمام أبو حامد الغزالى فصلا فى فوائد الزواج فحصرها فى خمس هى الولد وكسر الشهوة ، وتدبير المنزل ، وكثرة العشرة ، ومجاهدة النفس بالقيام بهن .. وفى خواطره عن الفائدة الأولى قال " الولد : وهو الأصل وله وضع النكاح ، والمقصود إبقاء النسل ، وألا يخلو العالم عن جنس الأنس …. وفى التوصل إلى الولد قربة – أى عبادة – من أربعة أوجه .. الأول : وهو أدق الوجوه ، وأبعدها عن أفهام الجماهير ، وهو أحقها وأقواها عند ذوى البصائر النافذة فى عجائب صنع الله ومجارى حكمه … وهو موافقة محبة الله بالسعى فى تحصيل الولد لإبقاء جنس الإنسان .. وبيانه أن السيد إذا سلم إلى عبده البذر وآلات الحرث وهيأ له أرضا مهيأة للحراثة ، وكان العبد قادرا على الحراثة ووكل به من يتقاضاه عليها ، فإن تكاسل وعطل آلة الحرث وترك البذر ضائعا حتى فسد ودفع الموكل عن نفسه بنوع من الحيلة كان مستحقا للمقت والعتاب من سيده ( )….. الوجه الثانى : السعى فى محبة رسول الله  ورضاه بتكثير ما به مباهاته حيث قال " تناكحوا تكثروا فإنى مباه بكم الأمم يوم القيامة "
الوجه الثالث: أن يبقى بعده ولدا صالحا يدعو له ، كما ورد فى الخبر أن جميع عمل أبن آدم منقطع إلا ثلاثا فذكر الولد الصالح . الوجه الرابع : أن يموت الولد قبله فيكون له شفيعا " ( ) .
ولحكمة لا تكاد تعلم فإن التكاثر فى الشرق المسلم حاصل بقوة على الرغم من دقات الطبول ، وطلقات المدافع ، وحسب السياسة المعلنة للغرب فإنه يحذرنا من الزيادة السكانية خوفا على مواردنا ، وتحقيقا لنهضتنا الاقتصادية فهل هذا حق ؟ لنرصد معا هذه الإشارات لنرى الجواب :
• فى وثيقة أمريكية أعدها هنرى كيسنجر – مستشار الأمن القومى آنذاك – سنة 1974 تحمل الرقم 200 وعنوانها " تأثيرات التزايد السكانى فى العالم على أمن الولايات المتحدة ومصالحها الحيوية فيما وراء البحار " طالب بفرض سياسة تحديد النسل فى ثلاث عشرة دولة من دول العالم الثالث، 90% من هذه الدول إسلامية ، واعتبر أن النظر الذى يعتبر التنمية الاقتصادية حلا للمشكلة السكانية نظر يهدد الأمن القومى الأمريكى .
• وفى نشرة الأمم المتحدة الصادرة عام 1989 تحت عنوان "سكان العالم فى بداية القرن " تقرير عن أوربا جاء فيه أن أوربا تذوب الآن كالجليد تحت الشمس فسكانها كانوا يمثلون 6, 15 % من سكان العالم عام 1950 وتراجعت هذه النسبة عام 1985 إلى 2 , 10 % فقط من سكان العالم ، وهذه النسبة ستصل عام 2025 إلى 4 ,6 % لا غير ، وأن النقص السكانى يقابله زيادة سكانية فى أفريقيا لا سيما البلاد الإسلامية منها ، مثل مصر والسودان والجزائر والمغرب .. ولا يخفى قادة الغرب خوفهم من خطر الأسلمة أو الأفرقة يجتاح أوربا من جراء الزحف القادم من الجنوب إلى الشمال ( ) .
لا أسرة بغير زواج :
كلمة الأسرة فى لغتنا العربية تعنى الإمساك والقوة والخلق قال الله تعالى "نحن خلقناهم وشددنا أسرهم" ( ) وقال سعد بن مالك جد طرفة بن العبد .
والأسرة الحصداء والـ .: بيض المكلل والرماح
يعنى أن الأسرة هى الدرع الحصينة تحمى صاحبها ، ومن هنا كانت أسرة الرجل عشيرته ورهطه الأدنون الذين يتقوى بهم ( ) ارتباطا وتحركا ويدلنا القرآن الكريم إلى أن الباب إلى إيجاد الأسرة المرعية شرعا ، بل المراقبة بعين الله تعالى ، هو الزواج .
ففى أول سورة النساء يخاطب جل علاه الناس جميعا بقوله " يا أيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذى تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا"( ) حيث يربط سبحانه وتعالى بين الزواج والتناسل والقرابة ويختم بما يكون كالوعد والوعيد والترغيب والترهيب .( )
وفى سورة النحل " والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة "( ) وفى سورة هود " وامرأته قائمة فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب " ( )
والمعنى واضح جلى فأساس الولد والحفيد والرحم – أى القرابات المباشرة وغير المباشرة – هو الزواج ، هذه بشهادة الحق هى الرابطة المتماسكة ، التى يرضى عنها الله تعالى ، ويأمر بحفظها ويتوعد من يقطعها بقطعه ، ويعد من يصلها بوصله ، وما عدا ذلك من صور الترابط فهو ممقوت عند الله ، هين فى نفوس أعضائه حتى أولئك الإباحيين الذين ينفرون من الأسرة بالمفهوم الدينى
ففى تقرير مؤسسة كارنيجى الأمريكية المتخصصة فى دراسة مشاكل أولاد الزنا جاء أن 13 مليون طفل أمريكى دون الثالثة من العمر معرضون لمتاعب وأضرار تلازمهم ما بقوا أحياء ( ) وقد تناولت الصحف منذ شهور حادثة مفادها أن مديرة أحد الملاجئ بإحدى محافظات الدلتا تتاجر بأعضاء الأطفال اللقطاء وان عددا منهم مات فى ظروف غامضة .
ولا يخفى على أحد ما تحدثه ظاهرة أولاد الشوارع والمشردين من فزع أمنى واجتماعى لما يستغلون فيه من أعمال إجرامية وما يصدر عنها من تصرفات تنم عن عدائية تجاه المجتمع .

الفصل الثانى
مقدمات الزواج
تمهيد :
الزواج فى عرف الشرع عقد عمرى يدوم ، وأغراض الشارع منه تجل عن الوصف ولا تقع تحت حصر ، وعقد كهذا لا يتصور الإقدام عليه دون ترو تفكير وتمهيد ، فضلا عن إجراء زائد يتيح الفرصة للمرغوب فيه أن يبدى رأيه فى الراغب ، ويقف على بعض أحواله عن قرب ، ويعرف الإجراء الأخير بالخطبة، أو العزم على التنفيذ ، ومرحلة ما قبل الإجراء يمكن أن نطلق عليها – اقتباسا من السنة – مرحلة التخـير .
والأحكام التى تنتظمها مرحلة التخير يغلب عليها أن تكون من قبيل الآداب الشرعية التى يناط تنفيذها بخلق الشخص ودينه ، أما أحكام الخطبة فكثير منها مما يمكن إخضاعه لأحكام القضاء .
المبحث الأول
مرحلة التخيـر
حكم التخير : حث الشارع الحكيم مريد الزواج على التخير ففيما روى ابن ماجة بسنده عن عائشة رضى الله عنها أن النبى  قال " تخيروا لنطفكم ، وأنكحوا الأكفاء وأنكحوا إليهم " ( ) وبين  الطرق النافعة إليه ، والأسس التى يبنى عليها ، وما يباح من أجله مما هو محظور أصلا .
ومن مجموع النصوص المثبتة للتخير ، والدالة على وسائله يمكن القول بأن الشارع الحكيم حث عليه بما يندبه أو يقربه من الوجوب ، لأن التخير سبب إلى السكن والاستقرار ، ولا شك أن السكن مصلحة يتغياها الشارع لبالغ أثره فى أمن المجتمع وتقدمه .
أسس تخير المرأة :
إذا رغب الرجل فى الزواج فلينظر إلى ما يحقق ديمومة الزواج ويضمن الاستقرار والهناءة ، وكعادة الإسلام فإنه لا يدع الناس ومذاهبهم فيما يعشقون ، بل تطرد فيه دائما قاعدة " ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها ، قدأفلح من زكاها .وقد خاب من دساها " ( ) ولأن الفلاح أمر لا يدركه كل عقل – خاصة فيما يعلق باللذات والمشاق – فإن نبى الرحمة  أرشد فى غير موضع إلى التخير الصحيح
1- فرغب أولا أن تكون المرأة ذات دين بقوله  " تنكح المرأة لأربع : للدين والجمال والمال والحسب ، فعليك بذات الدين ، تربت يداك " ( ) ومعنى قوله تربت يداك " أى التصقت بالأرض إن لم تظفر بذات الدين بما ينالك من فقر أو شدة بسبب سوء اختيارك .( ) فما عدا الدين قد يكون وبالا على الراغب فيه فتتعالى عليه بمالها ، أو تتدلل عليه بحسنها ، أو تغتر عليه بحسبها خصوصا إذا كان دونها فى ذلك .
وبهذا المصير وردت الأخبار ففيما روى ابن ماجة أن النبى  قال " لا تتزوجوا النساء لحسنهن ، فعسى حسنهن أن يرديهن – أى ينحرفن – ولا تتزوجوهم لأموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن ، ولكن تزوجوهم على الدين ، فلأمة سوداء ذات دين أفضل " ( ) وفيما روى أيضا أن النبى  قال "من تزوج امرأة لعزها لم يزده الله إلا ذلا ، ومن تزوجها لمالها لم يزده الله إلا فقرا ، ومن تزوجها لحسبها لم يزده الله إلا دناءة ، ومن تزوج المرأة لم يرد بها إلا أن يغض بصره ويحصن فرجه ، أو يصل رحمه بارك الله له فيها ، وبارك لها فيه"( ) .
وليس معنى ذلك ألا يكون لذوات المال والنسب والجمال مكان فى قلب المؤمن ، لأن مراد الإسلام من الزواج إحصان ونسل قوى صالح ، والإحصان لا يحصل لأكثر الناس إلا بالجمال ، فالجميلة " أسكن لنفس المؤمن وأغض لبصره، وأكمل لمودته ، ولذلك شرع النظر قبل الزواج " ( ) والوليد كما يرث من خصال أبيه وآله ينزع إلى أمه وأهلها ، لذا فالحسبية من المداخل إلى نجابة الولد وقد روينا آنفا حديث " تخيروا لنطفكم " وفى الأثر " تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس " ( ) وذات المال قد تعين رجلها بمالها وينتفع به أولادها. إذن فالمعنى الصحيح لا يكن مرغبكم فى المرأة شئ غير الدين والصلاح.
فإن جمعت المرأة بين صلاح الدين، وجمال المنظر، وعراقة الأصل فهذا هو الخير كله، وقد سئل النبى صلى الله عليه وسلم أى النساء خير؟ قال " التى تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه فى نفسها ولا فى ماله بما يكره"( ) ومن طريق آخر أنه قال" خير فائدة أفادها المرء المسلم بعد إسلامه امرأة جميلة تسره إذا نظر إليها وتطيعه إذا أمرها، وتحفظه فى غيبته فى ماله ونفسها"( )
ويستدل على الدين بظاهر حال المرأة وحال أهلها، وليس من ذلك فيما أرى " مجرد اللباس" فقد يكون السفور أو الحشمة عادة لا تنم عن حقيقة الجوهر، وغالبا ما يكون مرد السفور فى عصرنا فهما مغلوطا لقضية" الحرية والعصرية"( )
2- وليختر لنفسه – ولولده – " ذات العقل ويجتنب الحمقاء، لأن النكاح يراد للعشرة، ولا تصلح العشرة مع الحمقاء، ولا يطيب العيش معها، وربما تعدى ذلك إلى ولدها، وقد قيل : اجتنبوا الحمقاء فإن ولدها ضياع، وصحبتها بلاء"( )
4- وليراعى وسط المرأة ، ومنزلته منه، وليجتنب القرابة القريبة ، أما وسط المرأة فلأنها تتأثر به وتكتسب من خصاله، وفى السنة " إياكم وخضراء الدمن، قالوا : وما خضراء الدمن يا رسول الله ؟ قال المرأة الحسناء فى المنبت السوء( ) ولأنها ستربى ولدها على ما ربيت.
وأما منزلته منه فلقول النبى  " أنكحوا الأكفاء وأنكحوا إليهن"، والكفء هو المساوى ، وإذ يتزوج المرء من وسطه يصون نفسه من تعاليها، ولسان أهلها، ويصون زوجته من تسلط أهله وغمزهم حتى لا يضطروه إلى فراقها، أو تضطره إلى قطيعتهم .
وأما الاغتراب فيشهد له علم الأجناس والسلالات، فقد ثبت أن زواج الأقارب يضعف النسل، ويؤدى إلى تدهور السلالات، ورضى الله عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فقد كان يقول لآل السائب" قد أضويتم فأنكحوا فى النوابغ"( ) أى اغتربوا .
5- واستحسن العلماء أن تكون بكرا لحديث جابر  أنه تزوج ثيبا فقال له النبى  : هلا تزوجت بكراَ تلاعبها وتلاعبك وتداعبها وتداعبك "( ) قال الغزالى " فى البكارة ثلاث فوائد، إحداها: أن تحب الزوج وتألفه فيؤثر فى معنى الود، وقد قال الرسول  " عليكم بالودود"، والطباع مجبولة على الأنس بأول مألوف، وأما التى اختبرت الرجال ومارست الأحوال فربما لا ترضى بعض الأوصاف التى تخالف ما ألفته فتقلى الزوج. الثانية : أن ذلك أكمل فى مودته لها، فإن الطبع ينفر عن التى مسها غير الزوج نفرة ما، وذلك يثقل على الطبع مهما يذكر، وبعض الطباع فى هذا أشد نفورا. الثالثة: أنها لا تحن إلى الزوج الأول، وأكد الحب ما يقع مع الحبيب الأول غالبا"( ) .
ولاشك أن زواج الأبكار لمن لم يسبق له الزواج أفضل ، ولكن هذا لا يصم زواج الثيبات بالسوء، فأكثر زيجات النبى صلى الله عليه وسلم من ثيبات ( ) وكثير من أصحابه وآل بيته تزوجوا من ثيبات ، ولا نظنهم يتركون الأولى.
ولعل انتداب البكر للفوائد التى ذكرها الغزالى خاصة ممن يحس من نفسه ضعفا أو غيرة شديدة، أو كانت الثيب مفارقة لسبب يرجع إليها .
ومن ذلك ما حكى عن بعض الصالحين أنه قال " لا تنكح أربعا: المختلعة – التى تطلب الخلع كل ساعة من غير سبب – والمبارية – أى المباهية بغيرها المفاخرة بأسباب الدنيا – والعاهرة – الفاسقة التى تعرف بخليل وخدن- والناشز التى تعلو على زوجها بالفعال والمقال"( ) .
ولكن أن تكون البكارة مدحا والتأيم ذما مطلقا، فهذا ما فى النفس منه شئ، لأن الله سبحانه وعد كلا المتفارقين بالطلاق الذى استنفذت فيه كل أسباب الصلح – وهو كما ترى تأيم إرادى ، فما بالك بالتأيم الذى يحدث بسبب موت الزوج – وعد الله فيه بالغنى من سعته، قال تعالى " وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته"( ) ولا يتصور أن تغنى الثيب بالزواج وقد لحقتها المذمة شرعا.
وقد أسهم هذا الفهم المغلوط فى أن كثيرا جداَ من المتأيمات قضين أعمارهن فى وحدة كئيبة، يقتلهن التوق، وتتناولهن الألسنة، وبدلاَ من أن يعف الشيخ المسن نفسه بواحدة منهن إذا به يغرى الأبكار وأهلهن بماله وجاهه، وإن سألته قال إنى متبع، وقد حث النبى صلى الله عليه وسلم على زواج الأبكار، وهو فى ذلك مغالط، ولو فهم مقاصد الدين لأحب لأخته – فى الدين – ما يحب لنفسه.( )
6- واستحب العلماء أن تكون المرأة ولوداَ لقوله  " تزوجوا الودود الولود" ( ) قالوا : فإن عرفت بالعقر فليمتنع عن تزوجها.
ولا شك أن هذا مع غير ذى الولد أفضل، بل هو واجب لأن الأصل فى النكاح أنه يراد للولد، وقد كان عمر رضى الله عنه يكثر من الزواج و يقول إنما أتزوجهن لأجل الولد.
أما من كان له أولاد من زوجة فورقت أو مرضت مرضا يمنعها من الوفاء بحق زوجها، ويخشى أن لو تزوج بولود أن تأتى بولد تقصر خيره عليه، فلا عليه إن تزوج بعاقر أو آيس، فيعف نفسه، ويرعى ولده، لأن القيام بالمحقق أولى من رعاية المحتمل.
هذه صفات الخير التى يؤمل معها السكن بإذن الله وتوفيقه، أما صفات الذم التى يخشى منها فقد جمعها بعض العقلاء فى قوله" لا تنكحوا من النساء ستة: لا أنانة، ولا منانة، ولا حنانة، ولا حداقة، ولا براقة، ولا شداقة. أما الأنانة فهى التى تكثر الأنين والتشكى، أى متمارضة، والمنانة هى التى تمن على زوجها فتقول: فعلت لأجلك كذا وكذا، والحنانة: التى تحن إلى زوج آخر، أو تكثر الحنين إلى ولدها من زوج آخر، والحداقة التى ترمى إلى كل شئ بحدقتها فتشتهيه وتكلف الزوج شراءه، والبراقة تحتمل معنيين: أحدهما أن تقضى يومها فى الزينة والتطلع إلى المرأة، والثانى: أن تغضب على الطعام فلا تأكل إلا وحدها، وأخيرا الشداقة، وهى المتفلسفة كثيرة الكلام"( )
طرق التخير:
" الشريعة – كما يقرر الإمام الشاطبى – مبنية على الاحتياط والأخذ بالحزم، والتحرز مما عسى أن يكون طريقا إلى مفسدة"( ) واحتياطا لحق الرجل فى تخير المرأة الصالحة أجاز له الشارع النظر، وندبه إلى استشارة العقلاء، واستخارة الله سبحانه وتعالى.
أولا : النظر إلى المخطوبة.
الأصل فى نظر كل من الجنسين إلى الآخر أنه محرم، لقول الله تعالى " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله عليهم بما يصنعون. وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها"( ) ولكن استثناء من حرمة النظر أجاز الشارع النظر فى عدة مواضع للمصلحة حصرها بعض العلماء فى ثلاثة: أحدها: أن يكون لضرورة علاج، والثانى : أن يكون لتحمل شهادة أو حدوث معاملة. والثالث: أن يريد خطبتها( )
وأكثر الفقهاء على جواز النظر للخطبة لما روى أحمد بسنده عن المغيرة بن شعبة قال : خطبت امرأة فقال لى النبى  : هل نظرت إليها ؟ قلت لا ، قال" فانظر إليها فإنه أحرى أن يودم بينكما "( )
وحكى ابن رشد أن قوما منعوا النظر على الإطلاق تمسكا بالأصل وهو تحريم النظر إلى النساء ( ) ونسبه الماوردى إلى المغربى ( ) " يحيى بن كثير الليثى من أشياع الإمام مالك وناشر مذهبه فى الأندلس والمغرب"
ولا شك أن هذا الأخير خطأ للحديث الصحيح الذى روينا ، بل يبدو أنه رأى لم يلتفت إليه، فقد قال ابن قدامة " لا نعلم بين أهل العلم خلافا فى إباحة النظر إلى المرأة لمن أراد نكاحها "( ) وقال النووى: إنه مستحب ( ) وبالغ بعض أساتذتنا، فقال النظر للخطبة واجب لقول النبى  "انظر إليها" ويقول ولا أرى أمرا معقولا لأن يتزوج رجل بامرأة لم يرها ولم تره، وأرى أن ذلك من الأمور الخارجة على شرع الله بعد حديث رسول الله  السابق ، وما يماثله"( )
وهذه فى الحقيقة مبالغة، فقد عهد الناس الخطبة بالخاطبة والوكيل والولى، ويكتفى فى ذلك بالوصف أو الصورة، ولم ينقل عن أى فقيه أنه أنكر ذلك( )
ما يباح النظر إليه:
اتفق الفقهاء على إباحة النظر إلى وجه المرأة – المراد خطبتها وكفيها، واختلفوا فى النظر إلى ما عدا ذلك .( )
فجمهور العلماء على الاقتصار على الوجه والكفين لقول الله تعالى" ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها " قال المفسرون : عبر بالزينة وأراد مواضعها والزينة الظاهرة فى قول أكثرهم الوجه والكفان.( )
ولقول النبى  لأسماء بنت أبى بكر رضى الله عنهما" أما علمت أن المرأة إذا حاضت حرم كل شئ منها، إلا هذا وهذا" وأشار  إلى وجهه وكفيه.( )
ومن المعقول:
1- الغالب من الوجه والكفين ظهورهما عادة وعبادة، وذلك فى الصلاة والحج فيصلح أن يكون الاستثناء راجعا إليهما .
ثم إن الوجه مجمع المحاسن وموضع النظر، ومن نظر إلى وجه إنسان سمى ناظرا، ولأن النظر هنا استثناء فيقتصر على ما تدعو إليه الحاجة.( )
2- وروى الحسن عن أبى حنيفة رضى الله عنه أنه يحل النظر إلى القدمين أيضا لما روى عن عائشة رضى الله عنها فى تفسير الزينة الظاهرة أنها قالت القلب والفتخة ، وهى خاتم أصبع القدم . ولأن القدمين ظاهرتان عند المشى فيكونان من جملة المستثنى من الحظر .( )
3- وقال الأوزاعى ينظر إلى مواضع اللحم، وقال داود الظاهرى ينظر إلى جميعها( )
واستدل على ذلك بظاهر قول النبى  " انظر إليها " وبما روى جابر بن عبد الله  قال : قال رسول الله  " إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل، قال جابر : فخطبت امرأة من بنى سلمة فكنت أتخبأ تحت الكرب حتى رأيت منها ما دعانى إليها"( )
وقد أوهمت عبارة غير الظاهرية أن داود يجيز النظر إلى جميع البدن حتى أنهم خطئوه بمخالفة السنة والإجماع ( ) والحق أن عبارة ابن حزم فى المحلى لا تشير إلى شئ من هذا ، قال ما نصه" ومن أراد أن يتزوج اِمرأة فله أن ينظر منها متغفلا وغير متغفل إلى ما بطن منها وظهر ولا يجوز له أن ينظر منها إلا إلى الوجه والكفين فقط ، لكن يأمر امرأة تنظر إلى جميع جسمها وتخبره"( ) .
والذى أفهمه من هذه العبارة أن داود يجيز النظر إليها واقفة فيرى ما ظهر منها وهو الوجه والكفين.. وما بطن وهى هيئتها، أما رؤية بدنها حقا فما أجازه ولكن أفتى أن يأمر المريد اِمرأة فتنظرها وتخبره.
ولا أرى ذلك منابذا السنة ، فحديث جابر يحتمل إفادة هذا المعنى، وإلا فما معنى " فكنت أتخبأ لها حتى رأيت منها بعض ما دعانى إليها"؟ وقد روى عن الإمام أحمد قوله " لا بأس أن ينظر إليها وإلى بعض ما يدعو إلى نكاحها من يد وجسم ونحو ذلك، وقال أبو بكر الأثرم – من الحنابلة – لا بأس أن ينظر إليها عند الخطبة حاسرة – أى مكشوفة الشعر-" ولأنه يظهر غالبا، فأبيح النظر إليه كالوجه، ولأنها اِمرأة أبيح النظر إليها بأمر الشارع فأبيح النظر منها إلى ذلك كذوات المحارم ، وقد روى بسند صحيح أن عمر بن الخطاب  خطب ابنة على كرم الله وجهه فذكر منها صغرا فقالوا له : إنما رَدَّك، فعاوده، فقال نرسل بها إليك تنظر إليها، فرضيها عمر بن الخطاب فكشف عن ساقيها فقالت : أرسل – أى أترك ثوبى – لولا أنك أمير المؤمنين للطمت عينك"( )
وعلى ذلك فإننى أرجح القول بجواز النظر إلى ما يرغبه فى الزواج منها، دون أن يجرح أحساسيها ، لورود الأدلة فى السنة والأثر بجواز ذلك.
هل يستأذنها فى النظر؟
أكثر العلماء على أن مريد الزواج ينظر إلى المرأة بإذنها وبغير إذنها، وروى عن الإمام مالك أنه لا يجوز النظر إلا بإذنها.( )
ووجه قول الإمام مالك : أن طلب الإذن لسد الذريعة على المتلصصين، جاء فى الشرح الصغير" ويكره استغفالها- أى النظر إليها على غفلة منها – لئلا يتطرق أهل الفساد للنظر للنساء ويقولون نحن خطاب" ( )
ومستند الجمهور : ما جاء فى الأحاديث التى روينا من قول النبى  "انظر إليها" مطلقا عن الإذن، وحديث جابر " فكنت أتخبأ لها حتى نظرت منها" وهو واضح المعنى فى أن نظره وقع بلا إذن.
ولأنها تستحى غالبا من الإذن، ولأن فى ذلك تغريرا فربما رآها فلم تعجبه، فيتركها فتنكسر وتتأذى( ) ومن جانب آخر فإن عبارات الفقهاء صريحة فى ان النظر من مريد الخطبة قبل الخطبة ، فهى عادة ما تجرى بلفظ " ومن أراد ان يتزوج امرأة فلا بأس أن ينظر إليها " ( ) وبدهى أن طلب النظر ينزل منزلة الخطبة حكما .
نظر المرأة إلى الرجل
القاعدة فى الشرع أن للنساء مثل ما عليهن ، وكما أجيز للرجل أن ينظر إلى المرأة يجوز للمرأة أن تنظر إلى الرجل ، حتى ترى منه ما يرغبها فى الزواج منه ، فى إطار من الحشمة والوقار ، بل إن حق المرأة فى النظر إلى الرجل آكد، لآن الطلاق بيد الرجل فإذا تزوج من لم يرها ، وعند رؤيتها تبين أنها لا تسره فبمقدوره أن يفارق ، أما هى فلا تملك هذا الحق ( ) والفارق بين نظر المرأة ونظر الرجل ، أن الرجل ينظر قبل الخطبة وعرضها ، أما المرأة فلا تنظر إلا بعد عرض طلب الخاطب عليها ، ما لم تكن هى الخاطبة .
ثانيا : الاستشارة
لا يكتف مريد الخطبة بمجرد استحسان المرأة ، ولا بانطباعه الخاص عنها وإنما ينبغى له أن يستشير الثقة الأمين الخير المخلص ، ويستحب أن يستشير أكثر من واحد ، ويشترط فى مضمون النصيحة فى هذا الأمر أن يكون ضروريا، " ولهذا يجب ذكر العيوب الخلقية فى الشخص المسئول عنه ما دامت ذات صلة بالزواج ، ولو أغنى التلميح لم يجز التصريح ، كما تقصر النصيحة على ذكر العيوب الحاضرة ، أما العيوب التى كانت فيه ثم تاب عنها فلا تذكر"( ) .
3- الاستخارة :
الاستخارة معناها طلب الخير من الله سبحانه وتعالى ، ولها فى الدين مكانة هامة ، لما تكشف عنه من تفويض الأمر كله إلى الله . وفيما روى عن جابر بن عبد الله  قال " كان رسول الله  يعلمنا الاستخارة فى الأمور كلها كالسورة من القرآن يقول إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل اللهم إنى استخيرك بعلمك ، واستقدرك بقدرتك ، وأسألك من فضلك العظيم ، فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب ، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لى فى دينى ومعاشى وعاقبة أمرى "أو قال عاجل أمرى وآجله" فأقدره لى ويسره لى ، ثم بارك لى فيه ، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لى فى دينى ومعاشى وعاقبة أمرى " أو قال عاجل أمرى وأجله " فاصرفه عنى واقدر لى الخير حيث كان ثم رضنى به ، قال ويسمى حاجته " ( ) فمن أراد منكم الخطبة أو أى أمر فليستخر الله فيه قبل التنفيذ ، فإن يسره الله فليحمد الله ، وإن صده الله عنه فليسبح الله .
المبحث الثانى
الخطبة
أولا : الخاطب
إذا ألقى الله فى قلب امرئ خطبة امرأة فنظر إليها وزكاها عنده العقلاء ، ويسر الله له طلب يدها ، فإنه يتقدم إليها مظهرا الرغبة فى الزواج منها ، وقد غلب فى العرف أن يكون الرجل هو الخاطب ، ولكن لا بأس شرعا أن تكون الخطبة من المرأة أو من وليها – وهذا أفضل – ولنسائنا فى أم المؤمنين خديجة بنت خويلد  مثلا فقد خطبت رسول الله  - ولم يكن قد بعث بعد – وهى يومئذ أوسط نساء قومها نسبا ، وأعظمهم شرفا ، وأكثرهم مالا ، وأحسنهم جمالا، وكانت تدعى فى الجاهلية بالطاهرة ، وكم خطبت فتمنعت ( ) وفى الإسلام عرضت صحابية جليلة نفسها على رسول الله  ، وقالت فى وضوح شديد " يا رسول الله جئت أهب لك نفسى ، فنظر إليها رسول الله  فصعد النظر فيها وصوبه ، ثم طأطأ رأسه ، فلما رأت أنه لم يقض فيها شيئا جلست ، فقام رجل من أصحابه فقال : يا رسول الله إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها ، فقال فهل عندك من شئ ؟ الحديث ( ) .
والأفضل للمرأة أن يشبب بها أولياؤها عند الصالحين ، أو يعرضونها عليهم إذا وثقوا من كرائم أخلاقهم فى القبول والرفض ، والتشبيب عادة قديمة عند العرب ، درج عليها الشعراء فى أشعارهم فيغدقون على المحبوبة من الأوصاف والمحاسن ما يرغب فيها القاصى والدانى ، حتى صرن مثلا فى المرأة المستحسنة كليلى العامرية وبثينة جميل ونحوهما .
ومن طريف ما يحكى فى ذلك أن امرأة جاءت إلى الأعشى الشاعر فقالت : إن لى بنات قد كسدن – فاتهن قطار الزواج – فشبب بواحدة منهن ، فشبب بها ، فما شعر إلا بناقة قد بعثت بها إليه ، فقال : ما هذا ؟ قالوا : تزوجت فلانة ، فشبب بالأخرى فأتاه مثل ذلك ، فسأل عنها : فقيل له تزوجت ، فما زال يشبب بواحدة فواحدة منهن حتى زوجن جميعا " ( ) .
ولست أظن أن التشبيب الذى لا يتعدى إلى وصف مفاتن المرأة محظورا ، فقد شبب زهير بن سلمى بمحبوبته سعاد فى قصيدته التى امتدح فيها رسول الله  بين يديه . وصورته التى لا يمكن أن ينالها قدح أن يذكر الولى محاسن المرأة ، كحسن خلقها ، وطيب صنيعها ، وحنانها ، وتفوقها ونحو ذلك ، مما يرغب الصالحين فيها .
أما العرض الصريح فصورته المثلى ما وقع من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب  حين تأيمت حفصة – أى صارت بلا زوج بعد أن مات زوجها عمر بن خنيس السهمى ، وكان من أصحاب رسول الله  وتوفى بالمدينة – قال عمر : أتيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة . فقال سأنظر فى أمرى . فلبثت ليالى ثم لقينى فقال قد بدا لى أن لا أتزوج يومى هذا ، قال عمر : فلقيت أبا بكر الصديق فقلت : إن شئت زوجتك حفصة ، فصمت أبو بكر فلم يرجع إلى شيئا . فكنت أوجد – أى أغضب – عليه منى على عثمان ، فلبثت ليالى ثم خطبها رسول الله  فأنكحتها إياه فلقينى أبو بكر فقال : لقد وجدت – غضبت – على حين عرضت على حفصة فلم أرجع إليك شيئا ، قلت نعم ، قال أبو بكر : فإنه لم يمنعنى أن أرجع إليك فيما عرضت إلا أننى كنت علمت أن رسول الله  قد ذكرها ، فلم أكن لأفش سر رسول الله  ولو تركها رسول الله  قبلتها"( )، قال ابن حجر " وفيه عرض الإنسان ابنته وغيرها من مولياته على من يعتقد خيره وصلاحه لما فيه من النفع العائد على المعروضة عليه ، وأنه لا استحياء فى ذلك " ( ) .
ويرى بعض أساتذتنا أن خطبة المرأة الرجل وإن كان مستساغا شرعا إلا أنه لا يناسب زماننا بعد أن تبذلت كثير من النساء وتغير خلق أكثر الرجال . ( )
وفى رأيى أنه ومع مراعاة ظاهر الحال فإن التشبيب والعرض يبدو لى أفضل كثيرا من الترخص فى الترغيب بالخطبة بالسفور وارتياد الفتاة تجمعات الرجال واختلاطها بهم على نحو مكشوف وسافر ، وقد أخذ العرض طريقه إلى الصحف اليوم ، فأصبح من الأعمدة الثابتة إعلانات " طلب الزواج "
ثانيا : حقيقة الخطبة
الخطبة – بكسر الخاء – هى " إظهار الرغبة فى الزواج بامرأة معينة ، والإفضاء بهذه الرغبة إلى المرأة أو من يمثلها ، فإذا أجيبت هذه الرغبة من جانب المرأة أو من يمثلها تمت الخطبة بينهما ( )
والخطبة بهذا المعنى ليست زواجاَ وإن احتملت أن تكون تواعدا متبادلا على الزواج فى المستقبل ( ) وهذا التكيف لحقيقة الخطبة ينعكس على آثارها فى علاقة الخاطب بمخطوبته وبذويها، وعلى مدى التزامهما بها، وحق كل منهما فى العدول عنها، وأثر هذا العدول، وسيأتيك بيان كل هذا بعد قليل.

ثالثاً : صفة الخطبة:
لا يستلزم الشرع الحنيف اتباع صيغة خاصة أو اتخاذ إجراء ما لإيقاع الخطبة، بل " تصح بكل ما يدل على المقصود منها، ويظهر الرغبة فى النكاح، على أن يكون ذلك متبادلا بين الطرفين، دالاَ على ارادتيهما وصدق رغبتهما فى إتمام عقد الزواج مستقبلا"( ).
وقد جرت عادة الناس على التعبير عن الوفاق بقراءة الفاتحة وتقديم بعض الهدايا، وما قراءة الفاتحة إلا نوعا من التبرك بقراءتها، وتأكيد التواعد، والمأثور عن ابن عمر رضى الله عنهما أنه كان إذا دعى ليزوج قال: الحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد إن فلانا يخطب فلانة ، فإن أنكحتموه فالحمد لله ، وإن رددتموه فسبحان الله".( )
ونظرا لبعض الموانع الأدبية ألزم الشارع بأسلوب خاص فى خطبة المعتدة من وفاة إن رغب فيها راغب وأحب أن يسرى عنها فى مصيبتها، فأباح الخطبة ولكن تعريضا، وارتضاه بعض الفقهاء فى المعتدة من طلاق بائن أيضا.
والتعريض هو بمثابة الاستثناء على الأصل فى إبداء الرغبة فى الزواج، أما الأصل فهو التصريح.
والتصريح : أن يذكر الخاطب أو وليه أو وكيله كلاما لا يحتمل سوى معنى الخطبة كقوله أريد فلانة للزواج، أو جئت أطلب فلانة ونحو ذلك.
أما التعريض: فهو ذكر الخطبة بلفظ يحتمل معنى الخطبة ، ويحتمل غيرها، كقوله: كل رجل يتمناك زوجة، أو أرجو أن ييسر الله لى زوجة صالحة، وهكذا مما ظاهره المدح ، وحقيقته إبداء الرغبة.
وعادة ما يكون التعريض أو التلويح متى تخوف الخاطب من الرد، ولكنه يلزم لزوما شرعيا فى حالة خطبة المعتدة من وفاة ، بمعنى أنه يحرم شرعاً التصريح بالخطبة ويجوز التعريض.
وأساس هذا الحكم قول الله تعالى عقب ذكر عدة المتوفى عنها زوجها "ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النكاح أو أكننتم فى أنفسكم، علم الله أنكم ستذكرونهن، ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا، ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله"( ) حيث اشتملت الآية على إباحة مخصوصة ، وتقرير واقع ، ومنهيات ، ومما وقف عليه العلماء منها" أن الكلام مع المعتدة بما هو نص فى تزوجها وتنبيه عليه لا يجوز إجماعا، كما لا يجوز إجماعا الكلام معها بما هو رفث وذكر جماع أو تحريض عليه، وكذلك ما أشبهه، وجوز ما عدا ذلك"( ) وأبرزه التعريض بالخطبة.
وإنما أجاز الشارع التعريض بخطبة المعتدة من وفاة لانقطاع حق الزوج عنها، إلا من اعتبارات أدبية تتعلق بشعور أقارب الزوج الآخرين، ولا يتصور أن تكذب المعتدة من وفاة فى انتهاء عدتها، لأنها معروفة نصا بالأيام أو الوضع – إن كانت حاملا – والمحيطون عالمون بوقت الوفاة ، والوضع لا سبيل لإخفائه ، إذن لا مجال لمظنة الكذب( ) ، ومن جانب آخر فإن من التسرية عن المصاب أن تدخل على نفسه سروراَ، أو باعثا من بواعث السرور، وتسرية عن نفس المتأيمة أجاز الشارع خطبتها ولكن تعريضا مراعاة لمشاعر الأهل، وما عليها من حق أدبى فى إظهار الأسى على فراقه مدة العدة، وهو كما نعلم أمر إلهى.
وهل إباحة التعريض قصر على المعتدة من وفاة أم جائز مع غيرها من المعتدات؟ خلاف سنعرض له فيما يلى.
رابعاً : شروط الخطبة:
الخطبة مقدمة زواج، والمقدمات تتتبع الغايات، فإن كانت الغاية مشروعة فالمقدمة أو الوسيلة إليها تكون مشروعة، وإذا حرمت الغاية حرمت الوسيلة.
وإعمالا لهذه القاعدة فإنه يشترط لصحة الخطبة أن تكون المرأة صالحة للزواج فى الحال، فإن كانت محرمة تأبيدا أو تأقيتا فالخطبة لا تحل.( )
وهذا الحكم ظاهر واضح مجمع عليه فى زوجة الغير ومعتدته من طلاق رجعى، كما أنه أكثر ظهورا فى المحرمات على التأبيد ، ولكنه بالنظر إلى أولئك النسوة اللاتى يعلق بهن حق للغير، وهذا الحق على خطر الزوال أو يحتمله كالمعتدات أو المخطوبات للغير، فالأمر يحتاج إلى تفصيل.
1- خطبة المعتدة:
تعتد المرأة كلما فورقت من زواج صحيح أو فاسد لحقه وطء أو وطئت بشبهه- غير أن عدة الوفاة كما سيأتى لا تكون إلا من زواج صحيح ( )- كما تعتد بفرقة الموت ولو لم يدخل بها زوجها، متى مات عنها ، وسيأتيك لاحقا أن من الفرق ما يحرم المفارقة تأبيدا، كالفسخ برضاع أو لعان ونحوه، ومنها ما يحرم المفارقة تأقيتا كالطلاق البائن، ولا شك أن فرقة الموت تقطع النكاح نهائيا.
وقد تعرضنا فيما مضى لخطبة المعتدة من وفاة وقلنا إنها تحرم تصريحا، وتحل تعريضا باتفاق الفقهاء.
كما أنهم متفقون على أن المعتدة من طلاق رجعى تحرم خطبتها تصريحا وتعريضا، لقيام حق زوجها فى استرجاعها ما دامت فى العدة، لأن الطلاق الرجعى لاينهى العصمة الزوجية ولا يفصم عراها.( )
أما المعتدات الأخريات فقد اتفق الفقهاء على حرمة خطبتهن تصريحا، واختلفوا فى حكم خطبتهن تعريضا.( )
أ- فالحنفية وأحد قولى الشافعية على عدم حل خطبة المعتدة لا من وفاة مطلقا لأن الخطبة ولو تعريضا قد تفتح بابا أمام المرأة للإدعاء الكاذب فتدعى انتهاء عدتها على غير الحقيقة، وفى هذا من الخطر ما يقتضى الاحتياط لدرئه.
ب- وجمهور العلماء على جواز التعريض بخطبتها إن كانت بائنا بينونة كبرى أو مفارقة بفسخ لا تحل بعده لمفارقها،ودليلهم على حل التعريض : عموم قول الله تعالى " ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء" حيث لم يخص فئة من المعتدات، فيصدق الحكم فى جميعهن.
ولهم من السنة أيضا أن النبى  قال لفاطمة بنت قيس وقد طلقها زوجها ثلاثا " إذا حللت فآذنينى" وفى رواية " لا تسبقينى بنفسك". قالوا : وهذا تعريض بخطبتها فى عدتها.( )
ومن المعقول . أن المعتدة من طلاق بائن بنيونة كبرى أو من فسخ لا تحل بعده لمفارقها محرمة عليه وانقطع حقه فيها فتكون كالمعتدة من وفاة.( )
أما المعتدة من طلاق بائن بنيونة صغرى فجمهور الفقهاء على أن لمطلقها خطبتها تصريحا وتعريضا، وغير مطلقها هل يجوز له التعريض بخطبتها؟ قولان. الأول: يجوز لأنها بانت منه فكانت كالبائن بنيونة كبرى. والثانى: لا يجوز لأن لمطلقها حق إعادتها ولكن بعقد جديد.( )
وفى رأيى:
أن تخوف الأحناف فى محله خاصة مع فساد الزمان وخراب الذمم( )، وكم سمعنا عن زوجات جمعن بين زوجين فى آن واحد بالكذب والزور، ثم إن آية التعريض تلت آية الوفاة، وقد ذكر الله فى آية الوفاة الأجل الذى تحل بعده النساء مطلقا، وتعلق المعنى الذى تضمنته آية التعريض بهذا الأجل شديد، وهو كالاستثناء من عموم الحظر ، والاستثناء لا يتوسع فى إعماله. لهذا فإننى أرجح مذهب الحنفية القاضى بحرمة التعريض بالخطبة إلا للمعتدة من وفاة.
3- خطبة المخطوبة:
الإسلام دين السلام والمحبة يحض أتباعه على المحبة والتودد بكل طريق، وينهاهم عن أسباب العداوة والبغضاء بكل السبل، لأن المحبة طريق الاتحاد ، وفى الاتحاد قوة والبعض سبب إلى التشرذم والتفرق، وفى التفرق ضعف .
وكحث على التودد نفى النبى  أن يكمل إيمان المرء حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه( )، وتنفيرا من أسباب البغضاء نهى النبى  " أن يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له"( )
والظاهر من عبارة أكثر العلماء أنهم حملوا " الخطبة " على مجرد طلب الرجل المرأة،بدليل أنهم قسموا أثر هذا الطلب إلى حالات ثلاث أو أربع( )، حالة القبول .. حالة الرفض ، حالة التردد بين القبول والرفض.‏
وقد ظهر من أقوالهم أنهم متفقون على التحريم فى الحالة الأولى، وعلى الجواز فى الحالة الثانية، وبينهم اختلاف فى حكم الحالة الثالثة.( )
وفى رأيى:
أن الخطبة بالمعنى الذى تحدد سلفا وهو كونها" تواعداَ متبادلا على إتمام الزواج فى المستقبل" لا يصدق إلا على الحالة الأولى – حالة القبول – وليست هناك خطبة أصلا فى الحالة الثانية، أما الحالة الثالثة فكل ما فيها مجرد طلب.
ولا شك أن النهى " لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه" صادق تماما على حالة القبول، فتحرم الخطبة عندئذ للحديث، ولما فيها من اعتداء على حق ثابت، وإفساد لمخطوبة على خاطبها.
أما حالة التردد فثبوته فيها محل نظر لما روى فى حديث فاطمة بنت قيس، وقد قال لها النبى  " فإذا حللت- أى انتهت عدتك- فآذنينى" قالت: فلما حللت ذكرت له أن معاوية ابن أبى سفيان وأبا جهم خطبانى، فقال رسول الله  أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، انكحى أسامة بن زيد" قالت فكرهته، ثم قال " أنكحى أسامة" فنكحته، فجعل الله فيه خيرا واغتبطت به"( )
فقد أخبرت السيدة فاطمة بنت قيس النبى صلى الله عليه وسلم أن رجلين طلباها، كل لنفسه، وأنها لم تركن لواحد منهما، ومن ثم فقد طلبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل ثالث هو أسامة بن زيد، فقبلته، ولو كان ما وقع من الرجلين خطبة، لما أذن رسول الله  فى خطبتها لثالث، وبعبارة الإمام الماوردى " أن الإمساك عن الإجابة لا يقتضى الخطبة"( )
ويبدو لى أن من منع من الخطبة فى حالة التردد اعتبر الخطبة كالسوم، وقد نهى النبى  " أن يسوم المؤمن على سوم أخيه" والسوم إظهار الرغبة فى الشراء، فكذلك الخطبة تكون بمجرد طلب المرأة للزواج، ومع التردد يكون ثمة احتمال القبول، فتقدم الثانى يقطعه.( )
وحاصل ما تقدم أننا إن توقفنا عند المعنى الفنى للخطبة فلا محل للتحريم إلا فى حالة القبول، والقول بغير ذلك لا تسنده الأدلة، ولست أرى القياس على السوم فى السلعة، لأن السوم على السوم طريق لرفع الثمن، وظاهر الأدلة فى البيع يشير إلى طلب الرخص ( )، بخلاف النكاح فإن مجموع الأدلة يشير إلى طلب الأفضل، فالقياس هنا قياس مع الفارق.
وقد وجدت فى كلام الفقهاء ما يعنى أن صورة التردد أن يوجد رضا من المرأة أو وليها بالراغب، مع ثمة خلاف فى بعض التفاصيل، وبعبارة الماوردى " أن يظهر منها الرضى بالخاطب، ولا تأذن فى العقد، بأن يقدر صداقها، أو تشترط ما تريده من الشروط لنفسها" ( ) .
وهذا أشبه ما يكون بالخطبة لوجود الرضا من الطرفين- وإن لم يكن تاماَ.
وفى صورة كتلك فإن القول بالحظر أقرب إلى الحكمة التشريعية من النهى من القول بالجواز، لأن أصل الخطبة قد وجد ، والخلاف حول بعض التفصيلات عادة ما يقع، وكثيرا ما ينتهى إلى التقارب، وزوال الخلاف، فاحتراما لحق الخاطب يحظر طلب المرأة فى هذه الحالة، حتى يترك أو ترد هى أو أولياؤها.
أثر الخطبة على الخطبة:
إذا وجدت خطبة بالمعنى الدقيق أو وجد ركون وتقارب بين الطرفين مع خلاف فى بعض التفاصيل، فإن طلب المرأة للزواج يحرم ديانة، ولكن ما الحكم لو أجيب الخاطب الثانى وعقد على هذه المرأة السابقة خطبتها؟
جمهور العلماء على أن الخاطب الثانى آثم بخطبته – إذا كان يعلم بخطبة الأول – أما عقده على المرأة فصحيح، لأن" العقد قد تم بشروطه وأركانه، والمعصية التى ارتكبها الخاطب الثانى كانت أمرا سابقا على العقد، وبعيداَ عن مقوماته"( )
وذهب الظاهرية: إلى أن العقد هنا غير صحيح،"لأن النهى منصب على النكاح لا على الخطبة فى ذاتها أو وحدها، إذا النهى عنها ما كان إلا لأنها وسيلة للزواج، فالنهى لأجله، فيكون فاسدا، ويجب الفسخ، سواء أدخل بها أم لم يدخل"( ) وروى مثل هذا عن الإمام مالك( ) وعن الإمام مالك قول ثالث . مقتضاه أن العقد يفسخ إن لم يدخل بها، فإن دخل بها استمر النكاح لأن فى فسخه بعد الدخول مفاسد.( )
والرأى عندى : أن فى قبول الخاطب الثانى عدولا ضمنيا عن خطبة الأول ، وقد أجاز الشرع العدول عن الخطبة إذا رأى العادل أن مصلحته تقتضى ذلك ، ومؤدى هذا أن عقد الثانى قد استوفى أركانه وشروطه فلا سبيل إلى فسخه كما يقول الجمهور ، نعم أن الخاطب الثانى فد إفتات على خطبة أخيه فيلحقه الإثم لذلك ، لكن لا أثر لهذا الإثم فى العقد .
وما قلناه فى أثر الخطبة على الخطبة يقال فى خطبة المعتدة إذا جرى العقد بعد انتهاء العدة ( ) بمعنى أن الخطبة حرام ، ولكن لا أثر لهذه الحرمة فى العقد .
خامساً : آثار الخطبة :
قلنا إن الخطبة تواعد على الزواج فى المستقبل ، وإنها ليست زواجا ، وهذا التكييف ينعكس على كل آثارها ومن ذلك :-
1- المخطوبة أجنبية عن الخاطب
فليس له أن يختلى بها ، ولا أن يرى منها ما يرى الرجل من زوجته ، فكل ما أحله الشارع للخاطبين هو مجرد النظر الداعى إلى الاستحسان والترغيب فى النكاح ، وذاك يحصل برؤية ما يظهر من مواضع الزينة والهيئة على أكثر الآراء تسامحا ، وليس له باتفاق الفقهاء أن يمسها ، ولا أن يخرج معها بغير محرم ، ولأنه أجنبى عنها ، فهو أجنبى عن أمها وأخواتها ، وهى أجنبية عن والده ، وابنه إن كان له أبناء ، وهذا مؤداه أنه لا يحل له النظر إلى أمها وأخواتها كما لا يحل لهن أن يبدين له زينتهن ، كذلك لا يحل للمخطوبة أن تبدى زينتها لوالد الخاطب وابنه لأنهما أجانب عنها ، والتصرف على غير هذا غير مقبول شرعا ، ونتائجه خطيرة خاصة إن لم يتم الزواج . ( )
2- ليس على الخاطب والمخطوبة إلزام بإتمام الزواج
الخطبة وعد وفى رأى جمهور العلماء ليس للوعد بعقد قوة إلزام ، وقد روى عن الإمام مالك وجوب الوفاء بالوعد على خلاف رأى الجمهور ، ولكن هذا فى غير الخطبة ، لأن الخطبة مقدمة لعقد " عمرى يدوم الضرر فيه " فكان لكلا طرفيه حق الاحتياط والنظر ، ثم إن الإلزام بالخطبة إكراه على الزواج ومبنى الزواج على الرضا الصحيح الكامل الذى لم تشبه شائبة . ( ) نعم يكره فى رأي العلماء " العدول عن الخطبة لغير غرض لما فيه من إخلاف الوعد والرجوع عن القبول ، ولكنه لا يحرم لأن الحق لم يلزمهما بعد ، كمن سام سلعة ثم بدا له ألا يبيعها "( )
3- ليس للمخطوبة على الخاطب التزامات مالية
فلا يلزمه مهر ولا غيره ، وما جرت به العادة من تقديم شبكة وهدايا ، وتعجيل كل المهر أو بعضه ، كل ذلك من قبيل المودة التى لا يلزم بها الشرع ، وسترى آثر هذا فى العدول عن الخطبة .
سادساً : أثر العدول عن الخطبة :
قلنا إن العدول عن الخطبة حق للطرفين ، كما قلنا إن الخطبة لا تلزم الخاطب بأية التزامات مالية ، ولكن العادة جارية بالتهادى وتقديم شبكة ، وربما التعجيل بدفع المهر .
ومن جانب أخر فإن العدول أحيانا ما يصيب الطرف الآخر بضرر ، يتمثل فى خسارة مادية أو أدبية ، ومثال الأولى أن ينفق مالا فى إعداد مسكن على رغبة المخطوبة ، أو شراء نوع معين من الجهاز ونحو ذلك ، ومثال الضرر الأدبى أن يبرر عدوله بالإساءة إلى الطرف الثانى .
والسؤال : ماذا لو حصل ما ذكرنا ثم وقع العدول عن الخطبة ؟ هل للمهدى أن يسترد هداياه ، وما قدم من شبكة وعجل من مهر ؟ وهل للمضرور من العدول من حق فى التعويض عما لحقه من ضرر ؟
أ) أثر العدول على المهر والشبكة .
الثابت بإجماع الفقهاء ( ) أن المهر لا يلزم إلا بمقتضى العقد ، وليست الخطبة عقدا كما رأينا ، ومن ثم فللخاطب أن يسترد ما عجل من مهر ، وليس لها أن تأخذ منه شيئا ، لعدم حقها فيه فإن كان عين ما قدم من مهر قائما وجب رده بعينه ، وإن كان قد هلك أو استهلك وجب رد مثله إن كان من المثليات أو قيمته يوم تقديمه إن كان من القيميات .
وتعتبر الشبكة بمقتضى العرف جزءاً من المهر ، " لأن المهر يزيد أو ينقص بحسب نوع الشبكة وقيمتها " ( ) لهذا فالحكم فيها كالحكم فى المهر تماما بتمام ، ولا ينظر فى الحكم إلى شخص العادل
ب) أثر العدول على الهدايا .
عادة ما يتهادى الخاطبان ، وأكثر ما تكون المهاداة من جانب الرجل ، ثم إن من الهدايا ما يبقى كالأجهزة المعمرة والمنزلية ومنها ما يستهلك كالملابس والأطعمة .
والناظر فى الاجتهاد الفقهى يرى أن الفقهاء ليسوا على قول واحد فى تكييف الهدايا وفى استردادها
أ- فالحنفية قد اعتبروها من الهبات ، والهبات تسترد ما لم تهلك أو تستهلك ، أو تزيد زيادة متصلة بها لا تقبل الفصل ( ) ، وبهذا قضت محكمة النقض المصرية منذ زمن ليس بالبعيد ( ) .
ب- ورأى الشافعية : أن الهدايا قدمت على أساس تمام الزواج وقد حال العدول دون تمامه ، وباعتبار غرضها فإنها تأخذ حكم المهر ، أى تسترد إن كانت قائمة ، ويلزم مثلها أو قيمتها إن هلكت أو استهلكت ( ) .
حـ- وعول المالكية على الجانب النفسى للمتهادين ما لم يكن شرط أو عرف ، بمعنى أن فى العدول إحداث ألم بالمعدول عن خطبته وفى الغرامة إحداث ألم بالغارم ، فلا يجمع على المعدول عنه بين ألمين ، ألم العدول وألم الغرامة .
وعلى هذا فإنه :
1- إن كان ثمة شرط أو عرف عمل بمقتضاه
2- وإن لم يكن شرط أو عرف فإن العادل يلتزم برد ما قدم إليه من هدايا ، وليس له أن يسترد ما قدمه هو من هدايا حتى لا يجمع على الطرف الآخر ألم العدول عن الخطبة ، وألم رد الهدايا . وعلى الملتزم بالرد أن يرد عين الهدايا إن كانت قائمة ، ومثلها أو قيمتها إن هلكت أو استهلكت . ( )
وفى رأى أكثر أساتذتنا فإن رأى المالكية هو الأعدل من بين الآراء المذكورة لما فيه من إنصاف الطرف غير المتسبب فى العدول عن الخطبة ، ولما فيه من زجر لمن كان متسببا فى العدول ( )
ولعدالة هذا الرأى كان دائما محل اعتبار فى مشروعات القوانين التى أعدت فى مصر ( ) ، ولكنه لم يحظ بالاعتبار فى التشريع المصرى ، وبقى القضاء عندنا أسير الراجح فى المذهب الحنفى بمقتضى المادة 280 من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية ، فى الوقت الذى عدلت فيه أكثر التقنينات العربية – حتى تلك التى تقتفى أثر التقنين المصرى عادة – عن مذهب الحنفية إلى المفتى به فى مذهب الإمام مالك ( ) ونأمل لو يؤخذ به فى مصر صراحة بدلا من الالتفاف حول مذهب الحنفية ، بإخراج الهدايا من دائرة الأحوال الشخصية ، وإخضاعها لأحكام القانون المدنى فى الهبات ( ) وتشدد القضاء فى قبول أعذار العادلين عن الخطبة ( ) وهذا وإن كان يصل بالمشكلة إلى مضمون فتوى المالكية إلا أنه قاصر من زاويتين .
أولاهما : إخراج الهدايا من دائرة الأحوال الشخصية ، بيد أنها شديدة الارتباط بالخطبة الداخلة فى هذه الدائرة ( ) .
والثانى : انه إذ يعتبر الهدايا من الهبات يحرم المعدول عن خطبته من استرداد ما هلك أو استهلك منها .
ب) التعويض عن العدول عن الخطبة
لم يتعرض السلف لمسألة التعويض عن العدول فى الخطبة ربما – كما يقول بعض علمائنا " لعدم وقوعها فى عصر لم تتعقد فيه الحياة ومتطلباتها ، أما الآن فلابد من إيجاد حل يتفق مع قواعد الشريعة ومبادئها ، يراعى فيه عدم الإضرار " ( )
وقد اختلفت أنظار المعاصرين فى المسألة ( ) فذهب بعضهم – وأيدته بعض المحاكم – إلى أن العدول حق لكلا الخاطبين ، ومن استعمل حقه لا يضمن.
وعلى عكسه تماما ذهب فريق آخر إلى القول بحق المضرور من العدول فى التعويض ، إعمالا لقاعدة " لا ضرر ولا ضرار " ، والعدول وإن كان حقا فإن العدول بغير مقتضى يعتبر من قبيل إساءة استعمال الحق ، وإساءة استعمال الحق توجب التعويض .
وأكثر الفقه – وهو ما استقر عليه القضاء فى مصر – أن العدول المجرد لا يستوجب تعويضا ، لأنه حق ، والحق لا يترتب عليه تعويض قط ، إنما يثبت التعويض متى كان العادل قد ألحق بالمعدول عنه ضررا بسبب عدوله ، كأن يطلب نوعا من الجهاز فتغرم شراءه ، أو تطلب هى إعداد مسكن فينفق فى إعداده، دون أن يكون له فى ذلك من غرض إلا إتمام الزواج منها ، والمثال الأشهر للضرر الأدبى أن يبرر العادل عدوله بالإساءة إلى الطرف الآخر .
ولا شك أن الرأى الثالث هو أقوى هذه الآراء وأعدلها ، وقد استقر عليه – كما قلنا – القضاء فى مصر .
BAHRAIN LAW
مدير الموقع
مدير الموقع
 
مشاركات: 758
اشترك في: الأربعاء سبتمبر 17, 2008 5:36 pm
الجنس: ذكر

Re: كتاب الوسيط فى أحــــــكام الأسرة

مشاركة غير مقروءةبواسطة BAHRAIN LAW » الاثنين أكتوبر 06, 2008 10:52 am

الباب الثانى
أركان عقد الزواج وشروطه
تمهيد:
الزواج عقد لكنه ليس ككل العقود، فهو عقد أبدان، وهو عقد عمرى يدوم، وهو قبل هذا وذاك – كما أسماه رب العزة جل جلاله – ميثاق غليظ.
وعقد كهذا بالغ الخطر عظيم الشأن لابد وأن يكون حظه من الاجتهاد والنظر فى إطار النصوص الشرعية، ومقاصد الشارع كبيراً، ومن البدهى أن يعنى فى بحثه بدقائق لا يعول عليها كثيرا فى العقود الأخرى، نظرا لما لها من تعلق بصيانة الأعراض، واستقرار البيوتات.
وقبل أن نخوض غمار البحوث الفقهية فى أركان العقد وشروطه ننوه إلى مسألتين مما يشغل بال المسلم، وهاتان هما وقت الزواج. ومكان انعقاده.
وقت الزواج:
لم يجئ عن النبى فى وقت النكاح شئ إلا ما روى عن السيدة عائشة رضى الله عنها قالت " تزوجنى رسول الله فى شوال، وبنَّى – أى دخل – بى فى شوال.. وكانت عائشة تستحب أن تدخل نساءها فى شوال"( ) وليس فيه ما يدل على أن أنكحة النبى اطردت فى شوال، ولا أن النبى قد انتظر دخوله، بل الظاهر من قصة زواجه بعائشة أن وقوعه فى شوال كان محض مصادفة( ).
وقد استحب العلماء أن يعقد النكاح يوم الجمعة مساءً لفضائل هذا اليوم " لأنه يوم شريف، ويوم عيد، والبركة فى النكاح مطلوبة،فاستحب له أشرف الأيام طلبا للبركة( ) وقد روى هذا الاستحباب عن جماعة من السلف منهم ضمرة بن حبيب وراشد بن سعيد، وحبيب بن عتبة( ).
واستحب الإمساء به لأن فى آخر النهار من الجمعة – كما يرى البعض – ساعة الإجابة، وقد رووا فيه حديثا لم يثبت( ) والتعليل المنطقى الذى أبرزه ابن قدامة أن ذلك – أى الإمساء – " أقرب إلى مقصوده وأقل لانتظاره" وهو تعليل رقيق فى النكاح الذى يتبعه دخول فوراً.
مكان العقد:
النكاح قربة، والبركة فيه مطلوبة، لهذا يستحب أن يعقد فى المسجد، فالمساجد محل القربات، وأبعد عن المباهاة والمفاخرة والإسراف فى النفقات، خاصة وأن فى بعض روايات حديث عائشة فى إعلان النكاح أن النبى قال "أعلنوا هذا النكاح، واجعلوه فى المساجد واضربوا عليه بالدفوف " ( ) غير أن هذا مشروط بالمحافظة على نظافة المسجد ، ومراعاة حرماته وحقوقه.
الفصل الأول
أركان عقد الزواج
تمهيد:
لعلك تذكر أن العقد لا يوجد وجوداً شرعيا ومادياً إلا إذا توافرت جملة من الأركان والشروط، وأن للعلماء فى معنى كل من الركن والشرط اتجاهين( ).
فجمهور العلماء : على أن الركن هو ما يقوم به الشئ ، سواء أكان جزءًا من حقيقته أم كان خارجا عنه.
أما الأحناف: فالركن عندهم هو : ما يقوم به الشئ وهو جزء داخل فى ماهيته، أما الشرط فهو : ما يقوم به الشئ وليس جزءًا داخلا فى ماهيته، بل خارج عنها. وتستطيع أن تقول إن الأحناف يفرقون بين الوجود المادى والوجود الشرعى، فالشئ يوجد ماديا بأركانه، ويوجد شرعا بأركانه وشروطه معا.
وفى رأى الحنفية : فإن ركن النكاح هو الصيغة –أى الإيجاب والقبول– فقط وما عدا ذلك فشروط لانعقاده، وبهذا يقول بعض الحنابلة( ).
ويرى الجمهور : أن للنكاح أركانا غير الصيغة، إلا أنهم اختلفوا فى عدها، فالمالكية والشافعية يعدونها خمسة أو أربعة باعتبار الزوجين ركنين أو ركنا واحداً، ثم إن المالكية اعتبروا الصداق – المهر – ركنا، ولم يعتبره كذلك الشافعية، كما أن الشافعية اعتبروا الشاهدين ركنا، وخالفهم المالكية فى ذلك .
وللحنابلة فى ذلك اتجاهات أشهرها أن أركان النكاح ثلاثة ، زوجان وصيغة.( )
وأكثر المعاصرين من علمائنا يرتضون مذهب الحنفية فى عد الأركان فى الزواج، ويرونه أكثر معقولية " لأن المعقود عليه – وهو استمتاع كل من الزوجين بالآخر – ليس بالشئ المستقل عن المتعاقدين، كالسلعة فى عقد البيع مثلا، بل هو أمر بينهما، كما أن الصيغة هى عبارة عن كلام العاقدين كذلك"( ) وبعبارة أخرى أن ما عدا الصيغة متضمن فيها بداهة( ) فلا صيغة إلا بعاقدين ولا زواج إلا إذا انصرف التوافق إلى محل مشروع.
وحسب اطلاعى فإن القوانين العربية المعاصرة – حتى تلك التى تنزع إلى التمذهب بمذهب المالكية – قد أخذت بنهج الحنفية فى أركان الزواج ( )، ولم يشذ عن ذلك إلا القانون السودانى فأخذ بمشهور مذهب الحنابلة فى هذا الشأن، حيث نص فى المادة (12) منه على أن " ركنا عقد الزواج هما:
1-الزوجان. 2-الإيجاب والقبول
وفى رأيى :
فإن تصرف المقنن السودانى أنسب إلى التقسيم البحثى حيث يمكن من جمع متعلقات الصيغة والزوجين كل تحت عنوان واحد، فيتمكن القارئ من الإلمام بالجزئيات فى إطار كلى ويسهل عليه الرجوع إلى الموضوعات المترابطة دون جهد.
المبحث الأول
الصيــــــــــــــــغـة
الصيغة تعبير فقهى يطلق ويراد به أمران : الإيجاب والقبول ، فهذان هما المكون للصيغة، والتعبير المناظر فى الفكر القانونى هو " التعبير عن الإرادة ".
وتتعلق بالصيغة أحكام كثيرة بعضها قد عرفته – فى نظرية العقد – فنوجز القول فيه، ونحيل عليها، وبعضها أكثر تعلقا بالزواج فنسهب القول فيه بما يناسب المقام ويحقق الغرض.
1- حقيقة الإيجاب والقبول
الإيجاب عند الحنفية هو ما صدر أولاً من أحد العاقدين للدلالة على إرادته فى إنشاء الارتباط ، والقبول: هو ما صدر ثانيا من العاقد الآخر للدلالة على رضاه وموافقته بما أوجبه الأول.
وعند غير الحنفية فإن الإيجاب هو ما يصدر من المملك، والقبول هو ما يصدر من المتملك، بصرف النظر عن كونه صدر أولا أو ثانيا. ولهذا التكييف قيمة فى عقد الزواج ، حيث تعتبر عبارة المرأة أو من يمثلها إيجابا ، لأن المرأة هى التى تملك الرجل حق المعاشرة الزوجية، أما الرجل فهو من سيتملك هذا الحق ولهذا فإن عبارته تعتبر قبولا وإن صدرت أولاً.
وإنما اعتبر التمليك من المرأة دون الرجل لأن حق الاستمتاع وإن ثبت للزوجة فإنه لا يحول وحق الزوج فى الاستمتاع بأخرى مع قيام حقها فيه، بخلافها فإن الاستمتاع بها قصر على زوجها، حتى تنفصم عرى الزوجية، وتحل لغيره بعقد آخر( ).
والحقيقة أن الاستمتاع لا يملك على الحقيقة ولكنه يحل بالعقد ثم إنه أثر من آثار الزواج، والآثار من جعل الشارع سبحانه وتعالى، ولو كانت المرأة مُمَلّكّةّ لحُقّ لها أن تشترط فى التمليك، وليس لها من ذلك شئ.
وإذ ظهر أن هذا التبرير ضعيف، فالأخذ بمنهج الحنفية أولى لأنه أيسر فى العمل، وأبعد عن الشكلية.( )
2-ما يحصل به الإيجاب والقبول:
عرف فى نظرية العقد أن الفقهاء أميل إلى التعبير اللفظى فى إرادة التعاقد عن التعبير بالكتابة أو الحركة، بل إن بعضهم لا يقبل التعبير بغير اللفظ إلا ممن عجز عن اللفظ، بغيبة أو فقد نطق( ).
وهذه النظرة وإن بدت شكلية فإنها فى عقد الزواج منطقية ومقبولة، لأن إعلان هذا العقد والإشهاد عليه واجب واللفظ طريق إلى الإعلان، ووسيلة إلى تعرف الشهود على ما يشهدون( )، ثم إنه يعقد – فى رأى الجمهور – بولى، فتحتاج المرأة أن تسمع ما يجرى بشأنها ليكون رضاها أو رفضها عن بينة وعلى هذا يجرى العمل فى البلدان العربية.
ففى مصر حيث لم ينص على شئ فيما يحصل به الإيجاب والقبول فى قوانين الأحوال الشخصية يطبق الراجح من مذهب الإمام أبى حنيفة، ومذهبه كما فى الدر المختار" وينعقد بإيجاب وقبول……فلا ينعقد بقبول بالفعل كقبض مهر، ولا بتعاط، ولا بكتابة حاضر، بل غائب بشرط إعلام الشهود بما فى الكتاب"( ) وفى الدول الأخرى التى قننت أحكام عقد النكاح اضطرد النص على أن " يكون الإيجاب والقبول فى الزواج مشافهة بالألفاظ التى تفيد معناه لغة أو عرفا".
ويجوز أن يكون الإيجاب بين الغائبين بالكتابة أو بواسطة رسول.
وإذا كان أحد العاقدين عاجزا عن النطق يصح منه الإيجاب أو القبول بكتابته، فإن تعذرت فبإشارته المفهمة"( )
وحاصل المرتضى فى الفقه والقانون:
أن النكاح لا ينعقد بالتعاطى – على خلاف العقود الأخرى – فلو أن رجلا وامرأة تفاهما على المهر ثم سلمت نفسها إليه دون إيجاب وقبول، لم ينعقد الزواج إجماعا.( )
كما لا ينعقد نكاح الحاضر القادر على النطق إلا بعبارته الدالة صراحة على رضاه بعقد الزواج، لأن اللفظ أفصح الوسائل للتعبير عن الإرادة، وخطر الزواج وعظم شأنه وقدسيته يحتم ألا ينتقل عن الأفضل إلا لعذر( ).
فإن كان الحاضر عاجزا عن النطق فمذهب الجمهور وهو الراجح فقها والمعول عليه قانونا أن يعبر بالكتابة، فإن عجز عنها أمكن تعبيره بالإشارة المفهمة.
وقد ارتضى الفقهاء فى زمانهم الكتابة من الغائب ، وأقاموها مقام اللفظ ، لعذر الغيبة ، ولكنهم اشترطوا مراعاة للشهود أن تقرأ الرسالة بحضرتهم ( ) وتخريجا على تحوطهم فى شأن الزواج نرى أنه لا يعدل إلى الرسالة إلا إذا لم يمكن التعبير اللفظى بواسطة الهاتف ، فإن أمكن العاقد ذلك لم ينعقد الزواج بالكتابة ، لقدسيته وخطره " وأهميته الخاصة التى تجعله مميزا عن سائر العقود الأخرى " ( ) .
3- لفظ الإيجاب والقبول :
القاعدة فى عقود المعاملات أنها تنعقد بكل ما يدل على مقصودها ولكن خطورة عقد الزواج وعظم شأنه جعلت الفقهاء يخصون التعبير عن إرادته بمزيد بحث ، فهم أولا يبحثون ما إذا كان هذا العقد يختص بألفاظ دون سواها ، وثانيا يلفتهم ما فى النكاح من شوب العبادة فينظرون فى مدى التزام العربية لغة القرآن فى التعبير عنه ، وتتطرق بحوثهم إلى ما يناسب متغيا الشارع من الزواج كحل الاستمتاع ، ودوامه ، فيعالجون – ضمن ما يتناولون – الألفاظ التى تفيد إنشاء العقد فى الحال ، والتى تقتضى الدوام والاستقرار .
إذن بحوث الفقهاء فى هذا الشأن ليست بحوثا لغوية كما قد يظن ، وليست من قبيل الترف الفكرى كما قد يتراءى للبعض وإنما هى اهتمامات بسمات الزواج وغاياته ، والتفريط فيها إهدار لحيطة الشرع ودقة النظر الفقهى ، ولننظر الأمر معا .
ألفاظ الزواج :
هل للزواج ألفاظ تخصه فلا ينعقد بغيرها ؟ أم أنه ينعقد بكل لفظ يفيد معناه لغة أو عرفا ؟
المتحصل من بحوث الفقهاء فى هذا الشأن أنهم على فريقين
فالحنفية والمالكية والزيدية والأباضية : على أنه لا يلزم فى النكاح لفظ بذاته فينعقد بكل لفظ يقتضى التمليك على التأبيد فى حال الحياة( ).
والشافعية والحنابلة وأهل الظاهر والإمامية : أن النكاح لا ينعقد إلا بألفاظ مخصوصة ، وردت فى لسان الشرع ، فأطلقت عليه إطلاقا حقيقيا، وما عداها ليس بصريح فى النكاح فلا ينعقد به ( ) "وهذا لأن الشهادة شرط فى النكاح ، والكناية إنما تعلم بالنية ، ولا يمكن الشهادة على النية ، لعدم إطلاعهم عليها ، فيجب ألا ينعقد بها ، وبهذا فارق بقية العقود والطلاق " ( ) ولأن عقد النكاح من العقود المطلوبة شرعا ، وفيه ناحية تعبدية يتعين معها التقيد بما ورد عن الشارع من الألفاظ ( ) ومع هذا فقد اقتصر بعضهم على لفظى الإنكاح والتزويج وزاد أهل الظاهر التمليك والإمكان ، وأضاف بعض الإمامية إلى الإنكاح والتزويج التمتع .
ويؤخذ من هذا أن : -
1- الانعقاد يحصل بلفظى الإنكاح والتزويج إجماعا .
2- لا يحصل الانعقاد البتة بأى لفظ يقتضى التمليك تأقيتا عند غير الإمامية ، وكذا كل لفظ لا ينشئ العقد فى الحال .
3- وفيما خلا الصورتين المذكورتين ، وقع الخلاف بين الفقهاء فمنهم من أجاز ، ومنهم من رد .
وقد ظهرت لك حجة الرادين و خلاصتها : مراعاة شوب التعبد فى النكاح بالاقتصار على استعمالات الشارع باعتبارها كلمة الله ، وقد قال النبى  "واستحللتم فزوجهن بكلمة الله " ( ) .
أما المجيزون فمستندهم القاعدة الشهيرة " العبرة فى العقود للقصود والمعانى لا مجرد الألفاظ والمبانى " ويقولون إن غير لفظى التزويج والإنكاح وإن اعتبر فى باب النكاح من قبل الكنايات فإن " دلالة الحال فى الكنايات تجعلها صريحة وتقوم مقام إظهار النية ،…. ومعلوم أن دلالات الحال فى النكاح من اجتماع الناس لذلك ،والتحدث بما اجتمعوا ، فإذا قال – الولى – بعد ذلك ملكتكها – وهو من الألفاظ المختلف فيها – بألف درهم علم الحاضرون بالاضطرار أن المراد به الإنكاح وقد شاع هذا اللفظ فى عرف الناس حتى سموا عقده إملاكا وملاكا ، ولهذا روى الناس قول النبى  لخاطب الواهبة الذى التمس فلم يجد خاتما من حديد تارة " بأنكحتكها " بما معك من القرآن ، وتارة " ملكتكها " ،وإن كان لم يثبت أن النبى  اقتصر على ملكتكها بل إما قالها ما جميعا ، أو قال أحدهما ، لكن لما كان اللفظان عندهم فى مثل هذا الوضع سواء ، رووا الحديث تارة هكذا ، وتارة هكذا " ( ) .
والحقيقة كما يقول الإمام الشوكانى " أنه لم يأت فى الكتاب والسنة ما يدل على أنه لا يجزئ فى هذا إلا لفظ أو ألفاظ مخصوصة " ( ) فكان الاقتصار على لفظ أو ألفاظ دون سواها تشديدا يأباه يسر الشرع ، وشكلية لا تتفق وحرية التعاقد .
ومن جانب آخر فإن تسويغ العقد بكل لفظ يفيد الملك حالا ومؤبدا توسع لا يتناسب وقدسية الزواج ، خاصة وأن مسألة ملك البضع " توهم أن البضع كالسلعة ، مما يسئ إلى المرأة ويصم نظرة الإسلام إليها بما هى منه براء "( ).
لهذا فالأصوب أن يعول على اللفظ الذى يفيد الزواج لغة أو عرفا ، يقول الشوكانى " ينبغى أن يكون هذا اللفظ الذى وقع به العقد بلفظ النكاح أو التزويج أو ما يفيد هذا المفاد مما يتعارف به الناس بينهم ، ولو لم يفد التمليك ، وما يفهم من الألفاظ المصطلحة بين قوم مقدم على غيره ، لأن التفاهم بينهم هو بإعتبار ذلك الاصطلاح ، ولم يأت فى الكتاب والسنة ما يدل على أنه لا يجزئ فى هذا إلا لفظ أو ألفاظ مخصوصة " ( ).
وينبغى أن يلاحظ أن هذا المعترك فى قضية اللفظ قصر على الإيجاب فقط أما القبول فيتحقق اتفاقا بكل لفظ يدل على الرضا بالعقد ، والموافقة عليه ، كقبلت ورضيت وأجزت وزوجت ووافقت ونحو ذلك( ) .
وأكثر التقنينات العربية تأخذ برأى الشوكانى الذى اخترناه فتنص على أن "يكون الإيجاب والقبول فى الزواج بالألفاظ التى تفيد معناه لغة أو عرفا"( ) ولم يشذ منها – فيما طالعت – إلا القانون اللبنانى ، وتابعه القانون الأردنى الصادر عام 1976 فنصا على أن " الإيجاب والقبول فى النكاح يكون بالألفاظ الصريحة كأنكحت وزوجت ( ) وإن احتملت عبارة النص الصريح وضعا أو انتقالا ، لأن ذكر النكاح والتزويج ورد فى النص على سبيل التمثيل ، والقاعدة أن غلبة الاستعمال تنقل اللفظ من الدلالة المجازية إلى الدلالة الحقيقية أو الصريحة( ).
لغة عقد النكاح
رأيت أن من قصروا صيغة الزواج على لفظ أو ألفاظ بعينها قد استوقفهم قول النبى  " واستحللتم فروجهن بكلمة الله " وكلمة الله فى الزواج كما وردت فى القرآن " زوج ، وأنكح " وأنت تعلم أن كلام الله تعالى " قرآنا عربيا غير ذى عوج " ( ) أى أن كلمة الله عربية ، فلا تؤدى بغيرها إلا لمن عجز عن معرفة العربية فحكمه حكم الأخرس عليه أن يأتى بما يشتمل على معنى اللفظ العربى ، أما من قدر على لفظ النكاح بالعربية فلا يصح منه بغيرها .
بهذا قال الحنابلة ، والشافعية - فى قول - وأهل الظاهر ، وهو الصحيح عند الجعفرية ، وأحد الوجهين عند الزيدية ( ) .
أما الحنفية والمالكية ، والشافعية فى الأصح وبعض الحنابلة ، والأباضية، وأحد الوجهين عند الزيدية فيرون أنه يصح النكاح بأى لغة تفهم معناه ولكن يكره العقد بغير العربية لغير حاجة ( ) يقول الإمام ابن تيمية " تعين اللفظ العربى فى مثل هذا فى غاية البعد عن أصول الأدلة الشرعية ، إذا النكاح يصح من الكافر والمسلم ، وهو إن كان قربة فإنما هو كالعتق والصدقة ، ومعلوم أن العتق لا يتعين له لفظ لا عربى ولا عجمى ، وكذلك الصدقة والوقف والهبة لا يتعين لها لفظ عربى بالإجماع ، ثم العجمى إذا تعلم العربية فى الحال قد لا يفهم المقصود من ذلك اللفظ ، كما يفهم من اللغة التى اعتادها ، نعم لو قيل يكره العقود بغير العربية لغير حاجة كما يكره سائر أنواع الخطاب بغير العربية لغير حاجة لكان متوجها ، كما قد روى عن مالك وأحمد والشافعى ما يدل على كراهة اعتياد الخطاب بغير العربية لغير حاجة " ( ) .
وحاصل ذلك :
أن من لا يحسن العربية يصح الزواج بلغته دون خلاف يذكر ( ) لأنه عاجز فسقط عنه النطق بالعربية كالأخرس .
أما من يحسن العربية فهو من اختلف فى عقده إن تعاقد بغير العربية فبعض الفقهاء يجير ، والبعض الآخر يمنع مطلقا ، لأنه عدل عن اللفظ العربى مع القدرة عليه فلم يصح ، وتوسط فريق ثالث فأجاز مع الكراهة .
ويبدو لى أن هذا الرأى الوسط هو الأرجح من هذه الآراء ( ) لأن العربية وإن لم تتعين لغة فى النكاح ، فإن فى النكاح شوب التعبد فيستحب أن يقع بلغة العبادة ، ثم إن النطق بالعربية لمن يفهمها أدق فى الكشف عن مجموع إرادته ، وهو أمر هام لإفهام الشهود كى تأتى الشهادة على وجهها ، ولا شك أن من يخبر عن فؤاده بلسانه أدق ممن يخبر عن مفردات كلامه بمترجم .
وأخيرا فإن مقتضى نصوص التقنينات العربية أنه لا يشترط فى التعاقد لغة بذاتها ، وإنما يصح بكل ما يفيد معناه لغة أو عرفا .
صورة اللفظ وهيئته
يقصد بهيئة اللفظ بنيته أو صيغته التى يساق بها وتدل على معناه ، والألفاظ بالنظر إلى الصيغة أسماء وأفعال وحروف ، والأفعال إما ماضى أو مضارع أو أمر فالماضى يدل على تحقق الحدث ، أما المضارع فإنه يدل على الحصول فى الحال أو الاستقبال والأمر طلب فإن أجيب وقع الحدث فى المستقبل قطعا .
وكما نوهنا من قبل فإن الزواج يتعلق بالأبضاع ، والأصل فيها التحريم ولكيلا يلحقها خطر فإن الفقهاء عمدوا إلى بحث الصيغة التى تنشئ العقد فى الحال ، وتنأى به عن مغبة الاحتمال .
ولاشك أن صيغة الماضى هى الأبلغ فى الدلالة على إنشاء العقد فى الحال ( ) . يكونها وضعت لإفادة الحصول فى الزمن الماضى ، وثبوت الحكم فيما مضى يعنى ثبوته فى الحال من باب أولى ، ولهذا لم يختلف الفقه فى حصول العقد بصيغة الماضى فإن قال الولى مثلا ، زوجتك ابنتى فلانة فقال الخاطب قبلت انعقد النكاح دون خلاف ، ودون حاجة إلى نية أو قرينة .
أما صغيتا المضارع والأمر فنظرا لما فيهما من احتمال فلا ينعقد بهما عقد إلا بقرينة ، والقرينة فى النكاح قائمة لأن العادة أنه يسبق بتمهيدات ومقدمات تبعد معنى المساومة ، وتعين معنى الإنشاء فى الحال ( ) لذا فإن النكاح ينعقد بلفظين أحدهما للماضى ، والآخر للمستقبل أوالحال فلو قال الخاطب زوجنى ابنتك ، فأجابه الأب زوجتك انعقد النكاح .
ولكن إن علق الصيغة على أمر مستقبل أو أضافها إلى المستقبل فلن ينشأ العقد لما فى ذلك من احتمال الحصول وعدمه ، ولأن " الزواج عقد لا تتراخى أحكامه عن أسبابه فلا يمكن أن يضاف إلى المستقبل ، لأن ذلك يقتضى تأخير الأحكام ، وهو مناقض لحقيقته الشرعية " ( )
شروط الصيغة
قلنا أن الصيغة هى الإيجاب والقبول ، وما مضى كان بيانا لحكم كل منهما، فإن استوفى كل منهما متطلبه وجد العقد وجودا حسيا ، لكن وصفه بكونه عقدا مخصوصا بأركان وشرائط يترتب عليها أحكام يقتضى وجودا شرعيا زائدا على الحسى ، ولا يتحقق الوجود الشرعى إلا بارتباط الإيجاب والقبول على وجه يظهر أثره فى المعقود عليه ، ولوازم هذا الارتباط الشرعى توجد بتوافر شروط الصيغة وهى .
1- أن تكون بلفظ دال على الزواج لغة أو عرفا ، فإن عجز عن اللفظ فبالكتابة الواضحة ، فإن عجز فبالإشارة المفهمة .
2- أن يكون الإيجاب والقبول منجزين أى يدلان على إنشاء العقد حالا ، وقد عالجناه فى كلامنا عن صورة اللفظ .
3- أن يتحد مجلس الإيجاب والقبول .
ومجلس العقد على الراجح فقها هو ذلك الاجتماع الذى يبدأ بالإيجاب وينتهى بالقبول دون فاصل يعد إعراضا أو رجوعا عرفا ( ) وليس المراد به – كما عرفت – مجرد الوجود المكانى ، وإنما يراد به هيئة الإقدام على التعاقد "بالانشغال بالعملية التعاقدية التى أساسها العرض الأول أى الإيجاب " ( ) فطالما كان المتعاقدان منشغلين بهذه العملية فالمجلس قائم حتى يصدر القبول فينتهى المجلس بالانعقاد ، أو يصدر منهما أو من أحدهما إعراضا ، برجوع الموجب عن إيجابه أو رفض الطرف الآخر صراحة أو ضمنا ، أو إنشغالهما بما يعد أعراضا عن العملية التعاقدية فى العرف ، وبتطبيق هذا المعنى على عقد النكاح فإن الحال لا يخلو من أمرين :-
أولهما : أن يكون التعاقد بين حاضرين وعندئذ يكون مجلس العقد هو حالة اتحادهما وهى تبدا كما قلنا بالإيجاب ، فإن صدر القبول وهما على هذه الحالة تم العقد ، وإن حصل ما يعد إعراضا عرفا اعتبر الإيجاب كأن لم يكن وانفض المجلس ، حتى لو قبل الطرف الأخر بعد ذلك فقبوله لا يعتد به ، لأنه لم يصادف إيجابا قائما ( ) ويعتبر فى حكم الحاضرين المتعاقدان بواسطة الهاتف لأن كلا منهما يسمع كلام الآخر ويعتبر كذلك من باب أولى التعاقد بواسطة الدوائر التلفزيونية ( ) .
و الثانى : أن يكون التعاقد بين غائبين ويكونان كذلك متى كان كل منهما لا يسمع كلام الآخر ، ويقع التعاقد بينهما بالقول أو الكتابة أو الرسول
أ‌- أما القول : فصورته أن تقول المرأة بحضرة الشهود زوجت نفسى من فلان ، فلما بلغه الخبر قال قبلت وذلك فى حضور نفس الشهود تم العقد فى قول أبى يوسف خلافا لأبى حنيفة ومحمد ( )
ب‌- وإن حصل الإيجاب برسالة أو رسول : فإن مجلس العقد هو مجلس قراءة الرسالة أمام الشهود ، أو إفصاح الرسول عن الرسالة التى يحملها ، فإن قبل من وجه إليه الإيجاب فى هذا المجلس تم العقد ، وإن رفض أو أعرض انفض المجلس وسقط الإيجاب .
وإنما اشترط العلماء اتحاد المجلس ليتحقق الارتباط الذى هو أساس الوجود الشرعى .
4- أن يوافق القبول الإيجاب صراحة أو ضمنا ، حتى يتحقق ارتباطهما ويتم اتفاق الإرادتين .
والموافقة الصريحة: أن يصدر القبول مطابقا الإيجاب فى كل جزئياته ، فإذا قال الموجب زوجتك ابنتى فلانة على صداق كذا وكذا ، فقال القابل قبلت فهذه موافقة صريحة .
والموافقة الضمنية : أن يقبل بأفضل مما قال الموجب ، ومثاله أن يقول الموجب زوجنى ابنتك فلانة على صداق قدره عشرة آلاف جنيه فقال القابل: زوجتكها على صداق قدره خمسة آلاف ، لأن الخمسة خير للزوج من العشرة ، وقد يحدث العكس كأن يقول الولى زوجتك بخمسة آلاف فيقول الرجل قبلت بستة ففى ذلك تتم الموافقة ، ولا يلزم الزوج فى الأولى إلا بخمسة آلاف ، وكذلك فى الثانية إلا أن تقبل المرأة أو وليها الزيادة فتصير حقا لها .
والفرق بين الصورتين أن فى الأولى إسقاطا ، والإسقاط لا يتوقف على قبول الطرف الآخر ، أما الثانية ففيها تمليك ولا يجبر الإنسان على تملك شئ إلا الميراث لأنه بحكم الشرع ( ). فإن كانت المخالفة لا إلى خير لا يحصل التوافق، ومثال ذلك أن يقول الرحل زوجنى على ألف جنيه فيقول الولى زوجتك على ألفين فلن يحصل توافق لأن القبول خالف الإيجاب .
ولا يحصل الارتباط من باب أولى إن حصلت المخالفة فى شخص المرأة أو الرجل ، ومثال ذلك أن يقول زوجنى ابنتك الكبرى فيجاب بقول الولى زوجتك الصغرى ، أو يقول الولى زوجتك ابنتى فيقول الرجل قبلتها لابنى ففى هذه الحالات لا ينعقد العقد لعدم التوافق .
5- أن يكون الإيجاب والقبول مؤبدين
ومعنى التأبيد : أن تتجرد صيغة اللفظ عن التأقيت صراحة ودلالة .
والتاقيت صراحة: أن ينص فى الصيغة على مدة ، كأن يقول أتزوجك شهرا أو عاما ، أو ما دمت مغتربا ونحو ذلك .
أما التأقيت دلالة: فذاك بلفظ أشتهر عرفا بدلالته على التأقيت ، وهو لفظ المتعة ، وصيغته أن يقول : أتمتع بك بمبلغ كذا ، أو متعينى بنفسك فتقول قبلت( ).
وكلا التصرفين حرام فى الديانة لأن الله سبحانه وتعالى حرم الفروج إلا بزواج أو ملك يمين ، والزواج المشروع هو ما كان مؤبدا ، ويتغيا أغراض الشرع . قال الله تعالى " والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين . فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون " ( ) فكل من ابتغى فرجا بغير الزواج المعهود شرعا أو ملك يمين فهو عاد ، والله لا يحب المعتدين .
وعامة المسلمين على القول بهذا التحريم إلا شيئا يروى عن الشيعة الإمامية مفاده القول بحل المتعة ( ) .
وحقيقتها عندهم كما يقول الإمام الصنعانى "اعلم أن حقيقة المتعة كما فى كتب الإمامية هى النكاح المؤقت بأمد معلوم أو مجهول، وغايته إلى خمسة وأربعين يوما، ويرتفع بانقضاء الوقت فى المنقطعة الحيض، وبحيضتين فى الحائض، وبأربعة أشهر وعشر فى المتوفى عنها زوجها، وحكمه أن لا يثبت لها مهر غير المشروط، ولا يثبت لها نفقة ولا توارث ولا عدة إلا الاستبراء بما ذكر، ولا يثبت به نسب إلا أن يشترط، وتحرم المصاهرة بسببه"( )
وكما هو واضح فإن المتمتع بها لا تسمى زوجة، ولا يثبت لها من حقوق الزوجية شئ .
وسند إباحة المتعة فى زعمهم . عمومات القرآن الكريم فى الحل ثم نص القرآن عليها لفظا، فقد استدلوا كما يقول الماوردى "بقول الله تعالى " فانكحوا ما طاب لكم من النساء "( ) فكان – أى الجواز الشرعى – على عمومه فى المتعة المقدرة والنكاح المؤبد…..وقال تعالى " فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن"( ) فذكر إباحتها نصا، فقد أوجبت الآية إعطاء مال للمرأة فى مقابل الاستمتاع بها نظير أجر، والاستمتاع غير الزواج، والأجر غير المهر، فتكون الآية دليلا على جواز المتعة( ).
ويتمسكون من السنة بحديث جابر بن عبد الله وسلمة ابن الأكوع قالا " كنا فى جيش فأتانا رسول – مبعوث – رسول الله فقال " إنه قد إذن لكم أن تستمتعوا فاستمتعوا "( ) وهذا نص فى الإباحة.
وأيضا بما روى أن عمر بن الخطاب  قال " متعتان كانتا على عهد رسول الله  وأنا أحرمهما وأنهى عنهما بأن أعاقب عليهما، متعة النساء، ومتعة الحج"( ) . فيقولون أخبر عمر بإباحتهما على عهد رسول الله  وما ثبت إباحته بالشرع لم يكن لأحد تحريمه بالاجتهاد.( )
الرد على الشيعة:
الأدلة التى يتمسك بها الشيعة ثابتة ليس لأحد أن يجحدها ولكنها لا تفيد هذا الحل المزعوم.
1- فالآية الأولى :
ظاهرة فى حل النكاح، والمتعة باعترافهم ليست نكاحا( ) فلا يشملها الحل.
2-والآية الثانية :
اختلف فى معناها، والذى عليه الجمهور أنها تفيد حل المتعة ( ) غير أن حكمها نسخ بآيات الطلاق والعدة والميراث. روى ذلك عن غير واحد من الصحابة رضوان الله عليهم.
فقد روى الدارقطنى عن على كرم الله وجه قال" نهى رسول الله  عن المتعة، وإنما كانت لمن لم يجد، فلما نزل النكاح والطلاق والعدة والميراث بين الزوج والمرأة نسخت( ) .
وروى مثل ذلك عن ابن عباس( ) وابن مسعود( )، وأبى هريرة ( ) وسبرة الجهنى( ) وغيرهم من الصحابة والتابعين.
وأشد ما ورد فى النسخ هو ما روى عن عمر بن الخطاب، وهو الأثر الذى يتمسكون به، وسيأتى بيانه.
3-أما حديث جابر وسلمة فصحيح، ولكنها كانت رخصة إلى حين بل إن متعة النساء تعد فى رأى المحققين ومن غرائب الشريعة، لأنها أبيحت فى صدر الإسلام، ثم حرمت يوم خيبر، ثم أبيحت فى غزوة أوطاس ثم حرمت بعد ذلك ، واستقر الأمر على التحريم، وليس لها أخت فى الشريعة إلا مسألة القبلة، لأن النسخ طرأ عليها مرتين ثم استقرت بعد ذلك "( ) وقد روى عن سلمة نفسه قال
" رخص لنا رسول الله عام أوطاس فى المتعة ثلاثا ثم نهانا عنها"( )
4- ونأتى إلى الأثر المروى عن عمر  ، وهو يمثل فى نظر القائلين بالحل صيدا ثمينا، لأنه يوهم أن التحريم كان من عمر  ، ولهذا رفضوا التحريم الاجتهادى، وتمسكوا بالحل المنصوص.
وليس كما قالوا ، إذ أن عمر لم يتفرد بالنهى بل وافقه عليه كبار الصحابة( )، ونهيه لا يكون إلا عن منهى عنه( ) وسكوتهم على إعلانه وتحذيره لا يكون إلا عن قناعة وتصديق بأنه لا يصدر عن اجتهاد شخصى، وإنما عن دليل شرعى ثابت ، والقول بغير ذلك يوجب كما يقول الإمام الرازى
" تكفير عمر والصحابة أى تكفير الأمة، وهو على ضد قوله تعالى" كنتم خير أمة "( ) فالخيرية والكفر لا يجتمعان( ).
ثم إنه قد ثبت بروايات متعددة أن الصحابة كانوا يراجعون عمر فى الهين من الأمور ، فكيف لا يراجعونه فى أمر الحلال والحرام ، بل فى أمر اللذة والاستمتاع .
وفى مراجعة المرأة له وهو فوق المنبر الكفاية ، ففيما روى البيهقى أن عمر خطب الناس فقال " لا تغالوا فى صدقات النساء فلو كانت مكرمة لكان رسول الله  أولاكم بها ، فقالت امرأة أعطانا الله ويمنعنا ابن الخطاب ، قال عمر : وأين أعطاكم ؟ فقالت : بقوله "وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً " فقال عمر : أكلُ أفقه من عمر حتى امرأة" ( ).

5- وما يروى فى هذا الشأن عن ابن عباس أنه كان يجيزها فقد روى من غير طريق أنه رجع عنه بعد مناقشة الصحابة له ، يقول الماوردى " فصار الإجماع برجوعه منعقداً ، والخلاف به مرتفعاً ، وانعقاد الإجماع بعد ظهور الخلاف أو كد ، لأنه يدل على حجة قاطعة ، ودليل قاهر " ( ) .
وحاصل كل ذلك :
أن جمهور علماء المسلمين على أن المتعة كانت مباحة ثم حرمت وأن الحرمة باقية إلى يوم القيامة ، وقد انعقد إجماع الصحابة على هذا الحكم الذى لا يصح خلافه .
أثر التأقيت على الصيغة :
لا خلاف بين القائلين بحرمة المتعة ببطلان صيغة التمتع وعدم صلاحيتها لإنشاء عقد الزواج ، بل الشيعة أنفسهم يقولون إن المتعة شئ غير الزواج .
إنما وقع خلاف يسير فى أثر الصيغة المقترنة بالتأقيت هل تعتبر فى حكم المتعة فتبطل الصيغة ولا ينشأ بها عقد أصلاً ؟ أم أنها مجرد صيغة اقترنت بشرط باطل فيلغوا الشرط ويصح العقد ويقع مؤبداً ؟ .
جمهور العلماء يقولون بالأول ، والإمام زُفـَر من أصحاب أبى حنفية يقول بالثانى ( ) .
وجهة الجمهور : أن غرض التأقيت هو عين غرض المتعة ، والعبرة فى إنشاء العقود للمقاصد والمعانى لا للألفاظ المجردة والمبانى .
وجهة زفر : أن الصيغة ذاتها صالحة لإنشاء العقد ، ولكن اقترن بها شرط فاسد ، وهو ما يدل على التأقيت ، ومن المقرر فى القواعد الفقهية أن النكاح لا تفسده الشروط الفاسدة ( ) .
والراجح : هو قول الجمهور صيانة لعقد الزواج الذى غرضه دوام المعاشرة وحسن المعاملة الدائمة من النوايا الفاسدة ، والكلمات الخبيثة .
وفى التقنينات يلاحظ الآتى :
1- تميز التقنين السودانى بالنص صراحة على شرط التأييد ، فنص فى المادة 14 فقره أ على أنه " يشترط فى الإيجاب والقبول أن يكونا منجزين غير دالين على التأقيت " .
وهو تابع فى هذا لنص المادة 7 فقرة أ من مشروع القانون العربى الموحد ، وإن كان الأخير أشد وضوحاً حيث نص على أنه " يشترط فى الإيجاب والقبول أن يكونا منجزين غير دالين على التوقيت فلا ينعقد الزواج المعلق على شرط غير متحقق ، ولا الزواج المضاف إلى المستقبل ، ولا زواج المتعة أو الزواج المؤقت " .
2- خلا القانون السورى من النص على شرط التأقيت رغم أنه أفرد المادة 13 منه لشرط التنجيز ، وفصل فى المادة (11) شروط الإيجاب والقبول ومبطلات الإيجاب ، ومع هذا فإن الحكم ببطلان المتعة يمكن أن يؤخذ من نص(6) والتى تقضى بأن " يكون الإيجاب والقبول فى الزواج بالألفاظ التى تفيد معناه لغة أو عرفاً " والمتعة غير الزواج ، أما حكم التأقيت فيؤخذ من نص المادة14 فقرة (أ) ويبدو فيه الأخذ بمذهب الإمام زفر فقد نص على أنه " إذا قيد عقد الزواج بشرط ينافى نظامه الشرعى ، أو ينافى مقاصده ، ويلتزم فيه بما هو محظور شرعاً كان الشرط باطلاً والعقد صحيحاً " والتأقيت كالشرط إذا أدى تنفيذه إلى تحديد أمد الزواج " ( ).
3- وفى القانون اللبنانى نص صراحة على فساد نكاح المتعة والنكاح المؤقت ( مادة 55 ) وهو نص المادة 34 فقرة 6 من القانون الأردنى .
4- حصر التقنين العراقى شروط الانعقاد أو الصحة فى ستة شروط ، منها شرط التنجيز ولم ترد فيه أية إشارة إلى شرط التأبيد وحكم المتعة (مادة 6) اللهم إلا إذا فسرنا المادة الرابعة على غرار المادة 6 من القانون السورى .
5- لم يتعرض القانون المغربى إلى شرطى التنجيز والتأقيت البتة ولكن يمكن أن يؤخذ حكم المتعة من مفهوم عبارة الفصل الرابع منه على غرار (المادة6) من القانون السورى .
6- وفى مصر حيث لا نص تشريعى ينظم المسألة فيطبق الراجح من مذهب الإمام أبى حنيفة إعمالاً لنص المادة 280 من اللائحة الشرعية ، وقد علمت أن الراجح فى المذهب أن النكاح المؤقت كالمتعة كلاهما باطل .
نكاح التحليل
نكاح التحليل كنكاح المتعة فى المضمون وإن اختلف عنه فى الغرض فكلاهما يراد مؤقتاً لا مؤبداً ، وليس فيهما من أغراض الزواج كابتغاء الولد وإرادة المودة والرحمة وطلب السكن شئ .
ويختلفان فى أن المتعة تراد للتلذذ والاستمتاع ، والتحليل يتخذ وسيلة لتحل المطلقة ثلاثاً لمطلقها .
وقد قال بعض أهل العلم إنه " أغلظ فساداً من نكاح المتعة من وجهين :
أحدهما : جهالة مدته .
والثانى : أن الإصابة فيه مشروطة لغيره ، فكان بالفساد أخص" ( ) ويقول الإمام ابن تيمية " نكاح المتعة خير من نكاح التحليل من ثلاثة أوجه :-
أحدها : أنه كان مباحاً فى أول الإسلام بخلاف التحليل .
الثانى : أنه أرخص فيه ابن عباس وطائفة من السلف بخلاف التحليل فإنه لم يرخص فيه أحد من الصحابة .
الثالث : أن المتمتع له رغبة فى المرأة ، وللمرأة رغبة فيه إلى أجل ، بخلاف المحلل فإن المرأة ليس لها رغبة فيه بحال ، وهو ليس له رغبة فيها ، بل فى آخذ ما يعطاه ، وإن كان له رغبة فهى من رغبته فى الوطء ، لا فى اتخاذها زوجة ، من جنس رغبة الزانى ، ولهذا قال ابن عمر " لا يزالان زانيين وإن مكثا عشرين سنة " إذ الله أعلم من قلبه أنه يريد أن يحلها له ، ولهذا تعدم فيه خصائص النكاح – من المودة والرحمة والإعلان والوليمة والفرح … وتنتهك به حرمات الله فى العدة ، فتخطب المرأة تصريحاً فى العدة ، وتواعد سراً ، ويعزمان عقد النكاح قبل أن يبلغ الكتاب أجله ، وكل ذلك حرام بكتاب الله تعالى واتفاق المسلمين فى عدة الموت ، وهو فى عدة الطلاق أشد ( ).
وهؤلاء أهل التحليل قد يواعد أحدهم المطلقة ثلاثاً ، ويعزمان قبل أن تنقضى عدتها ، وقبل نكاح الثانى على عقده النكاح بعد النكاح الثانى ، أى نكاح المحلل، ويعطيها ما تنفقه على شهود عقد التحليل وللمحلل ، وما ينفقه عليها فى عدة التحليل ، والزوج المحلل لا يعطيها مهراً ولا نفقة عدة ، ولا نفقة طلاق ، فإن كان المسلمون متفقين على أنه لا يجوز فى هذه وقت نكاحها بالثانى أن يخطبها الأول تصريحاً ولا تعريضاً فكيف إذا خطبها قبل أن تتزوج بالثانى ؟ وإذا كان بعد أن يطلقها الثانى لا تحل للأول أن يواعدها سراً ولا يعزم عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله ، فكيف إذا فعل ذلك من قبل أن يطلق ؟ بل قبل أن يتزوج ؟!!‍‍ ،‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ بل قبل أن تنقضى عدتها منه ؟!! ، فهذا كله يحرم باتفاق المسلمين ، وكثير من أهل التحليل يفعله .
وليس فى التحليل صورة اتفق المسلمون على حلها ، ولا صورة أباحها النص ، بل من صور التحليل ما أجمع المسلمون على تحريمه ( ) ومنها ما تنازع فيه العلماء … وهذا وغيره يبين أن من التحليل ما هو شر من نكاح المتعة، وغيره من الأنكحة التى تنازع فيها السلف … فنكاح تنازع السلف – الصحابة – فى جوازه أقرب من نكاح أجمع السلف على تحريمه ، وإذا تنازع فيه الخلف – التابعون ومن بعدهم – فإن أولئك – أى السلف – أعظم علما ودينا"( ).
ويتضح من كلام شيخ الإسلام عدة أمور :
أولها : أن نكاح التحليل أشد فساداً من نكاح المتعة ، أو أن الثانى أخف منه فى الدين والدنيا ، وإذ ثبت أن المتعة على حالها هذا حرام ، فنكاح التحليل أشد حرمة ، ولهذا استحق فاعلوه اللعن بقول النبى  " لعن الله المحلل والمحلل له " ( ) واللعن لا يكون إلا على كبيرة .
والثانى : أن المحلل مستأجر فى الغالب ولذلك سماه النبى  " التيس المستعار " ( ) فهو رجل يراد للإنزاء على المرأة مقابل أجر .
الثالث : أن كلام الإمام صريح أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعوا على تحريم التحليل ( ) ، وقد ثبت ديانة وواقعاً أنهم أعظم دينا وأكثر علما ، ومن ثم فإنه لا ينبغى أن يؤبه بأى قول من غيرهم ( ) بعد إجماعهم هذا .
ومن هنا فإنه ينبغى أن لا يفرق فى الحكم بين من نوى التحليل فى نفسه ولم يصرح به ، وبين من دخل فيه بالاتفاق ، سواء نص عليه فى صيغة الزواج، أو لم يذكره ، ففى كل الأحوال " لا يكون النكاح الدائم هو المقصود ، وظاهر شمول اللعن فساد العقد لجميع الصور ، وفى بعضها خلاف بلا دليل ناهض فلا ينشغل بها " ( ) .
نكاح التحليل فى عصر الصحابة :
ذكر الإمام ابن تيمية أن التحليل وجد فى عهد النبى  والخلفاء الراشدين من بعده ، ولكنه كان من الندرة بمكان ، وكان كالعهد به دوما يقع سراً " ولم ينقل أحد عن النبى  ولا خلفائه الراشدين أنهم أعادوا المرأة على – مطلقها – بنكاح تحليل " .
ويكشف عن سريته الشديدة قول النبى  " لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه ، ولعن المحلل والمحلل له " . فلم يذكر فى التحليل شاهدين ولا كاتب ، لأن أمر التحليل كان يكتم بين المحلل والمحلل له ولا يطلع عليه أحد.
والسر فى ندرته عندهم أنهم " لم يكونوا يحتاجون إليه فى الأمر الغالب ، إذ كان الرجل إنما يقع منه الطلاق الثلاث إذا طلق بعد رجعة أو عقد فلا يندم بعد الثلاث إلا نادر من الناس ، وكان يكون ذلك بعد عصيانه ، وتعد يته لحدود الله فيستحق العقوبة ، فيلعن من يقصد تحليل المرأة له ، ويلعن هؤلاء أيضاً لأنهما تعاونا على الإثم والعدوان " ( ) .
إذن سر عدم الاحتياج إلى التحليل يكمن فى التزام شرع الله سبحانه فى أمر الطلاق .
الالتفاف حول حكم التحليل فى العصور المتأخرة .
حديث " لعن الله المحلل والمحلل له " حديث حسن صحيح لم يقدح فيه أحد قط ، فقد روى عن جماعة من الصحابة ، وأخرجه جمع من أئمة الحديث ، ومورده كما تشير الوقائع فى عصر الصحابة ، بل حسبما نشاهد فى الواقع اليوم فى " هذا – المحلل – الذى أضمر التحليل أو واطأ عليه ، فهذا هو الذى لعنه رسول الله  " ( ) ومع هذا وجدنا بعض المتأخرين يتأولون " حديث اللعن " على من تزوج بشرط أن يطلقها ليحلها للأول ( ) ، أو يتأولونه على الكراهة ( ) بل بالغ بعض الناس فقالوا " لو تزوجها بنية التحليل من غير شرط فهو مثاب مأجور " ( ) .
وفى رأى الإمام ابن تيمية :
أن ما حدا بالناس إلى التخصيص والتأويل ، بل وادعاء الثواب كثرة وقائع الطلاق التى أسهم فيها المفتون بالترخص فى وقوع طلاقات ما كان لها أن تقع لو أنهم التزموا فى الفتوى مقاصد الشرع فى باب الطلاق – وسترى ذلك فى الكتاب الثانى من هذا التصنيف – وإذ ذاك "رأى حزب أن يزيلوا عن الناس ذلك الحرج العظيم بأنواع من الحيل التى تعود بها المرأة لزوجها ، وكان مما أحدث أولاً نكاح التحليل ، ورأى طائفة من العلماء أن فاعله يثاب ، لما فى ذلك من إزالة تلك المفاسد ، بإعادة المرأة إلى زوجها ، وكان هذا حيلة فى جميع الصور لرفع وقوع الطلاق " ( ) ، فعولج الخطأ بخطأ أشد ( ).
الأتباع قالوا بما لم يقله الأئمة :
فيما خلا الإمام ابن حزم الظاهرى لا أجد أحداً من أئمة مذاهب أهل السنة يستبيح التحليل المضمر ( ) ، وما نسب إلى الإمام أبى حنيفة فى هذا الشأن ضعفه محققوا الحنفية ، قال الكمال " هذا مما لم يعرف فى ظاهر الراوية ، ولا ينبغى أن يعول عليه ولا يحكم به ، لأنه مع كونه ضعيف الثبوت تنبو عنه قواعد المذهب " ( ) وما خـُرِّج على قوله فى " من نوى بالتحليل قصد الإصلاح " من صحة نكاحه اعترضه البعض " بأن الثابت عادة كالثابت نصاً ، أى فيصير شرط التحليل كأنه منصوص عليه فى العقد فيكره " ( ).
والحقيقة أن الذى نقل من قول أئمة الحنفية والشافعى بصحة عقد "المـُضْمـِر" مرجعه إلى الاعتداد بالعبارة الظاهرة – مجرد الصيغة – ما دامت سليمة ( ) ولا عبرة بالقصد الخفى ، لأننا أمرنا أن نحكم بالظاهر ، والله يتولى السرائر ، فالعقد على هذا صحيح ، وأمر المتعاقد إلى ربه يحاسبه عليه فى الآخرة ، إذن ليس ملحظه قبول التحليل ، وإن كان مضمراً ، بل مرد هذا القول إلى ما يكون عليه التعويل أهو الظاهر أم الباطن ( ).
ومع هذا فإن جمهور أهل الفقه يقولون ببطلان هذا النكاح الذى أضمر فيه التحليل للحديث ، ولإجماع الصحابة ، ولأنه قصد به التحليل فلم يصح كما لو شرطه . ( )
بقى قول أهل الظاهر فى أن " المضمر " بعيد من اللعن ، وهو قول أكثر متأخرى الحنفية وبعض آل البيت وبعض التابعين .
والجواب عليه : أننا لم نعهد " محللاً " يصرح بنيته فى التحليل مع فساد زماننا فما بالنا بالعصور الخيرة التى ورد فى أثنائها النهى ، وحصل عليه الإجماع ، وكيف لمؤمن بالله ورسوله أن يقدم بين يدى الله ورسوله ( ) فينكح نكاحاً على خلاف مقصود الإسلام من النكاح ، ويجترئ على نهى رسول الله  ويدخل فى عداد الذواقين ، ويعبث بحكمه الله فى تحريم المطلقة ثلاثاً على زوجها ، ويبقى مع كل ذلك خارج دائرة الذم إن هذا لقول عجاب .
مدى اعتبار الجانب النفسى فى صحة الصيغة " نكاح الهازل " :
النصوص الشرعية فى اشتراط الرضا فى الزواج كثيرة ومتنوعة ، فمنها الصريح كما سنرى فى مباحث الولاية ، ومنها ما يفيد بلوازمه حرص الشارع الحنيف على أن يكون الرضا فى عقد الزواج رضاء خالصاً تاماً نقيا بعيداً عن كل المؤثرات ، وأكثر ما يلفت إلى هذا الروايات الواردة فى شأن الخطبة والنظر فمقصدها كما صرح بعضها الإدام والمحبة ، ولا سبيل إليهما إلا بالرضا .
والرضا كما حده صاحب كشف الإسرار " عبارة عن امتلاء الاختيار ، أى بلوغه نهايته ، بحيث يظهر أثره فى انبساط الوجه وبشاشته ونحو ذلك ، فإن انبساط الوجه وبشاشته أثران لنيل المطلوب مع الرغبة فيه ، وما علمنا لأحد خلافاً فى تفسير الرضا فى لسان الشرع على هذا الوجه " . ( )
والمعنى أن الرضا يتحقق بالطلب مع الرغبة فى المطلوب ، فإن وجد مجرد الطلب لم يتحقق الرضا ، ومجرد الطلب هو ما يعبر عنه فقها بالإرادة الظاهرة ، ويعبر عن الرغبة فى المطلوب بالإرادة الباطنة أو النية .
اعتبار الهزل فى النكاح :
أعمل جمهور الفقهاء الرضا بالتفسير السابق فى كافة العقود والتصرفات إلا خمساً منها اعتدوا فيها بمجرد الإرادة الظاهرة دون الباطنة ، وهذه الخمسة هى " الزواج والطلاق والرجعة والعتق واليمين " صيانة لها عن الاستهزاء واللعب ، ولشدة تعلق حق الله بها . ( )
والذى حدا بجمهور الفقهاء إلى إقامة عبارة هذه التصرفات المستثناه مقام معناها ، والاكتفاء فى صحتها بإرادة التعبير هو ما روى عن النبى  أنه قال "ثلاث هزلهن جد – بكسر الجيم – وجدهن جد ، الطلاق والنكاح والرجعة " ( ) حيث سوى فى إنشاء النكاح بين الرغبة فى المطلوب " الجد " وعدم الرغبة فيه " الهزل " .
يوضحه ما روى من طريق آخر بلفظ آخر أن النبى  قال " من نكح لاعباً جاز " ( ) وقد روى عن عمر وعلى رضى الله عنهما مثل ذلك ( ) .
وقد قنع جمهور العلماء بسلامة هذه المرويات ومن ثم فهى عندهم مخصصة لعموم الحديث الشهير " إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرأة ما نوى " وتأولوها على معنى أن العبد فى النكاح وأخواته – الطلاق ، العتاق الخ – لا يملك إلا الإتيان بمجرد السبب – أى التعبير - ، أما موجب السبب – أى أثره – فهو من جعل الشارع سبحانه وتعالى ، ولا يقف على اختيار المعبر وإن كان هازلاً ، ثم إن النكاح يشبه العبادات فى نفسه ، وفيه حق لله تعالى ، فهو يفيد حل ما كان حراماً على وجه لو أراد العبد حله بغير ذلك الطريق لم يمكن ، ولو رضى الزوجان ببذل البضع لغير الزوج لم يجز ، ويفيد حرمة ما كان حلالاً ، وهو التحريم الثابت بالمصاهرة ، فالتحريم حق لله سبحانه وتعالى ، ولهذا لم يستبح إلا بالمهر ، وإذا كان كذلك لم يكن للعبد مع تعاطى السبب الموجب لهذا الحكم أن يقصد عدم الحكم ، كما ليس له ذلك فى كلمات الكفر ، قال سبحانه " أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون . لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم " ( ) لأن الكلام المتضمن لمعنى فيه حق لله سبحانه وتعالى لا يمكن قبوله مع دفع ذلك الحق ، فإن العبد ليس له أن يهزل مع ربه ، ولا يستهزئ بآياته " ( )
ويكشف آخر هذا التعليل أن الهازل بالنكاح لا يعتد بهزله وإنما يلزم بالنكاح عقوبة له ، ومعاملة له بنقيض مقصوده قال ابن تيمية " الهازل اللاعب بالكلام غرضه التفكه والتلهى والتمضمض بمثل هذا الكلام من غير لزوم حكمه له ، فأفسد الشارع عليه هذا الغرض بأن ألزمه النكاح ، وثبت فى حقه النكاح ، ومتى ثبت النكاح فى حقه تبعته أحكامه " . ( )
هذه وجهة الجمهور وقد بسطتها قدر ما سمح المقام ، ولا أخفى أننى كنت منذ عرفت شيئاً من فقه النكاح شديد الإعجاب بها ، والتسليم الفطرى بأدلتها، ربما لنشأتى القروية التى ألبست كل شئ – فى نظرى – ثوب الجد ، خاصة فى أمور النكاح التى تسبق عادة بمقدمات وممهدات طويلة تنفى أى احتمال للهزل فى هذا الموطن الكريم ، وعددت فى نفسى مسألة الهزل فى النكاح من قبيل الفقه الافتراضى ، ربما لأننى كنت فى كل مراحل تعليمى بعيداً عن الأنثى المخالطة – الزميلة – التى يتصور أن يجرى معها مثل هذا التفكه والهزل، ومن هنا لم يخطر ببالى أبداً أن أناقش مسألة " الهزلية " حتى مع نفسى حتى كان يوم من شتاء عام 1992 وسألتنى أحدى تلميذاتنا السودانيات بفرع جامعة القاهرة بالخرطوم مسألة مفادها أنها بينما كانت مع الزملاء والزميلات فى جلسة مزاح إذا بزميل لها يقول مخاطباً إياها مازحاً : زوجينى نفسك ، فقالت مازحة : زوجتك نفسى ، وانفض الجمع ، وفى اليوم التالى فوجئت بالزميل يداعبها فنهرته ، فقال لها أنت زوجتى ، قالت : كيف ذلك ؟ قال : تزوجنا بالأمس، فقالت ما كان إلا مزاحاً . قال : كنت أظنه كذلك فسألت شيخاً فقال لى : لا لعب فى الزواج ، ثلاث جدهن جد ، وهزلهن جد ، النكاح والطلاق والرجعة".
عندئذ فقط استشعرت الخطر فى المسألة ، وهـِبْتُ أن أقول بما أعلم من قول الجمهور فى المسألة ، وقلت لها اعتزلى هذا الشاب وسلى غيرى من أهل العلم الثقات ، ولم أعرف بعد ماذا قيل لها .
وبعد خمس سنوات من هذه الواقعة فوجئت بإحدى فتياتنا بكلية حقوق بنى سويف تسألنى عن واقعة مماثلة تماماً فأدركت أن الخطر قد عم ، وأن المسألة قد غدت فى حاجة ملحة إلى تمحيص فأعدت بحثها خاصة وقد حفزتنى عبارة للداعية الشيخ محمد الغزالى يقول فيها " صحيح أن لرأى الجمهور وزنا يجعلنا نمعن النظر فيما خالفه ، ولا نخزج عنه إلا لاعتبارات أقوى منه ، ولكنه ليس معصوماً على كل حال ، وكم من صحابى انفرد عن سائر الصحابة برأى لم يوافق عليه سائرهم ولا يضره ذلك ، وكم من فقهاء التابعين من كان له رأى خالفته آراء الآخرين ، ولم يسقط ذلك قوله ، فالمدار على الحجة لا على الكثرة"( ) .
لا يصح النكاح إلا مع القصد :
حكى الإمام ابن تيمية قولاً عن الإمام مالك أن نكاح الهازل لا يجوز ، قال سليمان إذا علم الهزل ، وإن لم يعلم فهو جائز ، وقال بعض المالكية فإن قام دليل على الهزل لم يلزمه عتق ولا طلاق ولا نكاح ، ولا شئ عليه من الصداق .
قال " وذكر بعض الشافعية أن نص الشافعى أن نكاح الهازل لا يصح بخلاف طلاقه ". ( )
قلت : ومذهب أهل الظاهر أن تصرفات الهازل لا تقع فلا يصح نكاحه ولا يقع طلاقه ( ) وهو ما ينسبه بعض العلماء إلى الجعفرية .
ومستند هذا الرأى الحديث المشهور " إنما الأعمال بالنيات " ( ) والهازل لا نية له .
تأمل فى الأداة
أدلة القائلين بصحة نكاح الهازل اكتفاء بعبارته دون قصده متعددة كما رأينا ، أما المعارضون فلهم دليل واحد ، هو حديث النية ، وهذا فى رأيى لا يضعف قولهم ، لأن حديث النية ثابت مشهور لا منازع فيه ، وقد اتفق جمع من الفقهاء والمحدثين على أنه ثلث العلم أى أحد القواعد الثلاث التى ترد إليها جميع الأحكام ، ومنهم من قال ربعه ( ) .
أما لب مستند المعارضين فهو حديث " ثلاث جدُهن جد وهزلهن جد " والروايات الأخرى التى فى معناه ، وكلها روايات لا تسلم من النقد ، وقد شنع عليها الإمام ابن حزم حتى وصفها بالوضع ( ) – أى أنها مكذوبة – وإن كان بعض أهل العلم قد زكى حديث " ثلاث جدهن جد " وقال إنه حسن ( )
والسؤال : هل يرقى حديث " الثلاث " إلى درجة أن يخصص الحكم الثابت بحديث النية ، والتخصيص نسخ جزئى ؟ ( )
لقد رأيت الإمام أحمد بن حنبل يأخذ به تارة ويتركه أخرى ، وكذلك فعل الإمام مالك ، وبعض أصحابه ، وهو نص الشافعى كما ذكر بعض أصحابه وهو قول جماعة من أئمة الشيعة .
والعجب أن الإمام أحمد اعتبر النية فى صريح الطلاق فى أحد قوليه ( ) ولم يعتبرها فى الزواج ، فإن كان كلاهما قد ذكرا فى الحديث ، فعلى أى وجه فرق بينهما ؟ أهو حماية الأسرة من التصدع بالطلاق ؟ إن كان كذلك فالزواج أولى أن يحمى ابتداء ، فالوقاية – كما يقولون – خير من العلاج ، وهى حكمة تجد أسانيد كثيرة فى شرعنا الأغر .
وقد يكون تحوط العلماء لنشأة الزواج وصحته بالنص – استقاء من الأدلة الشرعية – على شروط عدة تستلزم الجدية كاشتراط الولى والشهود واستحباب الدعوة والوليمة ونحو ذلك ( ) قد أغناهم عن التوقف طويلا أمام الهزلية فى النكاح فرأوها من قبيل النوادر، ومن ثم لم يشغلهم من أمرها إلا سد بابها لكى يتجنب اللاهون العبث بشأنها، ولكن الحقيقة أن المسألة مبسوطة فى المصنفات مما ينفى هذا التبسيط.
الحقيقة أننى لا أجد عندى جوابا شافيا لهذا التردد إلا أن " مجموع النصوص الدينية يؤيد اشتراط القصد والنية "( ) ومن ثم فإن مفارقة هذا الحكم العام لا يقع إلا بحذر استنادا إلى دليل خاص ، تقويه المصلحة أو دفع المفسدة.
وفى رأيى:
فإن مفسدة اللهو فى موطن الجد ليست بأشد خطراً من استحلال بضع بكلمة هازلة، لا يمكن أن تكون بحال هى كلمة الله ( ) ولا يمكن أن يؤخذ بها ميثاق غليظ( ) أراده الله، ولا يظن أبدا أن تصلح مدخلا للسكن والمودة والرحمة، وتحقيق البقاء المقدور إلى يوم القيامة.
وإذا تصورنا المؤاخذة على الهزل فى الطلاق عقوبة للعابثين ليعودوا إلى رشدهم، فكيف نتصورها عقوبة فى الزواج ، وهو نعمة ، وخير فائدة يستفيدها المرء إذا صلحت زوجه بعد تقوى الله؟؛؛
ولا يقال إن لله فى الزواج حقا، فهذه ليست خصوصية فى الزواج، بل هى فى كل حكم، يقول الشاطبى " كل حكم شرعى ليس بخال عن حق الله تعالى وهو التعبد"( ).
ولا يقال إن آثار الزواج جعلية، فهذه سمة كل العقود بلا استثناء.
بقى حديث " ثلاث جدهن جد إلخ " وقد ظهر أنه ضعيف، وإن ثبتت صحته فإنه معارض بما هو أقوى منه، والعمل بالأقوى يقدم على العمل بالأضعف، ثم إنه يحتمل معنيين خلافا لما قال الجمهور.
أولهما: أن الهزل لا يجوز فى النكاح والطلاق…إلخ. فإذ لا يجوز فيها فهى غير واقعة به، وقد قال على كرم الله وجهه: ثلاث لا لعب فيهن.. ولو صح فظاهره إبطال اللعب فيهن، فإذاً بطل ما وقع منها باللعب.( )
‏الثانى : أنه ربما صدر تعنيفا لدعىّ شهدت قرائن الأحوال أنه عزم ثم ادعى أنه كان هازلا، فعومل باعتبار ظاهر حاله، يقويه ما روى من قول النبى  " ما بال أقوام يلعبون بحدود الله، يقول أحدهم قد طلقت، قد راجعت"؟( ).
وخلاصة القول أننى أرى القول بعدم صحة نكاح الهازل أرجح بالنظر إلى الدليل، وإلى خطر النكاح من القول بصحة النكاح مع الهزل، نعم يستحق الهازل بالنكاح عقابا( ) ولكن من جنس ما يعاقب به عادة لا من جنس النعمة.
أثر الشروط المقترنة بالصيغة على صحتها
الأصل أن تصدر الصيغة – الإيجاب والقبول – مطلقة عن الشروط والقيود، فترتب آثارها على أساس هذا الإطلاق، ولكن قد يجد المتعاقدان أو أحدهما أن هناك مصلحة تقتضى تقييد الصيغة ، فيلجآن أو أحدهما إلى الاشتراط، كمن يتزوج امرأة فتقبل بشرط أن يكون أمر طلاقها بيدها، أو ألا يسافر بها، أو ألا يتزوج عليها.
وقد عرفت فى نظرية العقد أن من أسس التعاقد حرية التعاقد، وهذه الأخيرة تكفل حرية الاشتراط، غير أن هذه الحرية مقيدة بجعلية العقود، بمعنى أن آثار العقود ونتائجها تترتب بجعل الشارع ووضعه ليتوصل بها إلى مسبباتها التى أوجبها وجعلها آثاراً لها.
ومن جانب آخر فإن الشروط تتبع رغبات المتعاقدين، مما يجعلها بابا براحا للرغبات، وتركها بلا قيود قد يؤدى إلى تغيير المشروع، وتبديل نظم التعامل المشروع، لهذا فقد أجاز الشارع من الشروط ما يلائم المشروعية ويحفظ مقاصد التشريع، وعلى هذا اتفق الفقهاء فى الجملة، ولكنهم اختلفوا فى نقطتين أساسيتين:-
أولهما: هل الأصل فى الاشتراط الحظر أم الإباحة ؟.
الثانية: أثر الشرط فى العقد.
أما عن النقطة الأولى : فالفقهاء فى تقديرها على فريقين إجمالا ، فبعضهم يرى أن الأصل الحظر، ومن ثم فإنه يرى الاشتراط استثناء على الأصل فلا يجيزه إلا بقدر إعمالاً لنص أو إجماع أو مراعاة لعرف، أو لكون الشرط يقتضيه العقد، أو يلائم مقتضاه.
والبعض الآخر : يرى أن الأصل فى الاشتراط الإباحة، ومن ثم فإنه لا يرفض الشرط إلا اعتبارا لنهى شرعى ، أو نظرا لطبيعة الشرط التى تنافى مقتضى العقد، أو تعلق الالتزام على أمر خارج عن طرفى العقد…
وينبغى أن يعلم أن هذه هى النظرة الإجمالية، أما من حيث التفصيلات فدائرة الاستثناء متفاوتة عند القائلين بالحظر، وكذلك دائرة المنع متفاوتة بين القائلين بالإباحة، والتفصيلات فى نظرية العقد فارجع إليها.
تطبيق نظرية الشروط فى عقد الزواج:
الزواج عقد، وإن كان ليس ككل العقود، ومن ثم فإن الاشتراط فيه كالاشتراط فى غيره من العقود إجمالا، وقد عرفت آنفا أن الفقهاء منقسمون فى حكم الاشتراط على فريقين، فريق يحظر فلا يجيز إلا استثناء وآخر يجيز فلا يمنع إلا لمقتضى.
ومراعاة لما يجرى عليه العمل فى مصر والدول العربية فإننا سنقتصر على عرض وجهتى الحنفية والحنابلة باعتبارهما المراعتين فى التطبيق.
الاشتراط وأثره فى مذهب الحنفية:
يقسم الحنفية الشروط إلى قسمين:
1- شروط صحيحة:
وهى كل شرط ورد بجوازه الشرع ، أو جرى به العرف ، أو كان مما يقتضيه العقد، أو يؤكد ما يقتضيه ، أو يلائمه.
ومثال الشرط الذى ورده بجوازه الشرع كل أمر لم يمنعه الشرع ولا ينافى مقتضى الزواج كقبولها الزواج على أن تتم تعليمها أو أن يكون أمر طلاقها بيدها تطلق نفسها متى شاءت وهكذا ، ومثال ما يجرى به العرف: الاشتراط فى المهر نوعا وكيفية آداء ، ومثال ما يؤكد مقتضى العقد: أن تشترط الزوجة على زوجها أن يكون والده ضامنا للمهر، أو يشترط هو أن تكون سالمة من العيوب التى تمنع الاستمتاع…وإنما جاز هذا النوع من الشروط لأن من مقتضى الزواج ثبوت المهر للزوجة والاستمتاع بها للزوج – ولها هى أيضا كذلك – واشتراط الضامن يؤكد حقها واشتراط السلامة يؤكد حقه.
أما ما يقتضيه العقد فشرطه وعدمه سواء فمن تشترط على زوجها أن يحسن معاملتها ، كمن لا تشترط.
والشرط الصحيح يلزم الوفاء به، ولكن لا يترتب على عدم الوفاء فسخ العقد لما سنرى .
2- شروط غير صحيحة:
وهى كل شرط لا يقتضيه العقد ولا يؤكد ما يقتضيه ولم يرد بجواز نص، ولم يجر عليه عرف.
ومثاله الشهير: أن تشترط الزوجة على زوجها أن تسكن قريبا من أمها وأسرتها،أو ألا ينقلها من بلدها، أو أن يشترط هو أن يتزوجها بدون مهر، أو أن تنفق هى على البيت، أو أن يعقد عليها مع وليها دون أن يراها ويشترط لنفسه الخيار فى إمساكها وردها.
والشرط غير الصحيحة تبطل ولكنها لا تؤثر على العقد ، فيبقى صحيحا لازما ، لأن القاعدة عندهم أن النكاح لا تبطله الشروط الفاسدة ، وعلة ذلك كما يقول السرخسى " أنه عقد لا يحتمل الفسخ بعد تمامه ويقول لا معتبر لتمام الرضا فى باب النكاح فإنه لو تزوجها بشرط أنها بكر شابة جميلة ، فوجدها ثيبا عجوزا شوهاء لها شق مائل وعقل زائل، ولعاب سائل فإنه لا يثبت له الخيار ، وقد انعدم الرضا منه بهذه الصفة"( )
وبمذهب الحنفية يجرى العمل فى مصر تطبيقا لنص المادة 280من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية.
الاشتراط وأثره فى مذهب الحنابلة:
الحنابلة هم أكثر الفقهاء توسعة فى إجازة الاشتراط خاصة فى باب النكاح تمسكا بقول النبى  " إن أحق ما أوفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج"( )
وهم وإن كانوا موسعين ابتداء إلا أن شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه النجيب ابن قيم الجوزية زادا من هذه السعة.
يقول شيخ الإسلام " ويجوز أحمد أيضا فى النكاح عامة الشروط التى للمشترط فيها غرض صحيح ، لما فى الصحيحين عن النبى  " إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج" ومن قال بهذا الحديث قال إنه يقتضى أن الشروط فى النكاح أوكد منها فى البيع والإجارة … فيجوز أحمد أن تشترط المرأة ما يملكه الزوج بالإطلاق ، فتشترط أن لا تسافر معه ، ولا تنتقل من دارها وتزداد على ما يملكه بالإطلاق، فتشترط أن تكون مخلية به فلا يتزوج عليها، ويشترط كل واحد من الزوجين فى الآخر صفة مقصودة كاليسار والجمال ونحو ذلك، ويملك الفسخ بفواته، وهو من أشد الناس قولا بفسخ النكاح وانفساخه، فيجوز فسخه بالعيب كما لو تزوج عليها، وقد شرطت عليه ألا يتزوج عليها ، وبالتدليس كما لو ظنها حرة فبانت أمة، وبالخلف فى الصفة على الصحيح"( )
ومعنى هذا أن كل شرط لم ينه عنه الشارع سبحانه فهو جائز، والجائز من الشروط يجب الوفاء به للحديث الذى روينا، وأيضا لقول النبى  "المسلمون على شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا"( ) ومقصود الشرط الصحيح عامة " وجوب ما لم يكن واجبا ولا حراما"( )
فإن ورد عن هذا الشرط نهى ، أو كان منافيا لمقتضى العقد فإنه لا يصح ويبطل.
فإن كان الشرط باطلا للنهى عنه فإنه يبطل النكاح أيضا كالمتعة واشتراط التأقيت، واشتراط الخيار ، وكذلك إن جعل صداقها تزويج امرأة أخرى وهو نكاح الشغار( ). وإن بطل الشرط لأنه ينافى مقتضى العقد، فإن بطلانه لا يؤثر على صحة العقد ، فيسقط الشرط – أى يعتبر كأن لم يكن – ويصح العقد ومثاله كما فى المغنى " أن يشترط ألا مهر لها، أو يعزل عنها – تجنبا لحدوث حمل – أو يقسم لها أقل من قسم صاحبتها أو أكثر – فى حالة النهار دون الليل، أو شرط على المرأة أن تنفق عليه أو تعطيه شيئا، فهذه الشروط كلها باطلة فى نفسها، لأنها تنافى مقتضى العقد، ولأنها تتضمن إسقاط حقوق تجب بالعقد قبل انعقاده فلم يصح، فأما العقد فى نفسه فصحيح، لأن هذه الشروط تعود إلى معنى زائد فى العقد لا يشترط ذكره، ولا يضر الجهل به فلم يبطل"( )
ولاشك أن مذهب الحنابلة هو الأوفق إلى الرغبات ، وحماية المصالح الخاصة، لا سيما وقد ظهر أن أكثر ما يبديه الخاطبان قبل الزواج من عهود ومواثيق لولاها ما تم الزواج ، كثيرا ما لا ينجز ، فينشأ الشقاق، وتسوء العشرة، ويتعرض الطرفان خاصة المرأة لمتاعب جمة.
إزاء هذا عدلت تقنيات عربية كثيرة عن الأخذ بمذهب الحنفية فى دائرة الشروط إلى مذهب الحنابلة، مع الإبقاء على قاعدة الحنفية الشهيرة " أن الشروط الفاسدة لا تبطل النكاح" وهى أعم مما عند الحنابلة( ).
والمعتبر من الشروط الصحيحة " ما ذكر فى صلب العقد كأن يقول زوجتك ابنتى فلانة بشرط كذا، ويقبل الزوج على ذلك ، وكذا لو اتفقا عليه قبل العقد..قاله الشيخ وغيره..لأن الأمر بالوفاء بالشروط والعقود والعهود يتناول ذلك تناولا واحداً، وقال فى فتاويه : إنه ظاهر المذهب ومنصوص أحمد ، وقال فى الإنصاف وهو الصواب الذى لاشك فيه ، ولا يلزم الشرط بعد العقد ولزومه لفوات محله"( ).
وعلى هذا فإن المشترط قبل إجراء العقد أو فى صلبه له أن يطالب بما اشترط ما دام صحيحا، فإن لم يجب ، أو أخل الطرف الثانى بالشرط فإن له الحق فى طلب الفسخ ، أما الاشتراط بعد العقد فلا عبرة به.
هذا هو مذهب الحنابلة فى توقيت الاشتراط الملزم ولكننا لا حظنا أن التقنينات التى أخذت به، قد اكتفت بالمجمع عليه فى المذهب فقط ، وهو الاشتراط فى صلب العقد ( )، وأغفلت الاشتراط قبل العقد، وهذا فى رأيى قصور، لأن من الناس من يرضى على نفسه شروطا ولكنه يأنف من ذكرها فى مجمع الناس عند العقد، كذلك المشترط قد تكون له رغبة فى شرط مشروع ، ولكن يمنعه من التصريح بها الحياء من المحفل، وإتاحة الفرصة للاشتراط فى حضرة شاهدين مرتضين يحقق هذا.
ومن ناحية أخرى فإن أكثر هذه التقنينات حرصت على النص على رسمية الاشتراط ، أعنى ذكر الشرط صراحة فى وثيقة العقد ، وهذا لاشك يقطع النزاع حول الشرط مستقبلا سواء بالنظر إلى وجوده أو إلى مضمونه.( )
وفى دائرة الشروط الصحيحة:
أبرز القانون المغربى اشتراط المرأة على زوجها فى عقد نكاحها ألا يتزوج عليها، وإذا لم يف الزوج بما التزم به يبقى للزوجة حق طلب فسخ النكاح.(الفصل 31) وليس فى نصوص القانون ما يشير إلى حق الاشتراط فى أمور أخرى.
وأخذ القانون اللبنانى بقول أبى الخطاب من الحنابلة فى صحة اشتراط طلاق الضرة،" لأنه – فى رأيه – لا ينافى العقد ولها فيه فائدة" ونص على هذا الشرط خاصة فى المادة (38) بعبارة " إذا تزوج امرأة وشرطت عليه ألا يتزوج عليها أو إن تزوج فهى أو المرأة الثانية طالق ، فالعقد صحيح، والشرط معتبر" وهذا خطأ لأن اشتراط طلاق الضرة شرط باطل بالحديث الصحيح " لا تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفئ ما فى صفحتها، ولتنكح فإن لها ما قدر لها"( ).
وللأسف فإن القانون السورى قد أخذ بمضمون هذا الشرط الباطل فصححه، وإن لم يلزم به الزوج، ولكنه أعطى للزوجة طلب الفسخ إذا لم يف الزوج بالشرط الذى " يمس حقوق غيرها" ( مادة 14 فقرة ح ).
وفى أثر عدم الوفاء بالشرط:
لوحظ أن المقنن العراقى قد نص على أن " للزوجة طلب فسخ العقد عند عدم إيفاء الزوج بما اشترط ضمن عقد الزواج ( مادة 6 بند 4 ) والاقتصار على الزوجة يعنى إسقاط حق الرجل بطلب الفسخ لعدم إيفائها بشروطه، مع أن له فى ذلك مصلحة ولو فى إسقاط نفقة العدة عنه.
وأخيرا فإن مذهب الحنابلة يقرر أن " كل موضع فسخ فيه النكاح مع صحته – أى بناء على عدم الوفاء بشرط – قبل الدخول فلا مهر لها لحصول الفسخ منها أو بسبب من جهتها ، وإن فسخ بعده أو بعد الخلوة وجب المسمى فى العقد لتقرره".
ولكن المقنن الأردنى خاصة انزلق فى هذه الجزئية وقرر حكما غريبا نصه(م19/ب ) " إذا اشترط الزوج على زوجته شرطا تتحقق له به مصلحة غير محظورة شرعا، ولا يمس حقوق الغير…..فإن لم تف الزوجة فسخ النكاح بطلب من الزوج، وأعفى من مهرها المؤجل ومن نفقة عدتها" فأعفى من المهر مع تقرره. المبحث الثانى
الزوجان
رأينا فيما سبق أن الفقهاء متفقون على الصيغة كركن ولكن هل هى ركن الزواج ، أم أحد أركانه ؟ وقد اخترنا السير على المنهج الموسع فى عد الأركان فأخذنا بخطة التقنين السودانى باعتبار الزوجين ركنا فى الزواج ، أو كالركن فيه.
وفى هذا المبحث نعالج ما يتعلق بالزوجين من أحكام مركزين ما أمكن على المشكلات التى تشغل الرأى العام ، وسنعنى بوجه خاص بما يمكن أن نعنون له بأهلية الزواج .
أولا : سن الزواج
من المشكلات التى تشغل المحافل الاجتماعية والقانونية مشكلة زواج الصغير والصغيرة ، وهى مشكلة لم تزل قائمة فى الريف المصرى إلى اليوم ، وكثيرا ما يحتال عليها بالشهادات الطبية غير الصحيحة للالتفاف حول النصوص القانونية الحاكمة فى أمر السن .
والحقيقة أن تزويج الصغار إلف قديم ورثته مجتمعاتنا عن السلف ، وهؤلاء لم يصدروا فيه عن هوى وتشه ، بل أخذا من اجتهاد محترم يستند إلى ظاهر أدلة من الكتاب والسنة ، وبه يقول جمهور الفقهاء ( ) ، وقد أخذوا قولهم هذا من الأدلة الآتية : -
1- قول الله تعالى " واللائى يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر . واللائى لم يحضن " ( ) فالآية بيان لمدة العدة بالأشهر والملتزمات بها ، وقد ذكر الله سبحانه أنهن صنفان :-
ا- اللائى يئسن من المحيض أى بلغن سن اليأس .
ب- اللائى لم يحضن ، وهن اللائى لم يصلن بعد إلى سن البلوغ لأن المحيض بالبلوغ .
ومعلوم أنه لا عدة إلا من طلاق أو مفارقة بعد دخول ، والدخول المحترم شرعا هو ما كان عن زواج صحيح ، ولازم ذلك صحة زواج الصغيرة، إذ لو لم يكن زواجها جائزا لكان ذكر عدتها بلا فائدة ، وحاشا أن يكون فى القرآن ذلك ( ) .
2- ومن السنة : ما روى عن السيدة عائشة رضى الله عنها قالت "تزوجنى النبى  وأنا ابنة ست، وبنى – أى دخل – بى وأنا ابنة تسع"( ).
والواقع يؤكد أن ابنة ست سنين دون سن البلوغ بكثير .
3- ويذكر السرخسى جملة من الآثار عن الصحابة رضوان الله عليهم فيقول " إن قدامة بن مظغون تزوج بنت الزبير رضى الله عنه يوم ولدت ، وقال إن مت فهى خير ورثتى ، وإن عشت فهى بنت الزبير ، وزوج ابن عمر رضى الله عنه بنتا له صغيرة من عروة بن الزبير رضى الله عنه وزوج عروة بن الزبير رضى الله عنه بنت أخيه ابن أخته وهما صغيران ، ووهب رجل ابنته الصغيرة من عبد الله بن الحسن فأجاز ذلك على رضى الله عنه ، وزوجت امرأة ابن مسعود رضى الله عنها بنتا لها صغيرة ابنا للمسيب بن نخبة ، فأجاز ذلك عبد الله رضى الله عنه " ( ) .
والمعنى أن هؤلاء ثلة من الصحابة الفقهاء الأخيار زوجوا صغارا ، أو تزوجوا بصغيرات ، ولا يظن بهم أن يأتوا مثل هذا العمل إلا وهم قانعون بصحته .
4- ويستدل على الجواز أيضا بالمعقول فيقول " والمعنى فيه أن النكاح من جملة المصالح وضعا فى حق الذكور والإناث جميعا ، وهو يشتمل على أغراض ومقاصد ولا يتوفر ذلك إلا بين الأكفاء ، والكفء لا يتفق فى كل وقت …. ولأنه لو انتظر بلوغها لفات ذلك الكفء ولا يوجد مثله ، ولما كان هذا العقد يعقد للعمر تتحقق الحاجة إلى ما هو من مقاصد هذا العقد، فتجعل تلك الحاجة كالمتحققة للحال لإثبات الولاية للولى " ( ).
وواضح من عبارة السرخسى أن غرض الزواج فى الصغر خوف فوات الفرصة المناسبة .
وعلى خلاف ما يرى الجمهور فإن عثمان البتى وابن شبرمة وأبو بكر الأصم يرون أن الزواج بالبلوغ ، فلا يزوج الصغير ولا الصغيرة حتى يبلغا ، ووافقهم ابن حزم فى الصغير – الذكر – خاصة .
واستدل المعممون :
1- بقول الله تعالى " وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم " ( ) .
والمعنى أن الآية تثبت الولاية على الصغار ، وأساس ثبوت الولاية حاجة المولى عليه إليها ، كما تبين الآية أن الحاجة إلى الزواج توجد ببلوغ سن النكاح ، إذن لا حاجة للصغير فيه ، وحيث لا حاجة فلا ولاية ، فلا يزوج الصغير نفسه لعدم الأهلية ، ولا يزوجه غيره لأنه ولاية له عليه فى هذا الشأن لانتفاء سببها .
2- وبيان انتفاء الحاجة – كما يقول السرخسى " أن مقصود النكاح طبعا هو قضاء الشهوة ، وشرعا النسل ، والصغر ينافيهما " ( ) .
3- ويكشف – طبقا لرأيهم – عن مفسدة هذا التصرف فيقول " هذا العقد يعقد للعمر ، وتلزمهما أحكامه بعد البلوغ ، فلا يكون لأحد أن يلزمهما ذلك ، إذ لا ولاية لأحد عليهما بعد البلوغ ( )
ويستدل ابن حزم على مذهبه فى عدم جواز إنكاح الصغير – الذكر – خاصة ، بقول الله تعالى " ولا تكسب كل نفس إلا عليها " ( ) والوجه فيه : أنه مانع من جواز عقد أحد على أحد ، إلا أن يوجب ذلك نص قرآن أو سنة ، ولا نص ولا سنة فى جواز إنكاح الأب لابنه الصغير ، وقد قال بهذا طائفة من السلف " ( ) ومستنده فى التفرقة بين الأنثى – الصغيرة – والذكر الصغير "زواج النبى  بالسيدة عائشة وهى بنت ست سنين ، وإذ فعله النبى  فلنا أن نتأسى به إلا أن يأتى نص بأنه للنبى  خاصة ( )
هذه اجتهادات الفقهاء فى المسألة وأدلتهم، وقد ظهر منها :
1- أن المجيزين قد أخذوا بمقتضى آية الطلاق ، وفعل النبى  وبعض الصحابة الأجلاء ، وبرروا الحكم اجتماعيا بالاحتياط لمصلحة الصغار .
2- والمانعون تمسكوا بسبب الولاية فربطوا بين الحاجة والحكم ، وبرروا المنع بدفع ما يمكن أن ينشا عن ذلك من مفاسد
3- وفرق ابن حزم على أساس أن الولاية استثناء من الأصل العام ، وهو المسئولية الشخصية .
وينبغى أن ننوه أن تزويج الصغار والزواج من الصغيرات ليس حكرا على العرب والمسلمين ، بل هو شائع " مألوف فى أفريقيا والهند وماليزيا ، وغيرها من المناطق الحارة ،فالبنت يعقد عليها وهى فى المهد ، وتزف إلى زوجها متى أدركت سن البلوغ ، أو قبل هذه السن ، وقد تزوج من رجل كهل فى عمر أبيها " ( ) ومن جانب آخر فإن النضج الجنسى يتأثر بعوامل المناخ وطبيعة البيئة ، فهو يبكر فى المناطق الحارة ويتأخر فى المناطق الباردة "وتعتبر جزيرة العرب من المناطق الحارة ، وفيها يبكر سن البلوغ ، وتظهر علامته فى البنت فى التاسعة أو العاشرة من عمرها " ( ) .
فلنأخذ هذا فى الحسبان ولننظر فى أدلة الجمهور
1- أما الآية فإنها لا تنصرف إلى من دون سن البلوغ انصرفا قطعياً لأن للبلوغ إمارات أحدها الحيض ، وقد يتأخر إلى ما بعد السن المفترض البلوغ فيه ، أو بعد إنبات الشعر الخشن على العانة ( ) ، والآية واضحة أنها فى المطلقات بعد الدخول ، ولا يكون إلا إذا كانت الأنثى تطيق الوطء .
وقد اعتبر العلماء من موانعه الحقيقية الصغر ، قالوا : لو خلا بصغيرة لا يجامع مثلها لم تثبت فى حقه خلوة صحيحة ، " لأن الخلوة الصحيحة عبارة عن التمكن من الانتفاع ، ولا يتحقق التمكن إلا بعد ارتفاع الموانع من الوطء . حقيقة أو شرعا أو طبعا ، أما المانع الحقيقى فهو أن يكون أحدهما صغيرا لا يجامع مثله أو صغيرة لا يجامع مثلها " ( ) بل إنهم قالوا " لا يدخل بها ما لم تبلغ ، وقيل إذا بلغت تسع سنين ، وقيل إذا كانت سمينة جسيمة تطيق الجماع يدخل بها وإلا فلا " ( ) .
بل قالوا أكثر من ذلك قالوا " ولو وطئ صغيرة لا تشتهى مثلها لا يكون هذا الوطء زنا طبعا ، ولا وطئا ، ولا حلالا ولا حراما ، يعنى مثل هذا الوطء فى المحل الحلال والحرام ، ولهذا لم يوجب أبو حنيفة ومحمد بذلك الوطء حرمة المصاهرة ، ولكن أوجبا عقرا ، لأنه أرش تلك الجناية إذا لم يفضها ، وهذا لأن شرط وجوب الحد هو المحل المشتهى ، لأن الفعل فعل افتضاء الشهوة فلا ينفعل إلا فى محل مشتهى"( ).
إذن يصعب حمل الآية على مطلق الصغيرة ، بل حملها على المشتهاة يبدو متعينا ، والاشتهاء يغلب أن يكون فى أول سن البلوغ ، قال الفقيه أبو الليث "المشايخ شكوا فى السبع والثمان والغالب أنها لا تشتهى ما لم تبلغ تسع سنين ، قال الصدر الشهيد : وعليه الفتوى " ( ) .
أما واقعة السيدة عائشة رضى الله عنها فقد بنى بها النبى  وهى مشتهاة أو بالغة ، ولا نغفل أنها كانت تعيش فى بيئة حارة .
والعقد عليها وهى فى السادسة يبدو من جانب النبى  حبا فى أبى بكر وتطييبا لخاطره ، ومسارعة أبى بكر بالعقد ربما يكون رغبة منه فى توطيد القربى بالنبى  ، يشهد لذلك أن السيدة خولة بنت حكيم أشارت على النبى  بالزواج بعد فقد السيدة خديجة رضى الله عنها فقالت ألك فى ثيب أم بكر ؟ فقال من الثيب ؟ قالت سودة بنت زمعة . قال ومن البكر ؟ قالت عائشة فلاقت كلتاهما من النبى  قبولا ، أما سودة فلتأيمها بعد وفاة زوجها ، وأما عائشة فلمكانة أبيها ، فخطبتهما السيدة عليه فتزوجهما فبنى بسودة بمكة ، وعائشة يومئذ بنت ست سنين ، حتى بنى بها بعد ذلك حين قدم المدينة ( ) .
والمعنى أنه لا يؤخذ من زواج النبى  بالسيدة عائشة وهى بنت ست حجة على إطلاق زواج الصغار ، لأنه كما توحى القصة لم يكن رغبة فى عائشة رضى الله عنها بقدر ما كان حبا لأبيها ، ومسارعة أبيها فى توثيق القربى بالنبى حتى أنه " انسل من عدته لجبير بن مطعم بها " ( ) .
والآثار التى رويت عن الصحابة تشير أيضا إلى معنى توثيق الروابط الاجتماعية بأهل البيت أو أهل الفضل ، مع أن فى قصة زواج أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بالسيدة أم كلثوم بنت على كرم الله وجهه ما يفيد أن الصغر لم يكن كما يبدو من كلام الفقهاء مطلقا من كل قيد فقد ورد أن عليا قال لعمر إذ خطبها : إنها صغيرة ، فأعاد خطبتها ، فقال على نرسلها إليك ، فبعث بها إليه ، فكشف عمر عن ساقها حتى قالت : لولا إنك أمير المؤمنين للطمت وجهك ، ثم تزوجها ، فالقصة توحى أنها كانت تشتهى ، والاشتهاء يقارب البلوغ .
وأخيرا فإن التعليل العقلى بخوف فوات الكفء يقبل مع أهل الفضل والورع ، ولكن مع غلبة حب الدنيا على النفوس فإن تغليب المصالح الخاصة قد يهدر المصالح الحقيقية التى شرع الله من أجلها الزواج .
وإن سلمنا بكل ما قاله الجمهور فإنه يتغيا مصلحة ، وهذه المصلحة – وهى الخوف الاجتماعى من فوات الكفء – تعارضها مفسدة تعريض مستقبل الفتى والفتاة للخطر لانشغالهما المبكر بأمر الشهوة ، واحتمال تصدع الأسرة للعجز عن القيام بأعباء الزواج ماديا ونفسيا ( ) واعتبار المفاسد يقدم على اعتبار المصالح .
لهذا كله فإننى أرجح ما ذهب إليه الإمام ابن شبرمة ومن معه لأنه أقرب إلى تحقيق مصالح النكاح التى أرادها الشارع من قول الجمهور .
شرط السن فى القوانين الحديثة :
يندر أن نجد تقنينا أخذ بمطلق قول الجمهور فى العقد على الصغار ، بل إن كثيرا من التقنينات نزلت على قول ابن شبرمة ومن معه ، وعلى ذلك يمكن أن نحصر مواقف التقنينات فى اتجاهين :
1- الاتجاه الأول : الأخذ بقول الجمهور مع تقييده .
ويبرز هذا الاتجاه واضحا فى القانون السودانى الذى ينص فى المادة (40) على أن :
1- لا يعقد زواج المجنون أو المعتوه أو المميز إلا من وليه بعد ظهور مصلحة راجحة
2- يكون التمييز ببلوغ سن العاشرة
3- لا يعقد ولى المميزة عقد زواجها إلا بإذن القاضى لمصلحة راجحة بشرط كفاءة الزوج ومهر المثل
وقد اشترط النص التمييز لعقد النكاح إذا تبين أن للمميز فيه مصلحة راجحة ، لا تتوقف على إذن القاضى فى الصغير ، وتتوقف على إذنه فى الصغيرة مع اشتراط كفاءة الزوج ومهر المثل ، فقيد زواج الصغير بشرطين ، وزواج الصغيرة بأربعة شروط والنص بعبارة " لا يعقد " يوحى بأن التمييز شرط " انعقاد " وليس كذلك فى الحقيقة لأن المقنن لم يعتبره من شروط صحة الركن " الزوجين " ( ) وإنما هو من شروط صحة الزواج مطلقا ، فطبقا للمادة(62) فإن اختلال شروط صحة الزواج يفسد العقد ولا يبطله ، وسنعرف الفرق بين الفاسد والباطل فيما بعد .
2- الاتجاه الثانى : الأخذ بقول ابن شبرمة
ويظهر هذا واضحا فى التقنينات : السورى " مادة 15، 16، 18 " واللبنانى " المواد 4،5،6،7،8 " والأردنى " مادة 5" والعراقى " مادة 7-9"، والمغربى " الفصل السادس والثامن " والليبى " مادة 8 " وإن أجاز هذا الأخير للمحكمة أن تأذن بالزواج قبل بلوغ سن الزواج - عشرون سنة ( ) لمصلحة أو ضرورة تقدرها بعد موافقة الولى ، وقاربه فى ذلك القانون اللبنانى بشرط ألا يقل سن الصغير عن سبع عشرة سنة والصغيرة عن تسع سنوات " م 7 " .
وفيما خلا ذلك فإن التقنينات المذكورة أناطت أهلية الزواج بالبلوغ ، واعتبرت السن هو المعول عليه أصلا لتمام الأهلية وفيما قبل السن المحددة مع ظاهر البلوغ لابد من إذن القاضى ، وقد اتفقت جميعها على أن فقد أهلية الزواج حين العقد يفسده . وقد خرج على هذا الإجماع مشروع القانون العربى الموحد فاعتبر الزواج قبل البلوغ باطلا ، حيث نص صراحة فى المادة 20/أ على أن "يشترط فى أهلية الزواج العقل والبلوغ" ، فيبطل تزويج الصغير والصغيرة قبل البلوغ ، فأخذ بصريح مذهب ابن شبرمة ومن معه ( ) .
وفى مصر : فإن التقنين المصرى لم يأخذ بقول ابن شبرمة ، وإنما استأنس به ( ) فى وضع العراقيل أمام تزويج الصغار وذلك بطريقتين :
أولهما : إلزام الموثقين بمراعاة بلوغ الزوجين سن الزواج وقت العقد ، فنص فى المادة 33/ب من لائحة المأذونين الصادرة بقرار وزير العدل فى 4يناير 1955 على أنه " لا يجوز مباشرة عقد الزواج ولا المصادقة على زواج مسند إلى ما قبل العمل بهذا القانون ما لم يكن سن الزوجة ست عشرة سنة ، وسن الزوج ثمانى عشرة سنة وقت العقد" ( ) .
ثانيهما : حظر على المحاكم سماع دعوى الزوجية إذا تخلف شرط السن المذكور " م 99/4 من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية "
وفضلا عن هذا فإنه عاقب بالقانون 44 لسنة 1933 بالحبس مدة لا تتجاوز سنتين أو بغرامة لا تتجاوز مائة جنيه كل من أبدى أمام السلطة المختصة بقصد إثبات بلوغ أحد الزوجين السن المحددة قانونا لضبط عقد الزواج أقوالا يعلم أنها غير صحيحة ، أو حرر أو قدم لها أقوالا كذلك حتى تم ضبط عقد الزواج على أساس هذه الأقوال والأوراق ، ويعاقب بالحبس أو بغرامة مائتى جنيه كل شخص خوله القانون سلطة ضبط عقد الزواج ، إذا ضبطه وهو يعلم أن أحد طرفيه لم يبلغ السن المحددة فى القانون .
وهذه كلها عراقيل تؤتى أكلها متى انضبطت انضباطا تاما واقعات المواليد والقيد فى السجلات الرسمية ، وقنع الناس جميعا باعتبار الكتابة الرسمية " التوثيق " شرطا فى الزواج ، وحتى يحدث هذا فإن باب تزويج الصغار سيظل مفتوحا .
لأن حقيقة غرض المقنن المصرى – والقضاء مقدر له – " أن يتخذ من التدابير ما به يقلل قدر الاستطاعة أن يحصل زواج بين فردين أحدهما أو كلاهما لم يبلغا سنا معينة خاصة ، مما يغلب الظن حيازته لدرجة كافية من الخبرة والاتزان العقلى اللازمين لحسن الحال فى المعيشة الزوجية ، ويترجح معها أن الزواج غير مؤذ به ، بل إنه منتج لنسل قوى صالح للمغامرة فى الحياة ويحتمل ما فيها من كد وعناء .
ولكن مهما تكن تلك التدابير ، فلا يجوز قطعا – والكلام لمحكمة النقض المصرية – أن تصل إلى تحريم الزواج على من لم يبلغ تلك السن ، وإلا كان الشارع معاندا للطبيعة ، فلا تلبث أن تثأر لنفسها بإحباط عمله ، ومقابلته بفشو الزنا بين صغار السن ، ويصبح وقد وقع فعلا فيما يريد اتقاءه ، وزاد عليه كثرة النسل الضعيف من الأولاد غير الشرعيين " .
وعلى هذا فإن " من يعقد عقدا مستوفيا شروطه الشرعية الأساسية – مهما تكن سنه – فعقده صحيح ديانة ، وبل وصحيح قانونا فى غير ما نص على اعتباره فيه ، وهو مجرد عدم سماع الدعوى به لأنه لو لم يكن كذلك لاعتبرت مقاربة الزوج للزوجة الصغيرة هتك عرض معاقبا عليه .. وهذا لا يستطيع أن يقول به أحد " ( )
والحقيقة أننا – مع بعض أساتذتنا ( ) – لا نشارك محكمة النقض المصرية ثناءها على المقنن بالاكتفاء بوضع العراقيل ، ولا نوافقها الرأى أنه "لا يجوز قطعاً أن يصل – المقنن – بتدابيره إلى تحريم الزواج على من لم يبلغ السن" بل نراه قد تحرج مما ليس فيه حرج ، وترك باب الخطر مفتوحاً ( ) أمام الأولياء المتهورين قصيرى النظر ، وعفا دون أن يدرى عن فعلتهم ، وحمل الصغار أوزارها فأغلق باب المحكمة دون سماع دعاويهم ( ) لتخلف شرطى السن والتوثيق فعاقب المجنى عليهم وغض النظر عن الجناة .
ثم إن باب الحظر لم يوصد دونه تماماً – كما تدعى المحكمة – لأن استدلالات الجمهور محتملة – كما رأينا – ومذهب ابن شبرمة ومن معه تقويه المصلحة ، والقاعدة عندنا أنه حيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله ( ).
بل إننى أعجب من موقف المقنن المصرى الذى أدخل فى الآونة الأخيرة على قوانين الأحوال الشخصية تعديلات كثيرة عالج بها آثار الزواج وآثار انحلاله ، وربما تطرف فى أحكامه بعض الشيء ، وغض النظر عن نص يصفه علماء الشريعة المعاصرون بالحسن ( ) ألا وهو نص المادة 19 من مشروع قانون الأحوال الشخصية الذى يرجع إلى سنة 1936 ، وروجع فى 1962 ، واعتبر فى مشروع القانون العربى الموحد المعد فى الفترة ما بين 1959- 1961 ، وقد قضى هذا النص فى فقرته الأولى أنه .
" يشترط فى أهلية الزواج : البلوغ ، فيبطل زواج الصغير والصغيرة قبل البلوغ " .
هل يلزم تقارب السن بين الزوجين ؟
نشرت الصحف مؤخرا أن وزير العدل المصرى أصدر تعليمات إلى مكاتب التوثيق بالامتناع عن توثيق عقود زواج الأجانب من مصريات إذا كان فارق السن بين الرجل والمرأة أكثر من خمس وعشرين سنة ، وهى خطوة جيدة نأمل أن ترقى إلى مستوى التشريع .
وقد سبقنا إلى اعتبار التقارب السنى بين الزوجين بعض التقنينات العربية ، كالتقنين المغربى الذى نص فى الفصل الخامس عشرة على أن " يعتبر التناسب العرفى فى السن بين الزوجين حقا للزوجة وحدها " وقد أورده عقب أحكام الكفاءة ، مما يشير إلى اعتباره منها ، فإذا زوج الولى المرأة ممن لايناسبها سنا باعتبار العرف كان لها حق الاعتراض وطلب الفسخ .
ولكن القانون السورى كان أكثر حكمة إذ عول على مسألة السن عند الخطبة وقبل العقد ، تحاشيا للحرج الدينى فى فسخ عقد دون سبب تسنده الأدلة الكافية ، فكان التقنين بهذا مقيدا المباح لا مانعا منه ، وهذا ما يفيده نص المادة (19) والتى تقضى بأنه " إذا كان الخاطبان غير متناسبين ، ولم يكن مصلحة فى هذا الزواج فللقاضى ألا يأذن به " .
وقد استأنس واضعوا مشروع القانون العربى الموحد بهذا النص فى صياغة المادة (22) من المشروع ، وإن عولوا على مسألة السن متى " أتم الخاطب أو المخطوبة الستين من العمر وكان فرق السن بينهما يتجاوز نصف عمر الأكبر منهما " وعندئذ " لا تأذن المحكمة بالزواج إلا إذا كان فيه مصلحة ظاهرة استثنائية " .
وفى التعليق على هذا النص نعت المذكرة الإيضاحية على الإقليم المصرى عدم التفاته إلى تفاوت السن بين الزوجين وإن كان تفاوتا كبيراً صارخا ، مع أنه مدرجة إلى الفساد الخلقى أو إلى اضطراب الحياة الزوجية " .
وفى اقتصار المنع على الحالة المذكورة – ارتباط من بلغ – أو بلغت – الستين ، بمن سنه دون الثلاثين ، أو جاوز الستين وعمر الآخر دون نصف عمر الأكبر " تشير المذكرة إلى أن غرض ذلك " منع الحالات الصارخة الظاهرة الاستهجان".
" ومأخذ ذلك – النص – آراء بعض فقهاء المذاهب فى عدم تزويج الشيوخ المسنين بالفتيات الشواب ، والمأثور عن عمر رضى الله عنه من قوله " إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب " .
ومستند تقنين هذا الحكم هو قاعدة الاستصلاح ، وأن ولى الأمر إذا نهى عن مباح عندما يصبح فيه ضرر وجب امتثال هذا النهى ظاهرا وباطنا طبقا لرأى محققى الشافعية والحنفية .
وقد قال الرويانى – الشافعى – إن الشيخ ليس كفؤاً للشابة وقرر فقهاء المذهب الشافعى أن قول الرويانى تنبغى مراعاته .
وجاء فى فقه أحمد " إياك أن تزوج البنت بشيخ فربما حملها ذلك على ما لا ينبغى " .
وورد الحث على ذلك فى كتب الحنفية ، قال ابن نجيم " لا يزوج ابنته الشابة شيخا كبيرا ولا رجلا دميما " ( ) .
ثانيا : السلامة العقلية
ضياع العقل لا يعنى ذهاب الشهوة ، لكن للزواج مصالح تتخلف منها – مع الآفة العقلية – المودة والرحمة غالبا ، وقد يتخلف النسل الصالح القوى بانتقال المرض وراثيا إلى المولود .
والناظر فى الفقه الإسلامى يجد أن فقهاء الإسلام على فريقين من اعتبار السلامة العقلية فى الزواج .
فبعض الأحناف ( ) والمالكية يعتبرون الآفة العقلية عيبا لا يمنع النكاح ابتداء ، ولكنه يعطى للطرف الآخر حق طلب الفسخ إن لم يكن قد علم هذا العيب ولم يرضه ( ) وهو قول الشافعية فى الأنثى المريضة عقليا خاصة ( ) .
ووجه هذا القول : أن المستحق بعقد النكاح هو التمكن من الوطء ، والتمكن حاصل مع الآفة العقلية ، فذهاب العقل لا يذهب الشهوة ( ).
ووجه التفرقة بين الرجل والمرأة عند الشافعى " أن تزويجها يفيدها المهر والنفقة وتزويجه يغرمه إياهما " ( ).
ووجه الرد بالعيب بسبب الآفة العقلية دفع الضرر ، لأن الآفة العقلية تمنع الاستيفاء طبعاً ، فالطباع السليمة تأنف من جماع صاحب العاهة ، وربما يسرى إلى الأولاد. ( )
ومذهب الإمام أحمد ، وهو قول الشافعية فى الرجل المأفوف خاصة أن الآفة العقلية تمنع النكاح ابتداء. ( )
غير أن الشافعية قالوا يزوج المجنون " إن كان به إلى النكاح حاجة ، وذلك فى حالتين :
• إما أن يرى يتوثب على النساء لفرط شهوته .
• وإما أن يحتاج إلى خدمة النساء .
والزوجة أرفق به ، فيجوز لوليه أن يزوجه بنفسه " ( )
أما الإمام أحمد فهو أشد العلماء حرصاً على مصالح النكاح ، من المودة الدائمة والرحمة المرتجاة والنسل القوى ، لهذا فإنه يشدد فى المنع من زواج المرضى عقلياً ، حتى وإن رضى الطرف الصحيح بذلك ، وإليك عبارة صاحب الكشاف بنصها قال " وليس لولى صغيرة ولا صغير ، ولا لولى مجنونة ومجنون تزويجهم معيباً يرد به فى النكاح ، لأنه ناظر لهم بما فيه الحظ والمصلحة ، ولاحظ لهم فى هذا العقد ، فلو خالف وفعل بأن زوجهم معيباً يرد به لم يصح النكاح فيهن مع علمه ، لأنه عقد لهم عقداً لا يجوز عقده ، كما لو باع عقار محجورة لغير مصلحة ، وإلا أى وإن لم يعلم الولى عيبه صح النكاح ، كما لو اشترى لهم معيباً لا يعلم عيبه ، ويجب عليه الفسخ إذا علم ، قاله فى المغنى والشرح وشرح ابن منجا والزركشى فى شرح الوجيز وغيرهم ، لأنه أحظ لهن ، فوجب عليه فعله ، خلافاً لما فى التنقيح وتبعه فى المنتهى ، قالا : وله الفسخ واللام للإباحة ، وهو مقتضى عبارة المبدع ، وقد يجاب عنه بأنه فى مقابلة من يقول : لا يفسخ ، وينتظر البلوغ أو الإفاقة ، فلا ينافى الوجوب.
ولا لولى كبيرة تزويجها بمعيب بغير رضاها …… وإن اختارت نكاح مجنون أو مجزوم أو أبرص فله منعها ، لأن فيه ضرراً دائماً ، وعارا عليها وعلى أهلها ، كمنعها من التزويج بغير كفء " ( ) وقال فى المغنى " وأما إذا اتفقا على ذلك – الولى والمرأة – ورضى – أى الولى – به – أى المجنون – جاز وصح النكاح ، لأن الحق لهما ولا يخرج عنهما ، ويكره لهما ذلك ، لما ذكره الإمام أحمد من أنها وإن رضيت الآن تكره فيما بعد " ( )
ولا شك أن رؤية الإمام أحمد أكثر استشراقاً للمستقبل وأكثر تحوطاً له من الرؤى الأخرى ، ثم إن مبنى الرؤى الأخرى على اعتبارات مادية عاجلة – كالمهر والنفقة – أو غرض شهوانى إن قضى به وطر المأفوف المتحرق ، لا تقضى به حاجة الصحيح المشتاق الذى يؤمن – ديانة – بأن للوطء مقدمات ورسائل ، وللعزل آداب ومحاسن ، وفوق هذا وذاك فإن الزواج سكن وسكينة ، ولا يتصور ذلك مع خطر يخشى منه فى كل حين وآن . وإن قدر الله أن يكون بينهما ولد فاحتمال مرضه شديد ، وكل هذه منغصات ينبغى المنع منها .
ولا يقال إن دفع الضرر غير المرضى ممكن بالفسخ بعد العلم به ، لأن الفسخ قد يقع بعد الدخول ، فيخسر الرجل ماله ، وتخسر بكارتها إن كانت بكراً ، أو اطمئنانها للأزواج بمرير تجربتها .
ومن مقاصد الشرع الأغر التحوط للسلامة بالنهى عن مقاربة أسباب العلل وإن كانت مشتبهة .
ولا شك أن قناعتنا بمذهب الإمام أحمد ومن وافقه تجعلنا مقدرين للمقننين العرب الذين اعتبروه فى أهلية الزواج كالتقننين السورى (مادة15) ، واللبنانى (مادة 9) والأردنى (مادة 5،8) والعراقى (مادة7) والمغربى ( الفصل السابع ) والليبى (مادة 10) والسودانى (مادة40/1)، وهو ما أخذ به مشروع القانون العربى الموحد (مادة20) حيث نص على أن :
أ- يشترط فى أهلية الزواج العقل والبلوغ ، فيبطل زواج الصغير والصغيرة قبل البلوغ ، وتزويج المجنون والمعتوه ذكرا كان أو أنثى مع مراعاة حكم الفقرة التالية .
ب- إذا ثبت بتقرير لجنة من الأطباء الأخصائيين أن زواج المجنون والمعتوه مفيد فى شفائه فللمحكمة أن تأذن به .
وهو فى الحقيقة وكذلك بقية التقنينات التى أشرنا إليها دون نص المادة العاشرة من القانون الليبى من حيث الإحاطة والتقييد فقد نص الأخير – وهو الأحدث بالنسبة لسائر التقنينات عدا السودانى ( ) – على أن " لا يعقد زواج المجنون أو المعتوه إلا من وليه وبعد صدور إذن المحكمة ، ولا تأذن المحكمة بالزواج إلا بعد توفر الشروط التالية :
1- قبول الطرف الآخر التزوج منه بعد إطلاعه على حاله .
2- كون مرضه لا ينتقل إلى نسله .
3- كون زواجه فيه مصلحة له .
وواضح أن هذه التقنينات مزجت بين قول الإمام أحمد والشافعى فأخذت بعموم قول أحمد فى المنع باشتراط الرضا ، واستأنست بقول الشافعى فى اعتبار المصلحة على سبيل الاستثناء .
ونود لو نرى المقنن المصرى وقد نهج هذا النهج الحمائى للأسرة والنسل
ثالثاً : انتفاء المحرمية بين الزوجين
قدمنا أن الزواج هو عقد بين رجل وامرأة على نية التأييد ، يحل استمتاع كل منهما بالأخر على الوجه المشروع ، ومن ثم فإننا نذكر أن الزواج فى عرف الشرع هو الارتباط بين مختلفى الجنس اختلافا محققا، ومع هذا فإن مجرد الاختلاف لا يكفل الحل ، وإنما يلزم للحل شروط أخرى أبرزها أن تكون المرأة غير محرمة على الرجل تحريما مؤبدا أو مؤقتا .
والتحريم المؤبد هو ما يمنع الزواج على الدوام ، أما التحريم المؤقت فهو ما يمنع إلى أجل زوال سبب التحريم .
النوع الأول : المحرمات تحريما مؤبدا
وهؤلاء هن المحارم من النسب أو الصهر أو الرضاع ، ونعددهن فيما يلى:
أ – المحرمات بسبب النسب :
النسب أو القرابة تعبير عن الصلة الناشئة من قرابة الولادة ، ويعبر عن صاحبها بذى الرحم المحرم ، وقد جمع هؤلاء المحرمات قول الله تعالى "حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت"( ) .
فبنيت الآية أنهن سبعة أصول وهن : -
1- الأم : وتشمل كل امرأة لها عليك ولادة مباشرة أو بواسطة فالوالدة المباشرة هى الأم ، وغير المباشرة هى الجدة وإن بعدت ، فالجدات يسمين أيضا أمهات .
2- البنت : وتشمل كل أنثى لك عليها ولادة مباشرة كالبنت الصلبية أو بواسطة كبنت الابن وبنت البنت مهما نزلن .
3- الأخت : وتشمل جميع الأخوات سواء كن شقيقات أو لأب أو لأم، فجميع الأخوات محرمات .
4- العمة : وهى أخت الأب الشقيقة أو من أبيه فقط أو من أمه فقط .
5- الخالة : وهى أخت الأم الشقيقة أو من أبيها فقط أو من أمها فقط .
6- بنت الأخ : ويراد بها كل أنثى لأخيك – شقيق أو لأب أو لأم – عليها ولادة مباشرة كبنته الصلبية ، أو غير مباشرة كبنت ابنه وبنت بنته وإن بعدن .
7- بنت الأخت : وتشمل كل امرأة لأختك عليها ولادة وإن بعدت ، كبنتها ، وبنت ابنها وبنت بنتها.. إلخ ، ويراعى أن المراد بالأخت : الشقيقة أو لأب أو لأم.
ويلاحظ أن بعض النساء يشتبهن بالمحرمات ولسن محرمات ( ) كأخت أخيك غير الشقيق من أم غير أمك ، فهذه أخت لأخيك فقط وليس بينك وبينها قرابة. مثلا : أخوان من أم واحدة هما حسن وحسان ، وحسن هو ابن محمود وحسان هو ابن محمد ولمحمد هذا ابنة من امرأة غير أم هذين الولدين – حسن وحسان – تدعى صفاء وبنت محمد . فلحسن أن يتزوج من صفاء هذه رغم أنها أخت أخيه .
كما لا تحرم أم العمة غير الشقيقة إذا لم تكن جدة ، وكذلك أختها إذا كانت من غير الجد والجدة ، ونفس الأمر بالنسبة للخالة المهم أن المعتبر فى التحريم هو قرابة المرأة إلى الرجل ذاته لا إلى أقاربه.
ب – المحرمات بسبب الرضاع :
وظاهر النص القرآنى أنهن صنفان فقط ذكرهما الله تعالى بقوله " وأمهاتكم اللاتى أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة " ( ) ولسن كذلك فالقاعدة فى التحريم بالرضاع بنص الحديث الشريف " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب"( ) كما أن الله تعالى سمى المرضع أما ، كما سمى الشريكة فى الارتضاع أختا ، والأمومة والأخوة قرابتان نسبيتان ، فيكون حكم الرضاع حكم النسب ( ) .
لبن الفحل
ومن جانب آخر فإن سبب اللبن الذى يتغذى به الرضيع هو ماء الرجل والمرأة جميعا ، ومن ثم تثبت الحرمة فى جانب الرجل – ويطلق عليه فى هذا الباب الفحل ( ) كما تثبت فى جانب المرأة المرضع ، لما روى عن السيدة عائشة رضى الله عنها قالت : جاء عمى من الرضاعة فاستأذن على فأبيت أن آذن له حتى استأذن رسول الله  ، قالت : فجاء رسول الله  فسألته ، فقال " إنه عمك فأذنى له " قالت : فقلت يا رسول الله إنما أرضعتنى المرأة ولم يرضعنى الرجل " فقال رسول الله  "إنه عمك فليلج عليك " وذلك بعدما ضرب علينا الحجاب ( ) .
وقد سئل ابن عباس عن رجل له امرأتان ، أرضعت إحداهما غلاما ، والأخرى جارية – أى فتاة – فهل يتزوج الغلام الجارية ؟ قال : لا ، " اللقاح واحد " ( ) أراد أن ماء الفحل الذى حملت منه كلتاهما – أى المرأتان – واحد ، واللبن الذى أرضع به الصبى والجارية ، كان أصله ماء الفحل . وبهذا يقول جمهور العلماء .
وذهب بعض أهل العلم ( ) إلى أن لبن الفحل لا يحرم ، لأن الله سبحانه ذكر النساء فقال " وأمهاتكم اللاتى أرضعنكم " ولو كانت الحرمة تثبت من جانب الرجل أيضا لبينها كما بين الحرمة بالنسب بذكر العمات ، وهن قرابات من جهة الذكور .
والراجح : قول الجمهور ، لحديث عائشة ، وجانب الرجل معتبر فى الولادة فيعتبر بالرضاع ( ) .
هل تثبت الحرمة بلبن الزنا ؟
إذا كان " الفحل " زوجا فالحكم ما ذكرنا ، وكذلك إن خالط المرأة بنكاح فاسد أو وطء بشبهة ، ولكن إن كان قد اجتمع بالمرأة فى زنا فحملت ثم ولدت وصار لها لبن فأرضغت به صغيرا فهل تثبت بهذا اللبن الحرمة بين الرضيع ، وبين الزانى وأصل نسبه ؟
والجواب :
أن الفقه قد انقسم ( ) فى حكم هذه المسألة
ففريق يرى : أن الماء الناشر للحرمة هو الماء المحترم ، وماء الزانى غير محترم فلا ينشر الحرمة ، ومن ثم لا حرمة بين الرضيع وبين الزانى وأهل نسبه.
والفريق الآخر يرى : أن المعنى الذى ينشر الحرمة هو التغذى باللبن ، فإن الواطئ حصل منه لبن وولد ، والولد ينشر الحرمة بينه وبين الواطئ ، فكذلك اللبن .
وعلى خلاف ما يرى بعض أساتذتنا ( ) فإننى أرجح القول الأول ، لأن النبى أناط حرمة الرضاع بحرمة النسب ، والزنا لا يثبت به نسب فلا يثبت به رضاع ، ثم إن حرمة لبن الفحل ثبتت بالنص ، أما اللبن ذاته فلم يتخلق من مائه، بدليل أن من النساء من يخلق لها لبن بغير وطء .
كيف تعرف قرابة الرضاع المحرمة ؟ ( )
إذا ارتضع شخص من غير أمه التى ولدته أصبحت له بهذا الرضاع أسرة جديدة تسمى الأسرة الرضاعية ، فضلا عن أسرته التى ولد فيها وتسمى الأسرة النسبية ، وكما ورد فى الحديث فإن الرضاع يحرم ما يحرمه النسب ، وقد علمت أن النسب يحرم سبعا هن : الأم وإن علت ، والبنت وإن نزلت ، والأخت ، والعمة، والخالة ، وبنات الأخ ، وبنات الأخت ، وإن بعدن جميعا .
ولمعرفة قرابة الرضاع المحرمة نعتبر الشخص الرضيع فردا من الأسرة التى أرضعته ، وننظر فى قرابات هذه الأسرة ، ونثبتها للرضيع كما نثبتها لواحد من أبنائها النسبيين ، فما يحرم على الولد النسبى يحرم على الولد الرضيع ، وما لا يحرم على الولد النسبى لا يحرم على الولد الرضيع .
مع ملاحظة أن قرابة الرضاع قرابة قاصرة على الرضيع وفروعه فقط ، فلا أثر لها فى تحريم قريباته من الأسرة الرضاعية على أقاربه النسبيين عدا فروعه – أولاده وأولاد أولاده وإن نزلوا – وبالتالى فإن للأخ من النسب أن يتزوج بمرضعة أخيه ، أو أخته من الرضاع ، أو خالة أخيه أو عمته من الأسرة الرضاعية ….. وهكذا .
ومن ناحية آخرى فإن المعول عليه فى ثبوت الأخوة الرضاعية هو حصول الارتضاع ، دون نظر إلى الاشتراك فى زمنه ، بمعنى أنه يحرم على الشخص كل من ارتضعن من المرأة التى أرضعته ، سواء كن مشاركات له فى زمن رضاعته، أو سابقات له ، أو لاحقات عليه ، وكذلك بنات المرضع ، فهن أخوات للمرتضع سواء كن قريناته ، أو أكبر منه أو أصغر ، فالعبرة دائما بوحدة الثدى ، وليس الاشتراك فى المص كما يفهم خطأ بعض العامة .
الاحتياط فى الإرضاع
يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ، هذه قاعدة شرعية لو تدبرتها لوجدتها غاية فى الخطورة خاصة متى جهلت واقعة الرضاع ولم تعرف ، لأن الرضاع ينشر المحرمية كما ينشرها النسب ، غير أن النسب معروف مشتهر ، أما الرضاع فقد يجهل كما قلنا .
وقد ألقت هذه الخطورة بظلالها على النظر الفقهى فى أحكام الرضاع ، فتناول الفقهاء أدق تفصيلاته ، ووقعت بينهم خلافات لو تأملتها لوجدت أن بعض النظر يتوخى عدم توسيع دائرة المحرمية إلا بدليل قوى لا يناله قدح من قريب أو بعيد ، لأن التحريم حكم خطير لا يصار إليه إلا بيقين أو ظن راجح جدا ، والبعض الآخر يحتاط للأبضاع – أى الاستمتاع بالنكاح – فلا يفتى بحل شئ منها ، إلا ما انتفت عنه كل شوائب المحرمية وشبهاتها .
واحتياطا لهذه الخطورة عامة اطرد فى المصنفات الفقهية قول الفقهاء "والواجب على النساء أن لا يرضعن كل صبى من غير ضرورة ، وإذا أرضعن فليحفظن ذلك ، وليشهرنه ويكتبنه احتياطا " ( ) وبسبب هذه الخطورة كان هذا المعترك الآتى عرضه .
الرضاع المحرم
قلنا إن الرضاع أمر خطير ، ومراعاة لخطورته فإن الفقهاء كثيرا ما يختلفون بسبب الحيطة المعتبرة أصلا عند كل فريق ، فمن يحتاط للحل يتشبث بالقطعى أو الغالب ، ومن يحتاط للحرمة يراعى كل شئ حتى المشتبهات .
أولا : ماهية الرضاع المحرم
ورد لفظ الرضاع فى القرآن الكريم والسنة المشرفة مجملا بالنظر إلى إطلاقه ، فهل يطلق على حصول اللبن بالوسيلة الغالبة ، وهى المص من الثدى ؟ أم أنه يطلق على مجرد حصول اللبن المغذى بصرف النظر عن وسيلته ؟
لقد وجدنا الفقهاء يختلفون فى هذا المعنى : -
1- فأهل الظاهر والجعفرية والأباضية : يقولون الرضاع المحرم هو ما امتصه الراضع من ثدى المرأة بفيه فقط ، أما من سقى لبن المرأة فشربه من إناء، أو حلب فى فيه فبلغه ، أو أطعمه فى خبز أو فى طعام ، أو صب فى فمه أو أنفه أو أذنه ، أو حقن به ، فكل ذلك لا يحرم شيئا ، ولو كان غذاء دهره كله ( ) .
2- وجمهور الفقهاء يقولون إن المعتبر هو معنى التغذى ، فيستوى فى تحريم الرضاع بحصول – الإرتضاع من الثدى والإسعاط والإيجار، لأن المؤثر فى التحريم هو حصول الغذاء باللبن ، وإنبات اللحم وإنشاز العظم وسد المجاعة"( ).
والإسعاط هو ما كان عن طريق الأنف ، والإيجار هو إيصال اللبن إلى الجوف عن طريق الفم ولكن بغير مص .
وعلى قول جمهور الفقهاء فإن كل ما يحصل به معنى الغذاء يسمى رضاعا، والقول الفصل فى ذلك – فى رأيى – لأهل الطب فهم الأعلم بالوسيلة التى تحقق معنى حصول الغذاء ، يقول السرخسى " وليس الموجب للحرمة عين الوصول إلى الجوف ، بل حصول معنى الغذاء ليثبت به شبهة البعضية " ( )
وعلى ذلك فالرضاع المحرم يتحقق بحصول معنى التغذى على أى وجه كان بلبن آدمية فى الوقت المخصوص للرضاع شرعاً .
ثانياً : وقت الرضاع :
لم يحد القرآن الكريم ولا السنة المشرفة الرضاع المحرم بحصوله فى مدة بعينها ، بل وردت فى السنة المشرفة روايات متعارضة فى هذا الأمر ، ومن ثم كان لابد من عرض قضية الوقت على محاك النظر والاجتهاد ، فى ضوء ظاهر النصوص ومقتضياتها .
وتمثل هذه القضية واحدة من أخطر القضايا ، لتعلق الرضاع كما قلنا بالتحليل والتحريم ، فما يحصل منه فى الوقت المحرم ينشر المحرمية ، وما يحصل بعده لا قيمة له .
وفى عبارات موجزة نقص ما كان ثم نتخير منه .
1- الرضاع يحرم وإن كان فى الكبر :
بمعنى أن الرضاع لا وقت له ، فمتى حصل الإرضاع نشر المحرمية ، وإن كان المرتضع كبيراً جاوز مرحلة الصغر .
بهذا الرأى يقول بعض الصحابة وبعض التابعين ، وقلة من الفقهاء أشهرهم الليث بن سعد ، وأهل الظاهر . ( )
بينما أكثر الصحابة والتابعين وسائر الفقهاء ينكرون هذا الرأى لأن رضاع الكبير لا ينبت لحماً ولا ينشر عظماً . ( )
وسبب هذا الخلاف – كما يقول العلامة ابن رشد( )- أنه ورد فى ذلك حديثان أحدهما : حديث سالم ، وهو ما روى أحمد ومسلم عن زينب بنت أم سلمة قالت : قالت أم سلمة لعائشة : إنه يدخل عليك الغلام الأيفع ما أحب أن يدخل على؟ فقالت عائشة : أما لك فى رسول الله  أسوة حسنة ؟ وقالت : إن إمراة أبى حذيفة قالت : يا رسول الله إن سالما يدخل على وهو رجل ، وفى نفس أبى حذيفة منه شئ ؟ فقال رسول الله  أرضعيه حتى يدخل عليك " ( )- .
والثانى : حديث عائشة خرجه البخارى ومسلم قالت " دخل رسول الله وعندى رجل ، فاشتد ذلك عليه ، ورأيت الغضب فى وجهه ، فقلت يا رسول الله : إنه أخى من الرضاعة فقال عليه الصلاة والسلام " انظرن من إخوانكن من الرضاعة ، فإن الرضاعة من المجاعة " ( ).
يقول ابن رشد " فمن ذهب إلى ترجيح هذا الحديث – أى حديث عائشة قال : لا يحرم اللبن الذى لا يقوم مقام الغذاء ، - ولم يعمل بحديث سالم – لأنه نازلة فى عين – أى رخصة خاصة بالسيدة سهلة زوج أبى حذيفة ، لأنها كانت قد ربت سالماً هذا وكانت تراه ابنا لها ، وشق عليها فراقه ، كما شقت عليها نظرة زوجها أبى حذيفة – وكان سائر أزواج النبى  يرون ذلك رخصة لسالم.( )
ومن رجح حديث سالم ، وعلل – أى رد – حديث عائشة بأنها لم تعمل به ، قال : يحرم رضاع الكبير " .
والراجح هو قول الجمهور ، لأن معنى المجاعة التى ذكرت فى الحديث الصحيح أقرب ما يكون إلى الرضاع فى الحولين المأمور به فى قول الله تعالى " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة " ( ) خاصة وأن فى بعض روايات الرضاع المحرم التصريح بذلك . ( )
وفى البعض الآخر ما روى أن النبى  قال " لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء ، وكان فى الثدى ، وكان قبل الفطام " ( ) وتفتيق الأمعاء باللبن يكون فى الصغر ، لأن أمعاء الصغير تكون ضيقة لا يفتقها إلا اللبن لكونه من ألطف الأغذية ، فأما أمعاء الكبير فمنفتقة لا تحتاج إلى الفتق باللبن . ( )
2- لا يحرم الرضاع إلا ما كان فى الصغر ولكن ما حد الصغر ؟
غلب رأى الجمهور المبنى على أن " الرضاعة من المجاعة " وأن الرضاع المحرم " ما فتق الأمعاء فى زمن الثدى قبل الفطام " .
ولكن ما هو زمن الثدى ؟ وماذا لو أن طفلاً فطم قبل انتهاء هذا الزمن وبعد فطامه أرضعته امرأة فهل يحرم عليها أم لا ؟
بداية نذكر بما قلنا سلفا إن الفقهاء لا يقولون بشئ من عند أنفسهم ، وإنما وفق ما يترجح فى نفس كل من دلالات النصوص وعطائها ، والنصوص التى يحتكم إليها فى هذا الأمر لا تدل دلالة قاطعة على حكم ما .
خذ مثلاً حديث القرآن عن الرضاع ، ومنه قول الله تعالى " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة " ( ). وقوله تعالى "وفصاله فى عامين " ( ) وقوله " وحمله وفصاله ثلاثون شهراً " ( ).
فهذه الآيات واردة نصاً فى إرضاع الأم النسبية صغيرها ، وتدل بظاهرها على أن الرضاع الواجب عليها هو ما كان فى الحولين ، وبانتهاء الحولين يحصل تمام الرضاع ، ويحق الفصال الذى لا يحتاج إلى تراض وتشاور من الأبوين .
وهذا المعنى يؤيده قول النبى  " لا رضاع إلا ما كان فى الحولين " وقوله " لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء فى الثدى ، وكان قبل الفطام " فيقتصر على هذه المدة أيضاً فى الرضاع المحرم .
ولكن الآية الأخيرة محتملة لمعنى آخر هو أن الله سبحانه وتعالى أضاف كلاً من الحمل والفصال – الرضاع – إلى الثلاثين شهراً ، "وظاهر هذه الإضافة يقتضى أن يكون جميع المذكور – أى الثلاثون شهراً – مدة لكل واحد منهما ، إلا أن الدليل قد قام – فى رأى الحنفية – على أن مدة الحمل لا تكون أكثر من سنتين، فبقى مدة الفصال على ظاهره ، أى ثلاثون شهراً " ( ).
وهذا المعنى – أى اعتبار مدة الثلاثين شهراً فى الرضاع – يمكن أن يقويه النظر العقلى – الاجتهاد – فالمستحيل عادة وعقلاً أن الإنسان لا يستطيع أن يتحول عن عادة اعتادها إلى غيرها مرة واحدة ، وإنما يتحول عنها شيئاً فشيئاً، ولا يتصور أن يتحول الطفل الذى عادته التغذى باللبن إلى التغذى بغيره مرة واحدة بمجرد بلوغ الحولين ، كذلك لا يتصور عقلاً أن يكون اللبن مغذياً فى الحولين وما دونهما ، وتنعدم فيه هذه الخاصية بعد الحولين فوراً ، المنطقى أنه يظل مؤثراً لمدة ( ) بعد الحولين .
ولكن ما هى المدة ؟ قيل أياماً ، وقيل شهوراً ، وقيل غير ذلك ، وكلها فى نظر المحققين تحكمات لا تستند إلى أدلة ثابتة . ( )
وإذ ظهر أن دلالات النصوص غير قاطعة فى حكم ما فمن البدهى أن يختلف العلماء فى ذلك ، وأشهر الآراء فى ذلك ثلاثة .
أولها : لجمهور الفقهاء ويرون أن الرضاع المحرم ما كان فى الحولين فقط ، وما وقع بعد الحولين لا يحرم .
الثانى : أن الرضاع المحرم ما وقع فى مدة الثلاثين شهراً ( )
الثالث : الرضاع المحرم ما وقع فى الثلاث سنوات الأولى من عمر الطفل ، محسوبة على أساس الثلاثين شهراً كمدة للرضاع ، مضافاً إليها ستة أشهر أخرى هى فى حكم الشارع أدنى مدة الحمل ، فنعتبرها المدة التى يمكن خلالها فطام الصغير شيئاً فشيئاً حتى ينسى اللبن ويتعود الطعام . ( )
والأقرب إلى النصوص هو قول الجمهور ، لأن الله ذكر أن تمام الرضاع وكماله يحصل فى الحولين ، وهو وإن كان نصاً فى الأم فإن الله لا يوصى بأقل ما يتغذى به الطفل فينبت لحمه وينشز عظمه ، بل المعهود فى خطابات الشرع أنه شديد الاحتياط لصالح الخلق خاصة الضعفاء ، وحاصل هذا أن الرضاع المغذى هو ما وقع فى الحولين خاصة ، فيقتصر على ذلك ولا يصار إلى غيره إلا بدليل ، ولم يقم دليل قوى يمكن التعويل عليه ، بل وردت الأدلة فى تقوية المعنى الأول وهو الاقتصار على الحولين .
فإن فطم الصبى قبل الحولين ثم رضع فيهما بعد فطامه وقبل انتهائها فهذا الرضاع يحرم كالرضاع قبل الفطام فالعبرة دائماً فى الحولين . ( )
ثالثاً : قدر الرضاع المحرم
الرضاع المذكور فى آية المحرمات مطلق عن التقدير ، فلم تحده الآية بقدر معين ، قال تعالى " وأمهاتكم اللاتى أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة " .
بينما وردت بعض روايات من السنة بتقدير الرضاع ، غير أن الروايات فى ذلك مختلفة ، ومن الروايات ما يشهد للتحريم المطلق عن التقدير ، كقول النبى  " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " حيث لم يذكر فى الرضاع قدراً معيناً ، فيحصل بالقليل والكثير. ( )
ومنها أيضاً ما روى البخارى عن عقبة بن الحارث أنه تزوج أم يحيى بنت أبى إهاب ، فجاءت امرأة سوداء فقالت : قد أرضعتكما ، قال فذكرت ذلك للنبى  فأعرض عنى ، فتنحيت فذكرت له ذلك ، فقال : وكيف وقد زعمت أنها قد أرضعتكما ، فنهاه عنها . ( )
ووجه الدلالة فى هذا الحديث : أن النبى  قد نهى عقبة عن أم يحيى بمجرد الإخبار عن حصول الرضاع من غير استفصال عن عدد ولا عن كيفية ، ولو كان القدر لازماً لاستفصل عنه ، فترك الاستفصال فى وقت الحاجة لا يليق بصاحب الشرع . ( )
هذا بينما وردت روايات صحيحة أخرى تفيد أنه " لا تحرم المصة ولا المصتان ، ولا الإملاجة ولا الإملاجتان " ( ) أى أن ما فوقهما هو المحرم . ولكن إلى أى قدر ؟ .
تعددت الروايات ، وأقواها ما روى عن عائشة رضى الله عنها قالت "أنزل فى القرآن عشر رضعات معلومات ، فنسخ من ذلك خمس رضعات إلى خمس رضعات معلومات ، فتوفى رسول الله  عليه وسلم والأمر على ذلك"( )
وفى قصة سالم أن النبى  قال " أرضعية خمس رضعات " فأرضعته خمس رضعات ، فكان بمنزله ولدها من الرضاعة .
وقد كان من نتيجة تعدد الروايات فى الرضاع ، واختلافها بين مطلق ومقيد ، وتعدد الروايات فى قدر المقيد ، أن اختلف العلماء فى قدر الرضاع المحرم إلى مذاهب كثيرة ، حصرها بعض العلماء فى خمسة ، والمشتهر منها اثنان:
1- قول جمهور الفقهاء : ومبناه أن قليل الرضاع وكثيرة سواء ، تمسكاً بمطلق آية الرضاع ، والأحاديث الصحيحة المقوية لهذا المعنى ، ولأن " الرضيع يصير كالجزء ممن أرضعته ، إذ يدخل لبنها فى تكوينه ، وذلك يتم بالقليل والكثير" . ( )
2- مذهب الشافعى وظاهر مذهب أحمد وإسحاق الثورى وابن حزم الظاهرى ، وجماعة من أهل العلم ، وهو قول عائشة رضى الله عنها ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن الزبير ، وعروة بن الزبير ، وجماعة من التابعين.( )
ومبنى هذا الرأى أن الرضاع المحرم هو ما بلغ خمس رضعات مشبعات متفرقات ، ويضبط ذلك بالعرف .
ومستند هذا الرأى : حديث عائشة وغيره فى ثبوت الخمس فإنها صحيحة ، وهى مقيدة ، فوجب حمل المطلق من الأدلة عليها .
يقول الإمام ابن القيم فى توجيه هذا القول وترجيحه :
" قالوا : وعائشة أعلم الأمة بحكم هذه المسألة هى ونساء النبى  ، وكانت عائشة رضى الله عنها إذا أرادت أن يدخل عليها أحد أمرت إحدى بنات أخوتها أو أخواتها فأرضعته خمس رضعات .
قالوا : ونفى التحريم بالرضعة والرضعتين صريح فى عدم تعليق التحريم بقليل الرضاع وكثيره ، ، وهى ثلاثة أحاديث صحيحة صريحة ، بعضها خرج جواباً للسائل ، وبعضها تأسيس حكم مبتدأ .
قالوا : وإذا علقنا التحريم بالخمس ، لا نكون قد خالفنا شيئاً من النصوص ، التى استدللتم بها ، وإنما نكون قد قيدنا مطلقها بالخمس ، وتقييد المطلق بيان ، لا نسخ ولا تخصيص .
وأما من علق التحريم بالقليل والكثير فإنه يخالف أحاديث نفى التحريم بالرضعة والرضعتين ، وأما صاحب الثلاث فإنه وإن لم يخالفها . فهو مخالف لأحاديث الخمس " . ( )
وحاصل كلام ابن القيم أن فى الأخذ بالخمس إعمالاً لكل الأدلة ، وإعمال كل الأدلة خير من إهمال بعضها " وهو ترجيح قوى لا يسهل رده.
وفى التقنينات الحديث :
فإنها اتفقت على إعمال ما اتفق عليه الفقهاء ، مما يثبت بالحديث الصحيح " يحرم من الرضاع ما يحرم من السنب ": أما ما عليه جمهور الفقهاء من اعتبار المصاهرة بالرضاع كأم زوجته رضاعاً ، وفروعها رضاعاً من غيره ( ) ، فيبدو من ظاهر النصوص القانونية الاختلاف فى هذا الشأن ، خاصة وأن الرأى المخالف ، وهو قول ابن تيمية وابن القيم ووافقهما عليه بعض المحققين – لا يخلو من وجاهة، بل هوـ كما يقول العلامة الشيخ أبو زهرة – نظر له وجهه، إذا تلونا قوله تعالى" حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتى أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتى فى حجوركم من نسائكم اللاتى دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف"( )
فقد ابتدأت الآية بذكر المحرمات من النسب ، ثم تلت ذلك بذكر المحرمات من الرضاع ، ثم ثلثت بذكر المحرمات بالمصاهرة ، وقد ظهر من السياق الربط بين الرضاع والنسب بذكر الأمومة والأخوة، ثم ذكر المحرمات بالمصاهرة ولم يشر بعدها للرضاعة، والمصاهرة لا تنصرف إلا إلى ما كان النسب سببها، ولو كانت الرضاعة تثبت مصاهرة لعقب التحريم بالمصاهرة بها، أو أشار النص إليها بعدها.( )
وعلى ذلك عولت بعض التقنينات على مذهب الجمهور فى هذا الشأن، كالقانون المصرى فإنه بإحالته على المذهب الحنفى – والأحناف ممن يقول . يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب والمصاهرة ( ) – يكون قد أخذ بمذهب الجمهور فى ذلك.
كما أخذ به صراحة التقنين المغربى فنص فى الفصل 28/1 بقوله "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب والمصاهرة " وفى الفصل 29/1 حرمُ الجمع بين امرأتين لو فرضت إحداهما ذكرا حرم عليه التزوج بالأخرى….. سواء كانت شقيقة أو لأب أو لأم أو من الرضاع " ويمكننا أن نصنف القانون العراقى من هذا القبيل ، فقد خلا من نص خاص فى بيان المحرمات بالرضاع ، وذكره مجملا كسبب من أسباب التحريم المؤبد " مادة 13" ولما كان المذهب الحنفى هو المعمول به – إلى جانب مذهب الجعفرية – فى العراق، فتفسير الرضاع وأحكامه سيجرى حتما وفق مذهب الحنفية فى قضايا السنيين.
وعلى العكس من ذلك تماما مشروع القانون العربى فهو ينص صراحة فى" المادة 12 فقرة ب " على الأخذ بقول ابن تيمية ومن معه، مقررا أنه" لا تثبت حرمات المصاهرة عن طريق الرضاع" ويقاربه فى ذلك القانون السودانى وإن لم ينص صراحة على مذهب ابن تيمية " م 17" وكذلك القانون اللبنانى "م18" والأمر فى التقنينات الأخرى غير ما ذكرنا مشكل.
فالقانونان السورى والأردنى ينصان على أنه " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ، إلا ما قرر فقهاء الحنفية استثناؤه " وهذا نص مشكل ، لأن الاقتصار على أوله يوحى باختيارهما مذهب ابن تيمية ، وإحالتهما فى الاستثناء على مذهب الحنفية يشير إلى أنه لم يخرج عن قول الجمهور ، خاصة وأن المادة377 من مرشد الحيران قد ذكرت فى المستثنيات من لا يحرم بالنسب والمصاهرة ، ويزداد الأمر إشكالا بالنظر فى المادة 31 أردنى والتى تنص على أنه " يحرم الجمع بين امرأتين بينهما حرمة النسب أو الرضاع ، بحيث لو فرضت واحدة منهما ذكرا لم يجز نكاحها من الأخرى" فالنص على الرضاع فى هذه المادة يحتمل أن يكون تأكيدا لصدر المادة 26 ، وذلك بذكر الرضاع حتى لا يتوهم الاقتصار فى تحريم الجمع على من بينهما حرمة نسب فقط، فتكون (المادة31) مؤكدة لأخذ المقنن الأردنى بمذهب ابن تيمية ، إذا لو كان سائرا على مذهب الجمهور لما احتاج إلى التكرار.
ولكن نفس النص يحتمل إفادة تأكيد تحريم المصاهرة بالرضاع ، أى عجز المادة (26) لأن تحريم الجمع بين الأختين من نوع التحريم بالمصاهرة ، فيكون ذكره تأكيدا على اعتبار مذهب الجمهور خاصة مع الإشارة الصريحة إلى مذهب الحنفية فى المادة (26) .
والحقيقة أنه لم يتيسر لى الإطلاع على المذكرات الإيضاحية لكل من القانونين الأردنى والسورى ، ولا على شروح لهما فى هذا الباب ، اللهم إلا شرحا موجزا للأستاذ الدكتور عبد الرحمن الصابونى – وهو سورى الجنسية – كثيرا ما يشير فيه إلى القانون السورى – باعتباره فى نظره أول قانون كامل للأحوال الشخصية صدر فى الوطن العربى( ) – وقد وجدت سيادته قد سار فيمن يحرم بالرضاع على مذهب الجمهور ، فذكر أن المحرمات بسبب الرضاع نظير المحرمات بسبب القرابة والمصاهرة …. وعلى هذا فإن المحرمات بالرضاع ثمانية أصناف:
1- أمه من الرضاعة وإن علت. 2-ابنته من الرضاعة وإن نزلت.
3- فروع أبويه الإناث من الرضاع وإن نزلن.
4- فروع أجداده الإناث من الرضاع إذا انفصلن ببطن واحد.
5- فروع امرأته من الرضاع إذا دخل بها وفروع فروعها.
6- أصول زوجته من الرضاع وإن علون.
7- زوجه أحد فروعه من الرضاع.
8- زوجه أحد أصوله من الرضاع( )
والأصناف من 5 إلى 8 محرمات بالمصاهرة الرضاعية.
والدكتور الصابونى وإن لم يشر إلى القانون السورى فى هذه الجزئية لكن خطته المرتضاة فى بحثه تفيد أن هذا هو ما يجرى عليه فى القانون السورى إذ لو فهم منه موقفا آخر لنبه عليه كما هى عادته.
وفى رأيى فإن الأخذ بمذهب ابن تيمية أفضل ، لأن " حرمة الرضاع تبدو استثنائية، ومن المصلحة عدم التوسع فيها، والحديث لم يصرح بحرمة المصاهرة فى الرضاع ، واقتصر على التشبيه بالنسب فبقى التحريم بالمصاهرة من طريق الرضاع لا دليل عليه من كتاب أو سنة ، ولا وجه للقياس مع الفوارق الظاهرة بين المصاهرة من طريق النسب ، والمصاهرة من طريق الرضاع ، خاصة وأن مفهوم حديث " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " وعموم الحل الثابت بقوله تعالى " وأحل لكم ما وراء ذلكم " يدل على عدم الحرمة بهذه المصاهرة… كما أن الأخذ بقول الجمهور يؤدى إلى إحراج الناس بأضيق الاجتهادات فى الحل والحرمة.( )
وفى وقت الرضاع وعدده :
نصت القوانين السورى (م 35 / ب) ، والمغربى ( 28/3) والسودانى (مادة 17) ، ومشروع القانون العربى الموحد ( مادة 14) على أنه " يشترط فى الرضاع للتحريم أن يكون فى العامين الأولين، وأن يبلغ خمس رضعات متفرقات ، يكتفى الرضيع فى كل منها، قل مقدارها أو كثر" وانفرد النص المغربى بعبارة " خمس مرات يقينا والرضعة لا تحسب إلا إذا عدت فى العرف رضعة كاملة".
أما القانون المصرى فهو مبق على العمل بمذهب الحنفية والراجح فيه أن قليل الرضاع وكثيره سواء فى نشر المحرمية ، بشرط أن يكون ذلك فى الحولين ، ويبدو أن التقنينات الأردنى واللبنانى والعراقى تنهج نهجه فى هذا ، فقد خلت من نص، وعند خلوها يطبق الراجح فى المذهب الحنفى. وقد رجحت فيما مضى إناطة التحريم بالحولين والخمس المشبعات المتفرقات.
إثبات واقعة الرضاع :
لم أقف على نص فى القوانين التى بين أيدينا يشير إلى حكم خاص فى إثبات واقعة الرضاع، ومن ثم فالواجب تطبيقه فى هذا الصدد هو مذهب الحنفية.
ومذهبهم فى ذلك على المعتمد( ) أن الرضاع المحرم لا يثبت إلا بالشهادة التى تثبت الحقوق المالية، وهى شهادة رجلين أو رجل وامرأتين ، لأن الحكم بثبوت الرضاع يقتضى زوال ملك النكاح إن كان موجوداً، فالشهادة به شهادة بالفرقة اقتضاء.
فإن نقصت البينة عن هذا النصاب فإنه يستحب ديانة المفارقة ، وقيل يجب، أما فى القضاء فلا يفرق إلا ببينة تامة.
وكما يثبت الرضاع بالبينة يثبت بالإقرار، فإن أقرت المرأة أن زوجها كان قد رضع منها، أو أنه أخوها من الرضاع ، أو ابن أختها من الرضاع ، وهكذا فرق بينهما، سواء صدقها أو كذبها.
ولكن المقرر كما قالوا له أن يرجع عن إقراره – قضاء لا ديانة – فإذا أقرت برضاع زوجها مثلا ثم رجعت قبل رجوعها ولم يفسخ نكاحهما .
وقد تأول الحنفية حديث عقبة بن الحارث" أنه تزوج أم يحيى بنت أبى إهاب فجاءت امرأة سوداء فقالت إنى أرضعتكما…. الحديث " على أن قول النبى  له "فارقها" محمول على الندب والاستحباب ، لأن الواقعة تذكر أن النبى  أعرض عنه، ولو كان التفريق واجبا لما أعرض، فالنكاح غير المشروع لا يقر عليه بحال.
ويتأيد هذا فى رأيهم بما رووا " أن رجلا تزوج امرأة فجاءت امرأة فزعمت أنها أرضعتهما فسأل الرجل عليا  فقال هى امرأتك ليس أحد يحرمها عليك فإن تنزهت فهو أفضل، وروى عن ابن عباس مثل ذلك".
والحقيقة أن مبنى مذهب الحنفية – كما يبدو لى – على أن الرضاع مما يشتهر ويطلع عليه العدد من الرجال والنساء ، وهذا صحيح بالنظر إلى المرضعات المحترفات نظير أجر، أما المتبرعات فغالبا ما يفعلنه دون إشاعة وربما لا يعلم به غير المرضعة، وهذا يبرر ضرورة اعتبار قول الواحدة فى الرضاع، فالنبى  قد اعتبره، ونهى بناء على قول الواحدة عقبة عن الاستمرار فى نكاح زوجته، ولا يليق ترك العمل بالظاهر من النص إلى القياس على الأموال، إذ لا قياس مع النص.( )
النوع الثالث: التحريم بالمصاهرة
المصاهرة:
هى الزواج ، يقال صاهر الرجل القوم إذا تزوج منهم؛ والمحرمات من النساء بسبب المصاهرة أربعة أصناف، جمعتهم آية وجزء آية من القرآن الكريم.
أما الآية فهى قوله تعالى " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا"( )
وأما جزء الآية فقوله تعالى فى آية المحرمات بعد ذكر المحرمات من النسب والرضاع "……وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتى فى حجوركم من نسائكم اللاتى دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم …"( )
فذكر الله تعالى زوجة الأصل وعبر عنه فى القرآن الكريم بالأب، كما ذكر أم الزوجة، وابنتها وقد سماها القرآن ربيبة، وأخيرا ذكر حليلة أى زوجة الابن، ولفظة الابن يراد بها الفرع المذكر عموما، سواء أكان فرعا مباشرا – ابن صلبى – أو غير مباشر أى ابن ابن، أو ابن بنت.
1- زوجة أصل الشخص وإن علا:
أصل الشخص‏ هو أبوه أو جده وإن علا، وجد الأصل يكون لأبيه ويكون لأمه، فإن تزوج أحد هؤلاء بامرأة حرم على فرعه – ابن الابن أو ابن البنت – أن يتزوجها من بعده.
وكما يلحظ من الآية الأولى فإن الله شنع على الاقتران بزوجة الأصل تشنيعا لا نجده حتى فى الزجر عن الزنا، قال تعالى " ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا"( ) بينما إذ يزجر عن منكحوحة الأصل يقول " إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا " فعقب – كما يقول القرطبى – " بالذم البالغ المتتابع ، وذلك دليل على أنه فعل انتهى من القبح إلى الغاية فيه"( ) وقال الرازى " إنه تعالى وصفه بثلاثة أمور:-
أولها: أنه فاحشة، وإنما وصف هذا النكاح بأنه فاحشة ، لأن زوجة الأب تشبه الأم، فكانت مباشرتها من أفحش الفواحش.
وثانيها: المقت، وهو عبارة عن بغض مقرون باستحقار، حصل ذلك بسبب أمر قبيح ارتكبه صاحبه، وهو من الله فى حق العبد يدل على غاية الخزى والخسار.
وثالثها: قوله" وساء سبيلا" أى ساء ذلك الفعل سبيلا. ثم يقول واعلم أن مراتب القبح ثلاثة: القبح فى العقول، وأشار إليه بقوله" إنه كان فاحشة" والقبح فى الشرع وأشار إليه بقوله" ومقتا " ، والقبح فى العرف والعادة وأشار إليه بقوله " وساء سبيلا" ومتى اجتمعت فيه هذه الوجوه فقد بلغ الغاية فى القبح"( )
وإنما بالغ القرآن الكريم فى هذا التنفير لأن هذا النكاح كان معروفا عند العرب، بل كما يقول المفسرون " كانت هذه السيرة – أى الطريقة – فى الأنصار لازمة، وكانت فى قريش مباحة مع التراضى"( ) واستمر فيهم حتى نزل القرآن الكريم بالتحريم ، وهذا النكاح هو ما كان يعرف بنكاح الضيزن ، ويقصد به: الرجل الذى يزاحم أباه فى زوجته، فبالغ فى ذمة تنفيرا منه( )، لما يؤدى إليه من امتداد أعين الأبناء إلى زوجة الأب ، والطمع فيها، بل ربما استعجلوا موت أبيهم لتكون لهم زوجته، ولا شك أن هذه سبل إلى مفاسد شتى، فهى توغر صدر الآباء على الأبناء ، وتوجب القطعية بين الرحم، وتزرع الشك والطمع فى نفوس الأهل، وقد تنتهى كما قلنا إلى أن يكيد الابن لأبيه أو يقتله، فدفع الله كل هذه المفاسد بسد هذا الباب( )، وقد روى عن البراء بن عازب قال "لقيت خالى ومعه الراية، فقلت: أين تريد؟ قال: أرسلنى رسول الله  إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده أن أضرب عنقه، أو أقتله"( ).
وقد أجمع علماء المسلمين على حرمة الزواج بزوجة الأصل سواء نكحها فى عقد زواج، أو وطئها بشبهة ، وسواء دخل بها أم لم يدخل( ).
ولكن إن كان الأب قد وطأ المرأة وطئا حراما أى زنا بها فهل تحرم على ابنه؟
اختلف الفقهاء فى هذا، ومرد هذا الخلاف إلى لفظة " ما نكح آباؤكم"هل يراد بها الوطء أم العقد؟ – وقد مر بنا أن لهذه اللفظة إطلاقين :-
* فمن حمل " النكاح " فى الآية هنا على الوطء قال : عموم الوطء أى فى حلال أو حرام – يقتضى تحريم التى وطئها الأب، ولا يلزم أن يكون ذلك بعقد نكاح حتى تحرم، لأن العلة فى التحريم هى مجرد الدخول بالمرأة، بدليل أن من نكح امرأته بملك يمين- أى كانت جاريته – حرمت على ابنه، ولم ينكحها هنا بعقد، كذلك من دخل بامرأة فى نكاح فاسد – وهو دخول حرام لا شك فيه ولم يدفع الحد عنه إلا الشبهة – فقد حرمت المدخول بها على ابنه ، فكذلك الوطء سفاحاً يحرم المرأة على الابن، بهذا الرأى يقول الأحناف وأحمد وبعض الصحابة وبعض التابعين ورواية عن مالك( ).
* وحمل الجمهور لفظة " النكاح" على العقد قالوا لا تحرم الموطوءة سفاحاً ولهم على ذلك أدلة كثيرة نتخير منها.( )
1- أن لفظة النكاح حقيقة فى العقد بدليل قول النبى  " النكاح سنتى" إذ لو كان النكاح حقيقة فى الوطء ، والوطء منه مباح ومنه سفاح ، للزم أن يكون الوطء بالسفاح سنة النبى  ، وحاشا أن يكون.
2- قوله تعالى" وهو الذى خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا"( ) قال الماوردى " فجمع فى الماءين الصهر والنسب، فلما انتفى عن ماء الزنا حكم النسب، انتفى عنه حكم المصاهرة"( ).
3- ولأنه وطء لا تصير به المرأة فراشا فلا يحرم كوطء الصغيرة.
4- وقد كان الشافعى  - وهو أكثر المنتصرين لهذا الرأى – يقول مناظرا الحنفية، وقد قال له مناظره " أجد جماعاً وجماعا؟" يعنى أن الوطء فى الحل بالعقد كالوطء فى الحرمة سفاحاً، فكله جماع فيتساويان فى الحكم" قال الشافعى " جماعا حمدت به، وجماعا رجمت به، وأحدهما نعمة، وجعله الله نسبا وصهراً، وأوجب حقوقا، وجعلك محرما به لأم امرأتك، ولابنتها تسافر بهما، وجعل الزنا نقمة فى الدنيا بالحد، وفى الآخرة بالنار إلا أن يعفو، أفتقيس الحرام الذى هو نقمة على الحلال الذى هو نعمة؟!!( )
فبين الشافعى أن الجماعين لما افترقا فى الأحكام التى أجمعنا عليها . وجب أن يفترقا فى تحريم المصاهرة التى اختلفنا فيها .
ثم يورد الشافعى على المخالفين له دليلا فى غاية القوة فيقول " إن قال لك قائل : وجدت المطلقة ثلاثا تحل بجماع الزوج ، وأحلها بالزنا ، لأنه جماع لجماع – أى هو وطء كوطء العقد – كما حرمت به الحلال لأنه جماع وجماع " فأجابه هذا المناظر بأن قال : إذن نخطئ ، لأن الله تعالى أحلها – أى المطلقة ثلاثا – بإصابة زوج " .
فقال الشافعى " وكذلك ما حرم الله فى كتابه بنكاح زوج ، وإصابة زوج" ( ) .
5 – ولهم أيضا دليل آخر يستقونه من تمليك الشرع الرجل حق الطلاق، ويقولون " لو ثبت تحريم المصاهرة بما حرم من الوطء والقبلة والملامسة بشهوة لما شاءت امرأة أن تفارق زوجها إذا كرهته إلا فارقته بتقبيل ابنه فيصير الفراق بيدها وقد جعله الله بيد الزوج دونها " ( ) .
وعلى هذا الخلاف المتقدم يجرى الخلاف فى التمتع بالمرأة بما دون الوطء ، وذلك كالتقبيل و اللمس والنظر ، وسنعرض لموجزه لاحقا .
الصنف الثانى : زوجة فرع الشخص وإن نزل .
وسند هذا التحريم قول الله تعالى " وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم"( ) .
فحليلة الابن أى من حلت له ، ولا تحل المرأة للرجل إلا بزواجه منها ، وقد ذكر الله فى الآية قيد " من أصلابكم " .
وقد اتفق ( ) على أنه يخرج حليلة الابن بالتبنى – وقد كان جائزا فى أول الإسلام ثم حرم بقوله تعالى " وما جعل أدعياءكم أبناءكم " ( ) – فللرجل أن يتزوج بحليلة المتبنى ، وقد فرضه الله على النبى  فزوجه السيدة زينب بن جحش ، وكانت قبل زواج النبى منها زوجة لدعيه أو متبناه قبل التحريم ، وهو زيد بن حارثة  ليجهض الله سبحانه بذلك آثار التبنى ، أو كما يقول سبحانه " لكيلا يكون على المؤمنين حرج فى أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا " ( ) .
وباستبعاد حليلة الابن المتبنى تبقى حليلة الابن من الصلب ، والابن من الرضاع ، والأول لا خلاف فيه ، أما الثانى فقد مر بنا أن جمهور العلماء ( ) يحرمون حليلته على الفحل – الأب الرضاعى – ويقولون يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب والمصاهرة ، أما ابن تيمية وابن القيم فلا يريان للرضاع أثراً فى التحريم بالمصاهرة ( ) وقد اخترنا رأيهما لأسباب ذكرناها فيما سبق فارجع إليها .
وقد اتفق العلماء على أن حليلة الابن تحرم بنفس العقد الصحيح لأن عموم الآية يتناول حليلة الابن سواء كانت مدخولا بها أو لم تكن ، وكذلك إن دخل بها فى نكاح فاسد أو وطئها بشبهة ، قال ابن المنذر " أجمع كل من تحفظ عنه من علماء الأمصار على أن الرجل إذا وطء امرأة بنكاح فاسد أنها تحرم على أبيه وابنه وعلى أجداده وولد ولده " ( ) .
أما إن كان الوطء سفاحا فيجرى فيه الخلاف المتقدم فى موطؤة الأب سفاحا .
الصنف الثالث : أم الزوجة وإن علت .
يقصد بأم الزوجة من لها على الزوجة ولادة ، وهذا الوصف يصدق على الأم وعلى الجدة سواء أكانت من قبل الأم أم من قبل الأب فمن تزوج امرأة حرمت عليه أصولها من النساء .
ولكن هل تحرم عليه الأصول بمجرد العقد ، أم لا يحرمن إلا بالدخول ؟
قول الجمهور الذى عليه الحكم والفتيا أن مجرد العقد على البنات يحرم الأمهات ، وقد كان عبد الله بن عباس يقول " أبهموا ما أبهم القرآن " يعنى عمموا حكمها فى كل حال ، ولا تفصلوا بين المدخول بها وبين غيرها . ( )
وفى رأى بعض الصحابة أن الأم لا تحرم إلا بالدخول بالبنت ، لأن الله قال " وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتى فى جحوركم من نسائكم اللاتى دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم " فقد شرط الله تعالى فى عقبه الدخول ، والأصل أن الشرط والاستثناء إذا تعقب كلمات معطوفة بعضها على بعض ينصرف إلى جميع ما سبق ذكره " ( ) .
وهذا غير صحيح لما روى عن النبى  قال " من تزوج امرأة حرمت عليه أمها دخل بها – أى المرأة – أو لم يدخل ، وحرمت عليه ابنتها إن دخل بها"( ) .
ثم إن الله شرط الدخول بالربيبة ، ووصفها بأنها فى الحجر ، ومن النساء المدخول بهن ، وأم الزوجة لا تكون فى الحجر ، كما لا تكون من النساء المدخول بهن .( )
ومن جانب ثالث فإن " الأم " المذكورة فى الآية قد تقدمها مطلق – عن الشرط – وتعقبها مشروط ، فكان إلحاقها بالمطلق المتقدم أولى من إلحاقها بالمشروط المتأخر . ( )
وعلى ذلك استقر فى الفقه الحنيف أن " العقد على البنات يحرم الأمهات، والدخول بالأمهات يحرم البنات " .
وإنما افترقت الأم والبنت فى هذه المسألة لأن فى الأمهات من الرقة والمحبة لبناتهن ما ليس فى البنات لأمهاتهن ، فلما كانت الأم أكثر رقة وحبا لم تضن على بنتها بعدول الزواج إليها ، فجاز أن يكون الدخول بالأم مشروطا فى تحريم البنت ، لأنها ربما ضنت بالزوج بعد دخوله بها ما لم تضن به قبله ، وليس كذلك البنت ، لأنها لما كانت أقل رقة وحبا ضنت على أمها بعدول الزوج إليها ، فأفضى إلى القطيعة والعقوق قبل الدخول كإفضائه بعده فلم يجعل الدخول شرطا " .( )
الصنف الرابع : فرع الزوجة المدخول بها
وكما رأيت فى النص القرآنى أن الله سبحانه قد سماها ربيبة ، وأنه قد حرمها متى دخل الزوج بأمها ، فإن لم يدخل بأمها ولكن عقد عليها فحسب فإنها لا تحرم عليه . وقد عرفت السر فى ذلك .
الغاية أنه قد تعلق بها وصف ، واشترط فى تحريمها الدخول بالأم والدخول معروف ، أما الربيبة فمأخوذة من أحد معنيين :- ( )
أولهما : من التربية والكفالة وسميت كذلك باعتبار أنها غالبا ما تكون مع أمها فيربيها الزوج ويكفلها .
والثانى : من معنى الرب أى التدبير والعناية ، لأنها ترب الدار أى تدبرها وتعنى بها .
وقد اتفق الفقهاء على اعتبار الشرط – الدخول بالأم – أما الوصف – أى كونها ربيبة فى جحر زوج الأم وكنفه فهذا ما اختلف فيه . ( )
فروى عن الإمام على بن أبى طالب وهو قول داود الظاهرى أنها لا تحرم إلا إذا كانت ربيبة لقول الله تعالى " وربائبكم اللاتى فى حجوركم من نسائكم اللاتى دخلتم بهن " فوجب أن يعتبر الوصف والشرط .
وقال الجمهور : إن ذكر هذا الوصف باعتبار الغالب من حال البنات أنهن يكن مع أمهاتهن ، وليس شرطا فى الحل لأنه لا يؤثر فى حلائل الأبناء ، ولا فى إباحة بنات العم ، فكذلك فى الربائب .
وأيضا لما روى عن النبى  أنه قال " ….. وحرمت عليه ابنتها – أى ابنة الزوجة - إن دخل بها " دون أن يقيد الحرمة بكونها فى الحجر أو بعيدا عنه.
وربما كان ذكر الحجر تقبيحا لهذا الزواج ، لأنهن بالوجود فى كنفه يصرن كبناته فيقبح زواجه منهن فضلا عن الحرمة ، حيث يكون لهن ما لبناته من الحرمة .( )
أثر الزنا بالأم وابنتها على حرمة الأخرى
إذا زنا رجل بامرأة فهل تحرم عليه ابنتها ، وإن زنا بالبنت فهل تحرم عليه الأم ؟ خلاف بين العلماء على غرار الخلاف السابق فى موطؤة الأب ( ) والابن سفاحا ، فمن الفقهاء من اعتبر مجرد الوطء بصرف النظر عن كونه حلالا أو حراما ، ومنهم من قال لا يعتد إلا بالوطء الذى لا حد فيه ، ويكون كذلك متى كان بعقد أوطئا بشبهة ، ولا يغيبن عن البال أن العقد على البنات يحرم الأمهات .
عقد على امرأة ثم نظر إليها أو مسها بشهوة فهل تحرم عليه ابنتها ؟
يعبر بالنظر بشهوة والمس بشهوة عن الاستمتاع بما دون الدخول ، وكما هو واضح فى آية المحرمات أن الله سبحانه حرم الربيبة بشرط الدخول بالأم ، ولكن هل يقوم الاستمتاع بما دون الدخول مقامه ، خاصة وأن فيه معنى التمتع ؟
الإمام أبو حنيفة وبعض الفقهاء ينزل الاستمتاع بما دون الدخول منزلة الدخول ( ) وتمسكوا فى هذا بحديث ضعيف ، فيه أن النبى  قال " لا ينظر الله إلى رجل نظر إلى فرج امرأة وبنتها " ( ) .
وفى رأى جمهور العلماء فإن القرآن الكريم عبر بالدخول وهو لفظ مطلق لا ينصرف إلا إلى معناه الحقيقى ، وهو المباشرة لا غير ، والأخبار – الروايات – التى يستند إليها المعارضون ضعيفة لا تقوى على التقيد .( )
ورأى الجمهور هو الراجح لموافقته صريح القرآن ، ومناسبته ليسر الإسلام وسماحته .
وفى التقنينات :
فإنه فيما خلا القانونان المصرى والسورى ، تأخذ التقنينات بمذهب الجمهور فى إناطة التحريم بالمصاهرة بالعقد أو الوطء الذى لا حد فيه ، واعتبار حقيقة الدخول بالأم لتحريم البنت ، وبهذا يأخذ مشروع القانون العربى الموحد( ) أما القانون السورى فقد سار على مذهب الإمام أبى حنيفة – وهو قول بعض الصحابة وجمهور التابعين – فعول على مجرد الوطء فى نشر محرمية المصاهرة بصرف النظر عن كونه حلالا أو حراما ، غير أنه لم يلتفت إلى قول أبى حنيفة فى إنزال مقدمات الجماع منزلة الجماع فى تحريم البنت على زوج أمها .
وفى ذلك تنص المادة 34 بقولها " يحرم على الرجل زوجة أصله أو فرعه ، أو موطوءة أحدهما ، وأصل موطوءته أو فرعها ، وأصل زوجته ."
وإعمالا لنص المادة 280 من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية فإن ما أخذ به القانون السورى هو ما يجرى عليه العمل فى مصر ، وتضمنته
المادتان23، 24 من مرشد الحيران :
1- المادة 23 : يحرم على الرجل أن يتزوج بنت زوجته التى دخل بها وهو مشتهى وهى مشتهاة ، سواء كان فى نكاح صحيح أو فاسد ، فإن دخل بها وهو غير مشتهى ، أو هى غير مشتهاة ، أو ماتت قبل الدخول أو طلقها ولم يكن دخل بها فلا تحرم عليه بنتها ، وتحرم عليه أم زوجته بمجرد العقد الصحيح عليها وإن لم يدخل يها ، وزوجة فرعه وإن سفل وأصله وإن علا ولو لم يدخل بها فى النكاح الصحيح .
2- المادة 24 : يحرم على الرجل أن يتزوج أصل مزنيته وفرعها ، وتحرم المزنى بها على أصوله وفروعه ، ولا تحرم عليهم أصولها وفروعها .
المحرمات على التأقيت
وهن جمع من النساء يحرم الزواج بهن خلال زمن معين ، أو نظرا لقيام مانع ما ، ومتى مضى الزمن على زوال المانع حلت المرأة للزواج بهذا الشخص ، ولهذا كن محرمات مؤقتا لا على وجه التأبيد .
وسنعرض للمحرمات تأقيتا حسب النص أو التنبيه عليهن فى القرآن الكريم ، فنبتدئ بمن ورد ذكرهن أو لا ونختم بأخرهن ذكرا .
أولا : المشركات
يستهل القرآن الكريم حديث التحريم المؤقت – حسب ترتيب السور فى المصحف الشريف – بالنهى عن نكاح المشركات والمشركين ، ناصا على علة النهى ، قال تعالى " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعوا إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون ( ) وهذه الآية وردت عقب قوله تعالى " …. ويسئلونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم …." ( ) .
وعلى الراجح فى التفسير أن المراد بالخلط هنا هو المصاهرة بالنكاح ، بمعنى أنه ينبغى عليكم أن تناكحوا اليتامى لتأكيد الآلفة ( ) .
ولأن اليتيم قد يفقد زخرف الدنيا وزينتها ، فيقل الإعجاب باليتيمات واليتامى حذر الله سبحانه وتعالى أن يكون الداعى إلى النكاح هو مجرد العجب الدنيوى ، فعطف على آية اليتامى ما يبعث على الرغبة فى نكاحهم ونكاحهن ، فنهى نهيا شديدا عن نكاح المشركات والمشركين ، وإن بلغن وبلغوا النهاية فيما تقتضيه الرغبات الدنيوية ( )
والعلماء مختلفون فيما يتناوله لفظ " المشرك " خاصة فيما يتعلق بأهل الكتاب من اليهود والنصارى لقول الأولين فى عزير ، وقول الآخرين فى المسيح عليه السلام .( )
ومع هذا فإن نكاح الكتابيات مباح فى الأصل بقول الله تعالى " اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسا فحين ولا متخذى أخدان " ( ) .
وبهذا قال جمهور العلماء استنادا إلى الآية ، ولما روى عن النبى  فى معاملة المجوس من قوله " سنوا بهم سنة أهل الكتاب ، غير ناكحى نسائهم ولا آكلى ذبائحهم " ( ) فقوله " غير ناكحى الخ استثناء من جملة معاملة أهل الكتاب ولا يستثنى إلا من مقرر . ثم إن من الصحابة من تزوج بكتابيات ولم نجد منهم من أنكر ذلك إنكار تحريم ، بل كل ما نقل أن ابن عمر توقف فى الحكم ( ) وعمر رضى الله عنه حذر منه تحذيرا غاية فى الفطنة والذكاء قال " لا أزعم أنها حرام ولكنى أخاف أن تعاطوا المومسات منهن"( ).
والمعنى فيما يظهر لى أن الرغبة فى غير المسلمة لا تبنى على الدين قطعا ، بل على غرض آخر ، وذات الدين من غير المسلمات تحرص فى زواجها على الارتباط بمن ترتضى دينه ، وليس من ذلك الإسلام فيما أظن ، إذا لوراقها لأسلمت ، فلم يبق إلا أن تكون مغرضة ومع الجهل بحالها يخشى منها الانحراف ، فمن أراد الاحتياط لدينه وولده وسلامة نفسه من الوساوس فليرعى خشية عمر  .
ومن جانب آخر فإن ابن عباس والنخعى ومالك وغيرهم لا يرون نكاح الحربيات من أهل الكتاب ، قالوا لأن بيننا وبينهم قتال ، ويخشى أن يترك ولده بدار الحرب ، أو تفر به إليها ( ) وهذا واقع اليوم .
وفيما خلا أهل الكتاب فإنه لا يجوز للمسلم أن ينكح غير مسلمة ، سواء أكانت وثنية ، أو تتبع عقيدة مفتراة كالبوذية والهندوكية .
وإن كان الزوجان مشركين فأسلم الزوج وبقيت الزوجة على شركها فعليه أن يفارقها لقول الله تعالى " ولا تمسكوا بعصم الكوافر " ( ).
وفى النكاح مع اختلاف الدين يختلف الرجل عن المرأة ، أما الرجل فله أن ينكح – مع تكريه البعض – كتابية ، أما المرأة المسلمة فلا ينكحها إلا مسلم بإجماع علماء المسلمين ( ) . وسر هذه التفرقة أن أمر النكاح بيد الرجل فإن شاء فارق وإن شاء أمسك ، وفى زواج المسلمة بغير المسلم إبقاء لعصمتها فى يد من يبغض دينها ، فربما يمسكها بغضا لا حبا ، وعداء لا مودة .
ومن جانب ثان فإن المسلم مأمور ديانة بالقسط والعدل والبر بأهل الكتاب ، فيغلب أن يكون إمساكه لزوجه بإحسان فلا يضر بها ، ولا يمنعها القيام بشعائر عقيدتها ، بخلاف الكتابى فإن الظاهر من إخبارات القرآن الكريم عن خفايا صدورهم أنهم لا يرضون ديننا أبدا ، بل لا يرضون عنا إلا أن نكون على شاكلتهم ، مما يحقق أن المسلمة لا تأمن على دينها وهى تحت غير المسلم ، ومن هنا كان النهى القرآنى المؤكد " لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن " ( ) .
ويعتبر فى حكم المشرك المرتد عن دين الإسلام ، ويفرق بينه وبين زوجه بعد أن يستتاب ولم يتب ، " ولا يجوز له فى دار الإسلام زواج مطلقا ولو من غير مسلمة كتابية كانت أو غير كتابية ، لأنه بردته وإصراره يكون دمه مباحا فيأخذ حكم الميت " ( ) .
ثانيا : المطلقة ثلاثا بالنسبة لمطلقها
وهى ثانية المذكورات من المحرمات مؤقتا بعد المشركة ، ففى سياق متصل عن الطلاق يبين الله تعالى عدة الطلاق وعدده وأنه رجعى لا يفصم عرى الزوجية بمرتين ، فإن كانت الثالثة حرمت على مطلقها حتى تنكح زوجا غيره ، ثم يفارقها هذا الأخير وتنقضى عدتها ، عندئذ لمطلقها الأول أن يتزوجها ثانية إن رضيت .
يقول سبحانه " فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما إن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون " ( ) .
وواضح من الآية أن الطلقة الثالثة تنفى الحل ، ثم إن حصول الحل موقوف على شرائط خمسة ( )
1- أن تعتد من مطلقها .
2- أن يعقد عليها آخر بعد انتهاء عدتها ، لأن نكاح المعتدة لا يجوز كما سترى ، ويشترط فى العقد الثانى أن يكون صحيحا ، فإن كان فاسدا لم تحل للأول" لأن الأحكام إذا اختصت بالعقود تعلقت بالصحيح منها دون الفاسد"( ).
3- أن يطأها الثانى لأن الله سبحانه وتعالى قال "حتى تنكح زوجا غيره" فاقتضت الآية نفى الحل ممدودا إلى غاية ، وهى قوله " حتى تنكح " وما كان غاية للشئ يجب انتهاء الحكم عند ثبوته " ( ) والثابت بالآية أن المراد بالنكاح هنا " الوطء"،لأن الله أثبت للواطئ زوجية،والزوجية تسبق الوطء لا تتأخر عنه.
وقد تأيد هذا بالسنة المشرفة ، ففيما روى الدارقطنى والجماعة عن عائشة رضى الله عنها قالت : قال رسول الله  " إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ، ويذوق كل واحد منهما عسيلة صاحبه " ( ) وهذا ما فهمه علماء الإسلام من الآية والحديث ولم يشذ عن ذلك إلا سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير رضى الله عنهما ، فقالا : تحل بمجرد العقد دون الإصابة – الوطء – فحملا لفظة " حتى تنكح " على العقد ، ولم يشرطا الدخول.
وقولهما مردود لمخالفته صريح السنة ، حتى قال بعض العلماء " من عقد على مذهب سعيد بن المسيب فللقاضى أن يفسخه ، ولا يعتبر فيه خلافه لأنه خارج عن إجماع العلماء " ( ) وهذا صحيح لأن الله أراد بالتغليظ – أعنى العقد ثم الوطء – " إغاظة الزوج – الأول – حتى لا يسرع فى كثرة الطلاق فعومل بما يبغض – يكره – حين عمل أبغض ما يباح " ( ) ولله در ابن سينا حيث يقول " نعم ما أمر به أحكم الشارعين ؛ أنها لا تحل له بعد الثالثة إلا بعد أن يوطن نفسه على تجرع مضض لا مضض فوقه ، وهو تمكين رجل آخر من حليلته بأن يتزوجها بنكاح صحيح ويطأها بوطء صريح ، فإنه إذا كان بين عينيه مثل هذا الخطب لم يقدم على الفرقة بالجزاف ، إلا أن يصمم على الفرقة التامة " ( ).
4- أن يفارقها الثانى بالطلاق أو الوفاة .
5- أن تنقضى عدتها .
وبحصول ذلك يحل للأول أن ينكحها إن أراد ، وتذكر أن نكاح الثانى إن كان بقصد التحليل فهو نكاح محرم اتفاقا ، وباطل فى رأى جمهور الفقهاء ، وقد مر بنا فيما سبق ( ) .
زوجة الغير ومعتدته
تحريم زوجة الغير ومعتدته ورد أولا فى سورة البقرة ، ثم نص على تحريم زوجة الغير صراحة فى سورة النساء ، غير أن خطاب التحريم فى سورة البقرة صريح فى المعتدة ، أما الزوجة فيستفاد تحريمها حال قيام الزوجية بدلالة النص أو فحوى الخطاب ( ) لأن تحريم نكاح المعتدة يقتضى تحريم ذات الزوجية من باب أولى .
أ- زوجة الغير
وقد نص على تحريمها صراحة فى تالية آية المحرمات " حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم ……. " حيث قال الله تعالى " والمحصنات من النساء " ( ) وقد أجمع العلماء على أن مراد الله بالمحصنات هنا المتزوجات سواء كن مسلمات أو غير مسلمات ، وسواء كن عفائف – جمع عفيفة – أو لا ، والدليل على أن المراد ذلك : أنه تعالى " عطف المحصنات على المحرمات ، فلابد وأن يكون الإحصان سببا للحرمة ، ومعلوم أن العفة والإسلام لا تأثير لهما فى ذلك ، فوجب أن يكون المراد منه المزوجة ، لأن كون المرأة ذات زوج له تأثير فى كونها محرمة على الغير " ( ) .
ويستوى فى الزوجة أن تكون تحت مسلم أو غير مسلم ، لأن الله سبحانه قال " من النساء " ولم يقل من نسائكم فحرم جميع النساء المتزوجات حفظا للأنساب ، وحماية لحق الزوج ، ودفعا للشحناء والتباغض وإن وقع شئ من ذلك– الارتباط بزوجة الغير – مع العلم به كان زنا ، لا يترتب عليه أى حق لأحدهما ، وتلزمهما العقوبة الواجبة ، وإن حدث نتيجة شبهة ، كما لو ظنت أن زوجها مات ، ثم ظهر حيا قبل أن يحكم بفقده ، فإنه يجب التفريق بينهما ، وإن كان الثانى قد دخل بها لزمتها العدة ( ) وقد سبق أن قلنا أن المعتدة من طلاق رجعى لم تزل زوجة حتى تنقضى عدتها ، فعندئذ تبين من مطلقها
ب- المعتدة
ورد تحريم الزواج بالمعتدة فى حديث القرآن الكريم عن عدة الوفاة صريحا قال تعالى " ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله " ( ) والمراد بالكتاب هنا العدة المفروضة ، والمعنى " حتى تبلغ العدة المفروضة آخرها وتصير منقضية " ( ) والتصريح بحرمة العقد على المتوفى عنها زوجها فى عدتها أبلغ فى إفادة تحريم المعتدة ، لأنه أوجب الحرمة مع انقطاع حق الزوج ورغبته فيها يقينا ، فضلا عن عدم اعتبار حاجتها إلى زوج آخر بعد فقد الأول ما دامت فى العدة ، فيفيد ذلك حرمة المعتدة من طلاق من باب أولى ، لأن تحريم من انقطع عنها الحق بالكلية يوجب تحريم من يتعلق بها نوع حق .
ومع هذا فإن تحريم المعتدة لغير الوفاة ثبت بآيات أخر منها قول الله تعالى " والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله فى أرحامهن … " ( ) فأوجب عليهن التربص والانتظار وقال " وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن " ( ) فأبان عدة الحامل ، وفى كل حال فإن ارتباطهن بالأزواج مشروط بإنقضاء الأجل ، قال سبحانه " وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف"( ).
ويتحصل من كل ذلك قطعية تحريم العقد على المعتدة من وفاة أو طلاق، ويلحق بهاتين المعتدة من مفارقة بفسخ لفساد عقدها ، أو كونها وطئت بشبهة ، ويحرم من باب أولى عقد الأجنبى على المعتدة من طلاق رجعى لأنها لم تزل زوجة ( ) .
العقد على المعتدة فى عدتها
كلامنا هنا عن العاقد الأجنبى – أى من لم يكن زوجا – فإن كان العاقد زوجا بانت منه زوجته بالطلاق البائن بينونة كبرى فلا يحل له عقد حتى تنكح زوجا غيره كما عرفنا ، وإن كانت بائنا بينونة صغرى فعقده جائز وإن كانت فى عدتها ، لأن العدة لاستبراء الرحم ، وخوف اختلاط الأنساب ، ولا محل لذلك مع المطلق لأن ما تأتى به من ولد ينسب إليه متى ولد فى المدة المحتملة لذلك شرعا، فلم يعد للمنع من العقد موضع ( ) .
أما الأجنبى فإنه إن عقد على معتدة مع العلم بكونها فى العدة فهو آثم ديانة ومؤاخذ قضاء ، وعقده باطل لا يترتب عليه أثر ، وإن دخل بها فحكمه حكم الزانى فى الحد وغيره ( ) .
ومعاملة لهذا الناكح فى العدة بنقيض مقصوده أفتى الإمام مالك أنه يفرق بين الرجل والمرأة ولا تحل له أبدا ، لأنه استعجل شيئا قبل أوانه فعوقب بحرمانه ، وهو رواية عن أحمد ، وقول الشافعى فى القديم ، وقضى به عمر رضى الله عنه ، وبه يأخذ الجعفرية .
وجمهور العلماء يقولون : لا تحرم تأبيدا ولكن يفرق بينهما حتى تنقضى عدتها ، ثم له إن شاء أن يخطبها ( ) ، وإن كان قد عقد عليها غير عالم بالعدة فالعقد ينعقد فاسدا ، فلا يترتب عليه بمجرده أثر ، ويجب التفريق بينهما ، وإن دخل بها مع الجهل فلا حد ، ولها الصداق بما استحل من فروجها ، وتكمل ما أفسدت من عدة الأول وتعتد من الآخر ( ) ويثبت نسب ما تأتى به من ولد من الآخر إن ألحقته القافة به .
العقد على الزانية .
يلحق العلماء بالمعتدة من النكاح الصحيح المعتدة من غيره كالمنكوحة نكاحا فاسدا ، والموطوءة بشبهة ، والزانية .
والأوليان يحل نكاحهما والدخول بهما لمن هما معتدتان منه ، كالبائن بينونة صغرى بالنسبة لزوجها ، وبالنسبة لغيره فحكمها حكم المعتدة من نكاح صحيح .
أما الزانية فالزواج منها مذموم ديانة فى كل حال ، وكما أخبر الله تعالى فإن نفس المؤمن لا تطيق هذا الزواج ، يقول سبحانه " الزانى لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك " ( ) فإن زنت امرأة فقد عصت ربها ، وتلزمها أمور منها استبراء رحمها بالعدة ، ولكن ما الحكم لو أرادها رجل قبل أن تستبرئ ؟
يفرق العلماء بين ما إذا كان العاقد هو الزانى أو غيره ( ) فإن كان الزانى فإن جمهرة العلماء يجيزون زواجه ، بل ودخوله بها عقب العقد مباشرة ، دون استبراء للرحم ، لأن ما عساه يكون فيه فهو نتيجة اتصاله ( ) ، فإن وضعت لأقل من ستة أشهر من تاريخ العقد عليها فلا يثبت نسبه منه إلا إذا ادعاه، وإن وضعت لستة أشهر فما فوقها ثبت نسبه دون دعوة ، وستأتيك التفصيلات فيما بعد .
وإن كان الراغب فيها غير الزانى فجمهور العلماء يمنعون من العقد عليها والدخول بها ، حتى لا يسقى زرع غيره ، ولاحتمال أن تكون حاملا ، فيسقى ماؤه زرع غيره ، ولأن نكاحها يفضى إلى اشتباه النسب ( ) .
وخالف أبو حنيفة ومحمد والشافعى فأجازوا العقد ولكن إن تبين أنها حامل فإن الدخول بها يحرم ( ) حتى تضع ، لأن العلة عندهم فى تحريم العقد على الحامل من زواج هى احترام صاحب الماء ولا حرمة لماء الزنى ، ولكن لا يحل وطؤها حتى تضع مراعاة للنهى عن سقى زرع الغير .
رابعا : الخامسة على من فى عصمته أربع نسوة .
أباح الإسلام للرجل أن يجمع فى عصمة واحدة أربع نسوة فى قول الله تعالى " وإن خفتم ألا تقسطوا فى اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا"( ) .
وسياق الآية هنا - كما يقول العلماء – " لبيان العدد المحلل لا لبيان نفس الحل ، لأنه عرف من غيرها كتابا وسنة فكان ذكره هنا معقبا بالعدد ليس إلا لبيان قصر الحل عليه ، أو هى لبيان الحل المقيد والعدد لا مطلقا ، فانتهى الحل إلى أربع مخير فيهن بين الجمع والتفريق . وأما حل الواحدة فقد كان ثابتا قبل هذه الآية بحل النكاح لأن أقل ما يتصور بالواحدة ….. والعدد محلل عند عدم خوف الجور " ( ) . وقد أخذ جمهور المسلمين من الآية الاقتصار على أربع فى عصمة واحدة ، فلا تحل الخامسة حتى يفارق واحدة من الأربع السابقات .
وشذ جماعة فأباحوا العدد غير مقيد ، أو محصورا فى تسع أو ثمان عشرة امرأة وهى أقوال لا يلتفت إليها ولا يعول عليها ( ) لما ورد من طرق صحيحة أن غيلان الثقفى أسلم وعنده عشر نسوة ، فقال له النبى  " اختر منهن أربعا " ( ) وروى مثل ذلك عن قيس بن الحارث إذ أسلم وعنده ثمان نسوة فقال له النبى  " اختر منهن أربعا " ( ) وهذا الخبر يدل بوضوح شديد على أن الجمع بين أكثر أربع ممتنع ، لا يجوز بحال من الأحوال .
ولا يقال عن النبى  إنه جمع بين تسع فى عصمة واحدة ، لأن هذا من خصوصياته  . وعلى هذا اتفق فى الرأى المعتمد شرعا على حرمة التزوج بخامسة حال قيام زوجية الأربع ، وإن وقع كان باطلا ، لأنه يخالف حكم الله عز وجل ( ) وتعتبر الزوجية قائمة وإن كن الأربع أو إحداهن فى عدة طلاق رجعى ، لأنه كما قلنا لا يخل بشئ من أحكام الزوجية ، ولكن إن كان الطلاق بائنا فهل له أن يتزوج بأخرى قبل انتهاء عدة المطلقة طلاقا بائنا ؟ خلاف .
فالحنفية وأكثر الصحابة وعامة الفقهاء يقولون لا يتزوج حتى تنقضى عدتها ( ) لأن العدة تمنع مما يمنع منه النكاح ، لقيام بعض أحكام النكاح كحرمة التزوج بأخر وثبوت النسب ، ومنع المرأة من الخروج – فى أثناء العدة وإذا ثبت قيام النكاح من وجه ألحق بالثابت من كل وجه فى باب الحرمة احتياطا ، يقول الإمام محمد بن الحسن الشيبانى " لا يعجبنا أن يتزوج الخامسة، وإن بث طلاق إحداهن حتى تنقضى عدتها ، لا يعجبنا أن يكون ماؤه فى رحم خمس نسوة حرائر " ( ) .
وعند مالك والشافعى وهو قول زيد بن ثابت وعروة بن الزبير وبعض التابعين يتزوج ، وإن لم تنقض عدتها ، لعموم قول الله تعالى " فانكحوا ما طاب لكم " فهو يفيد الزواج واستثنى منه حرمة الجمع بين المحرمات وأكثر من أربع، والجمع المعتبر يحصل بالعقد ، فإذا ارتفع العقد بالطلاق البائن ثبت الحل بحكم الأصل ( ) .
ومرد هذه المسألة إلى أن العدة هل تجب على الزوج كما تجب على المرأة ؟ الحنيفة يقولون نعم ( ) والشافعية ينكرون ( ) والحق مع الشافعية لأن الله تعالى خص بالعدة النساء قال تعالى " والمطلقات يتربصن بأنفسهن " ( ) وقال " واللائى يئسن من المحيض من نساءكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائى لم يحضن وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن " ( ) فهذا كله خطاب مع النساء ، لا تعلق له بالرجال .
ثم إن الشافعى قد احتج لعدم المنع فى حال عدة البائن بحجج أظهرها "أن المبتوتة – أى المطلقة طلاقا بائنا – أغلظ تحريما عليه من الأجنبية، لأن الأجنبية تحل بالعقد فى الحال، وهذه لا تحل له إلا بعقد بعد عدتين وزوج ، فلم يجز وهى أغلط تحريما من الأجانب أن يحرم بها ما لا يحرم من الأجانب"( ) وهذه فى رأى أقوى فى إفادة الحل من دعوى الاحتياط للحرمة التى يتمسك بها الأحناف.
وهذا القدر من أحكام التعدد كاف فى هذا المقام لأن غرضنا أصلا بيان حكم العقد على الخامسة، وسنعود إلى الحديث عن التعدد ذاته ومشروعيته وتفنيد الدعاوى المغرضة التى تنال منه، وقيوده، وأثره على حق الزوجة فى طلب التطليق للضرر عند حديثنا عن التطليق فى الكتاب الثانى، لأن مناسبته هناك أكثر.
خامسا : الجمع بين المحارم
حرم الله سبحانه وتعالى الجمع بين المحارم بقوله تعالى فى آية المحرمات" وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف"( ) معطوفا على المحرمات من قبل، والمعنى حرم عليكم أن تجمعوا بين الأختين. وهذا النص صريح فى تحريم الجمع بين المرأة وأختها نكاحا ، لذا لم يخالف فى حرمة هذا الجمع أحد.
ثم إن السنة وردت بتحريم الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، ففيما روى الشيخان وغيرهما أن النبى  قال " لا يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها"( ) وفيما روى الترمذى وغيره أن النبى  قال" لا تنكح المرأة على عمتها ولا العمة على بنت أخيها، ولا تنكح المرأة على خالتها، ولا الخالة على بنت أختها، لا الصغرى على الكبرى، ولا الكبرى على الصغرى"( ) وفى رواية ابن حبان عن ابن عباس أن النبى  علل النهى عن الجمع بقوله" إنكن إذا فعلتن ذلك قطعتن أرحامكن"( ).
ومن الآية والأحاديث أخذ جمهور أهل العلم عدم جواز الجمع بين المحارم مطلقا، بل قال ابن عبد البر أجمع العلماء على القول بهذا الحديث،… ولا يجوز عند جميعهم نكاح المرأة على عمتها وإن علت، ولا على ابنة أختها وإن سفلت، قال والرضاعة فى ذلك كالنسب ولا خلاف فيه للفقهاء.( )
وذهب عثمان البتى والخوارج وبعض الجعفرية إلى قصر حرمة الجمع على الأختين فقط، لأنه المذكور فى القرآن الكريم ، والأحاديث التى تثبت حرمة الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها أخبار أحاد لا تصلح لنسخ الحكم العام الثابت بقوله تعالى" وأحل لكم ما وراء ذلكم"( )
وهذا خطأ لأن العمل بما صح من السنة يلزم كما يلزم العمل بالقرآن، ثم إن حديث النهى عن الجمع حديث مشهور، " تلقته الأمة بالقبول فصار بأخبار التواتر أشبه"( ) أى أنه ينزل منزلة المتواتر فيخصص به عام القرآن الكريم. وقد حكى العينى روايته عن اثنى عشر صحابيا من كبار الصحابة، واشتهر بين التابعين واتباع التابعين.( )
ونظر لضعف حجة المخالفين فإنه لم يؤبه لقولهم، واعتبرهم البعض خارجين على الإجماع.( )
وفى إعمال حرمة الجمع استخلص الفقهاء قاعدة مفادها " يحرم الجمع بين كل امرأتين لو فرضت إحداهما ذكرا حرمت عليه الأخرى"( ) فإن لم تحرم مع الفرض لا يمتنع الجمع ، وكمثال على ذلك الجمع بين المرأة وبنت عمها، والمرأة وبنت خالها أو خالتها، لأننا لو فرضنا المرأة ذكراً لحل لها التزوج من بنت عمها، وبنت خالها…
ومن جانب آخر فإن إعمال القاعدة المتقدمة على إطلاقها يحرم الجمع بين المرأة وأختها من الرضاع، والمرأة وعمتها من الرضاع وخالتها وبنت أخيها وبنت أختها من الرضاع وهكذا.
وهذا فى رأى الجمهور صحيح، لأن إحدى الأختين – مثلا – من الرضاع لو فرضت ذكرا حرمت عليه الأخرى.
وخالف فى هذا ابن تيمية وابن القيم سيرا على قولهما فى عدم اعتبار المصاهرة الرضاعية ، ولأن حديث النهى عن الجمع معلل بقطع الرحم ، والرحم لا توجد فى القرابة الرضاعية ( ) .
حكم الجمع بين المحارم إن وقع
صور الجمع بين المحارم ثلاث ( ) .
1- أن يجمع بين ذاتى رحم محرم فى عقد واحد كأن يقول مثلا للولى زوجنى ابنتك وأختك ، فيقول قبلت ، فيحصل الجمع بعقد واحد ، وفى هذه الصورة يفسد نكاحه الاثنتين ، إذ لا رجحان لبقائه صحيحا بالنسبة لاحداهن ، ويجب التفريق بينه وبينهما ، وإن كان قبل الدخول فلا شئ لهما ، وبعده يجب الأقل من المسمى ومهر المثل وتلزم المدخول بها عدة .
2- أن تكون عنده واحدة ثم يتزوج عليها حال زواجها أو وهى فى عدتها من طلاق رجعى ذات محرم منها ، وفى هذه الصورة يبطل زواج الثانية ، أما زواج الأولى فصحيح .
3- أن يطلق زوجته طلاقا بائنا أو تطلق عليه ، ثم يتزوج من ذات رحمها والأولى فى عدتها من الطلاق البائن لم تخرج منها بعد ، وفى هذه الصورة اختلف العلماء ، فالأحناف وجماعة على عدم صحة النكاح الثانى ، والشافعية والمالكية على صحته لحصول الفرقة بالطلاق البائن ، مما ينفى الجمع . وقد عرضنا لأدلة الفريقين فى الزواج بخامسة حال قيام عدة مطلقاته أو احداهن فارجع إليها
سادسا : التحريم بسبب اللعان
اللعان وسيلة شرعية للرجل الذى يرمى زوجته بالزنا أو ينفى نسب ولد فراشه منها دون بينة له على ذلك أو تصديق منها .
ويعرف فقها بأنه عبارة عن " شهادات أربع مؤكدات بالإيمان مقرونة شهاداته باللعن ، وشهاداتها بالغضب ، قائمة شهاداته مقام حد القذف فى حقه ، وشهاداتها مقام حد الزنا فى حقها " ( ) وسيأتيك الكلام عن اللعان بشئ من التفصيل فى الكتاب الثانى ، والذى يهمنا إبرازه هنا ، أن اللعان حالة خاصة يرمى فيها الرجل زوجته بالزنا أو ينفى ولدها عن نفسه دون شهود وهى تكذبه ، فإن ترافعا إلى القضاء والحال كذلك أمرهما أن يتلاعنا كما أمر الله فى سورة النور( ) .
فإن تلاعنا سقط عنه حد القذف ، وعنها حد الزنا ، وفرق بينهما القاضى فى الحال .
ولكن هل تحرم الملاعنة على الملاعن تحريما مؤبدا أم تحريما مؤقتا ؟
جمهور الفقهاء يرون : أنها تحرم عليه حرمة مؤبدة فلا تعود إليه لقول النبى  " المتلاعنان إذا تفرقا لا يجتمعان أبدا " ( ) وعن على بن أبى طالب وعبد الله بن مسعود أنهما قالا " مضت السنة أن لا يجتمع المتلاعنان أبدا " ( ) وقال أبو حنيفة ومحمد وبعض التابعين : تحرم باللعان حرمة مؤقتة تزول بزوال سببه ، فإن أكذب الزوج نفسه زال التحريم وكان له أن يتزوجها بعقد جديد ، لأن فرقة اللعان عند أبى حنيفة تقع طلقة بائنة .
ولا شك أن حديث " لا يجتمعان أبدا " هو الذى عليه مدار الحكم ، فإن صح فالقول ما قال الجمهور ، وإن ضعف أو احتمل الصرف عن ظاهره فمذهب الحنفية أولى .
ويظهر من عبارة الشيخ أبى زهرة أنه يرتضى مذهب الحنفية لأن علة الفرقة فى رأيه غياب الثقة ، فإذا أكذب الزوج نفسه عادت الثقة ( ) .
ويسلك الدكتور سعيد الجليدى بالترجيح مسلكا أوضح فيقول ( ) " والذى يترجح أن اللعان من أسباب التحريم المؤقت ، وذلك لعدة أسباب منها :-
1- أن قول النبى  " المتلاعنان لا يجتمعان أبدا " معناه : لا يجتمعان أبدا ما داما على حالهما من اللعان ، أما إذا أكذب الزوج نفسه فإنه لا يكون ملاعنا لوجوب الحد عليه ولحوق الولد به ، ونظير هذا قول الله تعالى " ولا تصل على أحد منهم مات أبدا " ( ) أى ما دام منافقا .
2- أن المحرمات على سبيل التأبيد قد ذكر معظمهن فى القرآن ، وما لم يذكر منهن فيه فقد بينته السنة بيانا وافيا ، كما أنه قد وضحت فيه العلة فى التحريم ، أما تحريم الملاعنة مؤبدا فلم يذكر فى الكتاب عند ذكر اللعان ، ولا عند ذكر المحرمات على التأبيد ، وما ذكر فى تحريمها بالسنة يحتمل التحريم المؤبد ، التحريم المؤقت بالبقاء على اللعان ، ويرجح الثانى أنه بالرجوع عن اللعان تبطل آثاره ولا شك أن منها التحريم فيجب أن يزول كذلك . كما أن تأبيد التحريم باللعان بعد الرجوع عنه لا تظهر له حكمة ، وليس هناك ما يدعو إليه ، اللهم إلا أن يقال إن الزوجين بعد لعانهما ورمى الزوج لزوجته ، وتكذيب الزوجة لزوجها لا يؤمن أن تكون بينهما حياة زوجية مثلى وإن أكذب الزوج نفسه ، إلا أن هذه حجة واهية فى نظرنا ، لأنه إذا رماها ولاعنها وامتنعت هى عن اللعان وحدت للزنا ، أو رماها ولم يلاعن وحد هو للقذف ، فإنه لم يقل أحد بانتشار التحريم بينهما مع أن تأثرهما واحتمال وقوع البغض بينهما واحد فى كلا الحالتين .
3- إنه لا معنى للتفريق بين الأحكام المترتبة على اللعان عند الرجوع عنه ، فكما وجب بالرجوع الحد ، ولحوق النسب تنتفى الحرمة ما لم يكن هناك مانع أخر " .
وفى التقنينات المعاصرة ( )
فإن ما بين أيدينا منها يكاد يتحد فيما يقرر من أحكام ترتد فى الغالب إلى المشهور من آراء الفقهاء ، ونادرا ما يصار إلى غيره ومن ذلك .
1- أن التقنين المغربى قد اعتبر فى المادة (25) منه أن " وطء العاقد فى العدة ، ولو بعدها يحرم المرأة على العاقد تأبيدا " أخذا بقول مالك ورواية عن أحمد ، استنادا إلى قضاء عمر بن الخطاب رضى الله عنه ، وهذا أخذ بالضعيف ، خاصة وقد روى أن عمر رجع عن قوله إلى قول على بعدم التحريم وقال " ردوا الجهالات إلى السنة " ( ) .
2- كما تفرد التقنين المغربى باعتبار الملاعنة من المحرمات تأبيدا "مادة (25) وهذا وإن كان قول الجمهور وله سند من السنة مقبول عن الأكثرين، ولكنه محتمل ، ومذهب أبى حنيفة أوسع فى جواز عودة الزوجية بين المتلاعنين" ( )
3- سلك القانون المغربى فى تحريم الجمع بين أكثر من أربع مسلكا يستشف منه الميل إلى تحريم التعدد قضاء ، حيث نص فى الفصل 29/2 على أن " المحرمات حرمة مؤقتة ….. الزيادة فى الزوجات على القدر المسموح به شرعا " فلم ينص على الأربع تمشيا مع ما قرره فى الفصل 30/1 " إذا خيف عدم العدل بين الزوجات لم يجز التعدد " والجمع بين النصين يعنى أن الحرمة المؤقتة لا تعلق بالخامسة ، وإنما تتعلق بالزيادة التى يخاف معها عدم العدل ، وهذه قد تكون الثانية ، وهذا تصرف فى النفس منه الكثير ، لأنه تحريم بغير حكم الشارع سبحانه وتعالى ، وليس من السهل على قاض كائنا من كان أن يقف على سلامة نية الراغب فى التعديد أو خبثها ، وسيأتى كلامنا فى هذا .
4- تميز القانون المغربى بأخذ مسألة الزواج بالزانية فى الاعتبار وأخذ فى ذلك بمذهب الجمهور ، واعتبرها من قبيل المحرمات مؤقتا سواء كانت فى عدة حمل ، أو استبراء ، فنص فى الفصل 29/6 على أن من التحريم مؤقتا "التزوج بامرأة هى فى عصمة آخر أو فى عدة أو استبراء" وهذا
سبق يحسب له.
5- تفرد القانون السودانى بالأخذ بمذهب زفر وابن أبى ليلى فى أن "الجمع ولو فى العدة بين امرأتين لو فرضت إحداهما ذكرا لحرم عليه التزوج بالأخرى " (م 19 ف أ ).
6- خلا القانون السورى من النص صراحة على اعتبار إسلام الزوج إن كانت الزوجة مسلمة ، واشتراط الإسلام أو الكتابية فى الزوجة إن كان الزوج مسلما ، بينما نصت على ذلك القوانين الآخرى .
7- أخذت كل التقنينات بمذهب أبى حنيفة فى اعتبار العدة فى جمع المحارم وجمع العدد ، بما فى ذلك القانون المغربى ، الذى اعتبر من الموانع المؤقتة " تعلق حق الغير بزواج أو عدة " ( ف 25 ) وهو حكم لا ينصرف إلى المعتدة من طلاق أو فراق ، لأن هذا الأخير مما تناوله له الفصل 29/6 ، مما يعنى أن المقنن أراد بالمانع المؤقت المنصوص عليه فى الفصل " 25 " مانع الجمع فى المحارم والعدد حال قيام العدة .
وقد رجحنا مذهب الشافعى ومالك – على خلاف ما أخذت القوانين لأنه أقوى دليلا .
4- أن يكون الزوجان معينين
رأيت فى كلام الفقهاء السالف الذكر أن النكاح عقد لا يدخله الخيار فلا "يثبت فى النكاح خيار رؤية ، ولا خيار شرط ، ولا خيار عيب سواء جعل الخيار للزوج أو للزوجة " ( ) ومعلوم أن خيار الشرط يثبت بالاشتراط ، أما خيار الرؤية والعيب فلا يحتاجان إلى اشتراط ، " لأن السبب فى ثبوتهما الرؤية والعيب فمتى وجد السبب وجد المسبب " ( ) . وقد يجد خيار العيب طريقه إلى النكاح لجواز الفسخ بالعيب – على خلاف بين العلماء كما سنرى – أما خيار الرؤية فلا مجال له البتة فيه ، فلو تزوجها على أنها " بكر شابة جميلة فوجدها ثيبا عجوزا شوهاء ، لها شق مائل ، وعقل زائل ، ولعاب سائل فإنه لا يثبت له الخيار " ( ) وخاصية عدم دخول الخيار تفرق عقد الزواج عن أكثر العقود، ويظهر ذلك فى أنه حيث يكفى فى الأكثرية أن يكون المعقود عليه معلوما علما نافيا للجهالة الفاحشة ( ) يلزم فى الزواج أن يكون المعقود عليه معينا ( ) والتعيين ينفى أصل الجهالة وليس الفاحش منها فقط .
ولأن النكاح عقد أبدان ، وهو عقد عمرى يدوم ،وله أغراض ومقاصد ينال أثرها المجتمع عامة كان ضروريا أن يكون تعيين الزوجين شرطا فيه حفظا للأبضاع ، وتحقيقا للاستقرار المنشود.
ووصولا إلى التعيين الدقيق شرع الله سبحانه مقدمات الزواج ، من الخطبة والنظر ، واستحب التخير والاستشارة ، ليقدم العاقد عن بينة ، ولا يكون له من لدنه عذرا .
فإن تقدم الزواج ما قلنا فقد حصل التعيين ، ولكن قد يحدث خلط فى الرؤية ، أو تغرير من أحد الطرفين ، أو يقدم أحدهما على الزواج دون علم بشخص الطرف الأخر اندفاعا أو سلامة طوية ، وفى مثل هذه الحالات تظهر قيمة شرط التعيين ، وإليك بعض من عبارات الفقهاء لترى مبلغ تحوطهم فى هذا الشأن .
جاء فى فتح القدير " والتعيين بالاسم الذى تعرف به ، حتى لو كان لها اسمان ، اسم فى صغرها ، وآخر فى كبرها ، تزوج بالأخير لأنها صارت معروفة به ، ولو كان له بنتان : كبرى هى عائشة ، وصغرى اسمها فاطمة ، وقال زوجتك بنتى فاطمة وهو يريد عائشة – فقيل انعقد على فاطمة ، ولو قال : زوجت بنتى من ابنك فقبل – وليس لهما إلا ابن واحد وبنت – صح ، وإن كان لهما ابنتان أو ابنان : لا ، إلا أن يسميا البنت والابن ، ولو زوج غائبة وكيل فإن كان الشهود يعرفونها فذكر مجرد اسمها جاز ، وإن لم يعرفوها فلابد من ذكر اسمها واسم أبيها وجدها ، أما لو كانت حاضرة منتقبة ، فقال تزوجت هذه – يشير إليها – وقبلت جاز ، لأنها صارت معروفة بالإشارة ، وأما الغائبة فلا تعرف إلا بالاسم والنسب ، وقيل يشترط فى الحاضرة كشف النقاب …. وكذا الحال فى تسمية الزوج الغائب " ( ) .
ومن عبارات المالكية " …. ولا تكفى الإشارة ولا الكتابة إلا لضرورة خرس " ( ) وفى المدونة فى المرأة التى تفوض وليها يزوجها ممن يراه " قال مالك : لا يزوجها من نفسه – أى بقراره – حتى يسمى لها من يريد أن يزوجها ، وإن زوجها أحد قبل أن يسمى لها فأنكرت كان ذلك لها " ( ) وفى روضة الطالبين للنووى الشافعى " يشترط فى كل واحد من الزوجين أن يكون معينا ، فلو قال : زوجتك إحدى بنتى ، أو زوجت بنتى أحدكما ، أو أحد ابنيك ، لم يصح …. ولو كان له بنت واحدة اسمها فاطمة فقال زوجتك فاطمة ولم يقل بنتى فلا يصح النكاح لكثرة الفواطم ….. ولو كان له بنتان فأكثر اشترط تمييز المنكوحة باسم أو إشارة أو صفة " ( ) .
وفى المغنى لابن قدامة " ومن شرط صحة النكاح تعيين الزوجين لأن كل عاقد ومعقود عليه يجب تعيينهما كالمشترى والمبيع ، ثم ينظر ، فإن كانت المرأة حاضرة فقال : زوجتك هذه صح ، فإن الإشارة تكفى فى التعيين ، فإن زاد على ذلك فقال : ابنتى هذه أو هذه فلانة ، كان تأكيدا ، وإن كانت غائبة فقال : زوجتك بنتى وليس له سواها جاز ، فإن سماها باسمها كان ذلك تأكيدا ، فإن كان له بنتان أو أكثر لم يصح حتى يضم إلى ذلك ما تتميز به من شرط أو صفة "( )
ومثل هذا نجده فى مصنفات بقية المذاهب ، بل بالغ الأباضية فأوجبوا "تعيين المنكوحة باسمها ولو واحدة " ويشترط أن يكون هذا الاسم مما تعرف به، وفى رأيهم " وإن زوجها بغير اسمها فرقا ولو مست " ( ) وهذا كله احتياط فى التعيين " ليرتفع الشجار ويأمن التحريم " ( ).
وفى تصورى أن مرد الوطء بشبهة يرجع فى كثير من صوره إلى الخلل فى هذا الشرط ، فلا معنى للفرض الفقهى " زفت إليه غير امرأته " أو "دخل عليها غير زوجها " إلا أن شرط التعيين لم يستوف حقه من التحقق من شخص المعقود عليه ، وفى ذلك نوع قصور فى مراعاة آداب الشرع واحتياطاته، فقد احتاط الشارع للرجل فأباح له النظر ، بل ظاهر النصوص أنه استحبه ، ومن هنا قيل " يشترط فى الحاضرة كشف النقاب " ، واحتاط للمرأة بضرورة استئذانها ، أو استئمارها وفضلا عن ذلك شدد فى حضور الزوج مجلس العقد ربما ليعلمه الشهود ، وتراه المرأة ، جاء فى الأثر " كل نكاح لم يحضره أربعة فهو سفاح : خاطب وولى وشاهدان ( ) .
وفى التقنينات :
امتاز التقنين السودانى بالنص على شرط التعيين صراحة فى صلب مادته 13 فقرة "ب" كشرط من شروط صحة الركن الأول " الزوجان " بينما خلت التقنينات الأخرى من مثل هذا النص ، ولكن هذا لا يعنى فى الحقيقة أنها تسقطه ، لأنها تتوسل إليه بطرائق شتى ، أكثرها مما ينص عليه فى اللوائح المنظمة لتوثيق عقد الزواج ، وقليل من التقنينات ما ينوه إلى لوازم التعيين فى صلب التشريع العادى ، كالقانونان اللبنانى والأردنى اللذان يوجبان " على الخاطب مراجعة القاضى أو نائبه لإجراء العقد ، وكمثال على التوسل اللائحى إلى شرط التعيين ما تقضى به المادة 33 من لائحة المأذونين فى مصر أنه : "على المأذون قبل توثيق العقد أن يتحقق من شخصية الزوجين بالإطلاع على البطاقة الشخصية أو العائلية ، وإن لم يكن للزوجة بطاقة يجب أن تكون شخصيتها ثابتة بمستند رسمى ، أو شهادة شاهدين لكل منهما بطاقة".
وعليه أن يتحقق من خلو الزوجين من جميع الموانع الشرعية والقانونية، وأن يعتمد على ما تضمنته البطاقة من بيانات الحالة المدنية ، ويثبت بالوثيقة رقم بطاقة الزوج وجهة صدورها ، كما يثبت ذلك بالنسبة للزوجة ، إن كانت لها بطاقة وعليه إثبات جهة ورقم قيد كل من الزوجين بالسجل المدنى إن كان ذلك معلوما لهما " . وزيادة فى الاحتياط للزوجة المصرية حددت وزارة العدل ضوابط جديدة لزواج المصريات من أجانب من أهمها شرط حضور الزوج بنفسه وليس وكيلا عنه عند توثيق عقد الزواج كما كان يحدث سابقا ، مع ضرورة التأكد من الموثق قبل إجراء توثيق عقد الزواج من رضاء الزوجة عن الزوج وحضورها شخصيا أو وكيل عنها .
5- أن يكون الزوجان طائعين
الطوع ضد الكره ، والزوج الطائع من يقدم على الزواج راغبا فيه ، فإن أجبر عليه أو أكره لم يكن طائعا . وقد يبدو لغير المدقق فى الفقه الإسلامى أن الفقهاء لا يقيمون وزنا لشرط الرضا والطوع فى الزواج ، لعنايتهم بما عرف بولاية الإجبار التى يملك الولى بمقتضاها أن يزوج من يجهل أمور الزواج لصغر أو فقد عقل بمن يراه كفئا دون إذن من المولى عليه بالزواج ، وتلحقه المغبة أكثر حين يرى بعض الفقه يقرر أن استئذان البكر أمر مستحب لا وجوب فيه .
وقبل الخوض فى استظهار الطوع من الأدلة الشرعية والاجتهادات الشرعية يهمنى أن أدفع عن سلفنا الكريم سوء الظنة وأنهم كانوا – كما قد يتوهم البعض – عدوا لإرادة الحرة فى عقد هو أخطر العقود الدنيوية فأقول : إن السلف أيقنوا أن من مقاصد الشرع حماية الضعفاء ، وللحماية جانبان : جانب إيجاد وجانب عدم ، ورعاية جانب الإيجاد بإقامة كل ما يدفع الضعف أو يعين على التغلب على آثاره ، ورعاية جانب العدم باتخاذ الوسائل النافعة لدفع الاختلال الذى قد يلحق بمصلحة الضعيف ، وانطلاقا من هذا الحس الراقى استأنس الفقهاء بالنصوص الشرعية التى تومئ إلى حق الأولياء فى رعاية مصالح الضعفاء والتخير لهم ، ومن هنا ولجوا باب ولاية الإجبار .
وتظهر لك هذه الروح عندما ترى أن الفقهاء يؤسسون هذه الولاية على الشفقة ، ويقصرها جمهورهم على من تتوسم فيه الشفقة الكاملة وليس مجرد الشفقة ، وذاك هو الأب ، وقد اختلفوا فى الجد ووصى الأب " إذا عين له الأب الزوج ، إلا أن يخاف عليها – أى الصغيرة – الضيعة والفساد " ( ) وقد رأينا فيما سبق أن جوهر تسويغهم لتزويج الصغير والصغيرة هو "خوف فوات الكفء" وسوغوا نكاح المجنونة بانتفاعها بالمهر والنفقة ، ونكاح المجنون بأنه قد يفيد فى شفائه .
إذن عمد النظرة مصلحة الصغير ، وليس التسلط أو الاستبداد كما قد يظهر من مسمى الولاية .
ولاية الإجبار للصغر لم يعد لها محل
عالجنا فيما سبق شرط السن فى أهلية الزواج ورجحنا ما ذهب إليه بعض الفقهاء من عدم المصلحة فى زواج الصغار ، " لأن الصغر يتنافى مع مقتضيات عقد الزواج ، إذ هو لا تظهر آثاره إلا بعد البلوغ فلا حاجة إليه قبله ، والولاية الإجبارية أساس ثبوتها حاجة المولى عليه إليها ، وحيث لا حاجة إلى زواج بسبب الصغر ، فلا ولاية تثبت على الصغار فيه " ( ) وبذلك لم تعد لنا حاجة ببحث ما يتعلق بالصغار ، إلا ما أبرزناه من دافع السلف إلى تقرير ولاية الاستبداد عليهم فى أمر الزواج .
الولاية على الكبير والكبيرة
فى العرف الفقهى يصبح الشخص كبيرا متى بلغ النكاح ، وعندئذ إن أنس منه الرشد لم يعد لأحد عليه سلطان ، ولكن لأن الزواج شأن لا يتعلق بشخص المرأة فحسب ، وإنما ينال أسرتها من قريب فقد جعل الله لأوليائها مدخلا فى هذا الشأن ، وسيكون لنا فيما بعد حديثا مفصلا عن الولاية ، المهم هنا أن نتعرف على سلطان الولى على الكبير ليبرز لنا شرط الطوع فى الزوجين .
أولا : الذكر البالغ العاقل لا يجبر على الزواج
إذا بلغ الشخص عاقلا رشيدا انتفت كل ولاية على شخصه وماله وإذا بلغ مجنونا استمر حق الولى عليه فيتصرف عنه دون إذن منه متى كان فى تصرفه نفع للمولى عليه فاقد العقل ( ) .
ولكن ماذا لو بلغ سفيها هل تبقى للولى عليه ولاية الاستبداد ؟
للفقهاء فى ذلك نظران ( ) :
نظر يرى : أن النكاح عقد مالى والسفيه محجور عليه فى ماله فيحجر عليه فى الزواج ، ويكون القول فى زواجه لوليه ( ) ونظر آخر : أن الزواج عقد غير مالى ، وإن لزم منه مال فحصوله بطريق الضمن ، فلا يكون لوليه فى زواجه مدخل .
وأشد الناس قولا فى زواج السفيه الشافعية ، جاء فى الحاوى " قال الشافعى رحمه الله ( ولو كان المولى عليه يحتاج إلى النكاح زوجة وليه ، فإن أذن له فجاوز مهر مثلها رد الفضل ).
قال الماوردى : والمولى عليه بالسفه ممنوع من التزويج إلا بإذن وليه ، لأن الحجر يمنع من التصرف فى العقود ، فإن لم يكن به إلى النكاح حاجة لم يجز له أن يتزوج ، ولا لوليه أن يزوجه ، لما فيه من التزام المهر والنفقة لغير حاجة ، وإن كان به إلى النكاح حاجة إما بان يرى يتوثب على النساء لفرط الشهوة ، وإما بأن يحتاج إلى خادم ، وخدمة النساء أوفق له وأرفق به ، فيجوز لوليه فى هاتين الحالتين أن يزوجه لأنه مندوب إلى القيام بمصالحه التى هذا منها، وليصده عن مواقعة الزنا الموجب الحد والمأثم .
وإذا كان كذلك فوليه بالخيار بين أن يزوجه بنفسه ، وبين أن يأذن له فى التزويج ، فإن زوجه الولى جاز أن يعقد له النكاح على من يختارها له من الأكفاء ، ولا يلزمه استئذانه فيه ، لأن ذلك من جملة مصالحه التى لا تقف على إذنه ، كما لا يقف على إذنه ما عقده فى ماله من بيع وشراء …….. وإن أذن له الولى فى التزويج ليتولاه السفيه جاز ……..
وقد اختلف أصحابنا : هل على وليه عند إذنه له بالنكاح أن يعين له – أى يحدد – على المنكوحة أم لا ؟ على ثلاثة أوجه :
أحدها : يلزمه أن يعين له على المنكوحة ليقطع اجتهاده فى العقد حتى لا ينكح من يعظم مهرها .
الثانى : أن يعين له فى القبيلة أو العشيرة …… وليس عليه أن يعين له على المرأة من نساء القبيلة ، لأنه يقف على اختيار النفوس .
والوجه الثالث : أن لا يلزمه أن يعين مطلقا لأنه ليس بأسوأ حالا من العبد المأذون له فى الزواج .
فأما إذا نكح السفيه بغير إذن وليه فهذا على ضربين .
أحدهما : أن لا يكون قد أعلم وليه ولا استأذنه فمنعه فنكاحه باطل ، لأن ثبوت الحجر يمنع جواز التصرف فى العقود .
والضرب الثانى : أن يكون السفيه قد سأل وليه فمنعه ، واستأذنه فلم يأذن له ففى نكاحه وجهان :
أحدهما : باطل لتأثير الحجر فى عقوده .
والوجه الثانى : أن النكاح جائز ، لأنه حق على الولى ، فإذا منعه منه جاز أن يستوفيه بنفسه" ( ).
هذا نص عبارة الماوردى ، وقد نقلناه مع طوله لتتبدى لنا علة الولاية ، وهى - كما قد ذكر - حفظ ماله ، وهى مصلحة معتبرة ؛ إلا أنه ينبغى أن ترعى معها مصلحة أخرى ذكرها فى كلامه وهى " اختيار النفوس " فلا يزوج بمن لا يريدها أو دون استئذانه ، حتى لا يكون أسوأ حالا من العبد ، لأن العبد فى رأيهم " مكلف فلا يجبر على النكاح " ( ) وكذلك السفيه مكلف فلا ينبغى أن يجبر .
ثم إن ما يبرمه الولى من عقود لمصلحة السفيه يلزم السفيه فى ماله ، وقد قالوا " لا يزيد الولى – المنكوحة - على مهر المثل " ولم يلزموا السفيه المأذون له بأكثر من مهر المثل ، فلتكن هذه هى قاعدة الحماية خاصة وإن "مقصود الحجر على السفيه حفظ ماله دون النكاح " ( ) .
وثمة خاطر عندى هو أن عبارة الشافعى " زوجه وليه فإن أذن له فجاوز مهر مثلها رد الفضل " نص فى مباشرة العقد لا الإجبار على الزواج بمن يختار أو يعين الولى ( ) وإن صح هذا كان التخريج على قوله قد جاوز مراده . وعلى أساس ذلك فإنى لا أرى للقول بثبوت ولاية الاستبداد على البالغ السفيه دليلا يقوى على الرد ، أو مصلحة يخشى فواتها لأن زواجه فى كل الأحوال مقيد من حيث الغرم المالى بمهر المثل ، فإن صح هذا فإن ما يراه الجمهور من نفى الولاية عليه فى هذا الجانب أولى ، لأن الولاية تكليف استثنائى لزم على خلاف القاعدة الشرعية " ولا تكسب كل نفس إلا عليها " ( ) وهى تقرر – كما يقول ابن حزم – حكما عاما يمنع " من جواز عقد أحد على أحد إلا أن يوجب إنفاذ ذلك نص قرآن أو سنة ، ولا نص ولا سنة فى جواز إنكاح " ( ) الولى للمولى عليه السفيه ، وقد روى عن ابن طاوس قال " الرجال فى ذلك بمنزلة البنات وأشد شأنا " ( ) .
أثر الولاية فى رضا الكبيرة
الكبيرة من النساء لها ثلاث حالات :
الأولى: أن تكون مجنونة أو معتوهة ، بكرا أو ثيبا .
الثانية : أن تكون بالغة عاقلة بكرا .
الثالثة : أن تكون بالغة عاقلة ثيبا .
وفى الحالة الأولى لا رأى لها فيزوجها وليها بمن يرى ، فى رأى عامة الفقهاء ، وقال ابن حزم لا تزوج حتى تستأذن وذلك بشفائها ( ) .
وفى الحالة الثالثة : " لا يجوز إجبارها ولا تزويجها إلا باختيارها وعن إذنها ، سواء كان وليها أبا أو عصبة ، وإذنها النطق الصريح ، وهذا متفق عليه عند عامة أهل العلم ولم يخالف فيه إلا الحسن البصرى ( ).
تبقى الحالة الثانية : وهى حالة البكر البالغة العاقلة ، وفى أمرها اختلف الفقهاء.
فالحنفية والظاهرية والزيدية والجعفرية والأباضية وروايه عن أحمد وهو قول مالك فى البكر التى رشدها الأب كلهم يقولون : لا تجبر البكر البالغة على النكاح ، ولا تزوج إلا برضاها( ).
ويرى الشافعية ( ) والمالكية فى البكر التى لم يرشدها أبوها ورواية عن أحمد ، وبعض الأباضية حق إجبار البكر على الزواج من بعض الأولياء خاصة ، فتثبت ولاية الإجبار عند الشافعية للأب ثم الجد بشرط ألا تكون بين الولى والبكر عداوة ظاهرة ، ويستحب عندهم استئذان البكر ، وعند مالك ولاية الجبر على البكر غير المرشدة للأب ولوصية بشرط أن يعين له الأب الزوج، وعند أحمد وبعض الأباضية المجبر هو الأب فقط ، ويستحب له استئذانها ، و" لا يحل له تزويجها من غير كفء ولا من معيب ، لأن الله تعالى أقامه مقامها ناظرا لها فيما فيه الحظ ، ومتصرفا لها لعجزها عن التصرف فى نفسها ، فلا يجوز له فعل ما لاحظ لها فيه ، كما فى مالها " ( ) .
ومذهب القائلين بالإجبار يستند إلى أدلة أهمها : -
1- قول الله تعالى " وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن " ( ) والشاهد فيه " فلا تعضلوهن " والعضل هو المنع ، ( ) وقد خاطب الله بالآية الأولياء فنهاهم عن عضل النساء من الزواج ، والنهى عن الفعل لا يتوجه إلا لمن يملك سببه ، إذا لو كان الأمر إلى النساء لما أثر عضل الأولياء ، ولما توجه إليهم نهى ، فدل على أن الأولياء مع النساء أدنى – أقرب – من أنفسهن لأن العضل إنما يصح ممن إليه عقد النكاح . ( ) وهذا عام فى الثيب والبكر لكن خرجت الثيب من الحكم بالحديث الآتى :
2- قال  " الأيم أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن وإذنها صماتها"( )
فالحديث ذكر صنفين من النساء 1- الأيم 2- البكر ، وأعطى كلا منهما حكما خاصاً بها، وهذا دليل على أن الأيم غير البكر، ولا تكون إلا الثيب لأنها أحد صنفى النساء.
ويدل الحديث بلفظه على أن الثيب – الأيم – أحق بنفسها فيكون الأمر إليها، أما البكر فليست أحق فتبقى على حكم الصغر ، ولكن يستحب – ولا يجب – استئذانها تطييبا لنفسها( ).
3- وإنما بقيت الولاية على البكر استصحابا لحق الولى فى الصغر، لأن العلة فى الحالتين – وهى عدم تعرف المرأة إلى أحوال الرجال، فلا يؤمن انخداعها، أو تفريطها فى مصلحة نفسها – بخلاف الثيب فإنها خبرت الرجال فأصبح لها فى نكاحها رأى ( ).
4- وقصر الولاية على الأب وحده، أو إثباتها للجد، أو للوصى فى رأى مالك، مرده إلى تصور الشفقة الكاملة فى الولى، وهى متفق على تقديرها فى الأب – ما لم تكن بينه وبين البكر عداوة ظاهرة – ومختلف على تقديرها فى الجد ووصى الأب ، لأنهما يتوليان بواسطة الأب فلا يتساويان معه( ).
ويتضح من الدليل الأخير أن ولاية الاستبداد استثنائية ، وأنها شأن غير مرغوب فيه ، لما يمكن أن يتأتى منها من خطر على نفسية المرأة ومستقبلها، لهذا وجدنا القائلين بها يضيقون على الولى - وإن كان أبا - اختيارته ويحصرونها فى " مالها فيه حظ ومصلحة" وفوق هذا فإنهم يقولون إنها إن طلبت تزويجها من كفء فامتنع وليها فلها أن ترفع الأمر إلى الحاكم فإن تبين أنها محقة أمره بتزويجها وأجبره على ذلك، فإن امتنع زوجها الحاكم لقول النبى  " فإذا اشتجروا ، أو قال اختلفوا فالسلطان ولى من لا ولى له"( ).
رضا الكبيرة قاعدة لا استثناء فيها
ومع هذا فإن الأدلة الأقوى دلالة فى حال الكبيرة العاقلة البالغة تنفى أن يكون للولى سلطان على إرادتها، وإن كان محدوداً بأشخاص ونطاق ورقابة قضائية. وهذه الأدلة متمسك الجمهور – كما عرفت – منها.
1- أن الله سبحانه نهى الأولياء عن عضل النساء أن ينكحن من يرغبن فى نكاحه قال تعالى" فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف"( ).
قالوا : نزلت فى معقل بن يسار كانت أخته تحت أبى البداح بن عاصم فطلقها وتركها حتى انقضت عدتها – فبانت منه بينونة صغرى فلا تنكح إلا بعقد جديد – ثم ندم فخطبها فرضيت وأبى أخوها أن يزوجها وقال وجهى من وجهك حرام إن تزوجتيه ، فنزلت الآية، قال مقاتل : فدعا رسول الله  معقلا فقال " إن كنت مؤمنا فلا تمنع أختك عن أبى البداح" فقال : آمنت بالله، وزوجها منه( ).
والمعنى : أنه لو لم يكن للنساء رأى معتبر فى زواجهن لما كان للنهى عن منعهن من ممارسة هذا الحق معنى، ولم يكن لنهى الله تعالى الأولياء عن منعن محل، لأن الإنسان لا يؤاخذ على استعمال حقه، وإنما يؤاخذ على إنكار حق غيره.
2- وقد روى الشيخان وغيرهما أن النبى  قال " لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا البكر حتى تستأذن، قالوا : يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال : أن تسكت"( ).
والمعنى فيه : أن النبى  نهى أن يزوج النساء إلا برضاهن ، وبين أن علامة رضا كل منهما وفق حالها من غلبة الحياء فى الإفصاح عن رأيها، أما الثيب فلسابق اختلاطها بالرجال لم يعد إفصاحها عن رأيها مخجلاً لها، ولهذا أمر النبى  باستئمارها ، أى طلب أمرها، وجوابه لا يكون إلا نطقا، وأما البكر فلأن الظن بها أن الحياء يغلبها اكتفى الشارع منها بما يدل على رضاها، ولم يوجب صريح ردها، وذلك هو الإذن.
ومما يؤيد أن المراد بالتفريق مجرد مراعاة الحياء ليس إلا ، وأن الاستئذان كالاستئمار فى الحقية والمعنى ، ما روى البخارى من طريق آخر عن عائشة قالت : قلت : يا رسول الله يستأمر النساء فى أبضاعهن؟ قال : نعم ، قلت فإن البكر تستأمر فتسكت؟ قال : سكاتها إذنها( ).
3-ومما ينفى أن يكون للأب إجبار ابنته على الزواج بمن لا ترغب ما روى البخارى أن خنساء بنت خدام الأنصارية زوجها أبوها وهى ثبت فكرهت ذلك فأتت رسول الله  فرد نكاحه( ).
وليست الثيب هى المخصوصة بذلك دون البكر لما روى النسائى وغيره عن عائشة  : أن فتاة دخلت عليها فقالت : إن أبى زوجنى من ابن أخيه ليرفع بى خسيسته، وأنا كارهة، قالت : اجلسى حتى يأتى النبى  ، فجاء رسول الله  فأخبرته ، فأرسل إلى أبيها فدعاه، فجعل الأمر إليها، فقالت يا رسول الله قد أجزت ما صنع أبى، ولكن أن أعلم أللنساء من الأمر شئ .
وفى رواية أخرى قالت : " وإنما أردت ليعلم النساء أن ليس إلى الآباء من الأمر شئ"( ).
قال الشوكانى " والأحاديث فى هذا الباب كثيرة ، وهى تفيد أنه لا يصح نكاح من لم ترض بكراً كانت أو ثيباً " ( ) .
وهذا حق لا يليق الجدال فيه ، ولولا داعى التعليم ما أثرنا الرأى المخالف ، وقد كان شيخنا الداعية محمد الغزالى رحمه الله يقول " وإن أى كلام يفيد منه الاستبداد السياسى ، أو التظالم الاجتماعى ، أو العطن الثقافى أو التخلف الحضارى لا يمكن أن يكون دينا ، إنه مرض نفسى أو فكرى ، والإسلام صحة نفسية وعقلية " ( ).
وفى القوانين المعاصرة :
لا مكان للمذهب القاضى بالإجبار من الأب أو الجد ، أو من غيرهم بل إن التقنينات التى بين أيدينا تنطلق من أن الزواج حق للمرأة مشوب برأى للولى ، ويظهر هذا من تكرار أكثرها النص على : موافقة الولى، إذن الولى ، ونحو هذا.
ومع ذلك فإن اعتبار الولى ليس على درجة واحدة فى جميعها ، فمثلا ينص القانون السورى على اشتراط موافقة الولى على زواج المراهق الذى أتم الخامسة عشر، والمراهقة التى أتمت الثالثة عشر متى إذا أذن به القاضى ، ولم يفصل القانون إذا كان رفضه محل مراجعة أم لا " م 18".
بينما لم يسلم له بالرفض المطلق فى زواج الكبيرة – 17 سنة – وأخضعه لمراجعة القضاء، " فإن كان اعتراضه غير جدير بالاعتبار يأذن القاضى بزواجها بشرط الكفاءة" " مادة 20".
وغاية ما للولى أن يطلب الفسخ – ما لم تحمل المرأة – إذا زوجت نفسها من غير موافقة بغير كفء " مادة 27، 30"
ونفس الشئ نجده فى القانون اللبنانى " المواد 5 ، 6، 8، 47، 50 " والغريب أن القانون اشترط فى المادة 12 منه " رضاء الولى فى انعقاد نكاح الخاطب الذى لم يتم السنة الثانية والعشرين، والمخطوبة التى لم تتم السنة العشرين من المسيحيين".
ويمضى القانون العراقى على غرار القانونين السورى واللبنانى مع اختلاف طفيف فى شأن السن ، وكذلك القانون الأردنى إلا أنه تفرد بحكمين :
أولهما : أن للقاضى عند الطلب حق تزويج البكر التى أتمت الخامسة عشرة من عمرها من الكفؤ فى حال عضل الولى غير الأب والجد من الأولياء بلا سبب مشروع.
فإن كان عضلها من قبل الأب أو الجد فلا ينظر فى طلبها إلا إذا كانت قد أتمت ثمانية عشر عاما، وكان العضل بلا سبب مشروع . (م 6)
الثانى : لا تشترط موافقة الولى فى زواج المرأة الثيب العاقلة المتجاوزة من العمر ثمانية عشر عاما.( مادة 13)
وتصرفه محمود فى المسألة الأولى ، لأن الظاهر من عضل الأب أو الجد الحرص على أن تتم الفتاة تعليمها ، ولكن التفرقة بين البكر والثيب لا معنى لها، لأن الحكمة من اشتراط موافقة الولى واحدة ، وهى طلب الفسخ متى تزوجت المرأة دون موافقته بغير كفء .
أما القانون المغربى فيعول على موافقة الولى متى كان الزواج دون سن الرشد القانونى ، ويخضع امتناعه لمراجعة القضاء (ف 9) وقرر ولاية الإجبار فى حالة واحدة وهى متى " خيف على المرأة الفساد" ولكنه أخضع تقديرها للقضاء ، ولم يكن موفقا فى صياغتها ، ونص عبارته " لا يسوغ للولى ولو أبا أن يجبر ابنته البالغ ولو بكرا على النكاح إلا بإذنها ورضاها ، إلا إذا خيف على المرأة الفساد فللقاضى الحق فى إجبارها حتى تكون فى عصمة زوج كفء يقوم عليها " (ف 12/4 )
فعبارة النص تشير أنه استقى الفقرة الأولى من مذهب الحنفية ومن معهم، ولكنه تزيد فى قوله " إلا بإذنها ورضاها " حيث لا إذن ولا رضا فى الإجبار ، إلا أن يكون قد سقط فى الطباعة لفظ " ولا تزوج " إلا بإذنها إلخ.
والفقرة الثانية مردها إلى مذهب مالك ، ولكنها مقيدة فى هذا المذهب باليتيمة التى ليس لها أب ولم يعين عليها وصيا ، وأذنت لوليها بزواجها ، وقد قرروا أن أمرها يجب أن يرفع إلى القاضى لأجل إثبات موجبات إجبارها من فساد حالها بفقر أو زنا أو عدم حاضن شرعى ، أو ضياع مال أو دين ، فإن ثبت عند القاضى ما ذكر ، وأنها خلية من زوج وعدة وأنه كفؤها فى الدين والحرية والنسب والحال والمال وأن الصداق مهر مثلها ، وأن الجهاز الذى جهزت به مناسب لها ، فيأذن للولى فى تزويجها( ).
هذه هى الصورة التى عند المالكية ، وواضح أنها مخصوصة باليتيمة ومقيدة بالإذن لوليها فى زواجها ، ودور القاضى فيها لا يعدو دور المتحقق من دواعى الإجبار ، ووجود زوج كفء.
وقد خالفها القانون فى مواضع عدة ، فنزع الولاية ممن يمكن أن يقال إن له حقا ولو بتأويل ، وقررها لمن أخر الشرع حقه فى هذا الباب وهو القاضى ، فقد نص الحديث على أن " السلطان ولى من لا ولى له " ( ) فإن كان ثمة إجبار مقبول فليتقرر لأهله تحت رقابة القضاء .
أما القانون السودانى فقد اعتبر من شروط صحة الركن " الزوجان " أن يكونا طائعين (13/ب ) فلو أجبرا أو أحدهما فالركن لم يصح ، ونفى الصحة يعنى الفساد أو البطلان.
وفى المادة (34) تكلم عن تزويج الولى للبكر البالغ فقال :
1- يزوج البالغ وليها بإذنها ورضاها بالزوج والمهر ، ويقبل قولها فى بلوغها ما لم يكذبها الواقع .
2- يلزم قبول البكر البالغ صراحة أو دلالة إذا عقد عليها وليها بغير إذنها ثم أخبرها بالعقد.
والجمع بين المادتين 13 ف ب ، 34/2 يفيد أن المقنن السودانى اعتبر عدم الإكراه شرط لصحة الركن ، واعتبر الإذن والرضا بالمهر والزوج – من قبل البكر البالغ – شرطا لنفاذ العقد ففرق بذلك بين حالتين :-
الأولى : حالة علم المولى عليها بالزواج قبل العقد ، وعندئذ يشترط أن تكون طائعة فلو زوجت على غير رضا منها بالزوج والمهر فالعقد غير صحيح .
الثانية : أن لا تعلم بأمر زواجها ، وفى هذه الحالة يلزم رضاها بالزوج والمهر ، فإن رضيت صراحة أو دلالة عند إجبارها نفذ العقد ، وإن لم ترض انفسخ .
والقانون السودانى آخذ فى ذلك بنظرية العقد الموقوف المعروفة عند الحنفية ، قال ابن عابدين " وإن زوجها بغير استئمار فقد أخطأ السنة وتوقف على رضاها "( ).
ومستندها عند الحنفية أن النبى  خير الفتاة التى زوجها أبوها ابن أخ له ، فقالت " اخترت ما فعل أبى " قالوا " فلما خيرها ، والخيار لا يثبت فى اللازم ولا فى الفاسد ، دل على أنه كان موقوفا على خيارها وإجازتها "( ).
والشافعية ( ) ينكرون هذه النظرية أصلاً ، متمسكين بحديث الخنساء أن أباها زوجها وهى كارهة فرد رسول الله  نكاحها " ولم يقل إلا أن تجيزى ما فعل أبوك ، مع حثه على طاعة الآباء ، فدل على أنها لو أجازت لم يجز "( ).
والحق فى رأيى مع الشافعية ، لأن العقد الموقوف فيه شبه التوقيت ، والتعليق على خطر الزوال ، وقد نهى الشارع عن التوقيت وما فى معناه كالتحليل ، واتفقوا على عدم صحة تعليقه على شرط أو إضافته إلى زمن .
يقول الماوردى فى رده على الحنفية ما مفاده : أن توقيت النكاح أقرب فى النظر من وقفه ، لأن للتوقيت شبها جائزا ، يقول " إن اشتراط لزوم النكاح إلى مدة أقوى من اشتراط لزومه بعد مدة ، لأن من العقود ما ينعقد إلى مدة كالإجارة ، وليس منها ما ينعقد بعد مدة ، فلما بطل باشتراط لزومه إلى مدة ، كقوله : تزوجتك شهرا ، كان أولى أن يبطل باشتراط لزومه بعد مدة ، كقوله تزوجتها على إجازتها ، لأنه إذا بطل بما له فى الصحة نظير فأولى أن يبطل بما ليس له فى الصحة نظير "( ).
وفى مصر :
يجرى العمل على الراجح من المذهب الحنفى ، وأحكامه وفق ما صاغها صاحب مرشد الحيران هى .
1- للأب والجد وغيرهما من الأولياء ولاية إنكاح الصغير والصغيرة بشروطه جبرا ولو كانت ثيبا ، وحكم المعتوه والمعتوهة والمجنون والمجنونة شهرا كاملا كالصغير والصغيرة . م(44)
2- للحر البالغ العاقل التزوج ولو كان سفيها بلا توسط ولى ، وللحرة المكلفة أيضا أن تزوج نفسها بلا ولى بكرا كانت أو ثيبا ، وينفذ نكاحها ويلزم إذا كان الزوج الذى تزوجت به كفؤا لها ، وكان المهر مهر مثلها . م(51)
3- لا تجبر الحرة البالغة على النكاح بكرا كانت أو ثيبا ، بل لا بد من استئذانها واستئمارها ، فإن كانت بكرا واستأذنها الولى القريب أو وكيله أو رسوله أو فضولى عدل ، وعلمت بالزوج وبالمهر فسكتت عن رده مختارة….. فذلك أذن فى صورة استئذانها قبل العقد ، وإجازة بعده ( ).
وإن استأذنها غير القريب من الأولياء وعين لها الزوج والمهر فسكتت أو تبسمت أو ضحكت أو بكت فلا يعد ذلك منها رضا ، بل لا بد من الإفصاح بالرضا أو وقوع ما يدل عليه .(مادة 53).
4- البالغ الثيب .. لا يكون سكوتها رضا ، بل لا بد أن تعرب عن نفسها مفصحة برضاها ، أو يقع منها ما يدل عليه .(م 54).
5- من زالت بكارتها بعارض أو تعنيس فهى بكر حقيقية ، …. ومن زالت بكارتها بزنا فهى بكر حكما ما لم يتكرر منها أو تحد ، فإن تكرر منها أو لو يتكرر وحدت – عوقبت بالحد – فهى ثيب كالموطؤة بشبهة أو بنكاح فاسد.(م55)( ).
BAHRAIN LAW
مدير الموقع
مدير الموقع
 
مشاركات: 758
اشترك في: الأربعاء سبتمبر 17, 2008 5:36 pm
الجنس: ذكر

Re: كتاب الوسيط فى أحــــــكام الأسرة

مشاركة غير مقروءةبواسطة BAHRAIN LAW » الاثنين أكتوبر 06, 2008 10:54 am

6- أن يكون الزوج كفؤا للزوجة
ذكرنا غير مرة أن الزواج فى مراد الإسلام عقد عمرى يدوم ، ولهذا يحتاط له ما لا يحتاط لغيره من العقود ، ومن احتياطهم له أنهم بحثوا ما إذا كان يلزم أن يكون الزوجان متكافئين أم لا؟
والملاحظ فى المصنفات الفقهية كثرة الجدال فى هذا الشأن حتى أن من أئمة المذاهب من يروى عنه الرأى ونقيضه فى مسألة الكفاءة ، سواء من حيث اعتبارها فى الأصل ، أو فيما تعتبر فيه ، أو أثر تخلفها .
وإنما دعا إلى هذا أن الإسلام دين المساواة ، قال تعالى " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم "( ) وقال  " الناس سواسية كأسنان المشط ، لا فضل لعربى على عجمى ، إنما الفضل بالتقوى "( ) فسوى الله بين الناس فى أصل الإنسانية.
ولكنا من جانب آخر نلمح أن الله سبحانه وتعالى فرق بين المؤمن والكافر ، والمطيع والعاصى ، وبين سبحانه أنهم لا يستوون ، كما أن النبى  أرشد إلى رجال لا يردون ، فقال " إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه"( ) إذن فهناك مرضى وهناك غير مرضى .
ومن هنا تعددت الاجتهادات ، فمن الناس من وقف عند قول الله تعالى "إنما المؤمنون أخوة " ( ) فنفى أن يكون بين الناس ثمة تفاضل إلا بالتقوى ، ومنهم من راعى حديث القرآن والسنة فى التفاضل ولو فى أمر الآخرة ، وقدر أن للزواج ثمرات ومقاصد فاعتبر التكافؤ ليتحقق الغرض من هذا العقد الخطير .
الكفاءة معتبرة فى الجملة
وعلى كل حال فإنه يندر أن نجد من بين العلماء من لم يعتبر الكفاءة بوجه ما ، قال ابن قدامة " وما روى فيها يدل على اعتبارها فى الجملة ولا يلزم منه اشتراطها"( ) بل إن ابن حزم أكثر الناس رفضا لاعتبار الكفاءة يعتبرها فى عدم الزنا يقول " وأهل الإسلام كلهم أخوة ، لا يحرم على ابن زنجية لغية ابنة الخليفة الهاشمى ، والفاسق الذى بلغ الغاية من الفسق – وهو مسلم – ما لم يكن زانيا – كفؤ للمسلمة الفاضلة ، وكذلك الفاضل المسلم كفؤ للمسلمة الفاسقة ما لم تكن زانية ، والذى نختاره فنكاح الأقارب بعضهم لبعض " ( ).
والإمام مالك رحمه الله " أجاز نكاح الموالى فى العرب ، وتلا قول الله عز وجل " إن أكرمكم عند الله أتقاكم " ( ) ومع ذلك يقول " وللمرأة أن ترد الرجل إن وجدته لقية – أى لقيطا – إن انتسب لها : فلان ابن فلان ، وكذلك ترده إن كان عبدا ، وغرها بالحرية من نفسه "( ) وقال سحنون أشهر رواة فقه مالك " ليس العبد مثله كفؤا لذوات المنصب والقدر ، لأن الناس مناكح قد عرفت بهم وعرفوا بها "( )
والشافعى يقول فى الجديد " وليس نكاح غير الكفء بمحرم فأرده بكل حال ، إنما هو نقص على الزوجة والولاة " ( )
وعن الإمام أحمد أن الكفاءة شرط لصحة النكاح ، قال المرداوى " وهى المذهب عند أكثر المتقدمين ، قال الزركشى : هذا المنصوص المشهور ، والمختار لعامة الأصحاب من الروايتين ، وصححه فى المذهب ومسبوك الذهب والخلاصة ، قال ابن منجا فى شرحه : هذا المذهب وقطع به الخرقى ، وقدمه فى الهادى والرعايتين ، والحاوى الصغير ، وهو من مفردات المذهب"( )
وظاهر مذهب الجعفرية أن المسلمين أكفاء بعضهم لبعض ، وعلى التحقيق فإن باب الكفاءة عندهم متسع ، لأنهم – كما يقول الدكتور البلتاجى – "يقولون إنه لا يصح نكاح المُناصب ، وهو المعلن لعداوة أهل البيت عندهم ، وذلك لارتكابه ما يعلم بطلانه من دين الإسلام ، ومجال التفكير عندهم بهذا الاعتبار متسع لكل من يرون فيه معاداة لأهل البيت حسب مقاييسهم فى ذلك "( )
وينسب ابن قدامة إلى أصحاب الرأى – أبى حنيفة ومدرسته – أنهم لا يشترطون الكفاءة ( ) وهذا لا يصدق إلا على الكرخى ، أما أئمة المذهب وعامته فهم يقولون بها ، يقولون السرخسى " وأبو حنيفة رحمه الله كان من الموالى – أى من غير العرب – فتواضع ولم ير نفسه كفؤا للعرب "( ).
إذن لا محل للزعم بأن الكفاءة مختلف فيها ، حيث لم يخل مذهب من اعتبارها فى الجملة ، وأولى أن تعتبر " لأن النكاح يعقد للعمر ويشتمل على أغراض ومقاصد من الصحبة والألفة والعشرة ، وتأسيس القرابات ، وذلك لا يتم إلا بين الأكفاء ، وفى أصل الملك على المرأة نوع ذلة ، وإذلال النفس حرام ، وإنما جوز ما جوز منه لأجل الضرورة ، وفى استفراش من لا يكافئها زيادة الذل ولا ضرورة فى هذه الزيادة ، فلهذا اعتبرت الكفاءة ، والمراد من الآثار المروية فى أصل المساواة – أحكام الآخرة "( ).
فيم تعتبر الكفاءة؟
الكفء فى اللغة : هو النظير والمساوى ، قال  " المسلمون تتكافأ دماؤهم " ( ) أى تتساوى .
ويراد بها فى مسائل الزواج : المماثلة بين الزوجين فى أمور مخصوصة ( ).
أولها : الدين
والفقهاء متفقون على اعتبار أصل الدين فى الكفاءة ، أما التدين بالحرص على الطاعات واجتناب النواهى ، فقد رأينا ابن حزم يخالف فيه فيرى الفاسق الذى بلغ الغاية من الفسق ، كفئا للمسلمة الفاضلة .
والأحناف يقاربونه فى ذلك ، فلم " ينقل عن أبى حنيفة رحمه الله شئ من ذلك ، والصحيح عنده أنه غير معتبر "( ) واختلف النقل عن محمد ، فقيل لا يمنع الفسق الكفاءة إلا إذا كان صاحبه متهتكا يُصفعُ ويسخرُ الناس منه ، ويخرج سكرانا إلى الأسواق والشوارع ، وقال أبو يوسف يمنع إن جهر بنفسه ( ).
أما جمهور العلماء : فيرون أن الكفاءة فى العفاف والفجور معتبرة ، بقول الله تعالى " أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون " ( ) وقوله "الزانى لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك "( ).
" ولأن الفاسق مرذول ، مردود الشهادة والرواية ، غير مأمون على النفس والمال ، مسلوب الولاية ، ناقص عند الله وعند خلقه قليل الحظ فى الدنيا والآخرة، فلا يجوز أن يكون كفؤا لعفيفة ، ولا مساويا لها ، لكن يكون كفؤا لمثله" ( ).
هل للتناسل من مسلمين أثر ؟
لو أن مسلما أبواه أو أحدهما على غير دين الإسلام تقدم لنكاح مسلمة من أبوين وأجداد مسلمين أيعتبر كفئا لها ؟
يرى الإمام أبو حنيفة أن عدم تكافؤ الآباء ينفى تكافؤ الأبناء ( ) وجمهور العلماء يخطئونه ويقولون فضل النسب يتعدى ، وفضل الدين قاصر ، وأن الصحابة رضوان الله عليهم ، أكثرهم أسلموا وكانوا أفضل الأمة ، وكان آباؤهم على غير الإسلام ، فهل يجوز أن يقال إنهم غير أكفاء للتابعين؟!!( )
الثانى النسب :
وهو معتبر حتى عند المالكية ، وقد نقلنا آنفا عن سحنون قوله " الناس مناكح قد عرفت بهم وعرفوا بها " وفى مختصر خليل وشرح الدردير" وللعربية وهى التى لم يتقدم عليها رق لأحد رد الزوج المولى العتيق المنتسب لفخذ من العرب ، أى تزوجته لانتسابه إليهم ، فوجدته عتيقا لهم ، لأنه بانتسابه كأنه مشترط ذلك فثبت لها رده "( ).
والحقيقة أن للفقهاء فى معيار النسب كلاما يطول ، وفيه نوع مغالاة فى رفعة العرب والقريشيين خاصة ، على غيرهم من الأمم والبطون ، ويبدو أن دعوة الشعوبية التى قويت فى العصر العباسى قد ألقت بمزيد من القار على النار التى كانت قد خمدت فى عصر الإسلام الأول – حيث آمن الناس أنهم أخوة ، وأنهم سواسية كأسنان المشط إذ رأوا نبيهم  يعتق صفية ويتزوجها ، ويزوج مولاه زيد بن حارثة من ابنة عمته – وزوجته من بعد – زينب بنت جحش ، ويأمر بعض الخزرج أن يزوجوا حجاما يدعى أبا هند ( )- ولكنها ما لبثت أن هاجت من جديد وطاش لسانها حتى يحكى أن أبا جعفر المنصور أمر ألا تزوج منا فيه – أى من آل عبد مناف – إلا من منافىَّ "( )
ولا شك أن التعالى بالأنساب ليس من الإسلام فى شئ فالله سبحانه وتعالى يقول " يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ، ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن "( ) ولكن من مصلحة الزوجين أن يكونا على مستوى متقارب فى الوضع الأسرى ، حتى لا تتعالى الزوجة على زوجها فتسوءه ، أو تقلقه رفعتها وأهلها فيتطلع إلى منابذتهم فى الرفعة فيضر ذلك بدينه ويرهقه من أمره عسرا ( ).
وثالثها المال .
وفيه يروى أن النبى  قال " الحسب المال "( ) وقال : إن آحساب الناس بينهم فى هذه الدنيا المال "( ) وقال لفاطمة بنت قيس حين أخبرته أن معاوية خطبها قال " أما معاوية فصعلوك لا مال له "( ).
ويقولون " إن من لا يقدر على مهر امرأة ونفقتها لا يكون كفؤا لها ، لأن المهر عوض بضعها ، والنفقة تندفع بها حاجتها ، وهى إلى ذلك أحوج منها إلى نسب الزوج "( ).
ورابعها : الكسب أو الحرفة
ومردها فى رأيهم إلى العادة ، حتى أن الإمام أحمد كان يرد خبراً يقول " العرب بعضهم لبعض أكفاء إلا حائكا أو حجاما " فينكره ويضعفه ومع ذلك يقول باعتبار الحرفة ، فقيل له : كيف تأخذ به – أى تقول بمقتضاه – وأنت تضعفه ؟ قال : العمل عليه ، يعنى أنه ورد موافقا لأهل العرف( ) .
ويذكر السلف من أمور الكفاءة : الحرية أو عدم الرق ، وهى قضية ليست محل وجود فى عصرنا .
وزاد الشافعية شرطا تكلمنا عليه من قبل وهو التقارب فى السن قال الماوردى إذا اختلفا فى طرفيه فكان أحدهما أول سنه كالغلام والجارية ، والآخر فى غاية سنه كالشيخ والعجوز ففى اعتبار الكفاءة وجهان :
أحدهما : أنه شرط معتبر ، فلا يكون الشيخ كفؤا للطفلة ، ولا العجوز الأنثى – كفؤا للطفل ، لما بينهما من التنافى والتباين ، فإنه مع غايات السن تقل الرغبة ، ويعدم المقصود بالزوجية .
والثانى : أنه غير معتبر … ( ).
ويرى المالكية والشافعية : أن الكفاءة معتبرة فى السلامة من العيوب ويتوسع المالكية فيها توسعا كبيرا ، وللاشتراط مدخل فيها عندهم ( ) وتحقيقا – كما يقول ابن قدامة – فإن " السلامة من العيوب ليست من شروط الكفاءة ، فإنه لا خلاف فى أنه لا يبطل النكاح بعدمها ، ولكنها تثبت الخيار للمرأة دون الأولياء، لأن ضرره مختص بها "( ).
الكفاءة فى الدنيويات اعتبار عرفى .
فى الاعتبارات الدنيوية نجد الفقهاء يلمحون إلى العرف كحاكم فى الأمر محل النظر.
ففى النسب مثلا وجدنا ابن قدامة يقول " ولأن العرب يعدون الكفاءة فى النسب ، ويأنفون من نكاح الموالى ، ويرون ذلك نقصا وعارا ( ) ويقول نحو هذا فى شرط اليسار ( ) وفى الحرفة : وجدنا السرخسى يعلل لقول أبى يوسف قائلا " وكأنه اعتبر العادة فى ذلك " ( ) و الماوردى الشافعى يفرق بين وجوه الكسب – الحرف – بمراعاة الأعراف يقول " وكل واحد فيها يفضل على غيره بحسب اختلاف البلدان والأزمان …. وإنما يراعى فيها العرف
والعادة …( ) .
ويفرق فى التفاخر بالمال أو النسب بحسب المتعارف فى الأوطان، فيقول أهل الأمصار يتفاخرون بالأموال " وأهل البوادى وعشائر القرى يتفاخرون بالأنساب "( ) ويتحصل من ذلك أن مقياس الكفاءة عرفى ، فيقضى فيه حسبما تقضى أعراف المجتمع .
وقت اعتبار الكفاءة
الكفاءة معتبرة حال العقد ، فإن كان الرجل كفئا للمرأة عند العقد ثم تغيرت حاله بعده فليس لها ولا لأوليائها حق الاعتراض " لأن النكاح قد تقرر فلا يفسخ بهذه الأمور العارضة ، ولا عار فى بقاء المرأة مع زوجها وإن تغيرت حاله ، بل هو الصبر والرضى بحكم القدر ، وهما أمران محمودان " ( ) .
الجانب الذى تعتبر فيه الكفاءة
ينص الفقهاء على أن الكفاءة معتبرة فى الرجل دون المرأة ، فالشرط أن يكون الرجل كفئا للمرأة ، ولا يلزم أن تكون المرأة كفؤا للرجل ، وعلة ذلك أن المرأة تعير بضعة زوجها ، وتشرف بشرفه ، ولا يسهل عليها الخلاص منه فالطلاق بيده وحاجتها من المهر والنفقة إليه ، وهذا بخلافه فهو الأسبق بالاختيار عادة ، ويملك طلاقها ولا يناله منها ضرر( ) ، وفى الحديث الصحيح " من كانت عنده جارية فعلمها وأحسن تعليمها ، وأحسن إليها ثم اعتقها وتزوجها فله أجران " ( ) .
واستثناء من هذه القاعدة اعتبر الأحناف الكفاءة فى جانب المرأة فى حالتين ( ) :
1- إذا زوج غير الأب والجد صغيرا بمن لا تكافئه ، فإن الزواج لا يصح رعاية لحق الصغير ، وهو فرض مستبعد بعد أن رجحنا اعتبار البلوغ فى الزواج .
2- إذا زوج الوكيل موكله بامرأة لا تكافئه ففى هذه الحالة لا ينفذ العقد استحسانا ، لأن المعروف عرفا كالمشروط شرطا ، والغالب فى العرف أن يحرص الراغب على الزواج بمن تكافئه .
صاحب الحق فى الكفاءة
الذى عليه الجمهور أن الكفاءة حق للمرأة ولوليها العاصب ،( ) ويثبت هذا الحق لكل منهما على حدة ، بحيث لو أسقطه أحدهما لم يسقط حق الآخر فمثلا إذا زوجت المرأة نفسها – وفق مذهب أبى حنيفة – بغير كفء ، ولم تشترط الكفاءة ، أو علمت أنه دونها فى المنزلة ورضيت ، سقط حقها فى الاعتراض ، ولم يسقط حق وليها ، وكذلك إذا زوجها وليها بغير كفء سقط حق الولى فى الاعتراض وبقى حقها هى ، ما لم يشترط الولى الكفاءة ، أو أخبرهم بها وقت العقد فزوجوها على ذلك ثم ظهر أنه غير كفؤ ( ). والأمر هين إن كان للمرأة ولى واحد ، ولكن إن تعدد الولاة وكانوا على درجة واحدة كالأخوة مثلا أو الأعمام فهل يكفى رضاء البعض أم لابد من رضاء الجميع ؟ ( ).
جمهور العلماء يقولون برضاء الجميع ، فلو رضوا به إلا واحدا كان للواحد حق الاعتراض لما يلحقه من عاره .
ويرى الحنفية أن رضاء أحدهم يكفى لأن اشتراط الكفاءة حق لا يتجزأ ، وعلى رأى أبى حنيفة يجرى العمل فى القضاء المصرى .
أثر تخلف الكفاءة :
للفقهاء فى أثر تخلف الكفاءة رأيان ( )
أولهما : يقول ببطلان العقد من أصله ، لأن النكاح عقد لا يقع موقوفا على الإجازة فإذا لم ينعقد لازما كان باطلا . وهذه إحدى الروايتين عن أحمد ، وقول بعض الشافعية.
والثانى : يقول إنه يقع صحيحا موقوفا على إجازة صاحب الحق ، وهذا قول الحنيفة والمالكية وأصح الروايتين عن أحمد وبعض الشافعية والزيدية وغيرهم .
وثمة اتجاه ثالث حمل عليه الماوردى اختلاف النقل عن الشافعى فى هذه المسألة ، قال " والذى يقتضيه نصه – أى نص الشافعى – فى هذا الموضع من بطلان النكاح هو إذا كان الولى العاقد عالما بأن الزوج غير كفء قبل العقد ، والذى يقتضيه نصه فى الإملاء من جواز النكاح وثبوت الفسخ فيه لباقى الأولياء هو إذا لم يعلم الولى بذلك إلا بعد العقد ، وهذا أصح المذهبين وأولى الطريقين ، لأنه مع العلم مخالف ، ومع التدليس مغرور"( ).
وكأنه اعتبر تخلف الكفاءة من قبيل العيوب ، فكما لا يمنع العيب انعقاد العقد وصحته ويعطى للطرف المضرور حق الخلاص فكذلك الكفاءة.
وهذا فى رأيى أرجح الأقوال لأن خطر النكاح ، والنهى عن تأقيته لا يسوغ تقبل فكرة العقد الموقوف فيه.
سقوط الحق فى الاعتراض على الزوج
يسقط الحق فى طلب الفسخ لعدم الكفاءة بحصول الرضا بالزوج وللرأى فى تقديره مجال ، وفى المذهب الحنفى – وهو ما يجرى عليه العمل فى مصر والدول العربية – يسقط طلب الفسخ متى حملت الزوجة أو ولدت رعاية لحق الولد ، وهو أقوى من حق الأولياء( ).
وفى التقنينات المعاصرة
يجرى العمل غالبا على مذهب الإمام أبى حنيفة إلا بعض تفردات فى هذا القانون أو ذلك ، ومن ذلك مثلا :
1- أن القانونين الأردنى والمغربى اعتبرا التناسب فى السن بين الزوجين، وإن كان الأول قد حده بأكثر من عشرين عاما فى الخاطب بينما أوكله الأخير إلى العرف " م 7 أردنى ، فصل 15 مغربى ".
2- تفرد القانون السودانى باعتبار الكفاءة فى الدين والخلق ( م21) ويعاب عليه أنه اعتبر الكفاءة من شروط صحة الركن "الزوجان"(م 13/د)، وفى التطبيق اعتبرها شرط لزوم الزواج (م 24).
3- تفرد القانون اللبنانى بالنص على اعتبار الكفاءة فى المال والحرفة وأمثال ذلك ( م 45) بينما أوكلت التقنينات الأخرى أمور الكفاءة إلى العرف.
وفيما عدا ذلك تجرى التقنينات على نمط واحد تقريبا أساسه مذهب الحنفية ، ومعلوم أنه المعمول به فى مصر.

الفصـــــــل الثانى
شروط الـــزواج
تمهيد
الشروط : جمع شرط ، وهو ما يتوقف عليه وجود الشئ ولا يكون جزاءاً من حقيقته ، فهو عبارة عن أمر معتبر للانعقاد أو الصحة أو اللزوم أو النفاذ.. وعلى ذلك تنقسم شروط العقود ، ومن بينها عقد الزواج إلى أربعة أنواع:
شروط انعقاد : وهى التى يلزم توافرها فى أركان العقد ، بحيث يترتب على فواتها البطلان بالاتفاق .
وشروط الصحة : وهى التى يلزم توافرها لترتب الأثر الشرعى على العقد ، ويترتب على فواتها فساد العقد عند الأحناف وبطلانه عند الجمهور .
وشروط النفاذ : وهى التى تلزم لتنفيذ العقد بعد انعقاده وصحته ، ويترتب على فواتها أن يكون العقد موقوفا .
وشروط اللزوم : وهى التى يترتب عليها استمرار العقد وبقاؤه ، ويترتب على فواتها أن يكون العقد جائزا أو غير لازم ، مما يتيح لكل من طرفيه أو لغيرهما فسخه .
ما تقدم من الشروط :
فى كلامنا عن الصيغة والزوجين عرضنا لجملة من الشروط منها ما يندرج تحت شروط الانعقاد كشروط الإيجاب والقبول ، وكون العقد بين مختلفى الجنس يقينا ، وكون الأنثى حل للرجل أو غير محرمة عليه تحريما قاطعا لا شبهة فيه .
ومنها ما يندرج تحت شروط الصحة ككون الأنثى غير محرمة على الرجل تحريما مؤقتا ، أو تحريما فيه شبهة أو خلاف بين الفقهاء ، وعلى ما رجحنا يلزم أن يكون الزوجان أهلا للزواج من حيث السن والسلامة العقلية ، وأن يكونا طائعين.
ومنها أن تكون صيغة العقد مؤبدة ، وأن يكون الزواج على ما رجحنا مقصوداً ،
ومن شروط اللزوم : أن يكون الرجل كفئا للمرأة على قول جمهور الفقهاء وأن يكون الزوج خلوا من العيوب التى لا ترضى الزوجة بالمقام معها حتى يكون العقد لازما .
وقد تكلمنا فى الفصل السابق عن الكفاءة ، وسنتناول التفريق بالعيب فى الكتاب الثانى .
وجدير بالذكر أن العلماء يعتبرون من شروط اللزوم أن يكون المزوج لناقص الأهلية أو عديمها الأب فقط ، أو الأب والجد على بعض الآراء أو الأب أو وصية على رأى الإمام مالك ، فإن كان غير من ذكرنا وقع العقد غير لازم للقاصر، حتى يكون له الخيار متى بلغ أو أفاق ، كما يكون غير لازم وإن كان الولى الأولى معروفا بسوء الاختيار .
ومن جانبنا فقد أهملنا هذا الشرط لأننا اشترطنا الطوع والإذن من جانب الزوجين ، ولا إذن ما لم يكن الزوجان بالغين عاقلين مختارين ، مما ينفى وجود ولاية الإجبار فى الزواج .
ما بقى من شروط الزواج
بقى من شروط الزواج شرطان :
أولهما : شرط أن يكون العاقد أهلا لمباشرة العقد .
والثانى شرط يتناسب وشكلية الزواج وهو شرط الإشهاد عليه .
وهما ما نعنى بمعالجته هنا .
المبحث الأول
أهلية العاقد فى الزواج
تذكرة :
عرفت فى نظرية العقد أن الأهلية تعنى لغة : الصلاحية ، وتطلق فى اصطلاح الفقهاء على معنيين :
أحدهما : صلاحية الإنسان لوجوب الحقوق المشروعة له أو عليه ، وتسمى أهلية الوجوب .
والثانى : صلاحية الإنسان لصدور الفعل منه على وجه يعتد به شرعا وتسمى أهلية الأداء .
وتنقسم هذه الأخيرة إلى أهلية أداء كاملة ، وأهلية أداء ناقصة ، فالكاملة تعنى : الصلاحية لإصدار كل التصرفات دون توقف على إجازة من أحد . والناقصة تعنى : الصلاحية لإصدار بعض التصرفات دون البعض ( ) وتتوقف أهلية الأداء الكاملة على العقل والبلوغ والرشد ، فمن بلغ عاقلا غير محجور عليه لسفه صحت كل تصرفاته فى حق نفسه ، وفى حق غيره إن كانت له عليه ولاية أو نيابة .
ولكن هل كل شخص ذكرا كان أو أنثى أهل لعقد الزواج ؟
الجواب على هذا السؤال هو موضوع مبحثنا .
1- تميز عقد الزواج عن غيره من العقود ، يتميز عقد الزواج عن غيره من العقود الأخرى بأنه عقد أبدان ففيه يرتبط بدن ببدن ، وأنه عقد عمرى يبطله التأقيت كما رأينا ، وموضوعه وإن كان حل استمتاع ذكر بأنثى إلا أنه يوجد قرابات وصلات اجتماعية تتعدى دائرة الزوجين ، ومن ثمراته النسل الذى بقوته يقوى المجتمع ، وبضعفه يضعف ، ولهذه الأخطار والآثار خصه الله بوصف لم يخلعه على غيره ، وهو كونه " ميثاقا غليظا " . ومن المنطقى والزواج كما نرى أن يخص عقده بما لا يلزم فى غيره ، وأن تراعى فى عاقديه شروطا لا تعتبر فى غيره ، وقد برز فى هذا العقد شرطان ، أحدهما : أن يكون العاقد ذكرا، والثانى أن يشهد على العقد ، وسيأتى كلامنا عن الثانى فى المبحث التالى .
2- أن يكون العاقد ذكرا
على خلاف كافة العقود الأخرى التى يعقدها الشخص لنفسه يشير ظاهر القرآن الكريم ونصوص صريحة من السنة المشرفة إلى شرط أن يكون العاقد فى الزواج ذكرا ، ولما كان الزواج رباطا بين مختلفى الجنس فمضمون هذا الشرط يعنى ألا تتولى المرأة – خاصة – تزويج نفسها ، بل يباشر عنها الأهل لذلك من الذكور وقد ظن بعض الناس أن هذا افتيات على المرأة ، وانتقاص لأهليتها وحرمان لها من مباشرة أمر يتعلق بشخصها ، مما حدا بهم أن يصفو حضارة الإسلام بأنها حضارة ذكورية لا مكان للنساء فيها وهذا زعم معروف لا يحتاج إلى تذكرة .
ولكن الذى يستحق وقفة تأمل وتفنيد هو ذلك الخلط المتعمد لأوراق قضية " ذكورية العاقد فى الزواج " وطرحها وكأنها نتاج فكرى لعصر الحجاب الذى ابتدأ كما يقولون بعد الفتوحات الإسلامية وانتشار النعم ، حيث " غلب على الناس حب الشهوات فتراخت عرى الأخلاق وتحرر اللاهون من قيود العفة والطهارة ، وهنا خشى الآباء والأولياء على النساء من الفتنة التى أخذت تشيع بعد غزو الإماء والجوارى المجتمع الإسلامى ، فألزموا الحرائر البيوت ، ومنعوهن من العلم إلا ما كان من تلاوة القرآن ، وما يتعلق بالعبادات ، وفرضوا عليهن الحجاب الكثيف حتى الوجه والكفين ، وهو ما كان يباح كشفهما ، وقرر جمهور الفقهاء ولاية الآباء والأولياء على النساء ولاية إجبار ، أبكارا كن أم ثيبات ، لجهلن حال الرجال ، بعد حجبهن عنهم حجبا كاملا ، فكان على البنت أن ترضخ لاختيار أبيها ، لأنه أدرى بحال الرجال ، وقد حجبت عنهم ، ويدفعه حبه وحرصه على نفعها أن يختار لها الكفء ، وعلى ذلك قرر الشافعى وابن حنبل أنه ليس للمرأة بكرا أم ثيبا أن تنفرد بعقد زواجها دون وليها فهى وهو شريكان فى زواجها ، ويتولى هو صيغة العقد ، ولا يصح نكاحها بغيره أو بدونه.
غير أن الولى لا يستطيع أن يمنع زواج وليته بغير حق ، فيكون عاضلا، والعضل ظلم ، ولا يعتبر الولى عاضلا إلا إذا تحقق منه قصد الإضرار بها ، كما لو أراد تزويجها من رجل غير كفء لها ، أو من كانت له مصلحة فى تزويجها منه ، وهى لا ترغب فيه ، أما إذا كان طالب الزواج كفئا لها فليس لها أن تخرج عن رأى وليها ، وإرادته ، بل عليها أن تذعن له ما دام يرى فيه الكفاءة كما يقررها الشرع " ( ) .
وبعد أن يتكلم الكاتب عن أبى حنيفة كاستثناء على هذا الاستبداد ويلمح إلى أنه لم يحرر المرأة تحريرا كاملا فى أمر الزواج ، حيث قيد لزوم زواجها بأن تختار كفئا ، يعود إلى فكرته الأولى فيقول " على أن الرأى الغالب هو رأى جمهور الفقهاء " المالكى والشافعى وابن حنبل " وهو الذى رسخ فى التقاليد التى شاعت منذ فرض الحجاب على المرأة ، وفرضت عليها العزلة عن الرجال ، إشفاقا عليها من الفتنة " ( ) .
هذا قول أستاذ حقوقى رصين ( ) ، ومع هذا يتضح منه أنه :
1- خلط بين حكمى الرضا بالعقد ومباشرته ، وقد بينا فى الفصل السابق أن رضا المرأة بالزواج شرط لصحة زواجها ، وأن القائلين بولاية الإجبار على البكر البالغ قلة من كثرة ، ومع هذا فإنهم قيدوا هذه الولاية بكثير من القيود ، أهمها أنها مراقبة قضاء .
2- وهذا هو المهم أن رأيهم أدى إليه اجتهادهم فى النصوص من الكتاب والسنة لا الاعتبارات الاجتماعية والسياسية التى ذكرها الكاتب ، خاصة وأن الثلاثة الذين نقلت عنهم ولاية الإجبار " مالك والشافعى وأحمد " هم عمداء مدرسة الأثر ، ولو كانت القضية قضية تقاليد لكان أولى بها أنصار مدرسة الرأى ، وحاضرتهم الكوفة ومن بعدها بغداد عاصمتا الخلافة ، وموطن التحضر والصدام الحضارى .
3- ثم هل من المنطق السوى أن ندع فى قضية الحجاب ظاهر الكتاب وصريح السنة ، إلى عبارات الأدباء والمؤرخين كالجاحظ وابن تغرى بردى وغيرهم فنوهم أن المرأة فى عصور الإسلام الأولى كانت برزة تخالط الرجال ، وتبرز المفاتن ، وتلم بالأحوال ، ثم ضرب عليها الحجاب بعدئذ نزولا على عادات الفرس والترك وغيرهم ( ) ، مع أن الفرس والترك دخلوا الإسلام مغلوبين ، فالمعقول أن تغلبهم قيم الإسلام لا أن يغلبوها .
ومن المفارقات الغريبة أننا بينما نرى إصرار بعض المحسوبين على أهل الإسلام على رد ظاهرة الحجاب إلى مؤثرات خارجية عن الإسلام نجد كاتبة بريطانية – تقول عن نفسها أنها لا تنتسب إلى دين ، علما بأنها كانت يوما مترهبة فى أحد الأديرة المسيحية – ترد ظاهرة الحجاب إلى اقتداء المسلمات بزوجات النبى  طلبا للرفعة وتمسكا بالشرف ، تقول " وفى الواقع فلم يقصد بالحجاب الحط من شأن نساء محمد بل كان رمزا على رفعة منزلتهن ….. وفيما يبدو أنه فيما بعد تملكت الغيرة من النساء إزاء منزلة نساء النبى ، وهكذا طالبن بالسماح لهن بارتداء الحجاب أيضا ، فالحضارة الإسلامية حضارة مساواة، ولذا كان من التناقض أن تتميز نساء النبى وتشرفن بذلك الأسلوب ، وهكذا رأت النساء اللاتى ارتدين الحجاب فى البداية فيه رمزا للقوة وحسن الأثر، وليس شارة تدل على اضطهاد الذكور لهن ، وقد أخذت نساء الصليبيين فيما بعد فى ارتداء الحجاب على أمل أن يعلمن ذويهن من الرجال أن يحسنوا معاملتهن حين رأين الاحترام الذى كانت تلقاه النساء المسلمات ( )
4- ومع هذا فلست أزعم أن متأخرى السلف أبرياء من تهمة المغالاة فى حجب النساء ، فقد روى مسلم فى صحيحه عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال : سمعت رسول الله  يقول " لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم إليها" فقال له – أى لعبد الله بن عمر – بلال ابنه ، والله لنمنعهن ، فأقبل عليه عبد الله ابن عمر فسبه سبا ما سمعته سبه بمثله قط ، قال أخبرك عن رسول الله ، وتقول: والله لنمنعهن !!!
فقط الذى أريد إبرازه أن لا صلة للولاية فى النكاح بقضية الحجاب ، وإن ظهر أثره فى التبرير العقلى لها – من قبل الفقهاء – فهذا فقط لبيان انسجام الحكم مع الواقع ، لكن أن يكون الواقع هو الذى أدى إلى الحكم ، فهذا ما نرفض أن يكون ديدن المجتهدين خاصة ، فالعهد بهم دائما أنهم لا يقدمون بين يدى الله ورسوله ، وأصول اجتهادهم الثابتة تقرر هذا ، وآخرهم الإمام أحمد بن حنبل شديد الاتباع نفور من الابتداع ، وكثيرا ما تتعدد أقواله فى المسألة بتعدد الآثار فيها.
خلاصة القول أن شرط ذكورية العاقد فى النكاح ليس محدثا فى الإسلام، ولكنه ثابت بالكتاب والسنة ولم يعلم عن الصحابة فيه مخالف ، وانظر ما يلى.
اشتراط ذكورية العاقد فى النكاح عند الفقهاء:
يبرز الحديث عن شرط الذكورة فى مباحث الفقهاء الولاية فى النكاح ، وفيما خلا الرافضين لزواج الصغار فإن جمهرة أهل الفقه يسلمون بثبوت الولاية على الصغار ومن فى حكمهم من المأفوفين عقليا ، أما البالغون العقلاء فالذكور منهم لا ولاية عليهم إلا أن يكونوا سفهاء فى رأى البعض ، والأكثرية على نفيها.
وأما النساء فإما أن يكن أبكاراً أو ثيبات . بالغات عاقلات ، وفيهن وقع الخلاف الفقهى ، هل تنفرد المرأة بالعقد على نفسها أم يعقد عنها وليها ؟
قال الماوردى " الفقهاء فيه على ستة مذاهب :-
مذهب الشافعى :
أن الولى شرط فى نكاحها ، لا يصح العقد إلا به ، وليس لها أن تنفرد بالعقد على نفسها وإن أذن لها ، سواء كانت صغيرة أو كبيرة ، شريفة أو دنيئة ، بكرًا أو ثيبا ، وبه قال من الصحابة : عمر وعلى وابن عباس وابن عمر وعائشة،  ومن التابعين : الحسن وابن المسيب ، وعمر بن عبد العزيز ، وشريح والنخعى ، ومن الفقهاء: الأوزاعى والثورى ، وابن أبى ليلى وأحمد واسحاق .
وقال أبو حنيفة : إن لم يكن عليها فى مالها ولاية لبلوغها وعقلها ، لم يكن عليها فى نكاحها ولاية ، وجاز أن تنفرد بالعقد على نفسها ، وترده إلى من شاءت من رجل أو امرأة .
وقال مالك : إن كانت ذات شرف أو جمال أو مال يرغب الناس فى مثلها لم يصح نكاحها إلا بولى ، وإن كانت دنيئة صح نكاحها بغير ولى .
وقال داود الظاهرى : إن كانت بكرا لم يصح نكاحها إلا بولى وإن كانت ثيبا صح بغير ولى .
وقال أبو ثور : إن أذن لها وليها جاز أن تعقد على نفسها وإن لم يأذن لها لم يجز .
وقال أبو يوسف : تأذن لمن شاءت من الرجال فى تزويجها دون النساء، ويكون موقوفا على إجازة وليها( ).
ويمكن جمع هذه المذاهب فى ثلاثة اتجاهات :
الاتجاه الأول : ويشترط الذكورة فى العقد ( ).
الاتجاه الثانى : لا يشترط الذكورة فى العقد .
الاتجاه الثالث : يفرق بين عقد البكر وعقد الثيب فيشترط الذكورة فى الأول دون الثانى .
الأدلة :
أولا : متمسك القائلين بصحة عقد المرأة لنفسها أدلة من الكتاب والسنة والمعقول .
1- أما الكتاب فقوله تعالى " فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره"( ) والاستدلال به من وجهين :
أحدهما : أنه أضاف النكاح إليها ، فيقتضى تصور النكاح منها .
الثانى : أنه جعل نكاح المرأة غاية الحرمة ، فيقتضى انتهاء الحرمة عند نكاحها نفسها( ).
وقوله عز وجل " فلا جناح عليهما أن يتراجعا " ( ) قالوا : أى يتنكاحا، فأضاف النكاح إليهما من غير ذكر الولى ( ).
وقوله سبحانه " فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن " ( ) والاستدلال به من وجهين :
أحدهما : أنه أضاف النكاح إليهن فيدل على جواز النكاح بعبارتهن من غير شرط الولى .
والثانى : أنه نهى الأولياء عن المنع عن نكاحهن أنفسهن من أزواجهن إذا تراضى الزوجان ، والنهى يقتضى تصور المنهى عنه ( ).
2- وأما السنة : فما روى عن النبى  أنه قال " ليس للولى مع الثيب أمر" ( ) وهذا قطع ولاية الولى عنها .
وما روى أنه قال " الأيم أحق بنفسها من وليها " والأيم اسم لامرأة لا زوج لها ، أى أن الحقية ثابتة لكل امرأة لا زوج لها .
3- وأما المعقول : أن الولاية على الحر – غير الرقيق – استثنائية تثبت بطريق الضرورة ، والضرورة تحصل بالعجز عن التصرف وهذا العجز كائن مع فقد العقل والصغر ، فإذا زالا بالعقل والبلوغ زالت الضرورة وانتفت النيابة.
ولأن الولاية منتفية عن البالغ العاقل فى مالها فتنتفى عن نفسها بطريق الأولى( ).
ثانيا : ومتمسك القائلين بالتفرقة بين البكر والثيب :
قول النبى  " ليس للولى مع الثيب أمر " فنفى الولاية عن الثيب وبقيت على البكر .
ولأن الثيب قد خبرت الرجال فاكتفت بخبرتها عن اختيار وليها ، والبكر لم تختبر فافتقرت إلى اختيار وليها ( ).
ثالثا : ومتمسك الجمهور على شرط الذكورة . أدلة كثيرة نذكر منها :
1- أن خطابات القرآن الكريم فى النكاح والإنكاح متعلقة بالذكور ، قال تعالى " وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وامائكم " ( ) فجمع فى ولاية النكاح ثلاثا : الأيامى اللاتى لا زوج لهن ، والعبيد والإماء ، وذكر العبيد ينفى أن يكون المقصود تزوجوا ، فلا بد وأن يكون المقصود زوجوا وهو خطاب للذكور كما هو واضح( ).
وقال سبحانه " ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا " ( ) أى لا تزوجوا المسلمة من المشرك ( ). وقال " فانكحوهن بإذن أهلهن " ( ) فجعل إذن الأولياء شرطا فى نكاحهن ، فدل على بطلانه لعدمه ( ) وقال حكاية عن شعيب فى قصة موسى عليهما السلام " إنى أريد أن أنكحك إحدى ابنتى هاتين " ( ) ولو لم يكن الإنكاح إليه ما صح قوله ( ).
وقال سبحانه " فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن " ( ) فنهى عن العضل لما فيه من إساءة استعمال الحق ، ويؤيد ذلك سبب نزول الآية فى معقل ابن يسار وأخته ، وقد بيناه من قبل ، والنهى عن استعمال الحق يثبت ضمنا ثبوت الحق ، وهو الولاية " إذ لو جاز لهن التفرد بالعقد لما أثر عضل الأولياء ولما توجه إليهم نهى "( ).
ومن السنة أحاديث كثيرة : قال الشوكانى " قد سردها الحاكم من طريق ثلاثين صحابيا ، وفيها التصريح بالنفى" ( ) وقال ابن حزم أثبتت شرعا زائداً على معهود الأصل ، لأن الأصل – بلا شك – أن تنكح المرأة من شاءت بغير ولى ، فالشرع الزائد هو الذى لا يجوز تركه ، لأنه شريعة واردة من الله تعالى ، كالصلاة بعد أن لم تكن ، والزكاة بعد أن لم تكن ، ولا فرق "( ).
وأشهر هذه الأحاديث قوله  " لا نكاح إلا بولى " ( ) فأفاد انتفاء النكاح الشرعى بانتفاء الولى ، وما أفاد هذا المفاد اقتضى أن ذلك شرط لصحة النكاح ، لأن الشرط ما يلزم من عدمه عدم المشروط "( ).
وهذا يعنى أن قوله " لا نكاح " نفى للصحة لا للكمال ، يؤكد ذلك قول النبى  " أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل – ثلاث مرات " ( ) وقوله " إن المرأة لا تزوج المرأة ، ولا تزوج المرأة نفسها "( ).
ومقتضى هذا كله : أن الولى شرط من شروط النكاح التى لا يصح إلا بها، وإلا فولاية ذلك إلى السلطان.
3- وحكى عن ابن المنذر أنه قال : لا يعرف عن أحد من الصحابة خلاف فى اعتبار الولى . ( )
4- وقال ابن قدامة " والعلة فى منعها صيانتها من مباشرة ما يشعر بوقاحتها ورعونتها ، وميلها إلى الرجال ، وذلك ينافى حال أهل الصيانة والمرؤة.( )
تحقيق :
هذه أدلة الفقهاء كل على ما يرى ، ويظهر من مجموعها أن :
1- أن التمسك بالإسناد فى ظاهر القرآن الكريم يؤيد القائلين بالاشتراط ولا يؤيد غيرهم .
لأن قوله تعالى " حتى تنكح زوجا غيره " مراده الدخول والوطء لا العقد ، وقد مر بنا أن الحنفية كغيرهم أن المطلقة لا تحل لمطلقها إلا أن يدخل بها الثانى ( )، وأمر الوطء إلى الزوجة لا الولى لا شك فيها ، فتكون الآية بعيدة عن حكم مباشرة العقد( ).
وقوله " فلا جناح عليهما أن يتراجعا " أظهر فى الرضا لا فى مباشرة العقد ، بدليل قوله بعدها " إن ظنا أن يقيما حدود الله " ( ) والظن أمر نفسى من أعمال القلوب ( ).
وقوله " فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن " نهى عن منعهن من الزواج والتضييق عليهن فى شأنه ، وقد نهى الله الأولياء عن ذلك ولو لم يكن لهن فى ذلك مدخل لكان النهى لغوا ، لتوجه الخطاب إلى غير مالكى الأمر .
2- وكذلك التمسك بالسنة يفيد الجمهور ولا يفيد غيرهم ، إذ مع الجمهور يمكن إعمال كل الأدلة ، بحمل بعضها على رضا المرأة وإذنها والبعض الآخر على ولاية الذكر القريب العقد .
ولهذا لم يجد الأحناف مفراً من تضعيف الأحاديث التى يتمسك بها الجمهور ، بطرائق غير مقبولة عند أهل العلم بالحديث ( ) وربما لتحرجهم من ردها كلية حملوها على الندب والاستحباب ( ) وقالوا " يطالب الولى بالتزويج كيلا تنسب إلى الوقاحة " ( ) وتناقضوا كما يقول ابن حزم ( ) حين أجازوا للولى طلب الفسخ إن زوجت نفسها من غير كفء ، ولو كان حقا خالصا لها – كما قالوا – للزم ولم يتوقف على إجازة أحد .
والحقيقة أن أقوى ما يستدل به الحنفية هو المعقول ، من قولهم " إنها تصرفت فى خالص حقها وهى من أهله لكونها عاقلة مميزة ، ولهذا كان لها التصرف فى المال ولها اختيار الأزواج " ( ) وهى حجة قوية تتفق والأصل فى المسئولية ، ولكنها مع ذلك تبقى اجتهادا فى مقابلة النص الثابت عن النبى  ، ولا اجتهاد مع النص .
وحاصل المروى عن النبى 
أنه لا ينفذ على المرأة أمر وليها بغير إذنها ولا تنكح إلا من شاءت ، فإذا أرادت النكاح لم يجزلها إلا بمباشرة وليها ، فإن أبى أنكحها السلطان على رغم أنف الولى الآبى .
هذا هو الحق ، ولا ينبغى أن يكون – كما يقول أستاذنا الدكتور يوسف قاسم – محلا لخلاف ( ) .
ثم إن الغرض منه تشريف المرأة وتكريمها ، ودفع مغبة الاندفاع عنها ، وإعانتها على نيل حقوقها التى قد يحرمها حياؤها من النص عليها فى العقد ، أو يغلبها فتسقطها ، ومشاركة الأولياء لها فى تحمل مسئوليات الزواج ، والمحاماة عنها إن خاب الظن بالزواج ، فتعتز بهم فى العشرة ، وتحتمى بهم عند الضرر.
وقد أثبتت التجربة صحة قول الجمهور ، فأبعد الزيجات عن الفشل تلك التى تتم برضا الولى وأذنه ، " ويندر أو يبعد – عندئذ – أن تتولى هى صيغة العقد " ( ) وأكثرها انهيارا ما كانت المرأة فيه مراغمة لأوليائها بتزويجها نفسها دون إذنهم ورضاهم .
ولو لم يكن من آثار مذهب الحنفية فى ولاية النكاح إلا الإسهام فى بدعة ما سمى بالزواج العرفى لكانت هذه الإسهامة كافية فى الصد عنه ، فقد نال من أمن مجتمعنا ، واستقرار الأسر وأفقد الشباب الثقة فى البنات ، وقد يحفز – إن استمر – الآباء عن التوقف عن تعليم البنات ، أو على الأقل استكمالهن تعليمهن .
والتقنينات المعاصرة
تمضى فى الغالب على مذهب الحنفية ، فلا تشترط مباشرة الولى عقد النكاح ، وتكتفى فقط بموافقته على خلاف بينها للإذن بزواج المراهقة ( ) ولزومه ( ) فيمن بلغت سن الزواج القانونى .
وشذ عن ذلك – فيما طالعت – قانونان : -
أولهما : القانون المغربى
والذى ينص فى الفصل الثانى عشر منه على الآتى :
2- لا تباشر المراة العقد ، ولكن تفوض لوليها أن يعقد عليها .
3- توكل المرأة الوصى ذكرا تعتمده لمباشرة العقد على من هى تحت وصايتها
وثانيهما : القانون السودانى
ويشترط فى المادة 25 منه لصحة عقد الزواج …. ح – الولى بشروطه طبقا لأحكام هذا القانون .
وشرط الولى فى القانونين أن يكون ذكرا عاقلا بالغا مسلما إذا كانت الولاية على مسلم ( ) .
ولكنهما يختلفان فى ترتيب الأولياء ، فالقانون السودانى يأخذ بترتيب الإرث . أما القانون المغربى فيرتب الأولياء على النحو الآتى " الابن ثم الأب ، أو وصيه ، ثم الأخ ، فابن الأخ ، فالجد فالأقربون بعد بالترتيب – ويقدم الشقيق على غيره – فالكافل ، فالقاضى ، فولاية عامة للمسلمين " .
ومصدر القانون المغربى فى الترتيب مذهب مالك ( ) ، أما القانون السودانى فمصدره مذهب مذهب أبى حنيفة ( ) ، والفرق بينهما من وجوه :
أولها : أن مالك ينزل وصى الأب فى الزواج منزلة الأب وليس كذلك أبو حنيفة.
والثانى : أن مالك يقدم الأخ فابنه على الجد ، وأبو حنيفة يقدم الجد عليهما .
والثالث : أن مالك يجعل الولاية فى حالة عدم العصبات إلى الكافل ثم القاضى " أما أبو حنيفة فيجعلها بعد العصبات إلى ذوى الأرحام فإن عدموا فالولاية للقاضى ( ) .
ومعلوم إننا فى مصر نأخذ بمذهب الإمام أبى حنيفة وقوامه أن الولى ليس شرطا لصحة نكاح الحر والحرة العاقلين البالغين ، بل ينفذ نكاحهما بلا ولى( ) .
وقد اقتضى إعمال هذا الحكم الخروج على القاعدة العامة فى أهلية التصرفات الدائرة بين النفع والضرر المقررة بالمادة 111/2 مدنى متى كان العاقل البالغ دون سن الرشد ، ومعنى هذا أن المقنن المصرى لا يرى الزواج فى منزلة التصرفات المالية الدائرة بين النفع والضرر ، بل اللافت للنظر أنه أحرص على أموال القصر أكثر من حرصه على نفوسهن ( ) فهو يقيد فى قانون الولاية على المال 119/1952 زواج القاصر الذى له مال بإذن المحكمة ، فإن أذنت المحكمة فى زواجه كان ذلك إذنا له فى المهر والنفقة ما لم تأمر المحكمة بغير ذلك عند الإذن أو فى قرار لاحق ( م 60 ) .
ويقيد فى لائحة المأذونين " مباشرة عقد زواج اليتيمات القاصرات اللاتى لهن معاش أو مرتب فى الحكومة ، أو لهن مال يزيد قيمته على مائتى جنيه بصدور تصريح من محكمة الأحوال الشخصية المختصة " ( م 33/ ا )
هل للعاقد عن المرأة أن يزوجها من نفسه ؟
ولى المرأة قد يكون ذا رحم محرم منها كأبيها أو جدها أو عمها وقد يكون حلا لها كابن عمها مثلا ، فإن كان الأخير وافترضنا أنها فوضت إليه أمر تزويجها بمن يشاء فزوجها من نفسه ، فهل يصح هذا ؟
الظاهر من كلام الفقهاء أن الولى لا يزوج موليته من نفسه إلا بإذن خاص ، " لأن إطلاق الإذن يقتضى تزويجها من غيره " ( ) وخالف فى ذلك بعض الحنابلة فقالوا " وأما من ولايته بالشرع كالولى والحاكم وأمينه فله أن يزوج نفسه " ( ) أى بمطلق الإذن . ولعل القائلين بالمنع احتاطوا لدفع التهمة ، جاء فى عبارة الماوردى " ولأن الولى مندوب لطلب الحظ فى التماس من هو أكفأ وأغنى ، فإذا صار زوجها انصرف نظره إلى حظ نفسه دونها ، فعدم فى عقده معنى الولاية فصار ممنوعا منه " ( ) .
فإن أذنت له فى أن يزوجها من نفسه فهل يتولى طرفى العقد ؟
جمهور العلماء يقولون بجواز ذلك ( ) لما روى البخارى قال : قال عبد الرحمن بن عوف لأم حكيم ابنة قارظ : أتجعلين أمرك إلى ؟ قالت : نعم ، قال قد تزوجتك"( ) ولأنه عقد وجد فيه الإيجاب من ولى ثابت الولاية والقبول من زوج هو أهل للقبول فصح ، كما لو وجدا من رجلين ، وقد روى أن النبى  أنه أعتق صفية وجعل عتقها صداقها ( ) .
وقال الشافعى والإمام أحمد – فى رواية – وهو قول بعض المالكية وزفر بن الهذيل من الحنفية ( ) لا يتولى طرفى العقد " لأن الولى مندوب لطلب الحظ لها فى التماس من هو أكفأ وأغنى ، فإذا صار زوجا انصرف نظره إلى حظ نفسه دونها فعدم فى عقده معنى الولاية فصار ممنوعا " .
غير أن الإمام أحمد أجاز له أن يوكل عنه رجلا يزوجه إياها بإذنها لماروى أن المغيرة بن شعبة " أمر رجلا زوجه امرأة كان المغيرة أولى بها منه"( ) .
أما الشافعى فقال إن لم يكن لها ولى آخر فى درجته زوجه الحاكم ولا يصح التوكيل لأن وكيله بمنزلته ( ).
وفى رأيى : أن الاحتياط للمرأة بنصب ولى آخر أو رفع الأمر إلى الحاكم يبدو وجيها ليراعى حظها فى التماس المصلحة لها ، لأن المرأة خاصة البكر قد تتحرج من الولى فتفرط فيما ينبغى لها الحرص عليه ، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة مرتين فى سورة النساء قال تعالى " فإن خفتم ألا تقسطوا فى اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء " ( ) وقال " ويستفتونك فى النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم فى الكتاب فى يتامى النساء اللاتى لا تؤتوهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن " ( ) وقد روى الأئمة عن عائشة قالت : "هى اليتيمة تكون فى حجر وليها ، تشاركه فى ماله ، فيعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها من غير أن يقسط فى صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره ، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ، ويبلغوا بهن أعلى سنتهن من الصداق " ( )
وإذا كان أهل الفضل والورع من الصحابة قد راعوا حرمات الله فى هذا الباب ، فلسنا مثلهم فى ذلك .
وإن كان الولى هو الحاكم قال الشافعية يزوجه من هو فوقه من الولاة( ) وقال الأحناف " ليس للقاضى تزويج الصغيرة من نفسه ولا من لا تقبل شهادته له " كأصوله وإن علوا وفروعه وإن سفلوا ، لأن فعله حكم ، وليس له أن يحكم لنفسه ، لأنه فى حق نفسه رعية " ( ) ويزوج الكبيرة بإذنها من نفسه ( ) ، وقد راعت بعض التقنينات النص على زواج المولى عليها ولكنها خصت ذلك بالقاضى دون غيره من الولاة ، فنصت على أنه " ليس للقاضى أن يتولى بنفسه تزويج من له الولاية عليه من نفسه ولا من أصوله ولا من فروعه " ( ) .
وتفرد القانون السورى بالنص على تزويج الموكل موكلته من نفسه فنص على أن " ليس للوكيل أن يزوج موكلته من نفسه إلا إذا نص على ذلك فى الوكالة " ( ) .
وهو حكم يسرى على زواج الكبيرة عامة لأنها تملك – وفقا للمذهب الحنفى – تزويج نفسها فيكون أولياؤها بمنزلة الوكلاء، ليس لأحدهم أن يزوجها من نفسه إلا بالنص .

المبحث الثانى
الإشهاد على الزواج
أولا : الأدلة على الإشهاد
لا يختلف الفقه أن حقوق الأموال أخفض من حقوق الأبدان ، وقد أمر الله أو ندب على اختلاف آراء العلماء ( ) بالإشهاد فى المعاملات المالية ، قال سبحانه " وأشهدوا إذا تبايعتم " ( ) " لمصلحة حفظ الأموال والأديان " ( ) بمراعاة صلاح ذات البين ، ونفى التنازع المؤدى إلى فساد ذات البين ، لئلا يسول له الشيطان جحود الحق وتجاوز ما حد له الشرع ، أو ترك الاقتصار على المقدار المستحق"( ) وهذا وحده كاف فى اعتبار الشهادة فى الزواج لأنه أولى لما يتعلق به من الحل والحرمة والحد والنسب ، فإذا أمر – أو ندب – إلى الاحتياط فى الأقل فالاحتياط فيما هو أعلى أوجب أو أكثر استحبابا.
وهذا ما نجده فى أمر الله بالإشهاد على فرع الزواج كالطلاق والرجعة قال تعالى " فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوى عدل منكم وأقيموا الشهادة لله "( ) قال ابن العربى " وهذا ظاهر فى الوجوب بمطلق الأمر عند الفقهاء ، وبه قال أحمد بن حنبل فى أحد قوليه والشافعى " ( ) وما وجب فى الفرع كان فى الأصل أوجب .
وقد جاءت السنة المشرفة بالصريح الذى يشهد لدليل الخطاب القرآنى، ويدفع عنه الاحتمال ، ففى الحديث الصحيح أن النبى  قال " لا نكاح إلا بولى وشاهدى عدل ".
وهذا الحديث وإن كان فى آحاد طرقه ضعف لكن مجموعها وماله من شواهد يرتقى بها درجة الصحة ( ).
وفيما روى الترمذى عن ابن عباس أن النبى  قال " البغايا اللاتى ينكحن أنفسهن بغير بينة " وراويه ثقة ( ).
قال الشوكانى " وظاهر الأحاديث المقتضية للنفى أن الإشهاد شرط للنكاح لا يصح بدونه ، لأن النفى حقيقة يتوجه إلى الذات الشرعية، فيفيد ارتفاعها بارتفاعه ، وذلك معنى الشرط، وعلى فرض وجود قرينة تدل تمنع من اعتبار المعنى الحقيقى فنفى الصحة أقرب المجازين إلى الذات ، وذلك يفيد الشرطية أيضا ، قال الترمذى : والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبى ومن بعدهم من التابعين وغيرهم ، قالوا : لا نكاح إلا بشهود ، لم يختلفوا فى ذلك إلا قوم من المتأخرين من أهل العلم " ( ).
ثانيا : حكم الإشهاد على الزواج عند الفقهاء
أشار الترمذى فى كلامه إلى أن الإشهاد لم يخالف فيه إلا قوم من المتأخرين من أهل العلم .
والمخالفون فريقان :-
فريق نفى الإشهاد كلية فلم يستلزمه أو يستلزم له بدلا ، وهؤلاء هم الشيعة الجعفرية ، تمسكا بخلو القرآن الكريم عن النص صراحة على الإشهاد فى الزواج بيد أنه نص على الإشهاد فى البيوع والديون( ).
وهذه وجهة خاطئة لأن اعتبار الشهادة فى الأدنى يسوغ اعتبارها فى الأعلى من باب أولى ، وكما قلنا فإن حقوق الأموال أخفض من حقوق الأبدان ، والنكاح عقد أبدان ( ).
والفريق الثانى : لا يرى الشهادة شرطا محتما فى الزواج ، وإنما يراها وسيلة إلى الإعلان ، فيحصل الغرض عندهم بالإشهاد أو بالإعلان فأيهما حدث تم النكاح .
وبهذا قال أهل الظاهر والإمام أحمد فى رواية عنه ، وهو ظاهر مذهب المالكية ، وبعض السلف ( ).
غير أن المالكية لا يرون الإعلان كافيا بذاته عن الشهادة بل لا بد من الشهادة ولكنها ليست محتمة عند العقد ، بل تتحتم قبل البناء والدخول ، فمن عقد ولم يشهد فعقده صحيح لكن لا يدخل بها حتى يشهد.
والفرق بين المالكية وغيرهم من هذا الفريق أن من لم يشهد عند الزواج ثم أعلنه عند الدخول فزواجه صحيح عند الظاهرية وأحمد ، وعند مالك غير صحيح فيفرق بين الرجل والمرأة بطلقة بائنة ولكن لا يحدان للشبهة ( ).
وأساس الكفاية بالإعلان عن الشهادة :
حمل الأحاديث الواردة فى هذا الباب على بعضها ، بيان ذلك : أن النبى  قال " لا نكاح إلا بولى وشاهدى عدل " ، وقال " أعلنوا النكاح " ( ) والجمع بين الخبرين يقتضى أن يكون الغرض من الشهادة الإعلان ليتميز النكاح عن السفاح ، يدل على ذلك أن النبى  " نهى عن نكاح السر " ( ).
ولهم أيضا : أن النبى  " اشترى جارية بسبعة أرؤس ، فقال الناس ما ندرى : أتزوجها النبى  أم جعلها أم ولد ؟ فلما أراد أن يركب حجبها فعلموا أنه تزوجها "( ).
والمعنى : أن النبى  تزوج بغير شهود ، ولم يستدل على نكاحه إلا بإعلانه وذلك بحجب زوجته ، فاستدلوا على تزويجها بالحجاب ( ).
ونقلوا عن بعض السلف أنهم تزوجوا بغير إشهاد ( ).
والحقيقة : أن أحدا لم يقل إن مجلس النبى  أو السلف الذين نقل عنهم عدم الإشهاد كان خاليا من حضور نفسين فصاعدا حتى يقال لم يشهده أحد، بل يبعد أن تخلو مجالسهم عن حضور ، فلا يكون الاستدلال النقلى حجة لاحتماله.( )
ومن جانب آخر فإن الشهادة لها فوق الإعلان جانب آخر هو الاستيثاق للحقوق ، فإن كان الإعلان لدفع الظنة فالشهادة لمنع التجاحد وحفظ حقوق الزوجة والولد ، لهذا افترقا ، فلا يغنى الإعلان عنها.
وقول مالك فى استحباب الشهادة عند العقد ووجوبها عند البناء والدخول لأنها " اشترطت لترتب الآثار ، والآثار تبنى على الدخول"( ).
وهذا غير صحيح لأن من الآثار ما يبنى على مجرد العقد كالمتعة أو نصف المسمى والتوارث فضلا عن حل الاستمتاع ، فهذه حقوق وحدود ينبغى حفظها .
الراجح فى حكم الإشهاد:
وعلى ما تقدم يكون قول الجمهور بوجوب الإشهاد على الزواج عند العقد هو الراجح للأدلة التى تلوناها ورويناها ، ولأن الزواج عقد عظيم الشأن فى نظر الشارع ، ولا يتعلق بالعاقدين وحدهما وإنما يتعلق بحق ثالث هو الولد، لهذا اشترطت الشهادة فيه لئلا يجحده أبوه فيضيع نسبه ( )، ولأن الشارع اشترط الولاية احتياطا للحظ ، وهو بالنظر إلى الحق فضلة ، فلأن يحتاط للحق فهذا أولى.
هل تكفى الشهادة عن الإعلان فى الزواج ؟
غرض الإعلان عن الشئ حصول العلم به ، وبالشهادة يعلم الشاهدان بالزواج ولكن هل يكفى علمهما أم لا بد من إشاعة الزواج ؟ وبعبارة الكمال ابن الهمام " هل يحصل الإعلان بالإشهاد حتى لا يضر بعده توصية الشهود بالكتمان، إذ لا يضر بعد الإعلان التوصية بالكتمان أو لا يحصل – الإعلان – بمجرد الإشهاد حتى يضر " ( ) التوصية بالكتمان ؟
جمهور العلماء( ): يقولون لا تضر التوصية بالكتمان ، لأن الشرط هو الإظهار فيعتبر فيه ما هو طريق الظهور شرعا ، وذلك شهادة الشاهدين ، فإنه مع شهادتهما لا يبقى سراً ، قال القائل :
وسرك ما كان عند امرئ .0. وسر الثلاثة غير الخفى
والغالب فى الزواج أن يحضره أربعة عدا المرأة وهم الخاطب والولى والشاهدان ، فيعلم به خمسة فخرج عن أن يكون سراً ، ومع هذا يستحب الإعلان لحديث " أعلنوا النكاح ".
وذهب الإمام مالك ( ) إلى أن التواصى بالكتمان يبطل الزواج وله على ذلك أدلة نذكر منها :
1- أن النبى  قال " أعلنوا النكاح " وفى رواية " أعلنوا هذا النكاح واضربوا عليه بالدف " وظاهر الأمر الوجوب .
2- أن النبى  " نهى عن نكاح السر " وحض على العلانية ولو باللهو المباح ، ففيما روى البخارى " أن عائشة زفت امرأة إلى رجل من الأنصار فقال لها الرسول  : يا عائشة ما كان معكم لهو ، فإن الأنصار يعجبهم اللهو "( ).
3- ولهم من المعقول : أن الاستكتام طلب للسرية ، والسر فى العلاقة الجنسية هو الحرام ، فالحلال لا يكون إلا ضده ، وذلك بالإعلان لتنتفى التهم( ).
فضلا عن هذا فإن الاستكتام يتنافى مع الحكمة التشريعية من الشهادة ، وهى الإعلان فلا يحصل غرضها فيكون النكاح نكاح سر( ).
وفى نكاح السر " يعاقب الزوجان إذا تواطئا على الكتم ، ويعاقب الشهود أيضا إذا تعمدا " ويجب فسخه بطلقة بائنة ( ).
تعليق
الظاهر من كلام الجمهور أنهم عولوا على الناحية القضائية الصرفة فى وجود عقد الزواج ، فمتى وجد بأركانه وشروطه فقد استوفى حقه ، والإعلان عنه بعد وجوده أو التوصية بكتمانه لا تؤثر فى ذاته ، باعتبارها أموراً زائدة خارجة عن العقد ( ) وهذه النظرية مع منطقيتها( ) تغفل أن الزواج لا يراد لذاته وإنما لأغراض ومقاصد شتى منها الإحصان ، والولد ، ومع الاستكتام لا يحصل الإحصان ، لأن المحصنات هم العفائف ، وكيف لمن تلوكها الألسنة وتلحقها الظنة وتنالها الريبة والشك أن توصف فى نظر الناس بالعفة ؟؟ وحماية العرض مقصد من مقاصد الشرع .
وبالاستكتام يكون الولد عرضه للجحود فيضيع نسبه وتلحقه المعرة والأذى ، وحماية النسل من مقاصد الشرع.
والخلاصة أنه لو لم تكن معنا إلا الحكمة من الإعلان لكفى ذلك فى تضعيف رؤية الجمهور ، فكيف إذ معنا أخبار تحض على الإعلان، وتنهى عن الكتمان ، وتشير إلى أنه من قبيل الإثم قال  " الإثم ما حال فى الصدر وكرهت أن يطلع عليه الناس " ( ).
ورحم الله علماء عصرنا فهم لا يقولون برجحان مذهب مالك فحسب ، بل يوصون " بالتوثيق حتى لا يكون هناك مجال للتلاعب وتعريض الأعراض والأولاد للضياع ومقالة السوء "( ) وأكاد أحس فى عبارة العلامة الشيخ أبى زهرة رحمه الله الدعوة إلى اعتبار الكتابة شرطا فيه ، يقول تحت عنوان " عقد الزواج عقد شكلى " :
" عقد الزواج ينفى الشارع اعتباره ، ولا يرتب أحكامه ، ولا يظللها بحمايته بمجرد تراضى الطرفين عليه ، بل لا بد من الشهر والإعلان ، بالشهادة على مذهب الجمهور ، وبغيرها معها على المشهور عند مالك  ، فهو إذن عقد شكلى ، وإن كان الرضا أساساً فيه عند جمهور الفقهاء .
ولا جدوى فى أن يقال أن الشهادة فى النكاح شرط صحة لا شرط انعقاد، لأنه لا فرق بين باطل النكاح وفاسده من جهة ، ولأنه على أى اعتبار لا يعترف الشارع الإسلامى بوجود العقد ويرتب الأحكام عليه مجرداً إذا لم ينشأ بشهادة الشهود "( ).
شروط الشهادة :
لا يختلف العلماء أنه يلزم فى الشهادة على الزواج أن يكون الشاهد عاقلا بالغا ، مسلما إذا كان الزوجان مسلمين ، ولا تكفى شهادة الواحد ، بل لا بد من التعدد ، وأن يسمع كلا الشاهدين معا كلام كل من العاقدين ، ويفهمان أن المقصود منه الزواج ، واختلفوا فى مواضع هى :-
1- قبول شهادة النساء فى الزواج .
2- قبول شهادة الأصول أو الفروع فيه .
3- قبول شهادة غير المسلم إذا كانت الزوجة غير مسلمة .
4- اشتراط العدالة فى الشهود .
أولا : شهادة النساء فى الزواج
يرى الأحناف والزيدية والأباضية والإمام أحمد فى رواية وبعض التابعين أن النكاح كغيره من العقود يصح بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين . لقول الله تعالى " واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء " ( ) فهذا حكم عام لم يخص منه إلا الحدود والقصاص فيبقى ما وراءها على الأصل ( ).
والمالكية والشافعية والحنابلة وجمهور أهل العلم على أن الذكورة شرط فى الشهادة على النكاح ، لقول الله تعالى " واشهدوا ذوى عدل منكم "( ) وهذا فى الرجعة ، أمر فيها بشاهدين وهى أخف حالا من عقد النكاح ، فيكون الحكم كذلك فى النكاح من باب أولى ( ).
وتمسكوا من السنة بظاهر قول النبى  " لا نكاح إلا بولى وشاهدى عدل " والشاهدان مثنى فى الذكور فيقتصر عليه .
وقالوا : مضت السنة أن لا تجوز شهادة النساء فى الحدود ولا فى النكاح ولا فى الطلاق "( ).
ويرى ابن حزم الظاهرى : أنه لا يلزم فى الشهادة على النكاح الذكورة مطلقا ، فلو أن أربع نسوة شهدن بنكاح صح ، وسنده فى ذلك :
أن الشارع جعل شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل( )، ولم يبلغنا عنه من طريق صحيح أنه خص شهادتهن بحق دون حق ، ولم يبلغنا أيضا أنه يلزم أن يكون ومعهن رجل حتى تقبل شهادتهن فكان اشتراط الذكورة خالصة أو مشاركة تحكما بلا دليل ( ).
والحق أن لكل رأى من الآراء الثلاثة وجهة معقولة ، وكل منها يصلح لظرف ما ، فليكن إعمالها بحسب الحالة ، والذى يظهر من خطاب الله تعالى فى القرآن الكريم أن الذكورة هى الأصل فى الشهادة ، والاستعانة بالأنثى استثناء على ذلك ( ) فمتى توفر الأصل كما هو الحال فى البلاد الإسلامية فالشهادة للذكور ، وإن غابوا أو ندر العدول المرضيين عند العقد فرجل وامرأتان ، وقد يحدث فى غير البلاد الإسلامية ألا يوجد رجل مسلم يشهد ، فعندئذ تظهر الحاجة إلى شهادة الأربع من المسلمات .
ثانيا : شهادة الأصول والفروع فى الزواج
لا يمنع الأحناف أن يكون الشاهدان أو أحدهما من أصول الزوجين أو فروعهما ، لأن الشهادة فى الزواج للإعلان والإظهار وليست لمجرد الإثبات ، وقطعا متى جازت شهادة الأصول والفروع جازت شهادة الحواشى ( ) وبقول الأحناف يقول أهل الظاهر ( ) وقال جمهور العلماء : لا يجوز أن يكون الشاهد ممن يتهم فى شهادته كأب الزوجة أو ابنها ، ولا يجوز أن يكون الولى أحد الشهود لأن هؤلاء جميعا يتهمون بالستر على المرأة إذا وجدت مع رجل ادعت أنه زوجها حتى لا يقام عليها الحد ولا تفتضح ( ) .
وفى رأيى أنه ينبغى أن يكون الفيصل فى ذلك هو تقدير الشهادة أمام القضاء ، فحيث كان الشاهد متهما فى شهادته لا ينبغى أن يكون شاهدا فى الزواج ، وحيث لا يتهم يشهد ، لأن الشهادة فى الزواج تراد للإنشاء والإثبات .
ثالثا : شهادة غير المسلم إذا كانت المرأة غير مسلمة .
يرى أبو حنيفة وأبو يوسف وبعض الحنابلة أن الشهادة فى الزواج تقع على المرأة ، لأن الاستمتاع بها مقصور على الرجل بخلافها ، فإن استمتاعها به يحتمل المشاركة بزواجه بغيرها ، لذا فإن حقه أكثر من حقها ، فلزم أن تكون الشهادة للزوج عليها ، فيراعى لذلك جانب المشهود عليه .
ومعنى ذلك أن الزوجة إن كانت كتابية صحت شهادة أهل الكتاب عليها، فهم أولياء بعض ( ) .
وقال الجمهور : لا تصح شهادة غير المسلم على زواج المسلم( ) مطلقا، لأن الله قال " واستشهدوا شهيدين من رجالكم " وقال " واشهدوا ذوى عدل منكم " فشرط أن يكون الشهود منا أى المسلمين .
وواضح أن تمسك الجمهور بالنص ، وتمسك الأحناف بالاجتهاد ولا اجتهاد مع النص .
ولكن الله سبحانه وتعالى أجاز شهادة غير المسلم على المسلم فى السفر قال تعالى " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم فى الأرض فأصابتكم مصيبة الموت " ( ) وقد فهم منه ابن القيم وشيخه ابن تيمية أن شهادة غير المسلم تجوز للضرورة مطلقا ( ) ، وقال الجصاص هو الذى يقتضيه ظاهر الآية " فإن الله حين أجاز شهادتهما عليه – يعنى الميت – حين الوصية لم يخص بها الوصية دون غيرها ، وحين الوصية قد يكون إقرارا بدين أو بمال ، عين وغيره لم تفرق الآية بين شئ منه " ( ) .
وعلى ذلك فالرأى عندى أنه حيث يوجد مسلم لا تجوز شهادة غيره على زواج المسلم ، بخلاف حال الضرورة ولا تتصور إلا فى السفر ، فعندئذ تقبل شهادة غير المسلم إن كانت الزوجة كتابية بشرط ألا يكون هناك مسلمون .
رابعا : اشتراط العدالة فى الشهود .
الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الواردة فى الشهادة تصف الشهود بكونهم عدولا ، أو مرضيين .
وقد أخذ بذلك جمهور الفقهاء ، فشرطوا فى الشاهد أن يكون عدلا يجتنب الكبائر ، ولا يصر على الصغائر ، ويتجنب ما يخل بالمروءة ، وتتحقق العدالة فى شهود الزواج بأن يكون الشاهد مستور الحال غير معروف بالفسق ، أى أنه يكتفى بظاهر الحال ( ) .
وعدالة الشاهد مطلوبة فى كل حال ، ولكنها فى الزواج أكثر طلبا لأنه مكرمة ، والفاسق أهل للإهانة لا التكريم ( ) .
وأجاز الحنيفة والإمام أحمد - فى رواية - شهادة الفاسق ، لأنه يصلح أن يتولى الزواج بنفسه ، فيقبل لنفسه ولغيره ، وكل من يصلح أن يكون وليا فى الزواج يصلح أن يكون شاهدا فيه ( ) .
ولا شك أن قول الجمهور أقوى دليلا ، وأنفع عملا ، لأن الشهادة كما قلنا تراد للإنشاء والإثبات ، والفاسق يرجح جانب الكذب فيه على جانب الصدق فيخشى أن ترد شهادته عند الحاجة ، فلا يكون لتحملها نفع ( ) .
ومن جانب آخر فإن الشهادة نوع ولاية وقد أجاز العلماء ولاية الفاسق للضرورة ، وتخريجا عليه نقول لا تقبل فى السعة شهادة الفاسق وتقبل فى الضرورة ، وقياسا على شهادة غير المسلم متى دعت الحاجة إليها .
وفى التقنينات المعاصرة ( )
لا خلاف أن الشهادة شرط صحة الزواج ، كما لا خلاف بينها فى أن يكون الشاهدان حاضرين فى مجلس العقد ، سامعين الايجاب والقبول ، فاهمين المقصود بهما ، كما لا خلاف بينها أن يكون الشاهدان مسلمين إن كانت المخطوبة مسلمة .
واختلفت اتجاهات التقنينات فيما وراء ذلك :
1- بالنسبة لشرط الذكورة
أخذت القوانين : السورى والأردنى والسودانى والليبى ( ) بمذهب الحنيفة فى قبول شهادة رجل وامرأتين فى الزواج ، وهذا مايجرى عليه العمل فى مصر ، بينما أخذت القوانين : اللبنانى ، والعراقى ، والمغربى بمذهب الجمهور ، حيث نصت على " شهادة شاهدين " .
2- وخالفت بعض التقنينات فى أهلية الشهادة
فالقانون : السورى ، والأردنى ينصان على كونهما بالغين عاقلين ، وهو الظاهر من حكم القانون المغربى ، لخلوه من النص على الأهلية فيرجع فيه إلى المذهب المالكى ، والشرط فيه العقل والبلوغ ، وفى مصر يجرى العمل بمذهب الحنيفة وهو كمذهب المالكية فى هذا .
وقد عبر القانون السودانى بلفظ " مكلفين " فإن كان قد أراد به المعنى الشرعى فالتكليف بالبلوغ والعقل ، وكذلك فعل المقنن اللبنانى .
وتفرد القانون العراقى باعتبار الأهلية القانونية ، وهى لا تثبت كاملة إلا لمن بلغ سن الرشد .
3- وبالنسبة لشرط الإسلام
تميزت القوانين " السورى والليبى والسودانى " بالنص على إسلام الشاهدين مطلقا ، والظاهر من القانون المغربى أنه يإخذ بهذا لأنه وإن لم ينص على شرط الإسلام فقد نص على شرط العدالة ، والعدالة تتضمن الإسلام وزيادة.
وقيد القانون الأردنى شرط الإسلام بما إذا كان الزوجان مسلمين ، ومعناه أنه إذا كانت الزوجة غير مسلمة فإسلام الشهود غير شرط كما هو مذهب الحنفية .
ولم ينص القانونان اللبنانى والعراقى على شئ ، ومن ثم يطبق الراجح فى المذهب الحنفى ، وعلى ذلك يجرى العمل فى مصر .
4- وبالنسبة لشهادة الأصول أو الفروع : فقد أجازها صراحة القانونان اللبنانى والأردنى ، ولم تذكرها التقنينات الأخرى ، ومن ثم تجوز فى سوريا والعراق طبقا للمذهب الحنفى ، ولا تجوز فى المغرب إعمالا لمذهب مالك .
وموقف التقنين السودانى مشكل ، لأنه شرط أن يكون ، الشاهدان من أهل الثقة " وشهادة الأصل لفرعه أو العكس يختلف القول فيها عند المذاهب ، ولم أقف على مصدر هذا الحكم فيه .
والمطبق فى مصر هو مذهب الحنفية .
5- وبالنسبة لشرط العدالة
فقد نص عليه القانون المغربى ، ونص القانون السودانى على أهل الثقة ولا يكونون إلا عدولا ، وخلت التقنينات الأخرى من نص عليه ، ومن ثم يطبق الراجح من المذهب الحنفى وهو كما رأينا لا يستلزم عدالة الشاهدين ، وعليه يجرى العمل فى مصر .
وأخيرا تنص المادة (8) من مشروع القانون العربى الموحد على أنه :
( أ ) يشترط لانعقاد الزواج حضور شاهدين بالغين ، عاقلين ، رجلين أو رجل وامرأتين ، سامعين معا كلام المتعاقد ، فاهمين أن المقصود به الزوجان
(ب) وإذا كان الزوجان مسلمين يشترط أن يكون الشاهدان مسلمين ويكتفى بشهادة كتابيين فى زواج المسلم بالكتابية .الباب الثالـــــــث
آثــــــــــار الـــــــزواج
تمهيد وتقسيم :
إذا وجد عقد الزواج مستوفيا جميع أركانه وسائر شروطه كان صحيحا نافذا لازما فتترتب عليه آثاره التى رتبها الشارع عليه ، أما إذا اختل ركن الزواج أو شرط من شروط انعقاده فقد وقع العقد باطلا ولم يرتب أى أثر من آثار العقد الصحيح ، وإن حدث بناء عليه دخول مع العلم ببطلانه كان ذلك زنا يستوجب الحد فى رأى كافة الفقهاء ، إلا أبا حنيفة الذى رأى مجرد العقد شبهة تمنع الحد ،ولأنه وطء محرم فلا ينشر المحرمية على رأى الشافعى وجماعة، وفى رأى أبى حنيفة وجماعة ينشرها ، ويجب شرعا التفرقة بين الرجل والمرأة.
وإن اختل شرط من شروط صحة العقد كان العقد فاسدا ، والفاسد بمجرده لا يثبت حقا ، ولكن إن حدث فيه دخول ترتبت على الدخول جملة من الآثار أظهرها : وجوب الأقل من المسمى أو مهر المثل ، وثبوت النسب ، وعدم الحد للشبهة ، ووجوب العدة ، وتستحق المدخول بها نفقة قبل فسخ العقد ، وينشر المحرمية بين كل من الرجل والمرأة وأصول الآخر وفروعه ، ومع هذا يجب فسخه لفساده .
وإن اختل شرط النفاذ كان موقوفا يتوقف على إجازة من يملكها ، فإن أجازه صار صحيحا نافذا ، وإن رده كان كأن لم يكن ، وقبل إجازته لا يترتب عليه أى أثر من الآثار ، وبإجازته تترتب عليه كل آثار الزواج الصحيح ، وإن حدث فيه دخول : إن أمكن حمله على الرضا فهو فى حكم الدخول فى الزواج الفاسد ، وإن وقع بعد الرد والرفض مع العلم بالبطلان كان زنا يوجب الحد .
وإن كان العقد غير لازم لفقده شروط اللزوم ، كالكفاءة مثلا ، فحكمه حكم الصحيح ، غير أنه يقبل الفسخ بالإرادة المنفردة ممن ثبت له هذا الحق ، ما لم يوجد منه ما يدل على رضاه بالزواج ، أو مضى المدة التى يمكن الفسخ فيها ، وصورتها المثلى كما قلنا أن تحمل المرأة التى تزوجت أو زوجت بغير إذن وليها غير العاضل .
وفى العقد غير اللازم : إن حدث الفسخ قبل الدخول والخلوة الصحيحة لا يجب شئ مطلقا ، وإن كان بعد الدخول وجب ما يلزم بالعقد الصحيح .
وفى هذا الباب نتقصى آثار الزواج الصحيح ، وهى فى الواقع جملة من الحقوق والواجبات والأحكام الشرعية وتظهر هذه الأخيرة فى التوارث كالنسب وحرمة المصاهرة ، وقد تكلمنا عن الأخيرة منها ، وثبوت التوارث بين الزوجين له موضعه فى أحكام المواريث، أما النسب فسيأتى الكلام عنه تفصيلا فى الكتاب الثالث ، أما الحقوق والواجبات فهى جملة من الأمور المتكافئة ، بمعنى أن كل حق يقابله واجب ، فما يثبت من الحقوق لأحدهما يقع واجبا على الطرف الأخر .
ومن عظيم حكمة الله تعالى أنه رتب حقوق الزواج وواجباته بوضعه وجعله ، حفظا للحياة الزوجية من العبث ، وإخضاعها للأهواء ، وقد صنفت على ثلاث مجموعات :
1- حقوق مشتركة بين الزوجين
2- حقوق خاصة بالرجل
3- حقوق خاصة بالمرأة


الفصـــل الأول
الحقوق المشتركة بين الزوجين والحقوق الخاصة بالرجل
المبحــث الأول
الحقوق المشتركة بين الزوجين
لفظة الحق فى استعمالات القرآن الكريم تدور حول معنى الثابت الواجب، والحقوق الثابتة للزوجين مقررة بنصوص الكتاب والسنة المشرفة ، غير أن منها ما هو مادى المظهر والجوهر يسهل ضبطه ومراقبته قضاء ، ومنها ما هو نفسانى الجوهر خفى المظهر لا يقف عليه كل أحد ، ويشق ضبطه إلا بعنت ، والأهم من هذا كله أن من هذه الحقوق حقا يداخله الحياء – حقا أو توهما – من كل جانب .
وأبرز الحقوق المشتركة بين الزوجين هو ذلك الحق الذى خف الكلام الصريح فيه وهو الاستمتاع والمعاشرة ، بيد أنه السبب إلى مصالح الزواج ، وأهمها التناسل والسكن والمودة والرحمة ، وكيف لا يكون وهو إرواء " إحدى شهوتين عليهما تقوم الحياة ، ومن أجلهما كان التشريع كله " ( ) .
وقد درج أستاذتنا على أن يضموا إلى حق الاستمتاع والحق فى حسن العشرة والمساكنة حق الإرث ، والحق فى ثبوت النسب ، وثبوت حرمة المصاهرة بسبب الزواج ، ولست أرى هذا الأخير حقا ، بل هو حكم شرعى خارج عن الاختصاص ، ولا تتوقف مراعاته قضاء وديانة على طلب من أحد .
وحقا الإرث والنسب لكل منهما موطنه العامر بتفصيل أحكامه فنحيل إليهما ، وتقتصر هنا على بيان حقى الاستمتاع وحسن العشرة .
أولا : حق الاستمتاع .
الاستمتاع طلب التمتع ومعناه " التلذذ ، يقال تمتع بالشئ أى تلذذ به ، والمتاع كل شئ يتمتع به ، وأصله من قولهم : حبل ماتع أى طويل ، وكل من طالت صحبته مع الشئ متمتع به " ( )
1- ومع أن التعبير بالاستمتاع لم يبرز فى التبويب الفقهى القديم فإن بعض مشايخنا من المعاصرين أخذوه من تعبير الإمام الكاسانى الحنفى قى بدائعه حيث قال " وهذا الحكم وهو حل الاستمتاع مشترك بين الزوجين فإن المرأة كما تحل لزوجها يحل لها " ( ) وهو فى رأيى أفضل ما يعنون به فى هذا الباب .
وقد أنس الكاسانى فى استعماله بالتعبير القرآنى " فما استمتعتم به منهم فآتوهن أجورهن " ( ) وكان رحمه الله موفقا إذا عول على هذا الاستعمال دون غيره ، لأن الاستعمالات الأخرى الواردة فى القرآن الكريم كالإفضاء ( ) والمس( ) والتغشى ( ) والإتيان ( ) واللمس ( ) والقرب ( ) كلها دون لفظة الاستمتاع فى العموم ، وهو يشملها جميعا ، ويفوقها فى إيحائاته النفسية ، بحصول الألفة والمودة والسكن ، وهى مداخل الاستقرار والعفة .
2- ومواضع ذكر الاستمتاع فى القرآن الكريم تثير تأملات تصل إلى حد العجب .
(أ) ففى سياق متصل فى شرعة الصوم ، وهو سر خالص بين العبد وربه ، والاعتكاف وهو انقطاع عن الدنيا ابتغاء الآخرة ، يقرر المولى عز وجل دقائق العلاقة بين المرء وزوجه فيقول " أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل و لا تباشروهن وأنتم عاكفون فى المساجد " ( ) ، وقد خص زمن المتعة بليل جعله الله قياما وهذا يلفت إلى أمرين : -
أولهما : انه إذا جاء الليل أجيبت شهوة البطن بالإفطار وحلت شهوة الفرج لمن ابتغى مباحا .
الثانى : أن يذكر الله ما ذكر فى شهر العبادة فهذه إشارة إلى أن إشباع الشهوة عبادة ، وقد قال النبى  " فى بضع أحدكم صدقة " قالوا : يا رسول الله: أيأتى أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ قال : أرأيتم لو وضعها فى حرام ، أكان عليه وزر ؟ قالوا : بلى ، قال " فكذلك إذا وضعها فى الحلال كان له أجر " ( )
ومن بالغ لطف الله تعالى انه حرم الرفث فى يوم الصوم فقال " إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث " ( ) وأحله بنص قرآنى يتعبد به، متى كان المرء مع زوجه فى ليلة الصيام فقال " أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم " والرفث على ما فسره ابن عباس " ما يتكلم به عند النساء من معانى الإفضاء"( ) أى الكلام المتعلق بالجنس والشهوة ، ولا شك أنه أفحش الفاحش إن لم يكن فى محله ، وكأن الله سبحانه يقول إذا حرم عليكم فى يوم صومكم أدنى الفحش فقد أحل لكم فى ليله مع نسائكم أشده وأعلاه .
وقد ذكر العلماء فى معنى الرفث وجها أخر فقالوا : هو الجماع بكل مشتملاته من الكلام والمباشرة ، وقد ذكره الله مع الأكل والشرب فكانت مباحات ثلاثة ، هى محذورات الصيام ، فقال " فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل " فجعل أمر الإباحة إلى طلوع الفجر ثم تحرم حتى يدخل الليل .
وخلصوا منها إلى أن هذه المحذورات الثلاثة هى فقط التى تحرم أما المباشرة التى لا جماع فيها – أى مجرد الالتصاق – كالقبلة والجسة وغيرها لا تمنع على الصائم ، وهذا يدل " على صحة صوم من قبل وباشر – أى ضم زوجته إليه دون معاشرة – لأن فحوى الكلام إنما يدل على تحريم ما أباحه الليل وهو الأشياء الثلاثة ، ولا دلالة فيه على غيرها بل هو موقوف على الدليل …. وروى البخارى عن عائشة قالت كان النبى  يقبل ويباشر وهو صائم " ( ) .
والمعنى الذى نود الكشف عنه : أنه إذا كان الاستمتاع بغير الجماع حلا للصائم ، فهو لغير الصائم فوق مجرد الحل ، بل لعله من قبيل التقديم والتهيؤ والتهيئة ، وفى الحديث الشريف " فإنه أحرى أن يؤدم بينكما " وهذا فى النظرة ، فالجسة مثلها وأشد .
(ب) ويرد ذكر الاستمتاع فى حديث القرآن عن الحيض ، وهو كما أخبر الله سبحانه وتعالى " أذى " تتأذى منه المرأة صحيا ونفسيا ويتأذى من حولها برائحته ، ورثاثة حالها ، وفى هذا السياق يحكم الله فى الاستمتاع فيقول "ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء فى المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين " ( ) وتقريبا للمعنى ندل على معانى بعض الألفاظ .
أولا : قوله " ولا تقربوهن " بفتح الراء معناه لا تتلبسوا بفعل القرب، والقرب أى الاتصال .. ولم يقل الله " لا تقربوهن " بضم الراء لأن القرب بالضم معناه مجرد الدنو ( ) .
وقوله " فأتوهن " كناية عن الجماع ( ) بقرينة قوله " من حيث أمركم الله " أى فى الموضع الذى أمر الله به .
والمعنى إذا كان الحيض أذى فلا تتصلوا بالنساء حتى يطهرن لأن الموضع المباح مشغول بالأذى ، ولكن هذا لا يمنعكم الدنو منهن والاستمتاع بهن دون اتصال .
يوضح هذا سبب نزول الآية ، فقد روى مسلم عن أنس  قال " كان اليهود إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ، ولم يجامعوهن فى البيوت – أى لا يجمعهم بهن مكان واحد ، فيبيت الرجل فى بيت غير ما تبيت فيه زوجه – فسأل أصحاب النبى  فأنزل الله تعالى " ويسألونك عن المحيض .. الآية .." فقال رسول الله  " اصنعوا كل شئ إلا النكاح " – أى الوطء – فبلغ ذلك اليهود فقالوا : ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه …"( ).
فالسياق يلفت إلى أن الاستمتاع نوعان : تام وناقص ، فإن حظر التام فى زمن الحيض فلا تمتنعوا عن الناقص ربما ليكون ذلك تخفيفا من الأذى عن المرأة ، وإشعارها أن الرغبة فيها قائمة حتى مع سوء حالها .
وقد روى عن غير واحدة من زوجات النبى  ما يشعر أن النبى  كان يعمد التودد إلى نسائه فى الحيض ، ففيما روى عن عائشة قالت " إن كان رسول الله  ليؤتى بالإناء فأشرب منه وأنا حائض ، ثم يأخذه فيضع فاه على موضع فى ، وإن كنت لآخذ العرق (اللحم المختلط بالعظم ) فآكل منه ، ثم يأخذه فيضع فاه على موضع فى " .
وقد روى عن عائشة وميمونة وأم سلمة زوجات النبى  أن النبى  كان يباشرهن وهن حوائض . وروى أبو داود عن بعض أزواج النبى  ولم يسمهن ذلك . ( ) وقد ذكرت عائشة رضى الله عنها وصفاً فى النبى  يشير إلى أنه كان يفعل ذلك تطييباً لأنفس نسائه ، قالت : " وأيكم يملك إربه كما كان النبى  يملك إربه " ( ) أى أنه كان شديد التحكم فى نفسه .
ثم أن يروى عن النبى  نساؤه ، فهذا يعنى أنها وقائع حدثت وللنبى  زوجات لا زوجة واحدة ، ويصعب أن يظن أنهن يحضن فى وقت واحد ، فلابد وأن تكون منهن من هى طاهرة ، فلو كان فعله  قضاء وطر لأتى الطاهرة واعتزل الحوائض ، فلم يبق إلا أن يكون فعله إرشاداً إلى العناية بالمرأة فى حال عذرها ، وأكثر ما يسرها عندئذ التعلق بأنوثتها .
حـ- وفى سياق ثالث يتعلق جوهره بالصلاة والمسجد والطهارة الأصلية والبدلية يرد ذكر الاستمتاع . يقول الله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنباً إلا عابرى سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامسستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه . " ( )
والآية تتضمن أحكاماً أولها النهى عن الصلاة حال السكر والجنابة ، وقد نسخ الأول بتحريم الخمر تحريما تاما ، أو النهى عن الاقتراب من المسجد ولو لمجرد العبور للجنب إلا أن يكون مسافراً حتى يحدث الاغتسال .
والثانى : أن الله سبحانه ذكر أصنافاً أربعة ، أولهم مريض يخشى عليه من استعمال الماء . والثانى : مسافر حاجته للشرب أقوى من استعمال الماء فى غيره . والثالث : صاحب حاجة يشق الصبر عليها ، وهى حاجة الغائط من البول والبراز ، ومعهم رابع هو من انتقض طهره بملامسة النساء جماعاً أو ما دونه .
وقد أباح الله لجماعتهم أن يتيمموا إن لم يجدوا ماء .
ولا شك أن المعنى الظاهر منها هو إيجاب الغسل والوضوء فإن لم يكن ماء فالتيمم ، وأنه يرفع الحدث الأكبر كما يرفع الحدث الأصغر .
ومع هذا فإن الجمع بين ذوى الأعذار الثلاثة ( المريض والمسافر وذو الحاجة إلى الغائط ) والمستمتع يشير إلى شئ ، هو أنه لا يصدنكم عن الاستمتاع عدم الماء ، فقد خفف الله عنكم ، أو أن الاستمتاع حاجة كحاجة المريض يريد الشفاء ، والمسافر يريد الماء ، والمضغوط يريد الراحة ، فاشفوا ، وارووا ، واستريحوا وتيمموا .
3- ونتوقف عن لفظتين من مرادفات الاستمتاع المذكورات فى القرآن الكريم .
أولاهما : الإفضاء وقد ذكرت فى قوله تعالى " وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً " ( )
فالإفضاء : على وزن أفعل من الفضاء . وهو كل موضع خال ( ) وأصله فى اللغة المخالطة ، ويقال للشئ المختلط فضاً ، ومعناه هنا قيل : الجماع، وقيل : أن يخلو الرجل والمرأة وإن لم يجامعها"( ).
والآية نص فى وجوب المهر بالخلوة أو الدخول ، ولكن فى التعبير القرآنى معنى آخر ، وهو أن الافضاء يكون من كلا الزوجين ، وعلى أن معنى اللفظة مأخوذ من الموضع الخالى ففى ذلك إشارة إلى أنه ينبغى إذا خلا الرجل بزوجة ، والزوجة بزوجها ، أن ينصرف كل منهما إلى الآخر خاليا عن الانشغال بغيره ، ليجمع إلى خلو المكان خلو البال ، فيقبل كل منهما على الآخر بكليته .
ومثل هذا الإقبال الحميم لا يحصل فى الواقع إلا إذا روعيت آداب الإسلام فى الزواج ابتداء وبقاء .
وقد علمت أن من آدابه فى الابتداء التخير والنظر ، وقد علله النبى  بأنه " أحرى أن يؤدم بينكما " وعلل إنكاح ذا الدين بأنه " إذا أحبها أكرمها ، وإذا أبغضها لم يظلمها " على أنه إن كان مؤمنا حقا ، وكانت كذلك فلن يقع منه بغض تام وفى الحديث الشريف " لا يفرك مؤمن مؤمنة ، إن كره منها خلقا رضى منها خلقا آخر "( ).
ومن آدابه فى البقاء – كما سيأتى – المعاشرة بالمعروف ، ومنها فى باب الجماع أمور كثيرة منها أن تحرص المرأة على زينتها .
وفيما روى أبو داود أن النبى  قال لامرأة أهملت زينة يديها " يد امرأة هذه أم كف سبع اذهبى فغيرى "( ) وتحرص على نظافتها، وقد كانت الصحابيات يسألن النبى  عن الغسل من المحيض ، فعن عائشة  " أن امرأة سألت النبى  عن غسلها من المحيض ، فقال : خذى فرصة من مسك فتطهرى بها ، قالت : كيف أتطهر ؟ قال : تطهرى ، قالت : كيف ؟ قال سبحان الله !! تطهرى . تقول عائشة : فاجتذبتها إلى فقلت : تتبعى بها أثر الدم "( ).
وقد بلغ من حرص النبى  ألا تقع عين الرجال على ما يكرهون أنه كان يأمرهم عند العود من السفر " أن يمهلوا حتى تستحد المغيبة – أى تزيل الشعر الزائد فى جسمها – وتمتشط الشعثة "( ).
وإذا كان واجب المرأة نظافة وزينة ، فواجب الرجل فضلا عن ذلك التمهيد للإفضاء ، وفى الأثر " لا يقعن أحدكم على امرأته كما تقع البهيمة وليكن بينكما رسول ؟ قيل : ما الرسول يا رسول الله ؟ قال: القبلة والكلام "( ) وقد تلونا فيما سبق قول الله تعالى " أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ".
وعلى معنى أن الإفضاء من الخلطة ، فإن الخلطة معناها أن يمتزج الشيئان حتى لا يتميزا ، وهو معنى قوله تعالى " هن لبس لكم وأنتم لباس لهن " ولا شك أن الامتزاج يستدعى ما قلنا فى " الخلوة " وزيادة ، لأن الإشباع المراد بالاستمتاع أو الإفضاء إشباع نفسى قبل أن يكون إشباعا جسديا .
الثانية : التغشى :
وقد ذكرت فى قوله تعالى " هو الذى خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا .. "( ).
فقوله تغشاها : أى جامعها ، وهذه اللفظة تعنى الاحتواء التام ، قال الرازى " إذا علاها فقد صار كالغاشية لها ، ومثله يجللها ، وهو يشبه التغطى واللبس "( ).
ومعنى الاحتواء الذى تشير إليه الآية يؤكده الحديث الشريف " إذا جامع أحدكم زوجته فليصدقها ، فإن قضى حاجته قبل أن تقضى حاجتها فليصبر حتى تقضى حاجتها "( ) والمعنى ليكن الاستمتاع صادقا ، حتى لا تنفر المرأة من زوجها أو يزهد الرجل فى زوجه .
ولكن إن أعدنا تلاوة الآية وجدنا أن الاحتواء والصدق فى اللقاء مرهون بسابقه وهو السكن ، أى السكينة والاطمئنان وقد أمر الله به فى سورة البقرة كلا الزوجين ، قال تعالى " وقلنا يا أدم اسكن أنت وزوجك الجنة "( ) فإن تحقق السكن تحقق أثره ، وإن اختل السكن اختل أثره ، وسندلك على ذلك فى بيان الحق التالى :
4- وإذ يذكر الاستمتاع فى هذه المواضع وغيرها على نحو ما رأينا فلابد وأن يكون شأنا خطيرا تتعلق به الأحكام ، ومن ذلك :-
أ- أنه حق للرجل على زوجته يجب عليها أن تجيبه إليه إذا طلبه وإلا كانت عاصية لربها ، بشرط أن يكون طلبه للمحل المباح ، وفى الوقت المباح ، وهو ما عدا زمن حيضها ونفاسها وصومها المفروض وإحرامها بالحج ؛ مع ملاحظة أن الاستمتاع بغير الجماع فى الحيض والنفاس والصوم لا يحرم إن أمن نفسه وبشرط ألا يضر بها ( ).
ب- أنه حق للزوجة على زوجها يلزمه ديانة ويجب عليه فى الحكم فى رأى أكثر العلماء.
ولم أجد من آئمة المذاهب من لم يوجبه فى الحكم إلا الشافعى رحمه الله، فقال : الجماع موضع تلذذ لا يجبر أحد عليه ( )، وبه قال بعض الحنفية ( ).
وقال الإمام مالك : يؤخذ الزوج بجماع زوجته كل مدة ليحصنها ويقطع شهوتها ، فإن أطال ترك جماعها وحاكمته إلى القاضى فسخ النكاح بينهما إن لم يجامع ( )، وهو قول بعض الأصحاب من الحنفية( ).
وقدر الحنابلة وبعض الحنفية المدة التى يؤاخذ بتركها الزوج بمدة الإيلاء، وهى أربعة أشهر ( ).
ويرى الإمام ابن حزم الظاهرى أن أقل الواجب على الرجل مرة كل شهر إن لم يكن له عذر ، لقول الله تعالى " فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله "( ) حيث أمر بإيتائهن عقب الطهر والأمر للوجوب ( ).
وما دون الجماع فى الاستمتاع كالمبيت بمضجعها ومداعبتها وملاعبتها وإيناسها واجب مرة على الأقل كل أربع ليال ، وقال الشافعى لا يجب لأنه من دواعى الشهوة والمحبة التى لا يقدر على تكفلها ( ).
والصحيح الأول لما روى كعب بن سوار أنه كان جالساً عند عمر بن الخطاب فجاءت امرأة فقالت : يا أمير المؤمنين ما رأيت رجلا قط أفضل من زوجى ، والله إنه يبيت ليلة قائما ، ويظل نهاره صائما ، فاستغفر لها وأثنى عليها، فاستحيت المرأة وقامت راجعة ، فقال : يا أمير المؤمنين هلا أعديت المرأة على زوجها ، فقال : وما ذاك ؟ فقال : إنها جاءت تشكوه ، إذا كان هذا حاله فى العبادة متى يتفرغ لها ، فبعث عمر إلى زوجها ، وقال لكعب اقض بينهما فإنك فهمت من أمرها ما لم أفهمه ، قال – كعب - : فإنى أرى أنها امرأة عليها ثلاث نسوة وهى رابعتهن – أى افترض أنها كذلك – فأقضى له بثلاثة أيام وليالهن يتعبد فيهن ، ولها يوم وليلة ، فقال عمر : والله ما رأيك الأول بأعجب إلى من الآخر ، اذهب فأنت قاض على البصرة " قال البهوتى: هذه قضية اشتهرت ولم تنكر فكانت كالإجماع ( ).
حـ –والصحيح أن ليس للاستمتاع حد فيستمتع كل من الزوجين بالآخر بما يروى شبقه ويذهب نهمه ، على أى وضع كان ، وفى حرية تامة ، وليس لذلك فى الإسلام حد إلا أن يأتى الرجل المرأة فى الموضع المحرم ، فالله سبحانه وتعالى يقول " نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم "( ) أى من أين شئتم أو كيف شئتم ، وما يقال غير ذلك من تقيد حرية الزوجين فى النظر أو اللمس أو الهيئة فكلام ساقط لا يسنده دليل ( ).
ثانيا : حسن العشرة
ظاهر القرآن الكريم أن حسن العشرة يلزم الأزواج لا الزوجات لورود الخطاب فيه للرجال ، كقوله تعالى " وعاشروهن بالمعروف"( ) وقوله " فإمساك بمعروف " ( ) وقوله " فأمسكوهن بمعروف " ( ) ولكن هذا فهم قاصر فالخطاب للجميع ( ) ولكن أوثر به الرجال لاحتمال وجود دواعى الإساءة من تملك القوامة وحق التعدد، فضلا عن إرث الجاهلية فى الإساءة إلى النساء .
وأبلغ دليل على ذلك أن غاية حسن العشرة حصول السكن ، وقد أمر الله به الرجل والمرأة فقال " وقلنا يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة " ( ) ثم إن المرأة مأمورة فى الكتاب والسنة بطاعة زوجها ( ) وليس فى الإحسان أقوى من التزام الطاعة ومراعاة الغرض .
ولوازم حسن العشرة كثيرة ومتنوعة ، وحاصلها الحرص على إرضاء الآخر فى غير معصية ، واجتناب ما يسوؤه فى بدنه ونفسه وماله ، ليكون الزوجان على وفاق ومحبة .
وقد نبهت الدكتورة عائشة عبد الرحمن إلى بيان قرآنى غاية فى الروعة والإعجاز مفاده أن مسمى الزوجية فى القرآن لا يطلق إلا على الارتباط الذى يؤنس فيه سكن كل من الزوجين للآخر ومودتهما وتراحمهما " فإذا تعطلت الزوجية من السكن والمودة والرحمة بخيانة أو تباين فى العقيدة فامرأة لا زوج"( ).
وبيان ذلك أن الله تعالى حين تحدث عن آدم قال " وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك " ( ) وحين تحدث عن المتقين ذوى العشرة الحسنة قال " والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما " ( ) وقال " والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا " ( ) أما الارتباطات الخربة التى لا سكن فيها ولا رحمة فليست زواجا ، وإن سماها الناس كذلك ، قال سبحانه " وقال نسوة فى المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه " ( ) وقال " ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين . وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لى عندك بيتا فى الجنة ونجنى من فرعون وعمله ونجنى من القوم الظالمين " ( )

المبحـــث الثانـــى
حقــــوق الـــــــــزوج
أغرب ما يجده الإنسان اليوم من داعيات التحرر أنهن لا ينشغلن بحقوق المرأة قدر ما يسعين إلى سلب حقوق الرجل على زوجته ، لأن هذه الحقوق هى التى تحول دون مرامهم من أن تكون المرأة كما يريدها المحركون مستقلة لا سلطان لأحد عليها فى قرارها وترحالها ، وعلى الرغم من علم الفطنات من النساء لهذه المكيدة ، إلا أن الحاملات لدعاوى التحرر مازلن سادرات فى طريقهن ، تقول الدكتورة بنت الشاطئ " إن الرجال ساقونا لنعمل لحسابهم….. وهم يوهموننا أننا نعمل أو يعملون لحسابنا ، ذلك أن الرجال زينوا لنا الخروج زاعمين أنهم يؤثروننا على أنفسهم ولكنهم كذبوا فى هذا الزعم فما أخرجونا إلا ليحاربوا بنا السآمة والضجر فى دنياهم …… إن المرأة دفعت ضريبة فادحة ثمنا للتطور ، ويكفى أن أشير فى إيجاز إلى الخطأ الأكبر الذى شوه نهضتنا ، وأعنى به انحراف المرأة الجديدة عن طريقها الطبيعى وترفعها عن التفرغ لما نسميه خدمة البيوت وتربية الأولاد ، ونحن نرى البيوت خالية منهن ، أما الأبناء فتركوا للخدم وقد نشأ هذا الانحراف الضال نتيجة لخطأ كبير فى فهم روح النهضة " .
ولأننا نعلم يقينا أن الله متم نوره ولو كره الكافرون فإننا نطرح هدى الإسلام فى هذه المسالة راجين أن يكون من بناتنا وأخواتنا جنديات يدفعن عنهن وعن بنات جنسهن غائلة التغريب ، والاسترقاق العصرى تحت هذه الدعاوى الزائفة .
أولا : حقوق الرجل قسم إلهى
يدرك المؤمنون بالإسلام دينا أراد الله به خير البشرية وبمحمد  رسولا خاتما إلى الناس أجمعين أن الحقوق والواجبات لم تتقرر على هوى الرجال أو النساء ، وإنما حكم الله فيها بما يصلح الدنيا ، ويكسب فلاح الآخرة ، ولأن الله يعلم أن من النفوس الإمارة بالسوء من قد تدعى يوما أن هذا الحق أو ذاك قد صنعه الاغتصاب ، أو قررته السلطة على هواها فقد أنزل فى ذلك قرآنا يتلى ويتعبد به ، فقال تعالى " ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسئلوا الله من فضله إن الله كان بكل شئ عليما " ( ) .
قال المفسرون " نهى الله عن التمنى لما فيه من دواعى الحسد ، ولأن الله أعلم بمصالحهم منهم فوضع القسمة بينهم على التفاوت على ما علم من مصالحهم " ( ) .
فإذا كان هذا حكم الله فى التمنى فما بالنا بحكم الله فى إبطال حق الغير بالكلية ، لا شك أنه سيكون بوبال فى الدنيا ونار فى الآخرة .
ثانيا : أطر حقوق الرجل محدودة بالنصوص
وإذا كنا ننتقد اللاتى ينكرن على الزوج حقه باعتدائهم على قسم الله فإن من الرجال من يسيئون استعمال الحقوق التى قدر الله لهم فيتعدون حدود الله ، غافلين عن تحذيره ، فحقوقهم كما أمر الله ليست تسلطا ، بل هى أعباء ، وواجب الزوجات ليس رقا بل عمل لا يقدر عليه سواهن .
1- حق الطاعة فى المعروف
حق الطاعة مقرر بقول الله تعالى " فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله " ( ) .
قال المفسرون " هذا كله خبر ، ومقصوده الأمر بطاعة الزوج والقيام بحقه فى ماله وفى نفسها فى حال غيبة الزوج " ( )
فهو إذا ليس مجرد احترام لأمر ، ولكنه حفظ لرغبة وتلبية لغرض لأن الغائب لا أمر له ، وربما لأن الطاعة قد تثقل على النفس ، خاصة إذا كانت على غير هوى ما تهوى ، بشر النبى  المطيعات بالجنة ، قال " أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة " ( ) وتحذيراً لهن من التفريط فى ذلك قال  " والذى نفس محمد بيده لا تؤدى المرأة حق ربها حتى تؤدى حق زوجها"( ) وعد المرأة الطائعة كنزا ، بل خير ما يكنزه المرء فقال لعمر رضى الله عنه " ألا أخبرك بخير ما يكنزه المرء ، المرأة الصالحة إذا نظر إليها سرته ، وإذا أمرها أطاعته ، وإذا غاب عنها حفظته " ( ) .
هذا ما ينتظر القوانت من الزوجات ، وهو ثواب عظيم لمن تعيه ، وواضح من النصوص أنه حق مقرر للرجل دون نظر إلى شخصه ، او توقف على تقديرها لمراده ، مادام فى غير معصية الله ، فطاعتها له ظاهرا وهى لله فى الحقيقة والواقع .
على أن هذه الطاعة مقيدة بمرضاة الله تعالى ، وبحياتهما الزوجية لا تتعداها ( ) ، وبما لا يضر بحقوق الغير ، فإن أمرها بمنكر فلا طاعة ، وإن أمرها فى مالها الخاص لا تلزمها طاعته ، وإن أمرها بما يضر بحقوق الغير كالولد مثلا فلا طاعة .
ومن الفطنة أن يعلم الرجل أن طاعة المرأة تبتدئ من عنده ، فإن وجدته هينا لينا محبا عطوفا متعقلا ، مقدرا لمشاعرها وهواها المشروع كانت على طاعته أحرص وعلى إرضائه أوفر ، وقد ضرب النبى  المثل فى ذلك ، فكان بالغ التودد إلى نسائه ، فعن عائشة  قالت " كنت ألعب بالبنات (العرائس) عند النبى  ، وكانت عندى صواحب يلعبن معى فكان رسول الله  إذا دخل ينقمعن منه – أى يقضن إجلالا له – فيسربهن – أى يرسلهن سرا – ليلعبن معى" ( ) وعنها أيضا قالت " دعانى رسول الله  والحبشة يلعبون بحرابهم فى المسجد فى يوم عيد ، فقال لى يا حميراء : أتحبين أن تنظرى إليهم ؟ فقلت نعم ، فأقامنى وراءه فطأطأ لى منكبه لأنظر إليهم ، فوضعت ذقنى على عاتقه ، وأسندت وجهى إلى خده ، فنظرت من فوق منكبه ، وهو يقول : دونكم يابنى أرفدة ، فجعل يقول : ياعائشة " ما شبعت ؟ فأقول : لا لأنظر منزلتى عنده ، حتى شبعت .
قالت : وما بى حب النظر إليهم ، ولكن أحببت أن يبلغ النساء مقامه لى ، ومكانى عنده ، فأقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو " ( )
وروت أيضا أن النبى  كان يدعوها إلى المسابقة فسبقته مرة، وسبقها فى الثانية وبين السبقتين زمن تغير فيه بنيان عائشة فجعل النبى  يضحك ويقول هذه – أى السبقة الثانية – بتلك السبقة " ( )
2- حق القرار فى البيت
قرار المرأة فى البيت وعدم الخروج منه إلا لداع إلزام عام يلزم كل مسلمة زوجة كانت أو غير زوجة ( ) غاية ما هنالك من فرق أن على الزوجة أن تستأذن زوجها فى الخروج ، والأصل فى هذا الحكم قوله تعالى " وقرن فى بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى" ( ) .
وقد فهم بعض الناس خطأ أن حق القرار الواجب بالآية خاص بزوجات النبى  ( ) وليس كذلك ، لأن الله خاطبهن بوصفهن مؤمنات، فشمل غيرهن من المؤمنات ، قال القرطبى " وإن كان الخطاب لنساء النبى  فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى ، ولو لم يرد دليل يخص جميع النساء ، كيف والشريعة زاخرة بلزوم النساء بيوتهن ، والانكفاف عن الخروج إلا لضرورة " ( ) .
ومن أسف أنه بينما تزعم عصبة " الاتحاد النسائى " أن قعود المرأة فى بيتها يعطل مرافق الدولة وينذر بموات المجتمع من جراء عيشته برئة معطلة يعنين ويعنون هؤلاء الباقيات فى بيوتهن ، نجد كاتبة غربية غير مسلمة تقول " إذا كانت النساء المسلمات اليوم يرفضن بعض الحريات التى نشعر أننا قدمناها إليهن فلا يرجع سبب ذلك إلى العناد ، بل التخبط فى النظرة الغريبة إلى المرأة ، وفى العلاقات بين الجنسين ، فنحن ندعوا إلى المساواة والتحرر ، ولكننا فى الوقت نفسه نستغل المرأة ونمتهنها فى الإعلانات وفى الكتابات والفنون الإباحية، وفى كثير من أشكال الفرجة الشعبية بأسلوب يستهجنه المسلمون ويتأذون به"( ).
وقد بلغ السخف بالعقول أشده عندما ينتقد أحد الفوضويين صورة المرأة فى الكتب المدرسية أنها مبرزة لدور الأم الحانية والزوجة الصالحة ، مغيبة للدور الوطنى والاجتماعى العظيم – كما يزعم – الذى لعبته المرأة فى العصر الحديث ( ) .
وبعيدا عن تبصرة المرأة بما تيقن العقلاء أنه مكيدة تكاد لها ولأولادها ولمجتمعها المسلم ، فإن حق القرار فى البيت لا يعنى حبس المرأة ، وإنما يعنى أن يكون البيت هو همها الأول ، فقد كفاها الله مشقة الكدح وألزم الزوج النفقة عليها ، ولكن إن تهيأ لها عمل مناسب وأذن لها زوجها بذلك فليس عليها من سبيل ، على أن تلتزم فى خروجها بآداب الشرع وتعاليمه .
وثمة حالات لا ينبغى للزوج أن يمنع زوجته الخروج فيها كزيارة والديها وعيادتهما ، والخروج إلى المساجد لأداء الفرائض ، وصلة الأرحام ونحو ذلك مما لا تتأتى منه مفسدة ( ) .
وقد أناط جمهور الفقهاء القرار فى البيت بحق النفقة ، فقالوا تسقط نفقتها إن خرجت بغير إذنه ، ورأى ابن حزم أن هذين حقان مستقلان لا تأثير لأحدهما على الأخر ( ) .
ويبدو لى أن الحق مع الجمهور لتتكافأ الحقوق والواجبات.
ومما يتصل بهذا الحق أن يهيئ الزوج لزوجته المسكن الشرعى الذى تستقل فيه بنفسها وأولادها . مما يليق بأمثالها ، وعليه أيضا أن يكفيها حوائجها التى لابد منها ، فإن قصر فى هذين الحقين فخرجت بلا إذن منه للضرورة فلا سبيل له عليها ( ).
وأخيرا فإن مما يعين على الوفاء بهذا الحق أن يكون الزوج لزوجته كما يريدها لنفسه ، فيوفيها حقها عليه من الإيناس والاستمتاع والمشاركة فى الأعباء المنزلية ، والترويح عنها ما استطاع إلى ذلك سبيلا ، فإن أغناها بنفسه استغنت عن غيره ، وإن انصرف عنها كلت ومالت إلى الخروج .
3- حق القوامة والتوجيه
من البديهى أن يكون لكل سفينة ربانها الذى يدير عجلتها ويسأل عن سلامتها ، وقد قضى الله أن يكون زمام الزوجية بيد الزوج يدبرها كما أمر الله أن تدبر ، وفق أوامره ونواهيه ، فقال سبحانه " الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتى تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن فى المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا " ( ) .
فالآية تقطع على أصحاب الأهواء أهواءهم وتقرر حكما أبديا
أن لعموم الرجال القوامة على عموم النساء ، دون نظر إلى تدنى بعض الرجال ورفعة بعض النساء ، فقد كملت بنص حديث رسول الله  فاطمة بنت محمد  ولم ينزع هذا قوامة على كرم الله وجهه عنها ، وتميزت نساء بيت النبوة فاشتهرن بالعلم والحكمة فضلا عن مكانتهن من رسول الله  ولم تقل احداهن مع تصدرهن فى الحياة العامة – إنها أنفة من قوامة الزوج عليها .
وقد قضى ربنا سبحانه وتعالى أن سبب قوامة الرجل أمران :
أولهما : ما ركبه الله فيه من طبيعة خاصة تفضل طبيعة المرأة فى القيام بهذه المسئولية .
والثانى : التزامه بالإنفاق على الأسرة
والسبب الثانى تكليف يقبل الإعفاء أو الإبراء ، ومن ثم روعى فيه حال المراة كما سنرى ، وما يناط به من حكم فى الزوجية مرتبط بحال العدم لا حال الوجود ، فليس لامرأة أن تشكو زوجها لأنه واجد النفقة ، سخى العطاء ، وإنما تشكوه لامتناعه عن الإنفاق أو لعجزه .
والنفقة مال ومن طبع المال أنه غاد ورائح ، ولهذه الخصائص أخر الله هذا السبب ليكون مع الأول كالمكمل ، ولكنه لا يعود عليه بالإبطال ، لأن الأول فطرى والثانى مكتسب ، وهذا يعنى أن مشاركة الزوجة لزوجها فى الأعباء المنزلية خلق كريم وإحسان مجازى إن شاء الله ، لكن لا تأثير له فى القوامة لبقاء السبب الأصلى فيها .
أما السبب الأصلى وهو أن الرجل بحكم تكوينه البشرى وما جبله الله عليه من سجايا وخصال ، ودوافع وقدرات أقدر على القيام بهذه المهمة من المرأة ففضلا عن كونه حكما إلهيا فإنه واضح للعيان من نظرة فى البنيان ، وتأمل فى النبات والحيوان ، وقد ثبت بالتشريح الطبى " أن كيان المرأة الجسدى قد خلقه الله على هيئة تخالف تكوين الرجل ، بل إن كل خلية من خلايا جسم المرأة تختلف فى خصائصها وتركيبها عن خلايا الرجل ، وآية ذلك الفروق الهائلة بين الأنسجة والأعضاء فى كل من الذكر والأنثى " ( ) .
كما لوحظ فى علوم الأحياء أن القيادة والتوجيه لذكر الحيوان لا أنثاه إلا فى ندرة من المخلوقات تعتبر فى التصنيف العلمى أخس أنواع الأحياء ، وفيها فقط تكون القيادة للأنثى ، وفيما عداها فالذكر هو القائد ، يستوى فى ذلك الأليف الهادئ ، والمتوحش الهائج .
وفى علوم النبات وجد أن عضو التذكير فى الزهرة يعلو عضو التأنيث ، ويتطاول عليه .
وتبدو الملاحظة أوضح فى اللقاء بين الزوجين ، فأحب الأوضاع إلى الفطرة وضع " التغشية " الذى يعلو فيه الرجل المرأة ويحتويها احتواء تاما ، فإن ضعف احتواؤه نفرت منه زوجته " ( )
فمع كل هذه الفوارق الظاهرة للعيان يقتضى العقل والمنطق والفطرة السليمة أن تكون مسألة قوامة الرجل خارج دائرة المناقشة ، لكن أعداء المرأة من المتسلطين والمتسلطات عموا ، أو استعموا عن كل هذه الحقائق والمشاهدات وألحوا ومازالوا فى النيل من هذه الدرجة تحت دعوى المساواة ، وأظهر دعاويهم أن المرأة تعلمت وخرجت إلى العمل ، وتفوقت فى بعض ميادينه فغدت ندا للرجل فكيف تكون له عليها قوامة ؟
وهذه دعوى هابطة ردها الأستاذ العقاد منذ زمن بقوله " فى تجارب الأمم شواهد ملموسة على الفارق الأصيل بين الجنسين ، فى الكفاية العقلية والكفاية الخلقية فإن المرأة على العموم لا تساوى الرجل فى عمل اشتركا فيه ، ولو كان من الأعمال التى انقطعت لها المرأة منذ عاش الجنسان فى معيشة واحدة، لا تطبخ كما يطبخ ، ولا تتقن الأزياء كما يتقنها ، ولا تبدع فى صناعة التجميل كما يبدع فيها ، ولا تحسن أن ترثى ميتا عزيزا عليها كما يرثى موتاه ، وهى منذ بدء الخليقة تردد النواح ، وتنفرد بأكثر مراسم الحداد ، ومن اللغو أن يقال هذه الفوارق إنما نجمت من عسف الرجل واستبداده ، فإن الرجل لم يكن ينهى المرأة أن تطبخ وأن تخيط الثياب وأن تتزين …. " ( ) .
وإن سلمنا أن بعض النساء فقن الرجال فنحن نتحدث عن امرأة بعينها، هى الزوجة التى حررها الإسلام من أن تكره على التزويج برجل لا تريده ، أو تراه دونها فى المنزلة والمكانة ، فإن رضيت رجلا فلا بد وأن فيه ما هى محتاجة إليه ، فلتقبله بما له وعليه ، أو ترده ، ولكن أن تريده بما عنده وتسلبه ما عليها فهذا شئ غير الزواج الذى أراده الله منا ، ولا أراها فى ميزان الشرع إلا امرأة العزيز ، أو امرأة نوح أو امرأة لوط ، فارتباطها بالرجل ارتباط بيولوجى شهوانى ، لا سكن فيه ولا مودة ولا رحمة …. وعلى حواء أن تختار أن تكون امرأة أو تكون زوجة .
وليس من السهل علينا أن نغادر هذا المقام دون أن نرى قارءنا الكريم منطلق التحرريين ، وعقيدتهم الدينية فى قضية القوامة وأمثالها ، وتذكر أن القسم فى الحقوق من الله سبحانه ، وتكليف الرجل بالقوامة تكليف إلهى أيضا .
يقول الدكتور زكى نجيب محمود " وتفرعت من مشكلة الحرية مشكلات لها خطرها وعمق أثرها فى حياتنا العربية المعاصرة ، منها حرية المرأة ، فالمرأة العربية الجديدة إنسانة أخرى غير امرأة الأمس ، ومع ذلك فقد وجدت نفسها فى مجالات العرف والتقليد والتشريع حبيسة أوضاع وضعت لسالفاتها من بنات ( الحريم ) و(الجوارى) و ( الغانيات ) ، لقد أصبحت المرأة العربية اليوم طبيبة ومهندسة ومحاسبة ومدرسة فى مختلف مدارج التعليم من المدارس الأولية فصاعدا إلى كراسى الأستاذية فى الجامعات ، أصبحت المرأة العربية اليوم عاملة فى معامل الفيزياء ، وممثلة للشعب فى مجالس النواب ، ووزيرة مع الوزراء فى قيادة أمتها ، نعم أصبحت المرأة العربية اليوم، ثم أصبحت، وأصبحت فهل يعقل أن يقال لها – وهذا كيانها الجديد – ما كان يقال لسالفاتها من قوامة الرجال عليها بالمعنى التقليدى ………. إن امرأة عصرنا لتجد نفسها فى أزمة حادة ،لأنها تجد نفسها مشدودة بين قطبين نقيضين ، فمن هنا تقاليد تضعها موضعا لم يعد يصلح لها ، ومن هنا مشاركة فى نشاط العصر وثقافته تجتذبها جذبا إلى أن تقف مع الرجل الزوج والأخ والزميل فى صف واحد ، فأين عساها أن تجد منافذ الخلاص ؟
إن ذلك لن يكون فى تراث عربى قديم ……… لن نجد للمشكلة حلولها إلا فى حضارة الغرب الحديث " ( ) هذا مشربهم فاختارى أختاه بين حزب الشيطان وحزب الله .
مضمون القوامة وسلطاتها
القوامة فى اللغة والاصطلاح تعنى الإشراف والتدبير ، فالقائم بشئون العمل هو المسئول عنه المشرف عليه المدبر لشئونه ، فهى مسئولية فى المضمون ، سلطة فى الشكل .
فهى أنموذج المسئولية الثابتة بالحديث الصحيح " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته " ( ) وغرضها الفلاح والوقاية من الخسران ، استجابة لأمر الله تعالى " يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا " ( ) وكما يبين من الآية أن الصالحات من الزوجات يرونها كذلك فلا يشغلهن من القوامة سلطاتها ، فقد حكم الله فيهن بالخلاء عن المساءلة فقال " فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا"( ).
أما الخارجات عن الطوع - وقد عرفنا أنه لله فى الحقيقة ، وإن كان للزوج فى الظاهر – فلا يرين من القوامة إلا ما ملك الله الرجل من سلطات ، لعلمهن أنها تطولهن ، ومع هذا فإنها ليست فى الحقيقة كما يصورنها للبسطاء من الناس فهى ثلاث سلطات مرتبة على النحو الآتى : -
أولا الوعظ
أمر الله للزوج أنه إذا ظهرت من زوجه أمارات النشوز وهو العصيان والتعالى فلا ينتظر بها حتى تعصى أو تتعالى بالفعل ، وإنما يبادر إلى وعظها بأن يذكرها " بما أوجب الله عليها من حسن الصحبة وجميل العشرة للزوج ، والاعتراف بالدرجة التى له عليها " ( ) ويصرف فى ذلك كل صنوف الدعوة ، ولا يمل ، آخذا فى الحسبان ما أخبر به النبى  " أن النساء خلقن من ضلع أعوج فإن ذهبت تقيمه كسرته ، وإن تركته لم يزل أعوج " وينفذ أمره " فاستوصوا بالنساء خيرا " ( ) .
وعليه أن يتخولها بالموعظة حتى لا تسأمه ، ويتخير من الأوقات والفرص ما يراه أنسب للتأثير ، فلكل مقام مقال .
وفوق هذا وذاك يجب أن يتحلى بعين المحب فيغفر الزلات ، ويعفو عن الهنات ، ولا يكون لكل عيب كاشفا ، وليكن له فى رسول الله  أسوة حسنة ، فلم ير أصبر منه على نسائه ، وفيما يروى عن بعضهن ما تطلق بدونه كثير من النساء .
ففيما روى أن النبى  كان عند إحدى نسائه فجاءه طعام فى صحفه – إناء من خشب – فضربت التى هو عندها يد الخادم فسقطت الصحفة فانفلقت ، فجمع النبى  فلق الصحفة ثم جعل يجمع فيها الطعام الذى كان فى الصحفة .. ويقول غارت أمكم "( ) .
والمعنى أنه لم يؤاخذ الغيراء بما يصدر منها ، لأنها فى تلك الحالة يكون عقلها محجوبا بشدة الغضب الذى أثارته الغيرة ( ).
وفى الحديث الصحيح عن عمر  قال " كنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا على الأنصار إذا قوم تغلبهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار ، فصخت – أى غضبت عليها – فراجعتنى ، فأنكرت أن تراجعنى ، قالت : ولـِمَ تنُكر – أى ترفض – أن أراجعك ؟ فوالله إن أزواج النبى  ليراجعنه ، وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل.
يقول عمر – فأفزعنى ذلك فقلت لها : قد خاب من فعل ذلك منهن ، ثم جمعت على ثيابى فنزلت فدخلت على حفصة ، فقلت لها : أى حفصة أتغاضب إحداكن النبى  اليوم حتى الليل ؟ قالت : نعم ، فقلت : قد خبت وخسرت ، أفتأمنين أن يغضب الله لغضب رسول الله  فتهلكى ؟( )
وروى عن عائشة أنها قالت له مرة فى كلام غضبت عنده أنت الذى تزعم أنك نبى الله ، فتبسم رسول الله  واحتمل ذلك حلما وكرما ( ).
بل إن الله سبحانه وتعالى أخبر فى قرآن يتلى ويتعبد به أن عائشة وحفصة تعاونتا على النبى  ، قال تعالى " إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير"( ).
ورحم الله الغزالى إذ يقول " واعلم أن ليس حسن الخلق معها كف الأذى عنها ، بل احتمال الأذى منها ، والحلم عند طيشها وغضبها اقتداء برسول الله  " ( ).
2- الهجر فى المضجع
أن يعتزل معاشرتها وهو على مرأى ومقربة منها ، فإن شاركها الفراش يوليها ظهره ، أو يتخذ فراشا آخر فى نفس الحجرة أو فى حجرة أخرى فى نفس البيت ، وعليه أن يلتزم بالهجر الجميل فلا يخاصمها أو يجافيها ، وإنما يمتنع فقط عن الاستمتاع بها ، وألا يزيد هجره لها عن أربعة أشهر ( )، فإن فاءت فقد عفا الله عما سلف ، وإن مضت فى غيها حلت الوسيلة الثالثة .
والمهم هنا أن الهجر كوسيلة فى التقويم لا يؤتى أكله إلا إذا أخذ على وجهه المشروع ، من كونه ثانى الوسائل ، وقاصراً على المضجع ، وألا يهجر إلا فى البيت ، وأن ينتظر به مدة الإيلاء .
3- الضرب غير المبرح
وكما هو ظاهر من الآية فإنه آخر الوسائل ، ولا محل له إلا مع المشاكسة التى أغراها حسن الخلق ، ولم تنفعها عظة ، ولم يردها عن الأذى هجر .
والضرب المشروع هو الضرب غير المبرح ، وصورته اللكزة باليد ، لا بسوط ولا عصا ، ويتقى فيه الوجه ، والجارحة ، فإن لحقها منه أذى مادى فالزوج ضامن " لأن المقصود منه الصلاح لا غير " وعن عطاء قال : قلت لابن عباس ما الضرب غير المبرح ؟ قال : بالسواك ونحوه "( ) ومع أن الضرب المشروع لا يكاد يفيد إلا التخويف فإن النبى  قال " ولن يضرب خياركم "( ) وأخذ منه العلماء باتفاق أن ترك الضرب أفضل ( ).
وثمة كلمة يجب أن تقال هنا وهى أن الدواء الناجع لا يحدث أثره إلا إذا أخذ على الوجه الصحيح من المبتدأ إلى المنتهى ، والسعادة الزوجية لن تتحقق إلا إذا روعيت أحكام الزواج فى الابتداء والبقاء ، فعليك وعليك مراعاة المنهج ابتداء ، والوفاء بما ألزم الله بقاء يتحقق لكما الوعد الجميل " ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب "( ).
الفصــــــــل الثانــــى
حقــــوق الزوجــــــــــة
للزوجة على زوجها نوعان من الحقوق فضلا عن نصيبها فى الحقوق المشتركة التى تثبت لكليهما .
والنوع الأول من حقوق الزوجة يندرج تحت مسمى الحقوق غير المالية ويظهر بوجه خاص فى حقها فى عدم الإضرار بها واساسه قول الله تعالى " ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا " ( ) كما يظهر فى حقها فى العدل أو القسم عند تعدد الزوجات ، وأساسه " فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة " ( ) فأباح الله التعدد بشرط العدل ، على أن العدل المراد هو العدل فى المقدور كالمبيت والنفقة وحسن المعاملة ، أما غير المقدور كالميل النفسى فلا دخول للعدل فيه ، لقول الله تعالى " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة " ( ) .
والحق فى عدم الإضرار ، والحق فى العدل يظهران أكثر عند الحديث عن الإخلال بهما ، وجزاء ذلك ، لذا نرجئ الحديث عنهما إلى الكتاب الثانى .
أما النوع الثانى من حقوق الزوجة فهى حقوق مالية ، وتظهر بوجه خاص فى حقها فى الصداق ، وحقها فى النفقة ، وهذان الحقان هما ما نعنى ببيانه فى هذا الفصل .

المبحث الأول
الصداق وما يتعلق به من أحكام
1- تعريف الصداق
الصداق اسم مصدر للفعل الرباعى " أصدق " مأخوذ من الصدق ، وقد سمى بذلك لإشعاره بصدق رغبة باذله فى النكاح الذى هو الأصل فى إيجاب الصداق .
وحده شرعا : اسم لمال واجب على الرجل بنكاح أو وطء بشبهة ( ) ولفظة الصداق هى الأكثر إشعارا بحقيقة ما يبذل للمرأة والرغبة فيها ، لذا فهى الأكثر شيوعا فى لغة الفقهاء ، وتقاربها فى الشهرة لفظة المهر ، وكلاهما أكثر استعمالا من أسمائه الأخرى ، سواء تلك التى ورد بها الشرع صريحا أو استنبطها الفقهاء من النصوص أو جرى بها العرف اللغوى وهى " النحلة ، الفريضة ، الحباء ، الأجر ، العقر ، العلائق ، الطول ، الخرس ، العطية" ( ) .
وأول مداخل الصداق عند الفقهاء سببه ، هل هو عوض عن انتفاع الزوج بالبضع ، أم تكرمه وعطية من الله تعالى ؟
للعلماء فى ذلك قولان ( ) :
أحدهما : أنه عوض عن الانتفاع بالبضع .
الثانى : أنه نحلة أى عطية وتكرمة من الله تعالى أمر بها الأزواج إبانة لشرف المحل وخطره .
وجمع بعض العلماء بين القولين فقال ما حاصله " أن من نظر إلى الظاهر من كون الصداق فى مقابلة منفعة البضع جعله عوضا عن هذه المنفعة ، ومن نظر إلى الحقيقة والباطن من كون الزوجة تستمتع بزوجها كما يستمتع بها هو أيضا جعل الصداق تكرمة وعطية من الله مبتدأة وصادرة من الزوج لتحصل الألفة والمحبة بين الزوجين " ( ) إذن فهو عوض فى الظاهر فقط بدليل أن الله سبحانه حرره من عنصر الثمنية ، فلم يجعل – فى الصحيح – حدا لأقله ولا أكثره ، وجعل للمطلقة قبل الدخول والخلوة الصحيحة نصف المسمى أو المتعة ، ولو كان عوضا حقا ما وجب لها شئ لعدم الانتفاع بها أصلا .
ثم أن يكون الصداق عطية مفروضة فهذا هو الأنسب لخطر عقد النكاح وعظم شأنه ، وتكريم الآدمى وصيانته عن أن يكون – هو أو جزء منه – محلا للتعاقد ، وصيانة المرأة أن تكون عرضا أو نافجة " ( ) كما هو الحال فى الجاهلية ( ) .
حكم الصداق :
لا يختلف أهل العلم أن الصداق واجب على الزوج ( ) لزوجته وقد ثبت وجوبه بالكتاب والسنة والإجماع .
أما الكتاب : فقوله تعالى " وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مرئيا " ( ) .
وقال سبحانه " فما استمتعتم به منهن فأتوهن أجورهن فريضة " ( ) .
وقال " فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف " ( ) فهذه كلها أوامر من الله سبحانه وتعالى بإيتاء النساء مهورهن .
وآية واحدة تكفى للوجوب ، لكن الله سبحانه عدد الأمر تأكيدا ، ونوع الوصف أو الحال تعظيما وتشريفا ، وحتى لا تكون هناك ثمة حالة لا تأخذ فيها الزوجة صداقا .
ومن السنة : أحاديث كثيرة جمع منها ابن تيمية " الجد " فى منتفى الأخبار خمسة عشر حديثا ( ) ومنها : -
ما روى الشيخان عن سهل بن سعد أن النبى  جاءته امرأة ، فقالت : يا رسول الله وهبت نفسى لك ، فقامت قياما طويلا ، فقام رجل فقال : يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة ، فقال رسول الله  : هل عندك من شئ تصدقها إياه ؟ فقال : ما عندى إلا إزارى هذا ، فقال النبى  : إن أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك فالتمس – اى اطلب – شيئا فقال لا أجد ، فقال التمس ولو خاتما حديد ، فالتمس فلم يجد شيئا ، فقال له النبى  هل معك من القرآن شئ قال نعم سورة كذا وسورة كذا ، لسور يسميها ، فقال له النبى  قد زوجتكها بما معك من القرآن .
والوجه فيه :
أن النبى  طلب من الرجل أن يصدقها شيئا ولو قليلا ، حتى أنه أمره أن يلتمس ولو خاتما من حديد ، ولولا أن الصداق واجب ما أمره ، ولما لم يجد عنده شيئا زوجها له على منفعة تعليمها ما يحفظ من القرآن .
وإلى جوار الأحاديث الكثيرة التى وردت فى المهر لم يثبت عن النبى  تركه فى أى زواج ، فلما استمر على اعتبار فعله دل على أنه واجب ( ) وعلى وجوب المهر أجمع العلماء من الصحابة وغيرهم ( ) .
طبيعة الصداق ( ) :
لا يختلف العلماء أن الصداق واجب للمرأة وجوبا أكيدا ولكن هل هو أثر من آثار النكاح أم شرط فيه ؟
عامة العلماء : يرون الصداق أثراً من آثار الزواج وليس شرطا فيه ( ) حتى لو تزوجها على ما لا يصح أن يكون صداقا أو على ألا صداق لها صح الزواج ولزمه مهر المثل .
واستدل الجمهور على ذلك بقول النبى  " لا نكاح إلا بولى وشاهدى عدل "
والوجه فيه : أن النبى  نفى صحة النكاح بدون الولى والشاهدين ، فإن وجدوا صح النكاح ، أو يقال : انه أوقف الصحة على الأمور المذكورة ، ولا ذكر فيها للمهر فلا يكون المهر شرطا فيه ، وقالوا : إن نفى المهر أو فساد المسمى كعدم المهر ، وقد أجاز الشرع نكاح التفويض ، وهو الذى لم يسم فيه مهرا ، قال تعالى " لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن " ( ) فالآية تفيد نصا صحة الطلاق قبل الدخول والخلوة، وأنه عند عدم الفرض تجب المتعة ، وتفيد بطريق الاقتضاء صحة الزواج دون تسمية مهر ، إذ لا طلاق إلا فى زواج صحيح ( ) وقد روى أن بروع بنت واشق تزوجت بغير مهر ، فحكم لها رسول الله  بمثل مهر نسائها ( ) كما أن أبا طلحة الأنصارى تزوج أم سليم على غير مهر فأمضى رسول الله  نكاحه( ).
ومشهور مذهب الإمام مالك : أن الصداق شرط لصحة النكاح ( ) وهو قول أبى عبيد من الحنابلة وعلى ابن أبى هريرة من الشافعية ( ) وقول ضعيف عند الأباضية ( ) ويحتمل أن يكون مذهب أهل الظاهر ( ) .
ومستند هذا القول كما بينه ابن العربى " أن الله سبحانه جعل الصداق عوضا ، وأجراه مجرى سائر أعواض المعاملات المتقابلات بدليل قوله تعالى "فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة " فسماه أجرا فوجب أن يخرج به عن حكم النحل إلى حكم المعاوضات " ( ) .
والمعنى : أنه مادام الصداق ما يلزم على سبيل العوض فلا يصح العقد بإسقاطه ، لأنه شرط فيه بدليل نهى النبى  عن نكاح الشغار " لأنه نكاح بلا مهر .
كما أن سمة العوض تحتم أن يكون الصداق صحيحا – أى مما يحل قبضه – فإن كان فاسدا فسد النكاح بفساده كما يفسد البيع بفساد الثمن( ).
والحقيقة أن حجج هذا المذهب ضعيفة .
1- لأن المهر ليس عوضا فى الحقيقة ، إذ لو كان كذلك لما وجب بالطلاق قبل الدخول أو الموت قبله شئ ، وقد حكم الله فى الطلاق قبل الدخول بنصف المسمى أو المتعة ، وقيس الموت عليه.
2- أما نكاح الشغار فقد بطل – على رأى من يرى ذلك – بالتشريك بأن أبدل بضعا ببضع ، وقد نهى النبى  عن ذلك قصدا فبطل لهذا السبب ( )
3- والقياس على البيع لا يصح ، لأن البيع يبطل بترك الثمن ، والنكاح لا يبطل بترك المهر ، بدليل صحة نكاح التفويض ، فلم يبطل بفساده( ).
وعلى ذلك فالصداق أثر من آثار عقد الزواج ، تؤثر إرادة العاقدين فى تعجيله وتأجيله ، وقلته وكثرته ، ونوعه ، لكنها لا تؤثر فى إيجاده فهو يوجد بالعقد ( ) سواء ذكره المتعاقدان ، أو سكتا عليه ، أو نفياه . أو سميا حلالا أو حراما .
غاية ما هنالك أنهما إذا تراضيا على ما يصح أن يكون مهرا صح ولزم ما تم عليه التراضى ، وفى الأحوال الأخرى يجب مهر المثل .
المهر فى النكاح الفاسد والوطء بشبهة
إذا فسد النكاح لفقده شرطا من شروط الصحة وجب على الرجل والمراة أن يفترقا بأنفسهما ، وإلا فرق بينهما الحاكم ، فإن كان ذلك قبل الدخول لم يلزم الرجل شئ لأن العقد الفاسد لا يرتب شيئا بذاته .
وإن حصل فيه دخول رتب جملة من الآثار منها وجوب المهر على الرجل بالدخول ، ولكن ماذا يجب لها ؟
لا خلاف بين العلماء أنه إذا لم يكن قد سمى لها ، أو سمى ما لا يحل مهرا أن لها مهر مثلها ، لأن موجبه هو الوطء ، والوطء يوجب مهر المثل ( ) ، كذلك الوطء بشبهة يوجب مهر المثل لخلوه عن التسمية.
وإن كان قد سمى لها شيئا .
فالمالكية ورواية عن الإمام أحمد يقولون : لها المسمى إن كان حلالا ،لأن فى بعض ألفاظ حديث عائشة " ولها الذى أعطاها بما أصاب منها " ( ) .
وجمهور الحنفية : على أن لها الأقل من المسمى أو مهر المثل لأنها فى المسمى رضيت بالحط ، وفى مهر المثل لأن التسمية فاسدة بفساد العقد ( ) وبه قال بعض الشافعية ( ) .
والإمام زفر والشافعية والحنابلة - على المختار عندهم - يقولون بمهر المثل بالغا ما بلغ ، لأن العقد ليس بموجب شيئا ، فتفسد التسمية ، وإذا فسدت صرنا إلى مهر المثل ( ) .
وفى رأى الإمام ابن حزم : أن النكاح الفاسد لا يجب فيه شئ ، فلا توارث ولا نفقة ولا صداق ولا عدة ، حاشا التى تزوجت بغير إذن وليها جاهلة فوطئها – الزوج – فإن كان سمى لها مهرا فلها الذى سمى لها ، وإن كان لم يسم لها مهرا فلها عليه مهر مثلها ، فإن لم يكن وطئها فلا شئ لها ……
وإنما وجب المسمى بالحديث " فالمهر لها بما أصاب منها " وصح أيضا " فلها مهرها بما أصاب منها " .
فقوله  " فالمهر لها " تعريف بالألف واللام" وقوله عليه الصلاة والسلام " فلها مهرها " بإضافة المهر إليها ، فهذان اللفظان يوجبان لها المهر المعهود المسمى ، ومهرا يكون لها إن لم يكن هنا لك مهر مسمى ، وهو مهر مثلها " ( )
وفى ضوء ذلك فإنه :
1- إذا صحت الرواية " فلها مهرها " أو " فالمهر لها " يكون القول بلزوم المسمى هو الأرجح ، لأن له سندا من السنة ، والمنقول يقدم على المعقول لا شك .
2- وعلى فرض أنها لم تصح فاعتبار المسمى فى رأيى أوجه ، لأن النكاح الفاسد له حكم الصحيح قبل فسخه ، لأنهما لو كانا يعلمان فساده ودخلا فيه كانا زانيين والزنا لا يوجب مهرا ، مسمى ، أو مثلا ، فإذا قدرناه كالصحيح وجب فى الصداق ما يجب فى الصحيح .
قال فى الإنصاف " النكاح مع فساده منعقد ، ويترتب عليه أكثر أحكام الصحيح : من وقوع الطلاق ولزوم عدة الوفاة بعد الموت ، والاعتداد منه بعد المفارقة فى الحياة ، ووجوب المهر فيه بالعقد ، وتقرره بالخلوة ، فلذلك لزم المهر المسمى فيه كالصحيح … يوضحه : أن ضمان المهر فى النكاح الفاسد ضمان عقد كضمانه فى الصحيح " ( ) .
مقدار الصداق :
قلنا إن الأحاديث الواردة فى الصداق كثيرة ، وأصحها الحديث المتفق عليه ( ) الذى رويناه قبلا ، وفيه قال النبى  " التمس ولو خاتما من حديد " .
وهو يثبت وجوب الصداق من جانب ويشير إلى تيسير المهور من جانب آخر ، وهذا المعنى الثانى تأيد بأكثر من رواية ومن ذلك :
ما روى أحمد بسنده عن عائشة رضى الله عنها أن النبى  قال " إن أعظم النكاح أيسره مؤنة ( ) وما روى أبو داود وغيره عن عقبة بن عامر أن النبى  قال " خير الصداق أيسره " ( ) وفيما روى مسلم وغيره عن عائشة رضى الله عنها قالت " ما تزوج النبى  أحدا من نسائه ، ولا زوج واحدة من بناته على أكثر من اثنتى عشرة أوقية ونشا " قالت : عائشة : أتدرون ما النش ؟ النش نصف أوقية عشرون درهما ، يعنى خمسمائة درهم ، لأن الأوقية أربعون درهما " ( ) .
وعن عمر  أنه خطب الناس فقال " ألا لا تغالوا صدقة النساء ، فإنها لو كانت مكرمة فى الدنيا ، أو تقوى عند الله ، لكان أولاكم بها نبى الله  ، ما علمت رسول الله  نكح شيئا من نسائه ، ولا أنكح شيئا من بناته على أكثر من ثنتى عشرة أوقية " ( ) .
وهذه الروايات تفيد لا شك التيسير فى المهور ، وأنه حكم مستحب على أقل تقدير ، وأن المغالاة فى المهور نهج غير مسنون ، وهو يمثل قطعا أحد أهم معوقات الزواج ( ) فى أيامنا ، خاصة إذا ضمت إليه أزمات الإسكان ونفقات التجهيز ، والمباهاة فى الأعراس ، وإننا لنضم صوتنا إلى أساتذتنا فنهيب بأولياء الأمور أن يتبصروا الواقع فليس فى عنوسة البنات مصلحة ، كما نهيب بالإعلام مقروءا ومرئيا ألا يثير حفيظة المكدودين بأفراح القادرين .
وبعيدا عن استحباب التيسير فإن من الفقهاء كما رأينا من رأى المهر عوضا عن منفعة البضع فجرهم ذلك إلى الاجتهاد فى تحديد أقل ما يستباح به البضع ، وهو عضو من أعضاء الجسد لا جدال فى ذلك .
أقصى المهر
ولم يكن بوسع أحد أن يجعل لأقصى المهر حدا لما ورد فى القرآن الكريم من ذكر " القنطار " إشارة إلى المال الكثير قال تعالى " وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا ( ) " فذكر القنطار على سبيل المبالغة لأنه لا يسترجع إذا كان صداقا " ( ) .
وفى إحدى روايات حديث عمر فى صداق النبى  أنه قال " فما بلغنى أن أحدا ساق – دفع – أكثر مما ساقه رسول الله  إلا جعلت الفضل فى بيت المال " فاعترضته امرأة من نساء قريش فقالت : يعطينا الله وتمنعنا ؟ كتاب الله أحق أن يتبع ، قال الله تعالى " وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا " فرجع عمر وقال : "كل أحد يصنع بماله ما شاء ، فكل الناس أفقه من عمر حتى امرأة"( ) وعلى ذلك أجمع الفقهاء أن أقصى المهر لا حد له ( ).
ويكشف بعض أساتذتنا عن وضاءة الحكمة التشريعية ألا يكون للمهر حد أعلى أنها توافق متغيرات الأحوال والأزمان والأشخاص ( ) وهو أمر تشهد له تقلبات العملات ، وتغير الأسواق ، والأوضاع الاقتصادية من حين إلى حين ومن بلد إلى بلد .
الحد الأدنى للمهر :
قلنا إن من الفقهاء من رأى المهر عوضا للمرأة ، وعلى رأس هؤلاء الحنفية والمالكية ( ) ، وقد حدا بهم قولهم أن ينظروا أقل عوض يستباح به البضع ، وأعانهم على هذا ظاهر بعض الآيات القرآنية ، وروايات تمسكوا بها، وقياس صح عندهم .
أما ظاهر القرآن فمن قوله تعالى " وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم " ( ) فقالوا : لابد من مهر يدخل تحت مسمى المال المحترم ، والمحترم من المال هو ما وجب فيه القطع ، ولا قطع فى أقل من عشرة دراهم عند الحنفية وربع دينار أو ثلاثة دراهم عند المالكية .
ومنه أيضا " ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات " ( ).
قالوا : إن الله شرط عدم الطول فى نكاح الإماء ، فدل على أن الطول لا يجده كل الناس ، إذا لو كان الفلس والدانق – عملات صغيرة كالقرش والمليم – ونحوهما طولا لما عدمه أحد ، ولأن الطول المال ، ولا يقع اسم المال على أقل من ثلاثة دراهم ( ) فى رأى مالك .
ويستندون إلى رواية تقول " لا مهر أقل من عشرة دراهم " ( ) ويقيسون أقل المهر على أقل ما يجب بسرقته قطع اليد ( ) .
وفى النكاح استباحة البضع وهو عضو أيضا ، فلزم اعتبار التقدير الشرعى فى العضو ( ) .
وجمهور الفقهاء : لا يرون أن للمهر حداً أدنى كما أن أقصاه ليس له حد( ) ، ومتمسكهم فى ذلك القرآن والسنة .
أما القرآن فقوله تعالى " أن تبتغوا بأموالكم " ( ) وهو عام فى قليل المال وكثيره .
وقوله تعالى " وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم " ( ) .
فالفريضة عام فى كل ما يفرض أى يجب صداقاً ، ولا قيد فيه إلا أن يكون له نصف ، فكل ما كان له نصف بمقتضى الآية يصح صداقاً.
ومن السنة أحاديث كثيرة منها :
قول النبى  " التمس ولو خاتما من حديد " .
يقول ابن حزم " يضحك الثكلى ويسئ الظن بقائله – أن يقال خاتم من حديث يساوى ثلاثة أو عشرة دراهم – ولا خلقه الله عز وجل قط فى العالم أن تكون حلقة من حديد وزنها درهمان تساوى ما ذكروا ولاسيما فى المدينة ، وقد علم كل ذى حظ من التمييز أن مرورهم ومساحيقهم لحفير الأرض ، وسككهم للحرث ، ومزابرهم للزرجون ، ودروعهم ورماحهم كل ذلك من حديد " ( ).
ومنها أيضاً : ما روى أن امرأة تزوجت على نعلين ، فقال لها رسول الله  " أرضيت من نفسك ومالك بها تين النعلين ؟ قالت نعم ، فأجازه . ( )
ولهم من المعقول : أن ما يقابل البضع من البدل لا يتقدر فى الشرع كالخلع . ( )
وفى رأيى : أن اعتبار الصداق عوضاً فى النكاح محل مؤاخذة وقد تقدم، والحديث الذى تمسك به الحنفية ضعيف ( ) وعلى فرض قبوله فإنه معارض بالحديث المتفق على صحته " التمس ولو خاتماً من حديد " ( ) ودلالته كما قال ابن حزم تنفى العشرة وأقل منها ، والعمل بالأقوى يقدم على العمل بالأضعف .
وإناطة الطول بملك ثلاثة دراهم محل نظر لأن الطول مختلف فى تفسيره ( ) ، وإن فسرناه بالسعة والغنى فمالك الثلاثة بل العشرة لا يسمى غنياً موسراً .
وقياس النكاح على السرقة ، والبضع على اليد مفارق من أكثر من وجه، ويكفى أن يقال السرقة جناية والنكاح نعمة ( ) .
وعلى ذلك يكون قول الجمهور هو الراجح هنا ، بل إن الحكمة تقتضيه( ) ، لأن كون الزواج مبنيا على الرضا يرجح إتاحة الفرصة للزوجين أو الأهلين أن يبلغوا بالرضا أقصى حده .
ما يصح أن يكون مهراً وما لا يصح :
تلونا فيما سبق قول الله تعالى " وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم " وقوله " وآتيتم إحداهن قنطاراً " وروينا أحاديث كثيرة منها " التمس ولو خاتما من حديد " وما روى – وإن كان ضعيفا " لا مهر أقل من عشرة دراهم " .
ولا شك أن كل ما يحاز ويحرز ويمكن الانتفاع به شرعا يسمى مالا باتفاق ( )، ومثاله الخاتم والدراهم ونحوهما من كل نقد وعرض ، ولا خلاف أن كل ما حرم الشارع الانتفاع به ( ) لا يسمى مالا كالخمر والخنزير ونحوهما من المحرمات ، وفى حكمها " المعدوم والمجهول ومالا يقدر على تسليمه ، ومالا يتمول عادة "( ) وثمة نوع ثالث لا هو مما يحاز ويحرز بعينه ، ولا هو من المحرمات ، ومثاله الشهير المنافع .
ولأن الله سبحانه وتعالى شرط الابتغاء بالمال ، فقد خرج عن أن يصح مهراً مالا يحل الانتفاع به شرعا كالمحرمات من الأشياء ، واعتبر كل ما يحاز ويحرز ويمكن الانتفاع به شرعا مهرا صحيحا باتفاق( ) غاية ما هنالك أن من شرطوا فى المهر حداً أدنى أوجبوا ألا يقل المال عن الحد المعتبر ، وقد بينا وجه ضعفه .
أما المنافع ففى صحة اعتبارها مهراً ثلاثة أقوال :
أولها : أن المنافع لا تصلح مهراً مطلقا ، قال الدسوقى " القول بالمنع قول مالك وهو المعتمد "( )، ونسبه ابن العربى والقرطبى إلى ابن القاسم ( )، وقال ابن رشد " والمشهور عن مالك الكراهة "( ) وكيف كان النقل فالثابت أن فى مذهب مالك قولا بالمنع من اعتبار المنفعة صداقا .
والثانى : أن المنفعة تجوز مهراً بشرطين .
أولهما : أن تكون لها قيمة مالية ( ).
وثانيهما : أن لا يكون فى استيفائها امتهانا للزوج ( ).
هذا مذهب الحنفية ، ورواية عن أحمد.
والثالث : أن كل منفعة معلومة يجوز أخذ العوض عنها تجوز صداقا
هذا قول جمهور العلماء ( )، وهو الراجح فقها . لأن الله سبحانه وتعالى ذكر فى صداق موسى عليه السلام شرط حميه " إنى أريد أن أنكحك إحدى ابنتى هاتين على أن تأجرنى ثمانى حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك "( ) فأجاز أن تكون خدمة الحر – غير الرقيق – صداقا ( ).
وفى السنة أن النبى  قال للملتمس ولم يجد شيئا " زوجتكها على ما معك من القرآن " فجعل صداقها أن يعلمها ما يحفظ من كتاب الله ويقاس على تحفيظ القرآن كل علم نافع ( ).
ومن المعقول : أن الله سبحانه أوجب الابتغاء بالمال والمنافع أموال ، لأنها جعلت لإقامة المصالح ، بل هى أساس التقوم فى الأعيان ، فهى مبعث الرغبات ودافع التعاقدات ، فجاز أن تكون مهراً ( ).
والتفرقة بين المنافع لا تسلم من الاعتراض ، فالنص القرآنى أجاز خدمة الحر صداقا ، والسنة المشرفة أجازت التعليم صداقا وليس بعد قول الله قول .
وعلى أساس الراجح فإن ما يصح أن يكون مهراً هو ما يصح التزامه شرعا من مال أو منفعة ، وهذا يقتضى.
1- أن يكون معلوماً علما ليس فيه جهالة فاحشة فإن كانت فيه جهالة يسيرة فإنها تغتفر ، لأن مبنى النكاح على المكارمة ، والحد الفاصل بين الجهالة الفاحشة واليسيرة هو أن الجهالة الفاحشة ما كان المقدار أو النوع فيها مجهولا ، كأن يقول : تزوجتك على حيوان ، أو على عمل ، أو على جنيهات ، والجهالة اليسيرة ما كان النوع والمقدار فيها معلوما ، ولكن الوصف غير معلوم كقوله تزوجتك على عشرين أردبا من القمح ولم يصفه .
وعند جهالة الوصف يؤخذ بالوسط من النوع أو قيمته ( ).
2- كما تقتضى صحة الالتزام شرعا أن يكون الواجب مقدوراً على تسليمه ، فإن كان مما لا يقدر على تسليمه فالتسمية فاسدة .
3- وأخيرا يجب أن يكون متقوما فى رأى أكثر الفقهاء ، فمن تزوج امرأة وجعل مهرها ألا يتزوج عليها فتسميته فاسدة لأنها لا تقوم بمال ، وقد شرط الله أن يكون الابتغاء بالمال ، وفى رأى البعض يجوز أن يكون مهرها منفعة مقصودة يصح التزامها شرعا وإن لم تقوم بمال ، كشرط أن لا يتزوج عليها ، أو أن لا ينقلها من بلدها ( ).
أثر تسمية مالا يصلح مهراً :
إذا سمى المتعاقدان مالا يصلح أن يكون مهراً وقعت التسمية فاسدة ، وإذا فسدت وجب على رأى جمهور الفقهاء اعتبار مهر المثل ، ولا أثر لفساد التسمية على العقد ، لأن المهر ليس شرطا فيه ( ) – كما بينا – والنكاح لا تفسده الشروط الباطلة.
ويستثنى من ذلك صورة واحدة ، وهى نكاح الشغار :
وهو نكاح جاهلى صورته أن يزوج الرجل ابنته أو أخته فى نظير أن يتزوج هو ابنة الآخر أو أخته من غير صداق فى الحالتين .
وقد صح عن النبى  أنه نهى عن هذا النكاح ( ) ولكن هل نهيه  عنه لذاته ، أو لما فيه من إجحاف بالمرأة وظلم لها لخلوه من التسمية ؟( )
جمهور العلماء : يرون أن النهى عن نكاح الشغار لذاته .
ويرى الإمام مالك : أن النهى متوجه إلى الصداق ، غير أن فساد التسمية عنده موجب لفساد النكاح .
ويرى الحنفية وبعض الفقهاء : أن النهى متوجه إلى الصداق فتفسد التسمية ، ولكن فساد التسمية لا يوجب فساد النكاح ، لأن غايته أن يدخل فيه شرطا فاسداً ، والنكاح لا تبطله الشروط الفاسدة ، ثم إن فساده لخلوه من العوض ، وعندهم يوجبون فيه مهر المثل فيرتفع ما فيه من فساد ، فلا يكون شغاراً .
والراجح :
ما ذهب إليه الجمهور للسنة الصحيحة التى تنهى عن هذا الفعل القبيح ، الذى تتخذ فيه المرأة سلعة ، وقد أرادها الإسلام مكرمة عزيزة ، فيبطل لما يؤدى إليه من امتهان لكرامتها ، على أنة كما يقول الأمام الشافعى " عقد فيه تمويه، ومعناه : انه ملك الزوج بضع بنته بالنكاح ، ثم ارتجعه منه بأن جعله ملكا لبنت الزوج بالصداق ، وهذا موجب لفساد النكاح " ( ).
أنواع الصداق :
يتنوع الصداق بتنوع النظرة إليه ، فإن نظرنا إلى المسمى فى العقد وهو صحيح ، وغير المسمى فيه ، أو سمى وكان مما لا يصح التزامه شرعا ، فالصداق: مسمى ، وبدل المسمى ، ويسمى صداق المثل .
وإن نظرنا إلى توقيته فالصداق عاجل وآجل ، وقد يحدث أن يتفق المتعاقدان على صداق ، ويظهران عند التسمية صداقا أخر ، والصداق على ذلك نوعان صداق سر ، وصداق ظاهر أو علانية ونعرض لكل من هذه الأنواع أو الأحوال بإيجاز .
أولا : صداق المسمى وصداق المثل :( )
1- المسمى من الصداق هو ما يتراضى عليه المتعاقدان ، وينصان عليه فى العقد ، أو يتراضيان عليه بعده بالتراضى .
ويلتحق به ما يضيفه الزوج إلى المهر وتقبله الزوجة ، إذا كانت الإضافة بقصد زيادة المهر ، وحصلت أثناء قيام الزوجية ، والزوج أهلا للتبرع، كما يلحق به كل ما جرى العرف بتقديمه من الزوج لزوجته ، إذ المعروف بمنزلة المشروط ، فيلحق بالمهر ، إلا إذا لوحظ عند التسمية اعتباره أو نفيه .
وشرط وجوب المسمى : صحة العقد والتسمية ، فإن فسدت التسمية سقط المسمى اتفاقا ، أما إن فسد العقد ففى سقوط المسمى خلاف ، وقد رجحت عدم سقوطه ( ).
2- صداق المثل :
ويقصد به ما يدفع لنظائر المرأة من نساء أهلها أو أهل بلدها ، ونظائرها هن المماثلات لها فيما يعتد به من صفات الزوجة . كالدين والأدب والعقل والتعليم والجمال والسن والبكارة والثيوبة ، وكونها ولوداً أو عقيما ، والبلد الذى تعيش فيه ونحو ذلك . مع النظر إلى الزوج فى تلك المماثلة ( ).
الحالات التى يجب فيها صداق المثل :
1- إذا خلا عقد الزواج من النص على صداق .
2- إذا نص فى العقد صراحة على نفى الصداق كلية ( ).

3- إذا فسدت التسمية ، حيث سمى فى العقد ما لا يصح أن يكون صداقا لكونه مما لا يحل التزامه شرعا ( ).
4- إذا لم تثبت التسمية بالبينة واختلف الزوجان فادعى الزوج أقل من صداق المثل ، وادعت الزوجة أكثر منه ( ).
5- إذا حصل الزواج فى مرض الموت ، وسمى صداقا أكثر من صداق المثل ، وما زاد على ذلك يأخذ حكم الوصية ، فلا ينفذ إلا بشروطها ( )
ثانيا : المهر المعجل والمهر المؤجل :
التعجيل والتأجيل حالان فى الصداق المسمى ، وليسا نوعين من الصداق فى الحقيقة .
وكقاعدة فإن الصداق يجوز معجلا ومؤجلا ، ويجوز بعضه معجلا وبعضه مؤجلا ، لأنه عوض فى معاوضة فجاز ذلك فيه كالثمن . ولم أقف على من خالف فى جواز الاتفاق على التأجيل إلا ابن حزم الذى منع منه وعده شرطا باطلا يبطل النكاح ، قال " فمن شرط ألا يؤتيها صداقها أو بعضه مدة ما ، فقد اشترط خلاف ما أمر الله به تعالى فى القرآن " ( ) وكره الإمام مالك التأجيل ومنعه للمدة الطويلة كخمسين سنة ، لأنه يتحايل بذلك على إسقاطه بالكلية ( ) وعلى قول الجمهور إذا اتفقا على التأجيل دون ذكر مدة معينة فما الحكم ؟
يرى الإمام مالك والشافعى وبعض الحنابلة : أن جهالة الأجل تفسد المسمى ، لأنه عوض مجهول المحل ففسد كالثمن فى البيع ، غير أن الشافعى ومن معه من الحنابلة قالوا : بوجوب مهر المثل ، أما مالك فقال : يفسد العقد قبل الدخول ، ويثبت بعده بالأكثر من المسمى وصداق المثل ، ويسقط شرط التأجيل للأجل المجهول .
وقال بعض الحنفية وجمع من التابعين والفقهاء : يبطل الأجل ويكون حالا.
وقال أحمد والنخعى والشعبى وبعض الحنفية : يجوز التأجيل ويقع ذلك على وقت وقوع الفرقة بالطلاق أو الموت .
وقال الأوزاعى : يحل إلى سنة بعد دخوله بها .
وقيل : لا يحل حتى يطلق أو يخرج من مصرها أو يتزوج عليها ، وقد علل ابن قدامة لقول أحمد ومن معه بأن " المطلق يحمل على العرف ، والعادة فى الصداق الآجل ترك المطالبة إلى حين الفرقة ، فحمل عليه ، فيصير حينئذ معلوما بذلك " ( ) .
وإن سمى صداقا مطلقا عن التأجيل والتعجيل فالأصل أنه يقع حالا ، إلا أن يكون هناك عرف فيحمل الإطلاق عليه ، لأن المعروف عرفا كالمشروط شرطا( ) .
أهمية حال الصداق من التعجيل والتأجيل
تظهر أهمية التأجيل والتعجيل فى مدى حق الزوجة منع نفسها حتى تتسلم صداقها .
1- فإن كان الصداق معجلا : فلها منع نفسها حتى تتسلم صداقها بإجماع
الفقهاء ( ) ولا تعد بذلك مخلة بحق الزوج فى المتابعة ، أو عاصية له لأن امتناعها بحق شرعى ….. ويأخذ حكم المعجل كله تعجيل بعضه فقط ، فلها أن تمتنع حتى تقبض معجل صداقها .
واختلف الفقهاء فى حقها فى الامتناع إن مكنته من نفسها قبل القبض . هل يسقط حقها فى الامتناع بعد تمكينها له أم لا ؟
أكثر الفقهاء يقولون : بسقوط حقها فى الامتناع ، لأنها أسقطته برضاها بتمكينه من نفسها ( ) ، وقال أبو حنيفة وبعض الحنابلة وبعض الشافعية : إن لها الامتناع وإن مكنته لأن قبض عاجل الصداق حقها ، ورضاها بإسقاطه فى الماضى لا يترتب عليه إسقاط حقها فى المستقبل ، قياسا على ما لو رضيت بمعاشرة زوجها مع عدم الإنفاق مدة من الزمن ( ) .
ويبدو لى أن رأى أبى حنيفة أوجه ، إذ من المتصور أن تمكينها انخداعا بوعده ، أو محاولة منها لحمله على الوفاء ، فإذا بانت مماطلته كان من مصلحتها منع نفسها حتى تقبض معجل صداقها . ( )
وإن أصر الزوج على عدم دفع المعجل من الصداق ، وامتنع عنه لإعساره ، فهل للزوجة إن تطلب التفريق لعدم دفع المعجل ؟
جمهور العلماء : يقولون لها كذلك .
والحنفية : لا يرون لها الحق فى طلب الفرقة ، وإن سلموا لها حقها فى الامتناع عن تسليم نفسها ، وعدم إلزامها بطاعته ومراعاة إذنه ( ) .
ورأى الحنفية كما ترى ليس عمليا ن وغايته أن تكون الزوجة معلقة ، مما يغريها بالعناد ، ويغرى الزوج بالمماطلة لذا فمن دواعى الاستقرار والصيانة العدول عنه .
وإن كانت المماطلة بعد الدخول فالجمهور على عدم حقها فى طلب الفرقة لعدم دفع المعجل . وقال بعض الفقهاء لها ذلك ( ) .
والحق فى ذلك مع المانعين حفاظا على زوجية قامت بالعقد والفعل ، فمن المصلحة مراعاة بقائها .
2- وإن كان الصداق مؤجلا فليس لها منع نفسها قبل قبضه ، لأن رضاها بالتأجيل رضا بتسليم نفسها قبل قبضه كالثمن المؤجل فى البيع( ) وقال أبو يوسف من الحنفية لها أن تمنع نفسها ، لأن من حكم المهر أن يتقدم تسليمه بكل حال على تسليم النفس ، وقبول الزوج التأجيل رضا بتأخير حقه فى القبض( ).
والراجح هو قول الجمهور ، لأن التعجيل والتأجيل حقها هى فلما رضيت بالتأجيل أسقطت حقها ، فلم يكن لامتناعها سبب ( ) .
ثالثا : مهر السر ومهر العلانية
مهر السر ومهر العلانية حالان فى الصداق المسمى ، وصورته - التى كثيرا ما تقع - أن يتفق المتعاقدان على صداق فى السر قدره كذا ، ويظهران فى التسمية قدرا فوقه أو دونه ، فأيهما الذى يلزم ، صداق السر المقصود ، أم صداق العلانية المسمى ؟
أولا : نستبعد من الحكم الصورة التى ذكرها الحنفية وهى حالة ما إذا اتفقا فى السر على قدر أو جنس ، وأعلنا غيره ، وقالا عند العقد إن الزيادة او الجنس المخالف للرياء والسمعة ، لأنه فرض مستبعد .
ثانيا : يبقى فرض أن يكتما ما اتفقا عليه ، ويعلنان عند العقد قدرا أو جنسا مخالفا .
وفيه حكى العلماء قولان :
أولهما : مذهب جمهور العلماء : أن المهر مهر العلانية لأنه الذى ثبت به النكاح ، إلا أن يكون قد أشهد عليها وعلى وليها الذى زوجها منه أن المهر هو الذى فى السر ، والعلانية سمعة ، فحينئذ المهر ما سمى لها فى السر ، لأنهما فى الإشهاد أظهرا أن مرادهما الهزل بالزيادة على مهر السر ، والهزل ببعض المسمى مانع من الوجوب ( ).
والثانى : والأصل عند المالكية أن الواجب هو صداق السر لأنه الخالى عن الإدعاء ( ) .
ولكن إن تنازع الزوجان – ولم تكن هناك بينة تشهد أن الصداق المعلن لا أصل له – وادعت المرأة أنهما رجعا عن صداق السر ، وأخذا بالصداق المعلن وخالفها الزوج كان لها أن تحلفه على مقاله ، فإن حلف عمل بصداق السر حسب قوله ، وإن نكل عن اليمين عمل بالصداق المعلن بعد حلفها على دعواها( ).
ثالثا : وذكر العلماء فرضا ثالثا : مقتضاه أنهما عقدا عقدين عقدا فى السر وسميا فيه مهرا ما ، وعقدا فى العلن وسميا فيه مهرا مخالفا فى قدره أو جنسه للمهر الأول .
وللعلماء فيه قولان ( ) : أحدهما : الواجب المهر الأول لأنه الذى انعقد به النكاح ، ولأن العلانية ليس بعقد ، ولا يتعلق به وجوب شئ .
والثانى : أن الواجب مهر العلانية ، لأن العقد الثانى وإن كان لغوا فقد وجد منه بذل الزائد على مهر السر فيجب ذلك عليه ، كما لو زادها على صداقها.
قال ابن قدامة " ومقتضى هذا التعليل – للقول الأخير – انه إذا كان مهر السر أكثر من العلانية ، وجب المهر السر ، لأنه وجب عليه بعقده ولم تسقطه العلانية فبقى وجوبه " ( ).
وغالبا ما يكون المهر المعلن مثبتا بوثيقة الزواج الرسمية وعندئذ تثور مشكلة إثبات ما يخالف الكتابة ، والقوانين فى ذلك مختلفة .
فالقانون السورى مثلا يقرر أن " لمن يدعى التواطؤ فى الصورية فى المهر المسمى إثبات ذلك أصولا ، فإذا ثبت أحدهما حدد القاضى مهر المثل ، ما لم يثبت المهر المسمى الحقيقى " ( م 4 ) و " يعتبر كل دين يرد فى وثائق الزواج أو الطلاق من الديون الثابتة بالكتابة ، ومشمولا بالفقرة الأولى من المادة 468 من قانون أصول المحاكمات الصادر بالمرسوم التشريعى رقم 84 لعام1952 " ( م 5 ) .
والقانون الأردنى يقضى بنحو ذلك فى المادة (59) التى تقرر أنه " عند اختلاف الزوجين فى المهر الذى جرى عليه العقد لا تسمع الدعوى إذا خالفت وثيقة العقد المعتبرة ، ما لم يكن هناك سند كتابى يتضمن اتفاقهما حين الزواج على مهر آخر غير ما ذكر فى الوثيقة " وفى ليبيا المعول عليه عند الاختلاف هو المدون فى وثيقة العقد دون غيره ( ) .
وفى مصر فإن بعض المحاكم قد قضت بأن " ادعاء أن المهر المذكور بوثيقة الزواج هو مهر العلانية ، وأن الواجب هو مهر السر ، هو من قبيل ادعاء الكذب فى الإقرار لا يقبل إلا بدليل كتابى " ( ) .
ويبدو لى أن هذا الحكم جانبه الصواب حيث أخضع مسألة من مسائل الأحوال الشخصية لأحكام الصورية المقررة بالقانون المدنى ، والواجب حيث خلا قانون الأحوال الشخصية من حكم أن يطبق الراجح فى المذهب الحنفى إعمالا للمادة 280 من لائحة أحكام المحاكم الشرعية ، وفى " قضاء الأحوال الشخصية يجوز الإثبات بالبينة لإثبات ما يخالف المكتوب ، وذلك على خلاف الأحكام المدنية – وعليه – فإن كل الحقوق يجوز إثباتها بالبينة ومنها حق المعارض فى التمسك بحقيقة الصداق ، لا بما هو مكتوب بوثيقة الزواج " ( ) وحسب المذهب الحنفى فإن الواجب هو مهر السر إذا كان قد برهن عليه ( ) فإن لم يبرهن فالمهر هو المذكور فى العقد ( ) " هذا إذا كان الجنس واحداً ، وإن اختلف الجنس فإن لم يتفقا على المواضعة – أى الاتفاق على شئ وإعلان غيره – فالمهر هو المسمى فى العقد ، وإن اتفقا عليها انعقد بمهر المثل ، وإن تواضعا فى السر على أن المهر دنانير ثم تعاقدا فى العلانية على أن لا مهر لها فالمهر ما فى السر من الدنانير ، لأنه لم يوجد ما يوجب الإعراض عنها ، وإن تعاقدا على أن تكون الدنانير مهرا لها أو سكتا فى العلانية عن المهر انعقد بمهر المثل .
وإن تعاقدا فى السر على مهر ثم أقرا فى العلانية بأكثر ، فإن اتفقا أو أشهدا أن الزيادة سمعة فالمهر ما ذكر عند العقد فى السر ، وإن لم يشهدا ، فعندهما : المهر هو الأول ، وعنده : هو الثانى ، ويكون جميعه زيادة على الأول لو من خلاف جنسه ، وإلا فالزيادة بقدر ما زاد على الأول ( )
هذا ما قرره ابن عابدين ، ورجح الكمال من الهمام اعتبار المهر مهر العلن ورجح دليله ورواياته ( ) .
والحقيقة كما يقول الشيخ الذهبى " أن هذه المسالة اضطربت فيها النقول ونسبة الأقوال لأئمة الحنفية " ( ) .
ومما يلحق بمشكلة السر والعلانية :
1- الاختلاف فى مقدار المهر بأن يدعى أحد الزوجين أو ورثته أن المسمى قدرا ما ، ويدعى الطرف الأخر دونه أو فوقه ، وهى حالة مخصوصة بعدم ثبوت التسمية بالبينة ، وقد عرضنا لها فى بيان الحالة الرابعة من حالات وجوب مهر المثل .
وقد أخذ القانون المصرى فيها برأى القاضى أبى يوسف مع إدخال تعديل عليه ، وبذلك وردت المادة 19 من القانون 25/1920 ونصها " إذا اختلف الزوجان فى مقدار المهر فالبينة على الزوجة فإن عجزت كان القول للزوج بيمينه إلا إذا ادعى ما لا يصح أن يكون مهرا لمثلها ، وكذلك الحكم عند الاختلاف بين أحد الزوجين وورثة الأخر ، أو بين ورثتهما " .
وتعيب المذكرة الإيضاحية لمشروع القانون العربى الموحد على المادة(19) أنها جعلت البدل عما يدعيه الزوج إذا ادعى ما لا يصح مهرا لمثلها، ما تدعيه الزوجة بالغا ما بلغ ، وترى القضاء به " أمرا مشكلا عندما يكون مهر المثل غير شاهد لها أيضا ، إذ يبقى من المحتمل احتمالا كبيرا أن يكون الزوج صادقا وأن الزوجة تساهلت فى القبول".
وقد وجدت اللجنة أن فى تخريج الكرخى لمذهب أبى حنيفة ومحمد وفى مذهب الشافعية والثورى وغيرهما يحكم بمهر المثل بعد تحالف الزوجين ، ورأت اللجنة أن فى هذا الرأى تعديلا حكيما لرأى أبى يوسف ( ) .
لذلك صيغت المادة (44) – من المشروع - على أساس رأى أبى يوسف مع هذا التعديل. وأهم ما فيها هنا الفقرة (ب) ونصها : " إذا كان ما يدعيه الزوج لا يصلح أن يكون مهرا لأمثالها عرفا لقلته فعندئذ يصار إلى تحكيم مهر المثل . فإذا كان مهر المثل شاهدا للزوجة حكم لها بما تدعى مع يمينها وإن لم يكن مهر المثل شاهدا لها حكم لها بمهر المثل مع يمينها أيضا على نفى ما يدعيه الزوج ".
وقد راعى المقننان الأردنى والسودانى هذا التحفظ الذى أوردته اللجنة التى عنيت بوضع مشروع القانون العربى الموحد ، فأخذا برأى يوسف مع تعديله المقترح من تحكيم مهر المثل ، غير أنهما غضا النظر عن تحليف الزوجة، ولم يقضيا لها بما تدعى ، وأوجبا مهر المثل فى كل حال متى عجزت الزوجة عن البينة وادعى الزوج ما لا يصح أن يكون مهرا لمثلها عرفا " م 58 أردنى ، (م 29/5 ) سودانى "
أما القانون اللبنانى فأخذ بصريح قول أبى يوسف فنص فى المادة (87) على أنه " إذا حصل اختلاف فى المهر المسمى فإن كان الزوج يدعى المهر المتعارف فالقول قوله " ( ) .
ومال القانون الليبى إلى قول الإمام مالك فنص فى مادته العشرين على أنه " إذا اختلف الزوجان فى مقدار المهر أصلا أو قيمة كان المعول عليه ما دون بوثيقة النكاح ، فإذا لم يدون بها شئ تحاكما إلى عرف البلاد " وأخيرا فإن القانون العراقى لم ينص على شئ ، ومن ثم يؤخذ فى العراق بقول أبى حنيفة باعتباره الراجح فى المذهب ما لم ينص على خلافه ( ) .
2- الاختلاف فى أصل التسمية :
وصورتها أن يدعى أحد الزوجين أن العقد قد اقترنت به تسمية صحيحة ويدعى الآخر أنه خلا من التسمية .
ولا شك أنها اليوم صورة نادرة بعد أن اطرد توثيق الزواج فى وثائق رسمية بها خانات مخصصة للمهر ومتعلقاته ، كقدره والمقدم منه والمؤخر وموعد حلوله إلخ .
ولكن تحسبا لأية حالة شاذة يعنى الفقه يبحث هذه المسألة وعلى ما اختاره صاحب مرشد الحيران (م 105) فالحكم :
" إذا اختلف الزوجان فى أصل تسمية المهر فادعى أحدهما تسمية قدر معلوم ، وأنكر الآخر التسمية بالكلية ، وليس للمدعى بينة يحلف منكر التسمية ، فإن نكل ثبت ما ادعاه الآخر ، وإن حلف يقضى بمهر المثل بشرط ألا يزيد على ما ادعته المرأة إن كانت هى المدعية للتسمية ، ولا ينقص عما ادعاه الزوج إن كان هو المدعى لها ..
وإذا كان قد وقع الاختلاف بينهما بعد الطلاق قبل الدخول حقيقة أو حكما تجب لها المتعة " ( ) .
وفى المادة (107) " موت أحد الزوجين كحياتهما فى الحكم أصلا وقدرا ( ) فإذا مات أحدهما ووقع الاختلاف بين ورثته وبين الحى فى أصل المهر – أو فى قدره – يحكم على الوجه المتقدم فى المادة السالفة لورثة الزوج ، ويلزمهم ما يعترفون به ، وإن اختلفوا فى أصل التسمية يقضى بمهر المثل ، وعلى ورثة الزوج إن جحدوا التسمية ، ونكلوا عن اليمين ، وكذلك إذا اتفقوا على عدم التسمية فى العقد ".
وفى المادة (108) " إنما يقضى بجميع مهر المثل للمرأة فى الصور المتقدمة إذا وقع الاختلاف قبل تسليمها نفسها ، فإن وقع الاختلاف بعد التسليم …. وادعى الزوج أو ورثته إيصال شئ من المهر إليها ، وقد جرت عادة أهل البلد بأن المرأة لا تسلم نفسها إلا بعد قبض شئ من مهرها تقر بما وصلها معجلا فإن لم تقر به يقضى عليها بإسقاط قدر ما يتعارف تعجيله لمثلها ، ويعطى لها الباقى منه إن حصل اتفاق على قدر المسمى ، وإلا فإن أنكروا القدر فالقول لمن شهد له مهر المثل ، وبعد موتهما القول فى قدره لورثة الزوج "
وتشير عبارة المادة "107" إلى الأخذ بمذهب الصاحبين ،أما مذهب أبى حنيفة فى حالة الاختلاف بين ورثة كل من الزوجين فهو : أنه عند عجز مدعى التسمية عن الإثبات لا يقضى بشئ ، لأن مهر المثل يقدر بمهر أقرانهما وقد فنوا ظاهرا مع تقادم العهد ، فلا سبيل إلى تقديره ، ولأننا لو أجزنا دعوى الورثة بعد موتهما فى مهر المثل ، لأجزنا دعوى ورثة الورثة ، وهكذا يتسلسل الأمر " ( ) والفتوى على قول الصاحبين ( ) وقيل على قول الإمام ( ) .
وحسب تعليل قول أبى حنيفة فإنه إن لم يتقادم العهد فإن قوله يكون كقولهما ( ) فى القضاء لورثة الزوجة بمهر المثل على ورثة الزوج إن جحدوا التسمية ونكلوا عن اليمين ، أو اتفق الطرفان على عدم التسمية " م 107 من مرشد الحيران "
وإن طال العهد فالعمل فى سماع دعوى الصداق أقرب إلى قول أبى حنيفة ، إذ نهى عن سماع الدعوى فى غير الإرث والوقف بعد خمس عشرة سنة من ثبوت الحق ، إلا أن يكون هناك عذر شرعى ، ولم يكن المدعى عليه – ورثة الزوج – منكرا للحق فى كل هذه المدة ( ) فإن انتفى قيد النهى عن السماع ، فقول أبى حنيفة هو الذى سيصار إليه عملاً ، وإن تحقق فمصير العمل إلى مذهب الصاحبين .
والعمل فى العراق والسودان على نحو ما هو عليه فى مصر لعدم النص، وفى ليبيا على ما ذكرنا من تحكيم العرف ( ) وفى سوريا نص فى المادة 61/1 على وجوب مهر المثل فى العقد الصحيح عند عدم التسمية أو فسادها مطلقا ، ولم يشر إلى مسألة الخلاف بين الإمام وصاحبيه مما يعنى الأخذ بقول الصاحبين.
والقانون اللبنانى يأخذ بالمادة " 105 من مرشد الحيران " دون تحليف ، سيرا على أن " المنكر لا يحلف عند أبى حنيفة فى النكاح "( ) وظاهر النص اللبنانى (م 86) أنه يحكم الخلاف بين الزوجين ، أو بين أحدهما والورثة، أو بين ورثة الطرفين ، لأنه عبر بقوله " طرف الزوجة " " وطرف الزوج ".
والمادة (57) أردنى كالمادة (86) لبنانى فى عموم الحكم إلا أنها ذكرت الزوج والزوجة دون إشارة إلى ورثتهما ، ولكن المقنن ذكر فى المادة (58) الاختلاف فى مقدار المسمى ، معمما حكمه فيه على الزوجين أو أحدهما وورثة الآخر ، أو ورثتهما ، ولأن الموضوع واحد فإن المادة (57) تفسر وفقا للعموم الوارد فى المادة (58) .
وأخيرا فإن مشروع القانون العربى الموحد خلا من نص فى هذا الأمر ووفقا للمادتين (33،44) فإنه يحكم بمهر المثل عند عدم البينة مع تحليف الطرفين ، وهو المختار عند الحنفية ، قال ابن عابدين : " قال فى البحر : التحليف هنا على المال لا على أصل النكاح ، فيتعين أن يحلف منكر التسمية إجماعا "( ).
3- الاختلاف فى قبض المهر أو معجله : ( )
وفى هذه الصورة يفرق بين حالتين :-
الأولى : الاختلاف فى أصل القبض أو مقداره قبل الدخول ، وفى هذه الحالة يقع على عاتق الزوج عبء الإثبات ، لأنه يدعى خلاف الظاهر ، ولا تطالب الزوجة بالبينة لأن الظاهر يشهد لها .
الثانية : وإن كان الاختلاف بعد الدخول .
أ- فإن كان فى معجل صداقها فالقول قول الزوج ، ولا تسمع دعواها على المفتى به عند الحنفية لجريان العرف بذلك .
وعليه فإن اختلف العرف ، تغير الحكم ، وإن كنت أرى مع بعض أساتذتنا ( ) أن العرف لا يصلح لإبطال حق ثابت بمقتضى العقد ، فليكن على عاتقها عبء الإثبات ، ولها عند العجز طلب يمين المدعى عليه ، أما أن يبطل حقها بمجرد العرف وقرائن الأحوال فهذا لا يقبل .
وإن كان الخلاف فى قدر المقبوض فعلى الزوج أن يثبت ذلك بالبينة ، فإن عجز فالقول قولها مع يمينها .
والحكم بين أحد الزوجين والورثة ، أو بين ورثة الطرفين كالحكم بين الزوجين ، فهو فى كل الأحوال واحد .
4- الاختلاف فيما يقدمه الزوج على أنه من المهر :
عادة ما يتهادى الزوجان ، فإن قدم الزوج إلى زوجته شيئا كنقود أو حلى أو هدايا منزلية دون أن يذكر عند تقديمها أنها من المهر ، ثم اختلفا بعد ذلك ، فقال الزوج من المهر ، وقالت الزوجة هدية ، فما الحكم ؟
والجواب : ( )
أن أيا من الزوجين يقيم البينة على دعواه يقضى له بها ، ولكن إن أقام كل منهما بينة على ما يدعيه قدمت بينة الزوجة ، لأنها تثبت خلاف الظاهر ، والظاهر هنا شاهد للزوج ، لأن الإنسان يسعى إلى سداد دينه ، والوفاء بما فى ذمته قبل التبرع والإهداء ، وإن عجزا جميعا عن البينة كان القول لمن يشهد له العرف ، مع يمينه ، وإن اشتبه العرف وتعذر تحكيمه كان القول قول الزوج بيمينه ، لأنه هو المعطى ، فيرجع إليه فى الإخبار عن فعل نفسه ، والظاهر يؤيد قوله أن ما دفعه من المهر ، لأنه يسعى إلى إسقاط ما فى ذمته مما وجب عليه من المهر أولا .
فإن قضى له خصم من المهر ، وإن وقعت بينهما فرقة تسقط المهر كله كان عليها رد ما أخذت أو قيمته إن هلك أو استهلك .
مؤكدات المهر
رأينا فيما سبق أن المهر يوجد بوجود العقد الصحيح سواء كان مسمى أو مهر مثل – خلافاً للشافعى – غير أن هذا الوجود غير مستقر فيحتمل التنصيف بالطلاق قبل الدخول ، ويحتمل السقوط بالفرقة بغير طلاق قبل الدخول ، وأسباب أخرى عند بعض الفقهاء ستعرفها فى حينها.
لهذا كان وجود الصداق محتاجاً إلى ما يؤكده استقراره ، ومؤكدات المهر على الراجح فقهاً هى :
1- الدخول الحقيقى :
فإنه يؤكد جميع المهر باتفاق الفقهاء ( ) ، فإن كان قد سمى لها مهراً فلها جميع ما سمى ، لا يسقط منه شئ إلا بإبراء الزوجة أو حطها جزءاً منه ، لأنه بالدخول قد استوفى – الزوج - كامل حقه ، فاستقر لها كامل حقها ، وإن كان لم يسم لها شيئاً أو سمى مالا يصلح مهراً ثبت لها مهر المثل كاملاً دون انتقاص .
2- الموت :
فإن مات الزوج ولو قبل الدخول ، أو ماتت الزوجة قبله أيضاً فلها مهرها كاملاً ، وذلك " لأن المهر كان ثابتاً إلى أن يوجد ما يسقط بعضه أو كله ، وهو الفرقة قبل الدخول ، وبالموت استحال وجود ذلك المسقط فتأكد المهر"( ).
والحكم بثبوت المهر كاملاً بالموت متفق عليه بين الفقهاء فى المسمى لها.
أما المفوضة فإن مات عنها أو ماتت عنه ففى استحقاقها الصداق أو نصفه أو عدم استحقاقها شئ خلاف .
قال فى المغنى " ولو مات أحدهما قبل الإصابة وقبل الفرض ورثه صاحبه . ولا خلاف فيه ، فإن الله تعالى فرض لكل واحد من الزوجين فرضا وعقد الزوجية ههنا صحيح ثابت ، فورث به لدخوله فى عموم النص .
وأما الصداق :
1- فإنه يكمل لها مهر نسائها فى الصحيح من المذهب ، وإليه ذهب ابن مسعود وابن شبرمة وابن أبى ليلى والثورى واسحاق قلت والحنفية ، والظاهرية، وأحد قولى الشافعى ( ).
2- وروى عن على وابن عباس وابن عمر والزهرى وربيعة ومالك والأوزاعى ، وأصح قولى الشافعى أن لا مهر لها ، وهو رواية عن أحمد ، وقول الزيدية ( ).
3- وعن أحمد رواية أخرى أن لها نصف مهر مثلها .
وهذه الرواية الأخيرة ضعفها أصحابه ، بل ردوها ، قال المرداوى " قال الشيخ تقى الدين : فى القلب حزازة من هذه الرواية ،…. قال ونقل عن الإمام أحمد رواية تخالف السنة وإجماع الصحابة ، بل الأمة ، فإن القائل قائلان : قائل بوجوب مهر المثل ، وقائل بسقوطه ، فعلمنا أن ناقل ذلك غالط عليه …. إذ من أصل الإمام أحمد الذى لا خلاف عنه فيه ، أنه لا يجوز الخروج عن أقوال الصحابة ، ولا يجوز ترك الحديث الصحيح من غير معارض له من جنسه ، وكان رحمه الله شديد الإنكار على من يخالف ذلك فكيف يفعله هو من غير موافقة لأحد ؟ ومع أن هذا القول لاحظ له فى الآية ولا له نظير . هذا مما يعلم قطعا أنه باطل " ( ).
والدليل على عدم وجوب شئ كما هو القول الثانى.
القياس على مفهوم المخالفة من قول الله تعالى " وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم "( ) فقد أوجب النص للمطلقة قبل الدخول نصف المسمى ، فإن لم يكن قد سمى لها شئ لا يجب شئ لعدم التسمية ويقاس الموت على الطلاق .
قال ابن العربى " ودليلنا أنه فراق فى نكاح قبل الفرض فلم يجب فيه صداق ، أصله – أى المقيس عليه – الطلاق " ( ).
ولهم أيضا ما روى مالك فى موطئه " أن بنتا لعبيد الله بن عمر ، وأمها ابنة زيد بن الخطاب كانت تحت ابن لعبد الله بن عمر ، فمات ولم يسم لها صداقا، فقامت أمها تطلب صداقها ، فقال ابن عمر : ليس لها صداق ، ولو كان لها صداق لن نمسكه ، ولم نظلمها ، فأبت أن تقبل ذلك ، وجعلوا بينهم زيد بن ثابت، فقضى ألا صداق لها ، ولها الميراث ( ) .
والحقيقة أن هذين اجتهادان فى مقابلة النص الثابت عن النبى  ، وذلك ما روى الترمذى وغيره " أن رجلا تزوج امرأة ولم يسم لها صداقا ، ولم يدخل بها حتى مات ، فأتى عبد الله بن مسعود وكان قاضيا ، فاختلفوا إليه مرارا ، وقال: شهرا ، فقال : إن كان ولا بد فإنى أفرض لها مهر نسائها ، لا وكس ، ولا شطط ، ولها الميراث وعليها العدة ، إن يكن صوابا فمن الله ، وإن يكن خطأ فمنى ومن الشيطان ، والله ورسوله بريئان منه ، فقال ناس من أشجع فيهم الجراح بن سنان نشهد أن رسول الله  قضاها فينا ، فى بروع بنت واشق ، وكان زوجها هلال بن مرة الأشجعى " ( ).
وقد منع مالك والشافعى من القضاء به أنه لم يثبت عندهم ، حتى أن الشافعى ليقول " إن كان يثبت فلا حجة فى قول أحد دون النبى  " ( ) وقال القرطبى وهو من أشياع مالك " إذا صح الحديث فالقياس فى مقابلته فاسد ، وقد حكى أبو محمد عبد الحميد عن المذهب ما يوافق الحديث والحمد لله " ( ) وبالغ الماوردى فى دفع دعاوى ضعف الحديث ( ).
إذن الكل إلى حكم الحديث صائر ( )، وهذا ما حدا بأساتذتنا أنهم لا يوردون المذهب المخالف فى استقرار المهر – ولو صداق المثل – بالموت قبل الدخول .
وعلى ذلك إذا مات الزوج فلزوجته قبل حقها فى الإرث مهرها إن لم تكن قبضته ، أو باقيه إن كانت قد قبضت منه شيئا ، وإن كانت مفوضة فلها مهر مثلها .
وإن كانت هى التى ماتت فلورثتها أخذ مهرها من زوجها ، مع ملاحظة أن الزوجين يتوارثان – إن لم يمنع من ذلك مانع من موانع الإرث – ومن ثم يمكن أن يتقاص الطرفان ، فيخصم ما للزوج من حق فى الإرث ويطالب بالباقى.
ويراعى فى كل الأحوال أن الصداق مستحق بالعقد لكنه تأكد بالموت ، ومن ثم فهو ليس إرثا ، وبالتالى تتقادم دعواه بمضى خمس عشرة سنة من تاريخ الوفاة ، فإن مضت مع انتفاء العذر المانع من المطالبة ، وعدم الإنكار لن تسمع الدعوى ( ).
وليس فى التقنينات العربية ما يخالف فى اعتبار أصل السببين السابقين، اللهم إلا التقنين الأردنى ، الذى يفيد بالجمع بين مادتيه (48 ، 55) أنه يأخذ بالرأى المخالف فى صداق المفوضة التى توفيت أو توفى عنها زوجها قبل الدخول .
فالمادة 48 تنص على أنه " إذا سمى مهر فى العقد الصحيح لزم أداؤه كاملا بوفاة أحد الزوجين ، أو بالطلاق بعد الخلوة الصحيحة ، أما إذا وقع الطلاق قبل الوطء والخلوة الصحيحة لزم نصف المهر المسمى "
فذكرت المادة الطلاق والوفاة والخلوة الصحيحة كأسباب لوجوب المسمى كاملا .
والمادة (55) وهى فى صداق المثل تقول :
" إذا وقع الطلاق قبل تسمية المهر وقبل الدخول والخلوة الصحيحة فعندئذ تجب المتعة " .
فذكرت الطلاق وسكتت عن حكم الوفاة ، والظاهر من حرص المقنن على إبراز التسمية ، ولزوم الأداء الكامل بالوفاة فى المسمى (م 48 ) بيان إنه لا يلزم شئ بالوفاة قبل الدخول فى غير المسمى ، وإن كان هذا مراده فقد أخطأ بمخالفة السنة .
3- الخلوة الصحيحة :
الخلوة من الاختلاء ، أو الخلاء ومعناها الحال التى يمكن للزوج أن يستمتع فيها بزوجته آمنا دون مانع يمنع من الدخول الحقيقى ( ).
والموانع التى ذكرها الحنفية ثلاثة : ( )
1- مانع حقيقى : كالصغر ، أو المرض ، أو العيب المانع من الدخول .
2- مانع طبعى : ويقوم بوجود ثالث يفهم الأشياء .
3- مانع شرعى : ومثاله صوم أحد الزوجين ، أو حيض المرأة فإن انتفت هذه الموانع ، وكان المكان آمنا من اطلاع الغير تحققت الخلوة الصحيحة .
وفى أثرها اختلف الفقهاء على ثلاثة مذاهب : ( )
أولها : إنه لا تأثير للخلوة فى كمال مهر ولا إيجاب عدة .. وبه قال من الصحابة ابن عباس وابن مسعود ، ومن التابعين الشعبى وابن سيرين ، ومن الفقهاء أبو ثور ، وأهل الظاهر ( ) والإمامية ( ) ، وهو المعمول به عند الشافعية ورواية عن أحمد ( ).
والثانى : أن الخلوة يد – أى دليل – لمدعى الإصابة منهما فى كمال المهر ، أو وجوب العدة ، فإن لم يدعيها لم يكمل بالخلوة مهر ، ولا يجب بها عدة، هذا مذهب مالك ، وبه قال الشافعى فى الإملاء ( ).
والثالث : إن الخلوة كالدخول فى كمال المهر ووجوب العدة .
وبه قال أكثر الصحابة وكثير من التابعين وهو مذهب الحنفية وأقوى الروايتين عن أحمد ، ومذهب الزيدية ، وقول الشافعى فى القديم ( ).
وسبب هذا الخلاف :
تفسير معنى " الإفضاء ، والمسيس " المذكورين فى القرآن الكريم ، فمن رأى الإفضاء كالمسيس كلاهما كناية عن الجماع أو الوطء قال لا أثر للخلوة المجردة ، وإن تهيأت بها أسباب الجماع ، فإن لم يحصل المس فالواجب نصف المهر أو المتعة وليس كامل المسمى . بقول الله تعالى " وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم " ( ).
ومن رأى الإفضاء أعم من المس ، وإنه يحصل بمجرد الاختلاء ، وإن لم يحصل وطء ، اعتبر الخلوة موجبة لكمال المهر لأن الله سبحانه وتعالى قال "وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذ منكم ميثاقا غليظا " ( ) وكأنهم اعتبروا الإفضاء شاهدا على حصول الجماع .
وأعانهم على ذلك ما روى زرارة بن أوفى قال " قضى الخلفاء الراشدون المهديون أن من أرخى بابا أو أرخى سترا فقد وجب المهر ، ووجبت العدة " ( ) ورواه أيضا الأحنف عن عمر وعلى وعن سعيد بن المسيب ، وعن زيد بن ثابت .
قالوا : وهذه قضايا تشتهر ، ولم يخالفهم أحد فى عصرهم فكان إجماعا( ).
قالوا : وقد كان عمر  يقول " ما ذنبهن إن جاء العجز من قبلكم "( ).
وفى رأيى : أن حمل الإفضاء على ما هو أعم من المسيس يثبت حكما جديدًا ، أما حمله على معناه فيؤكده فقط ، والتأسيس أفضل من التأكيد ( ).
ومن جانب أخر فإن دعوى إجماع الصحابة إن صحت فلا مجال للقول بخلافه .
وبفرض أن بعضهم خالف فظاهر الحال يشهد أن الخلوة لا تنتهى إلى غير شئ غالبا ، والوطء أمر يصعب الاطلاع عليه ، والاحتياط للحقوق عامة والأبضاع خاصة أمر يوجبه الشرع .
لهذا فالقول باعتبار الخلوة من مؤكدات المهر و موجبات العدة ومثبتات النسب هو الأرجح فى رأيى .
ومع هذا فإن الخلوة تختلف عن الدخول فى الأحكام الأتية ( ).
1- الإحصان : لأن الإحصان هو الزواج مع الدخول الحقيقى ، والخلوة لا تقوم مقام الدخول الحقيقى فى هذا .
2- حرمة البنات : فهى مشروطة بالدخول بالأمهات لا الخلوة بهن( ).
3- حل المطلقة ثلاثا لمطلقها : يحصل بالدخول الحقيقى المعبر عنه بذوق العسيلة ، ثم يطلقها وتنتهى عدتها ، ولا تقوم الخلوة مقام الدخول الحقيقى فى ذلك.
4- الطلاق بعد الخلوة يقع بائنا( ) : وبعد الدخول الحقيقى يقع رجعيا ، ما لم يكن مكملا لثلاث وعلى مال .
5-المعتدة من طلاق بعد خلوة : لا ترث ، ولا يرث منها شيئا وإن ماتت فى عدتها ( ) أما المعتدة من طلاق بعد دخول حقيقى فترث وتورث إن كان الطلاق رجعيا ، وكذلك إن كان بائنا واعتبر الزوج فارًا به من الميراث .
وأكثر التقنينات العربية على اعتبار الخلوة الصحيحة( ) من مؤكدات المهر ، واختار المقننون المغربى والسودانى والليبى مذهب الشافعى ومالك فى عدم اعتبارها .
ونص المادة 29/2 سودانى " يلزم المهر كله بالعقد الصحيح ويتأكد بالدخول أو الوفاة ….." وهو نفس نص المادة 19/هـ ليبى ، مع استبدال لفظة " يلزم " بـ " يجب "
تنصيف المهر وسقوطه
إذا تأكد المهر وجب كله ، وإن لم يتأكد فهو على خطر التنصيف أو سقوطه كلية .
ويتنصف المهر بسبب واحد ( ) ذكره الله سبحانه فى قوله " وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذى بيده عقدة النكاح " ( ) .
فالآية دلت على أن المطلقة قبل الدخول وقد سمى لها مهرا هى التى تستحق نصف المسمى ، وقد أخذ العلماء منها أن لاستحقاق نصف المسمى أربعة شروط ( ) :
1- أن يكون عقد الزواج صحيحا ، فالعقد الفاسد بمجرده لا يجعل للمرأة حقا فى شئ من المهر .
2- أن يكون المهر مسمى عند العقد تسمية صحيحة ، وهذا باتفاق الفقهاء فإن سمى لها بعد العقد ، أو كانت التسمية فاسدة ومن ثم استحقت مهر المثل ، فقد اختلف فيه الفقهاء .
وقد مالت القوانين إلى قول الحنفية والزيدية ورواية عن أحمد فى قصر الحكم على المطلقة التى سمى لها فى العقد أو قبله ( ) بيد أنه مرجوح فى الفقه الإسلامى ( ) ، لأن الله سبحانه وتعالى قال " وقد فرضتم لهن فريضة " هكذا مطلقا عن الوقت والبيان ، فوجب أن يبقى على إطلاقه . ولأن المفروض بعد العقد يستقر بالدخول فتنصف بالطلاق قبله كالمسمى فى العقد ( ) .
وعلى كل حال فإن المعمول به فى التقنينات ( ) أن المطلقة قبل الدخول والخلوة وقد سمى لها فى العقد أو قبله لها نصف المسمى ، وإن لم يسم لها فى العقد أو قبله شيئا فلها المتعة ، ولا يغير من الحكم شيئا إن فرض لها بعد العقد .
3- أن تقع الفرقة قبل الدخول ، والخلوة الصحيحة على قول من يقول بها .
4- أن تكون الفرقة من جهة الزوج .
والحكم فى الفرقة طلاقا محل اتفاق ، وإن كانت بغير طلاق – أو موت – فقد خالف فيها ابن حزم فقال " ومن انفسخ نكاحه بعد صحته بما يوجب فسخه، فلها المهر المسمى كله ، فإن لم يسم لها صداقا فلها مهر مثلها ، دخل بها أو لم يدخل – ولا يقاس على الطلاق – لأن الطلاق فعل المطلق ، والفسخ ليس فعله ، فلا تشابه بين الفسخ والطلاق ، بل الفسخ بالموت أشبه ، لأنهما يقعان بغير اختيار الزوج"( ).
ويبدو أن الشوكانى يميل إلى هذا ، قال " وأما استحقاقه – أى نصف المسمى – بالفسخ فقيل قياسا على الطلاق بجامع العقد والتسمية ، وفى النفس من هذا القياس شئ ، ثم فى النفس أيضا من كون الموجب لذلك من جهته فقط " ( ).
وعلى كل حال فالعمل جار على مذهب الجمهور ، فإن أى فرقة تأتى من جهة الزوج كطلاقه أو ردته ، أو ارتكابه مع إحدى محارمها ما يوجب تحريم المصاهرة – عند من يرى ذلك – كله يوجب نصف المسمى ، ويستثنى من ذلك الفرقة بسبب اختيار الزوج الفسخ عند البلوغ أو الإفاقة قبل الدخول ، فلا توجب شيئا ( ) وقد رجحنا فيما سبق اشتراط البلوغ والسلامة العقلية مما يضيق من هذا الباب .
المتعـــــة
إذا اختلت الشروط اللازمة لاستحقاق نصف المسمى فإما أن يؤدى ذلك إلى سقوط المهر كلية وعدم وجوب شئ ، أو إلى سقوط المهر مع وجوب شئ والحالة التى تستحق فيها المطلقة شيئا هى حالة الطلاق قبل الدخول والخلوة الصحيحة ، إن كانت المطلقة لم يسم لها شئ قط باتفاق ، أو سمى لها ولكن بعد العقد على رأى الحنفية وجماعة .
والمطلقة التى حالها كما وصفنا هى المفوضة ، والمستحق لها بنص القرآن الكريم هو ذلك المسمى متعة .
قال تعالى " ولا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن " ( ) .
وعلى ظاهر الآية فإن المتعة مستحقة للمطلقات – والطلاق سبب إرادى من قبل الزوج – قبل المسيس – مع اختلاف العلماء فى تفسيره – ولم يفرض لهن شئ وقطعاً لا طلاق إلا من زواج صحيح .
فإن توافرت الحالة بشروطها هذه كان للمطلقة متعة مستحقة ( ) باتفاق العلماء ( ) .
أما أن فورقت الزوجة بسبب من قبل الزوج غير الطلاق – والموت – أو كانت قد فرض لها بعد العقد ، أو اختلى بها من غير وطء ففى كل ذلك اختلف العلماء كما عرفت .
حكم المتعة : إن توافرت حالة المتعة ، فهل تستحق للمرأة وجوبا أو استحبابا ؟ جمهور العلماء : يقولون المتعة واجبة ، والإمام مالك وبعض العلماء: يقولون إنها مستحبة .
وسبب هذا الخلاف : هل الأمر فى قوله تعالى " ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين " ( ) على ظاهره من الوجوب ، أم أنه مصروف عن الوجوب إلى الندب بقرينة قوله تعالى" حقا على المحسنين " ؟
يقول الجمهور بالأول ، لأن مطلق الأمر لوجوب العمل ، كما أن الله قال "حقا على المحسنين " وليس فى ألفاظ الإيجاب كلمة أوكد من قولنا " حق عليه"، وكلمة " على " إلزام وإثبات ، فالجمع بينهما يقتضى التوكيد ( ) .
ويقول مالك ( ) المتعة مستحبة لأنها لو كانت واجبة لما قيدها الله بالمتقى والمحسن ، لأن الواجب لا يختلف فيه المحسن وغيره .
والحقيقة أن قول الجمهور أقوى ، لأن الله تعالى جعل المتعة عوضا عن نصف المسمى ، ونصف المسمى واجب ، وبدل الواجب واجب ( ). وستأتيك أدلة الفريقين مفصلة من بعد عند حديثنا عن متعة الطلاق فى الكتاب الثانى .
تقدير المتعة :
القائلون بوجوب المتعة مختلفون فى تقديرها فأكثرهم : على أن المتعة لا تحد بقدر ، وإنما هى إلى اجتهاد الحاكم وتقديره ، وتختلف فى ذلك باختلاف الأعراف( ).
وقال الأحناف : لا تجب أكثر من نصف مهر المثل ، ولا تنقص عن خمسة دراهم ، لأن الخمسة نصف أقل ما يكون مهراً عندهم ( ).
وعلى القول بإيكال تقديرها إلى الحاكم فهل يراعى فى ذلك حال الزوج ، أم حال الزوجة ، أم حالهما ؟
أقوال : لعل أرجحها هو اعتبار حال الزوج ، لقول الله تعالى " على الموسع قدره ، وعلى المقتر قدره " ( ) " وهذا نص فى أنها معتبرة بحال الزوج وأنها تختلف ، ولو أجزأ ما يقع عليه الاسم سقط الاختلاف ، ولو اعتبر بحال المرأة لما كان على الموسع قدره وعلى المقتر قدره " ( )
موقف التقنينات
لم ينص المقننان المصرى والعراقى على شئ فى متعة المطلقة قبل الدخول ، ومن ثم فالراجح فى المذهب الحنفى هو الواجب التطبيق فى القطرين ، وخلاصته كما صاغه قدرى باشا ( م 90 ) " المعتبر فى المتعة عرف كل بلدة لأهلها فيما تكتسى به المرأة عند الخروج ، واعتبارها على حسب حال الزوجين، ويجوز دفع بدل المتعة نقداً ، ولا تزيد على نصف مهر المثل إن كان الزوج غنيا، ولا تنقص عن خمسة دراهم إن كان فقيرا "
والتقنينات الأخرى وضعت حدًا لأقصى الواجب ، فإناطته جميعها بنصف مهر المثل ، عدا القانون اللبنانى الذى جعل الحد الأقصى الذى لا تتجاوزه المتعة مهر المثل ، وليس نصفه .
ونزع القانون السورى إلى اعتبار حال الرجل والمرأة فى التقدير ، فاعتبر حال المرأة فى نوع الواجب وهو " كسوة مثلها عند الخروج من بيتها " وحال الزوج فى قيمة الواجب بشرط ألا يجاوز نصف مهر المثل ( ).
وقانون حقوق العائلة اللبنانى ، ينيط التعيين بالعرف والعادة فى " قميص وإزار وملحفة " وهذا ميل منه إلى حال المرأة .. بشرط ألا يجاوز القدر مهر المثل ( ).
وأخذ القانون الأردنى بالراجح فقها من إناطة التقدير بالعرف والعادة بحسب حال الزوج ، وبقول الحنفية فى ألا تجاوز المتعة نصف مهر المثل ( ).
واتفق القانونان الليبى والسودانى على أن المتعة لا تزيد على نصف مهر المثل ، وحسب منطوق المادتين ( ) (19/ وليبى ) ، 29/3 سودانى فإن تقدير المتعة يراعى فيه حال المطلقة ، بالنص على " نصف مهر مثلها " ، "ومهر مثلها يتقدر بحالها وحال امرأة من أسرتها ، فتكون هى المرجع فى تقدير المتعة "( ) .
سقوط المهر كله
قلنا إن المهر يجب بالعقد – على الراجح – ويتأكد بالدخول والموت – وخالف فى الأخير مالك – وبالخلوة على رأى الحنفية والجمهور ، خلافا لجماعة.
وإذا تأكد المهر فلا سبيل لإسقاطه عن الزوج إلا بعفو الزوجة عنه ، فأبرأت منه الزوج ، أو وهبته له ، وفى الإبراء والهبة ، متى كانت الزوجة جائزة الأمر فى مالها ، يسقط المهر عن الزوج اتفاقا ، قال ابن قدامة " لا نعلم فيه خلافا ، لقول الله تعالى " إلا أن يعفون " ( ) يعنى الزوجات ، وقال تعالى "فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا " ( )( )
وفيما قبل تأكده يسقط المهر بإسقاط المرأة وإسقاط الشارع ، وإسقاط المرأة قد علمته بالعفو ، إبراء أو هبة ، وفى معناهما الخلع على المهر قبل الدخول وبعده ( ).
أما الإسقاط بحكم الشارع فذلك عند جمهور العلماء بكل فرقة من قبل المرأة قبل الدخول – والخلوة على رأى من يقول بها – ومن أمثلتها إسلامها ، أو ارتدادها عن الإسلام ، وإتيانها ما يوجب حرمة المصاهرة ، أو اختيارها الفسخ لعيب فى الزوج أو عدم كفاءة ونحو ذلك ( ).
ويسقط المهر عن الزوج عند الحنفية ، وإن كان الفسخ من جهته، إذا زوجه غير الأب والجد بالولاية واختار الفسخ عند بلوغه أو إفاقته إن لم يدخل بالمرأة( ).
ويعتبر الجمهور الفسخ بالعيب الذى يوجب الخيار مسقطا للمهر ، وإن كان المختار هو الزوج " لأنها أتلفت المعوض قبل تسليمه ، فسقط البدل كله"( ) أو لأن عيبها هو الدافع على فسخ هذا النكاح ( ) وزاد الحنابلة مسقطات أخرى ، كما لو فسخت الزوجة النكاح بسبب إعسار الزوج بمهرها أو نفقها ، أو فسخ الزوج لفقد صفة شرطها فى الزوجة كأن شرط أن تكون بكرا فبانت ثيبا ، أو فسخت الزوجة لإخلال الزوج بشرط صحيح اشترطته حال العقد ، كما لو اشترطت عليه ألا يخرجها من بلدها .
وفى الفرقة بسبب اللعان روايتان . (الثانية) يسقط به مهرها ، لأن الفسخ عقيب لعانها ( ).
وفى رأى الإمام ابن حزم أن المهر إذا وجب بصحة العقد فهو باق ، وإن انفسخ النكاح بسبب من قبله أو من قبلها ، لقوله تعالى " وآتوا النساء صدقاتهن نحلة "( ) والقول بغير ذلك – فى رأيه – باطل ، لأنه إسقاط لما أوجبه الله تعالى بالبرهان … وعلى ذلك فلمن انفسخ نكاحها المسمى كله ، أو مهر مثلها كله ، دخل بها أو لم يقع ، لأن الفسخ بحكم الشرع لا اختيار فيه ( ).
والتقنينات التى بين أيدينا لم تتعرض صراحة فى الغالب لسقوط المهر بإسقاط الزوجة إبراء أو هبة ، وإن كان حرصها على النص على أن " المهر حق الزوجة " ( ) يفيد أنها تقبل بذلك ، ومع هذا فإن القانون الأردنى قد نص صراحة على " الحط من المهر " إن كانت المرأة كاملة أهلية التصرف ، ويلحق ذلك بأصل العقد إذا قبل الزوج ذلك فى مجلس الحط منه ( ).
ولا يمانع القانون السورى فى الإنقاص من المهر أو الإبراء منه فى أثناء قيام الزوجية أو فى عدة الطلاق بشرطين :-
1- أن يجرى ذلك أمام القاضى .
2- أن يقبل به الزوج الآخر ( ).
ولعله أراد بالشرط الأول حماية المرأة من التغرير بها ، أو إكراهها على الإبراء ، فألزم أن يتم ذلك بمجلس القضاء ، وهو اتجاه طيب .
وأكثر القوانين تنص صراحة على أن البينونة بسبب من قبل الزوجة قبل الدخول والخلوة الصحيحة تسقط المهر كله ( ) ، وما لم ينص منها على ذلك كالتقنين المصرى والسودانى والعراقى يأخذ بالراجح من المذهب الحنفى ، وقد علمت أنه يسقط المهر كله بالفرقة التى تعتبر فسخا ( ).
أما سقوط المهر بالفسخ بسبب العيب فإنه مقرر فى التقنينات التى ترى الفرقة بالعيب من قبل الزوج أو الزوجة فسخا ، فيسقط كل المهر إن وقع قبل الدخول والخلوة الصحيحة ، ومن ذلك التقنين المغربى ( ) والإماراتى ( ) والأردنى ، ونذكر نصوص هذا الأخير لشمولها :
م 49 : إذا وقع الافتراق بطلب من الزوجة بسبب وجود عيب أو علة فى الزوج أو طلب الولى التفريق بسبب عدم الكفاءة ، وكان ذلك قبل الدخول والخلوة الصحيحة يسقط المهر كله .
م 50 : إذا فسخ العقد قبل الدخول والخلوة فللزوج استرداد ما دفع من المهر .
م 52 : يسقط المهر كله إذا جاءت الفرقة من قبل الزوجة كردتها أو إبائها الإسلام إذا أسلم زوجها وكانت غير كتابية ، أو بفعلها ما يوجب حرمة المصاهرة بفرع زوجها أو بأصله ، وإن قبضت شيئا من المهر ترده .
م 53 : يسقط حق الزوجة إذا فسخ العقد بطلب من الزوج لعيب أو لعلة فى الزوج قبل الوطء ، وللزوج أن يرجع عليها بما دفع من المهر .
الجهاز ومتاع البيت والمنازعات التى تقع بشأنهما
أولا : تأثيث بيت الزوجية
لا خلاف بين العلماء أن المهر ملك للزوجة ، غير أن جمهورهم ساروا بالملكية إلى منتهاها فقالوا " لا يلزم المرأة فى مهرها شئ فلا تجبر على أن تتجهز إليه بشئ أصلا ، لا من صداقها الذى أصدقها ، ولا من غيره من سائر مالها ، والصداق كله لها تفعل فيه ما شاءت ، لا إذن للزوج فى ذلك ولا اعتراض " ( ) .
وشذ المالكية فقالوا : الجهاز حق على المرأة فى دائرة ما قبضته وما تجرى به العادة بين أمثالها ، فإن لم تكن قبضت شيئا من المهر فليس عليها جهاز، إلا إذا كان العرف يوجب عليها جهازا ، أو كان قد شرط ذلك عليها .
قال ابن عبد الرفيع " وإذا قبضت المرأة نقدها ( ) ، أو قبضه وليها فمن حق الزوج أن يتجهز به إليه ، وهذا مشهور مذهب مالك وجميع أصحابه حاشا ابن وهب فإنه قال لا يلزمها التجهيز بصداقها . قال بعض الموثقين : وإذا كان النقد عرضا أو حيوانا أو طعاما وجب عليها بيعه والتجهيز به …. ولا يلزم الزوجة أن تتجهز بالكالى – مؤخر الصداق – إذا قبضته بعد البناء ، وإن باراها – أى خالعها - الزوج ثم راجعها لم يلزمها أن تتجهز إليه إلا بما يعطيها فى المراجعة " ( ) قال " قال ابن حبيب : وللزوج أن يسأل الولى فيما صرف النقد فيه من الجهاز ، وعلى الولى أن يفسر ذلك ويحلف عليه إذا اتهمه فيه " ( ) .
وفى العقد المنظم للحكام لابن سلمون " وإذا رفع الزوج للزوجة فى صداقها ليسارها ، ولأنها تسوق إلى بيته من الجهاز ما جرت عادة أمثالها به ، وجاء الأمر بخلافه أن للزوج مقالا فى ذلك ، ويحط من الصداق الزيادة التى زادها لأجل الجهاز على الأصح عندنا ( ) وهو دليل ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام " تنكح المرأة لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها " وقال غيره إن ساق الزوج لزوجته سياقة وجرى عرف البلد بإبراز شورة لمن ساق سياقه ثم لم يبرز إليه عند البناء شئ كان للزوج أن يحل النكاح عن نفسه إن شاء .
وأجاب ابن رشد فى نحو هذا إذا أبى الأب أن يجهز ابنته إلى زوجها بما جرى العرف والعادة أن يلتزم – أى الزوج - النكاح أو يرده عن نفسه ويسترد ما نقد ، ويسقط عنه ما أكلأ – أى أجل – وساق ، وأما إن توفيت قبل البناء وأبى الأب أن يبرز لها من ماله ما يكون ميراثا عنها على القدر الذى يجهز به مثلها إلى مثله فلا يلزم إلا صداق مثلها على أن لا يكون جهازها إلا نقدها .
وقال كذلك إن كانت حية وكان الزوج قد ساق لها سياقة وأعطاها حقوقا، وجهزها الوالد بما يجهز به مثلها إلى مثله ، ثم ادعى فى ذلك العارية وأراد أخذه فليس للأب أن يسترد ما أبرزها به إلى زوجها من الحلى والثياب ، ولا يصدق فيما ادعاه من أنه إنما أبرز ذلك إليها على سبيل العارية منه لها " ( ).
وواضح من هذا النقل الطويل كيف أن قضية التزام الزوجة بالجهاز قد رسخت فى الفقه المالكى ، حتى أنهم ليرونها قاعدة تقيد بها أحكام الصداق ، وشرطا يجيز عند تخلفه حق الفسخ .
ولم أقف لهم – فيما طالعت – على دليل إلا ما ذكر ابن حزم أن بعضهم شغب بقول الله تعالى " الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض " ( ) وكأنهم أخذوا منه أن القوامة تقتضى أن يكون له حق فى أن تتجهز له ، وتتزين بما قدم ، وتجبر على ذلك ، وهذا ما اطردت به الفتاوى عندهم ( ) وكأنهم أيضا أخذوا من قوله  " تنكح المرأة لمالها " أن مثل هذا النكاح معروف ، والمعروف عرفا كالمشروط شرطا .
ويبدو أن اعتبار العرف هو أساس هذه الفتوى فى مذهب مالك ، بل إن كثيرا من أقضية النكاح مردها – عندهم – تحقيقا إلى العرف ، ومن ذلك مثلا ما حكاه ابن فرحون فى تبصرته قال " وفى سماع ابن القاسم : سئل مالك عن الناكح هل يلزمه لأهل المرأة هدية العرس ، وجل الناس تعمل به عندنا حتى أنه لتكون فيه الخصومة ، أترى أن يقضى به ؟
قال : إذا كان ذلك قد عرف من شأنهم وهو عملهم لم أر أن يطرح ذلك عنهم ، إلا أن يتقدم فيه السلطان ، لأنى أراه أمرا قد جروا عليه .
وفى كتاب عيسى ، قال ابن القاسم : قال مالك قبل ذلك : لا أرى أن يقضى به ، وهو أحب إلى كان مما جروا عليه أو لم يكن "
وفى سماع عيسى ، فى رسم لم يدرك ، قال ابن القاسم : سألنا مالكا عمن تزوج امرأة فأصدقها صداقا ، فطلبت منه نفقة العرس هل ذلك عليه أم لا ؟ قال : ما أرى ذلك عليه ، وما هو بصداق ولا شئ ثابت ، ولا هو لها إن مات ، ولا نصفه إن طلق .
فردد عليه ، وقيل له : يا أبا عبد الله ، إنه شئ أجروه بينهم ، وهى سنتهم !!!
فقال : إن كان ذلك شأنهم فأرى أن يفرض عليهم .
وختم ابن فرحون بحثه فى هذه المسائل وأشباهها بقوله " والمتعارف من أحوال النساء فيما يوسعون به على أزواجهن من أموالهن إنما يردن بذلك موادات الأزواج ، واستدامة عصمتهن معهم ، وتقمن مسرتهم " ( ) .
ولا جدال أن قريبا مما يقول به المالكية غالب فى زماننا ، خاصة فى المدن ، حيث يدفع الأزواج إلى أولياء الزوجة شيئا زائدا على المهر ويطالبونهم بالتجهيز، الأمر الذى يثقل كاهل الأباء ، ويوقعهم فى الحرج .
وقريب منه أيضا ما جرت عليه عادة الناس فى القرى وبعض الأوساط فى المدن من أن يكون حلى المرأة مدخرا لحاجة الزوج متى احتاجه أخذه ، ولا يليق بالمرأة ولا بأهلها الممانعة فى ذلك .
وقد يخفف من غلواء هذا العرف أن كل ما تتجهز به المرأة عند البناء يثبت فى قائمة المنقولات على أنه حق الزوجة ، وليس للزوج فيه إلا الانتفاع معها ما دامت الزوجية باقية ( ) فإن طلقت الزوجة أخذته ، وإن ماتت فالزوج أحد الورثة ليس إلا .
وإجراء كهذا إن أتته الزوجة أو أولياؤها حبا وكرامة وتبرعا وتوددًا فلا مدخل لأحد فى الإنكار عليه ، بل إنه من قبيل التعاف ، وقد قال الله تعالى " وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم " ( ) .
ولكن الذى يؤخذ على مذهب الإمام مالك رحمه الله هو الإجبار على التجهيز بما يقدمه من مهر ، بل وإجبار الأب على أن ينحل ابنته من ماله ، فيرد إلى الزوج صداقه وأكثر ، وتسقط عنه نفقة التجهيز والكسوة ويثبت له فى زينتها حق .
ولو كان لهذا الإجبار سند ثابت لم يكن لأحد أن يعترض عليه ، ولكن سنده كما ظهر من حكاية المذهب هو العرف والعادة ، وهما فى مسألتنا منخرمتان ، فلا يصلحان للتحكيم ، لأن شرطهما :-
1- الاطراد 2- عدم التعارض مع شرع يتعلق به حكم
ولا شك أن إجبار الزوجة أن تتجهز بصداقها أو من مالها أو من مال أبيها ، أو غل يدها عن أن تتصرف فى صداقها كيف شاءت ، كل ذلك عضل وإذهاب ببعض ما أوتين ، وقد نهى الله عنه ، وتفريغ للصداق من معنى النحلة على خلاف أمر الله تعالى ، وإيجاب ما لم يجب ، بل خلاف الواجب ، لأن النبى  قضى أن رزق النساء وكسوتهن على الأزواج ( ) .
والمعمول به فى أكثر( ) التقنينات هو مذهب الحنفية ، وخلاصته أن المهر حق خالص للمرأة ، فلا يلزمها فيه شئ ، ولكن إن دفع الزوج شيئا زائدا على المهر لتتجهز به كان عليها ذلك فى حدود هذه الزيادة ، فإن لم تفعل كان له الحق فى استرداد ما دفعه لها ، إلا إذا سكت مدة تدل على رضاه بهبة ما دفع زائدا على المهر ، فيعتبر ما زاد لها هبة غير مشروطة بشرط .
وهذا الحكم إن كانت الزيادة منفصلة عن المهر ، واشترط أن تكون للتجهيز أو جرى بذلك عرف .
وإن لم تكن الزيادة منفصلة عن المهر – وتعرف بكون ما دفع أكثر من مهر مثلها – وقصد بالزيادة على مهر المثل أن تكون هذه الزيادة فى مقابل التجهيز أو مقابل إعداد الجهاز على شكل خاص ، ففى هذا اختلف الحنفية .
فأخذ بعضهم بالظاهر فقال : الزيادة جعلت ضمن المهر فالتحقت به ، والمهر حق خالص للزوجة ، فلا تطالب بإنفاق شئ منه فى الجهاز أو غيره .
وقال آخرون : العبرة بالقصد ويجعل مهر المثل حكما ، وعليه تلزم الزوجة بالتجهيز فى حدود الزيادة ، فإن لم تفعل كان لها مهر المثل فقط ( ) وهذا الخلاف قد حسم إلى حد كبير بعد اطراد العمل على توثيق عقود الزواج والنص فى الوثيقة على قدر الصداق ، الحال منه والمؤجل ، وفى الحالات الشاذة أرى أن يحكم العرف فيما يقدم ، هل هو من الصداق ، أم زيادة نظير الجهاز .
الخلاف حول الأمتعة المنزلية
هذه المشكلة تكاد تكون قد اختفت بعد أن تعارف الناس كتابة قوائم بعفش الزوجية ، والإشهاد على إقرار الزوج بما فيها ، ولكن تحسبا لفقد هذا الدليل ، أو سقوطه نتيجة الطعن فيه بالتزوير ، أو لأن " المتاع أعم من الجهاز وأشمل "( ) بمعنى أن يضاف إلى ما تجهزت به الزوجة عند البناء شئ ، فإن الفقه يعنى ببحث هذه المشكلة ، ونكتفى فيها بإيراد ما يجرى عليه العمل .
أولا : الراجح فى المذهب الحنفى يقضى بالأتى :
1- فى حالة الخلاف بين الزوجين ، أو بين ورثتيهما :
إذا اختلف الزوجان حال قيام النكاح أو بعد الفرقة فى متاع موضوع فى البيت الذى يسكنان فيه ، سواء كان ملك الزوج أو الزوجة فما يصلح للنساء عادة فهو للمرأة ، إلا أن يقيم الزوج البينة ، وما يصلح للرجال أو يكون صالحا لهما فهو للزوج ما لم تقم الزوجة البينة ، وأيهما أقامها قبلت منه ، وقضى له بها ، ولو كان المتاع المتنازع فيه مما يصلح لصاحبه – أى الطرف الآخر – وما كان من البضائع التجارية فهو لمن يتعاطى التجارة منهما ….. ( ) ونفس الحكم فى الخلاف بين الورثة .
2- الخلاف بين أحد الزوجين وورثة الآخر:
إذا مات أحد الزوجين ووقع النزاع فى متاع البيت بين الحى وورثة الميت فالمشكل الذى يصلح للرجل والمرأة يكون للحى منهما عند عدم البينة ( ).
3- الخلاف بين الزوجة وأبيها أو أمها :
إذا جهز الأب بنته وسلمها إلى الزوج بجهازها ، ثم ادعى هو أو ورثته أن ما سلمه إليها أو بعضه عارية ، وادعت هى أو زوجها بعد موتها أنه تمليك لها ، فإن غلب عرف البلد أن الأب يدفع مثل هذا جهازا لا عارية فالقول لها ولزوجها ، ما لم يقم الأب أو ورثته البينة على ما ادعوه .
وإن كان العرف مشتركا بين ذلك ، أو كان الجهاز أكثر مما يجهز به مثلها ، فالقول قول الأب وورثته ، والأم فى ذلك كالأب ( ).
ثانيا : وأكثر التقنينات التى بين أيدينا اكتفت بالنص على أن المهر حق الزوجة ، ولا تجبر على عمل الجهاز منه ( ) ، وتطرق القانون السودانى إلى التفصيل فى الخلاف على المتاع غير أنه نقل مواد مرشد الحيران بنصها ، ولم يزد عليها إلا التحليف ( ) والاختلاف فى المصاغ ، وقضى فيه بأنه " إذا اختلف الزوجان فى المصاغ الذى أحضره الزوج ، فادعى هو العارية ، أو إحضاره للزينة ، وادعت هى الهبة ، فتكلف الزوجة البينة ، فإن أقامتها قضى لها، وإلا فالقول قول الزوج بيمينه "( )
ثالثا : واختار المقنن الليبى مذهب الشافعى وزفر من الحنفية ( ) فى العمل :
فنص فى المادة 21 من القانون على أنه " إذا اختلف الزوجان على أثاث البيت وأدواته ، ولا بينة لكل واحد منهما فما كان صالحا للرجل أخذه الزوج بعد حلفه ، وما كان صالحا للنساء أخذته الزوجة بعد حلفها ، ما لم يكن هناك شرط أو عرف يقضى بغير ذلك ".
والخلاف بين أحد الزوجين والورثة أو بين الورثة كالخلاف بين الزوجين .
BAHRAIN LAW
مدير الموقع
مدير الموقع
 
مشاركات: 758
اشترك في: الأربعاء سبتمبر 17, 2008 5:36 pm
الجنس: ذكر

Re: كتاب الوسيط فى أحــــــكام الأسرة

مشاركة غير مقروءةبواسطة BAHRAIN LAW » الاثنين أكتوبر 06, 2008 10:55 am

المبحــــث الثــــانـــــى
النفقـــــــــة
تلونا من قبل قول الله تعالى " الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضِهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم " ( ) وقلنا إن سبب القوامة أمران : التفضيل القدرى والإنفاق .
وحديثنا هنا عن ثانى هذين الأمرين ، وهو حديث يطول ويتفرع وسنقتصر منه على ما يفى بالقدر الضرورى .
أولا : النفقة واجبة للزوجات على الأزواج
الأصل فى الشرع أن نفقة كل إنسان فى ماله ، ولا يجب على غيره إلا لفقره وعجزه عن التكسب ، لقول الله تعالى " لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت"( ) واستثناء من هذا الأصل العام تجب نفقة الزوجة على زوجها وإن كانت غنية موسرة، وإن كان دونها رزقا وسعة .
ثبت هذا بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين والعقول .
1- أما الكتاب : فآيات منها
ما تلونا من قول الله تعالى " الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم " .
قال الماوردى : دلت على وجوب النفقة من وجهين ، معقول ونص ، فالمعقول منها قوله جل وعز " الرجال قوامون على النساء " والقيم على غيره هو المتكفل بأمره ، والنص منها قوله " وبما أنفقوا من أموالهم " ( ) .
ومنها قوله " لينفق ذو سعة من سعته ، ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما أتاه الله " ( ) وهو صريح فى وجوب الإنفاق فى حالى اليسار والإعسار .
وقوله " وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف " ( ) .
وهو نص وجوب النفقة بالولادة فى الحال التى تتشاغل بولدها عن استمتاع الزوج ، وإيجابها فى هذه الحالة يدل على إيجابها فى حال استمتاعه بها من باب أولى ( ) .
وقوله " وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن " ( ) .
وهو نص فى الإنفاق على المطلقة الحامل ، فإن وجبت النفقة على المطلقة فإيجابها على الزوجة يكون من باب أولى ( ) وقوله " فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعدلوا " ( ) .
والمعنى أن أول الجور عدم العدل فى النفقة ، وأظهر أسبابه كثرة العيال، فلولا وجوب النفقة عليه ما كان لخشية العيال تأثير ( ) .
ويؤخذ من مجموع الآيات وتنوعها أن النفقة واجبة وجوبا أكيدا فى عموم الأحوال من السعة والضيق ، وسلامة المرأة وعذرها ، لأن هذا مقتضى القوامة ولهذا كانت محذورا من محاذير التعدد فإن خيف عدم القسط فيها لم يجز التعدد .
2- ومن السنة أحاديث كثيرة منها :
ما روى أن النبى  قال فى خطبته فى حجة الوداع " اتقوا الله فى النساء فإنهن عوان عندكم ، أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، لكم عليهن ألا يوطئهن فرشكم أحدا تكرهونه ، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف " ( ) .
فأثبت للنساء على الرجال الحق فى الرزق والكسوة ، وهذا معظم المقصود بالنفقة .
وفيما روت عائشة رضى الله عنها قالت " جاءت هند – زوج أبى سفيان – إلى رسول الله  فقالت : يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وإنه لا يعطينى ما يكفينى وولدى إلا ما أخذت منه سرا وهو لا يعلم ، فهل على فى ذلك من جناح ؟ فقال  " خذى ما يكفيك وولدك بالمعروف " . ( ) .
وهو واضح الدلالة أن للزوجة وولدها – إن لم يكن له مال – على الزوج ما يكفيها من غير سرف ولا تقتير ، وهو عام فى الرزق والكسوة وغيرهما ، وقد أذن لها النبى  أن تأخذ قدر ما يكفيها وولدها ، ولو بغير إذنه ، ولو لم تكن نفقتها واجبة فى ماله لما أذن لها بذلك .
3- ومن المعقول : أن الزوجة فى أغلب أحوالها متفرغة للقيام بأعباء الزوجية ، والقيام على شئون الزوج والأولاد ، وما يلزمهم فى البيت ، ومن القواعد الأصولية أن من احتبس لمصلحة شخص أو قوم فنقته فى مالهم ، كالقاضى والموظف والعامل والجندى وغيرهم ، تجب نفقتهم فى الخزانة العامة لاحتباسهم لحق الدولة ، فكذلك الزوجة تجب نفقتها على زوجها لاحتباسها من أجله ( ) .
4- وعلى وجوب نفقة الزوجة على زوجها أجمع المسلمون فى كافة العصور( ).
ثانيا : سبب وجوب النفقة .
سبب الشئ : هو ما يبنى عليه أو الطريق إليه .
وسبب النفقة عند جمهور العلماء شيئان هما : العقد الصحيح والتمكين، قال الماوردى " وأما النفقة فلا تجب بمجرد العقد لسقوطها بالنشوز ، ولأن رسول الله  تزوج عائشة رضى الله عنها ، ودخل بها بعد سنتين ، فما انفق عليها حتى دخلت عليه ، ولو أنفق عليها لنقل ، ولو كان حقا لها لساقه إليها ، ولما استحل أن يقيم على الامتناع من حق وجب لها ، ولكان إن أعوزه فى الحال ليسوقه إليها من بعد ، أو يعلمها بحقها ثم يستحلها لتبرأ ذمته من مطالبته بفرض، فدل هذا على أن النفقة لا تجب بمجرد العقد .
وكذلك لا تجب النفقة بمجرد الاستمتاع لأن الموطوءة بشبهة لا نفقة لها، وإن كان الاستمتاع بها موجودا ، وكذلك لا تجب بالعقد والاستمتاع ، لأنها لو مكنت من نفسها بعد العقد وجب لها النفقة ، وإن لم يستمتع بها ، فدل إذا لم تجب بواحد من هذه الأقسام الثلاثة على أنها تجب بإجتماع العقد والتمكين " ( )
على هذا اتفق جمهور العلماء فى الجملة ، وإن اختلفوا فى بعض التفصيلات المتعلقة بالتمكين .
وقال الإمام ابن حزم والزيدية – فى غير الناشز – والشوكانى : تجب النفقة للزوجة بالعقد فقط .. وحكاه ابن حزم عن جماعة ، وهو قول الشافعى فى القديم قال فى المحلى " وينفق الرجل على امرأته من حين يعقد نكاحها دعى إلى البناء أو لم يدع ، ولو أنها فى المهد ، ناشزا كانت أو غير ناشز ، غنية كانت أو فقيرة " ( ) وقال فى متن الأزهار " على الزوج كيف كان لزوجته كيف كانت ….. كفايتها كسوة ونفقة … الخ"( ). وقال الشوكانى " لم يرد فى الأدلة ما يدل على أن الزوجة إذا عصت زوجها سقطت نفقتها" ( ) وقال بعض المالكية فى الناشز كقول ابن حزم والشوكانى .
ويتحصل من ذلك : أن هناك اتجاها فى الفقه الإسلامى يقصر سبب وجوب النفقة على العقد لا غير ، لأنه لا يرى فى الشرع دليلا ناهضا على إناطة النفقة بالتمكين .
وفى رأيى :
أن المرأة إن كانت ممكنة من نفسها حقيقة أو حكما فقد تحقق المطلوب من جهتها فلزم الواجب من جهة الزوج ، وهذا متحقق لا شك فى غير الناشز لأنها لا تمانع فى انتقالها إليه ، وقد عقد عليها وهو عالم بحالها ، أما الناشز فقد تأبت على قوامته وطاعته فلم يكن لها نفقة ، لأن الله أجاز للزوج معاقبتها على عدم الطاعة ، وقطع النفقة عقوبة و " لأنها تركت ما هو حق عليها من الطاعة فجاز أن يترك لها ما هو حق من المنفعة ( ) .
وبذلك يترجح فى رأيى أن التمكين المعتبر هو عدم الممانعة من جهة الزوجة فى الاحتباس لمصلحة الزوج إلا بحق ، وهو ما يظهر مما يلى .
مصلحة الزوج المعتبرة فى التمكين
قلنا إن التمكين المعتبر فى رأينا هو عدم الممانعة من جهة الزوجة فى الاحتباس لمصلحة الزوج ، ولكن ما هى مصلحة الزوج ؟
بحوث الفقهاء فى ذلك مطولة ( ) ويؤخذ منها :
1- أن جمهور الفقهاء يحدون صالح الزوج بإمكان الاستمتاع بالزوجة فإن كانت صالحة للاستمتاع ، ولم تمانع فى الانتقال بغير حق ، فقد تحقق الواجب من جهتها.
2- وأن المالكية يحدون صالح الزوج بإمكانية الوطء والصلاحية له من جهة الطرفين .
3- وفى قول القاضى أبى يوسف من الحنفية فإن الصلاحية تتحقق بإمكانية الخدمة أو المؤانسة ، إلا أن الزوج يتخير فى ذلك .
4- وفى أحد قولى الشافعى أن صالح الزوج يحصل بمجرد المطاوعة وعدم الممانعة ، حتى وإن لم تكن المرأة صالحة للوطء أو دواعيه وتعليله عندهم " أنه قد تزوجها عالما بأنه لا استمتاع فيها ، فصار كالعاقد مع علمه بالعيوب ، فلزم فيها حكم السلامة منها " ( )
ولم أقف فيما طالعت من آراء الفقهاء وأدلتهم على دليل نقلى واحد يدعم اتجاها دون آخر ، اللهم إلا ما ساق الماوردى من خبر زواجه  بالسيدة عائشة وأنه لم ينفق عليها قبل إمساكها لعدم صلاحيتها للاستمتاع ، وأنه لم يثبت أنه استحلها مما سبق من حقها ولا يقبل أن يكون النبى  غير موف لحق انشغلت به ذمته .
ومع هذا فإنه لا يفيد إناطة النفقة ، بمكنه الاستمتاع إفادة يقينية ، إذ أخذ منه البعض أن الطرفين " إن تساكنا بعد العقد فلم تبذل نفسها ، ولم يطلب – إمساكها – فلا نفقة لها ، وإن طال مقامها على ذلك " ( ) .
أما القياسات – الأدلة العقلية – فأظهرها القياس على الناشز ( ) قالوا "فقد الاستمتاع بالصغر أغلظ من تعذره بالنشوز فى الكبر ، لإمكانه فى حال النشوز ، وتعذره فى حال الصغر ، فكان إلحاقه بالنشوز فى سقوط النفقة أحق"( ) .
لكن النشوز مانع إرادى تكون معه المرأة عاصية خارجة عن الطوع فلا تتحقق معه أية ثمرة من ثمرات الزواج ، فضلا عن أن الله سبحانه سوغ فيه عقابا ، وليست كذلك أوجه القصور الأخرى ( ) فهى أعذار لا تنفى الطاعة ، أو عوارض إلى زوال ، وقد ندب الشرع إلى الرجل أن يصبر على أذى المرأة الإرادى – المشاكسة – فمن باب أولى يتحمل الأذى غير الإرادى ( ) ثم إن الرجل قد دخل فى زواج المعذورة لصغر أو مرض وهو يعلم ، والرضا بالشئ رضا بما يتولد منه ( ) .
وإن مرضت بعد زواجه منها فالمرض عارض إلى زوال " وحق العشرة يوجب احتماله ، وأن ما تكون أحكامه الدوام لا تسقط فيه الحقوق بالأمور العارضة التى لا يد للإنسان فيها ولا قبل له بدفعها " ( )
وإن كان بها عيب يمنع الاستمتاع التام فإنه لا يمنع الاستمتاع الناقص فإن رضى به فهو وشأنه ، وإن لم يرض فليفارق ليدفع عن نفسه الالتزام بالنفقة.
فإذا صح ما عقبت به فإن أقوى الآراء فى معنى التمكين أو صالح الزوج هو ذلك الذى ينيط النفقة بمجرد المطاوعة وعدم الممانعة ، لأن الله سبحانه وتعالى نفى السبيل عن الطائعات قال " فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا " ( ) فإن حصل الطوع فقد انتفى سبيل العقاب أو الحرمان ، ولم يبق له من سبب .
والظاهر من نصوص التقنينات العربية أنها تميل إلى اعتبار النفقة أثر من آثار العقد الصحيح ما لم تمتنع الزوجة عن الاحتباس لحق زوجها بدون مبرر شرعى ، عدا القانون الليبى الذى ألغى أحكام النشوز ، مما يعنى أنه أخذ بمذهب أهل الظاهر فى وجوب النفقة بالعقد دون اعتبار للمتابعة وتحققها حقيقة أو حكما من عدمه ( ) .
والتقنينات عدا المصرى – كما يظهر لى من منطوق نصوصها ( ) – لا تعول بأى قدر على صلاحية الزوجة لاستيفاء مقصود الزواج منها " كما هو قول الجمهور " إذ لم تشر نصوصها إلى شئ يفهم منه هذا ، بل إن نصها على شرطى السن ، والسلامة العقلية فى الزواج يؤكد أنها لم تعد ترى فى شرط صلاحية الزوجة لاستيفاء مقصود الزواج منها محلا من الاعتبار .
أما القانون المصرى : فإن نص المادة الأولى من القانون 25 لسنة 1929 والمستبدلة بالقانون رقم 100 لسنة 1985 ، والمذكرة الإيضاحية لهذا الأخير قد عولا على شرط الصلاحية الذى أبرزه الحنفية والجمهور ، أما النص فقد اختار تعبير الحنفية " التسليم " وهو مفسر عندهم بـ " التخلية ، وهى أن تخلى بين نفسها وبين زوجها برفع المانع من وطئها ، أو الاستمتاع بها حقيقة إذا كان المانع من قبلها ، أو من قبل غير الزوج ، فإن لم يوجد التسليم على هذا التفسير وقت وجوب التسليم فلا نفقة لها "( ).
وعلى هذا جاء النص بعبارة " تجب نفقة الزوجة على زوجها من تاريخ العقد الصحيح إذا سلمت نفسها إليه ولو حكما ، حتى لو كانت موسرة ، أو مختلفة معه فى الدين ".
ولا يمنع مرض الزوجة من استحقاقها للنفقة :
ولا تجب النفقة للزوجة إذا ارتدت ، أو امتنعت مختارة عند تسليم نفسها دون حق ، أو اضطرت إلى ذلك لسبب ليس من قبل الزوج ".
فإصراره على لفظة التسليم ومعناها عند الحنفية كما قلنا ، يؤكد حرصه على شرط الصلاحية ( ) لاستيفاء مقصود النكاح منها ، وهو الحكم الذى اطردت به أحكام القضاء منذ زمن ( ) وقد أكدت المذكرة الإيضاحية للقانون 100 لسنة 1985 أن ذلك هو التوجه القانونى فى مصر بقولها " ومن المقرر لدى جميع الفقهاء أن الزوجة المريضة إذا لم تزف إلى زوجها لا تستحق نفقة قبله فى حالة عجزها عن الانتقال إلى منزل الزوجية "
وعلى هذا فإن شرط استحقاق النفقة فى القانون المصرى :-
1-أن تكون الزوجية مستندة إلى عقد صحيح شرعا
فالنفقة تجب للزوجة بالنكاح الصحيح ، فلو كان فاسدا أو باطلا لا تجب نفقة ، لأن الفاسد واجب الفسخ شرعا ، فإن بان فساد العقد أو بطلانه رجع بما أخذته من النفقة ، لانعدام سبب الوجوب ، وهو حق الاحتباس الثابت على زوجته بالعقد الصحيح ، وكذا فى عدته ، أما حق الاحتباس فى النكاح الفاسد وإن ثبت إلا أنه لم يثبت بالنكاح ، بل لتحصين الماء ، وحال العدة فيه لا تكون أقوى من حال النكاح .
وفرق صاحب الذخيرة بأنه إن أنفق بفرض القضاء كان له أن يرجع عليها بما أنفق متى تبين فساد العقد ، وإن أنفق بغير فرض فلا يرجع لأن احتمال التبرع ثابت ، فيكون الإنفاق على سبيل الإباحة فلا رجوع .( )
والحق أن فى النفس شيئا من مذهب الحنفية فى هذا الموضع وكان ينبغى الأخذ بما عند الشافعية والحنابلة أنه لا يرجع عليها بشئ " لأنه انفق فى مقابلة الاستمتاع "( ) أو " لأنه إن كان عالما بعدم الوجوب فهو متطوع به ، وإن لم يكن عالما فهو مفرط فلم يرجع به " ( ) على أن الزواج وإن كان فاسدا فإنه مع الجهل بفساده يعطى حكم الصحيح حتى يتبين وجه الفساد .( ) وهذا ما أخذ به القانون السورى ، فى الزوجية والعدة ( ) .
2- أن تسلم الزوجة نفسها إلى الزوج حقيقة أو حكما .
وقد علمت أن التسليم المراد هو ذلك التسليم الذى يتحقق معه للزوج استيفاء مقصود النكاح منها ، فإن لم تكن صالحة لذلك فلا نفقة لها .
والتسليم الحقيقى أن تنتقل إلى بيته ، أو تدخله إلى بيتها ، إن كان هو محل دخولهما .
أما التسليم الحكمى : فهو إظهار الاستعداد للزفاف ، والانتقال إلى منزل الزوجية ، وقد قضت بعض المحاكم بأنه قد " جرى العرف والعادة على أن الزوج لا ينفق على زوجته قبل الدخول ، فإذا طالبت بنفقتها أجيبت " ( ) وكأنه اعتبر المطالبة إظهار التسليم الحكمى .
وهذا الطلب متسق مع مذهب الحنفية والحنابلة أن النفقة لا تجب مع التساكت ، فإن لم تبذل ولم يطلب فلا نفقة لها وإن أقاما زمنا ، فإن النبى  تزوج عائشة ودخل عليها بعد سنتين ( ) ولم ينفق إلا بعد دخوله ، ولم يلتزم نفقتها لما مضى ( ) .
وعند الحنفية تعليل آخر هو أن النفقة على الزوجة تجرى مجرى الصلة، وإن كانت تشبه الأعواض لكنها ليست بعوض حقيقة ، لأن الاستمتاع – بالزوجة – ملك بالعقد ، وقوبل بالمهر ، وما قوبل بعوض مرة لا يقابل بعوض آخر ، ومن هنا اعتبرت النفقة صلة ، والصلات لا تملك بنفسها بل بقرينة تنضم إليها ، وهى القبض ، كما فى الهبة ، أو قضاء القاضى ، لأن القاضى له ولاية الإلزام فى الجملة ، أو التراضى ، لأن ولاية الإنسان على نفسه أقوى من ولاية القاضى عليه ( ) وخالف الشافعى فى ذلك ( ) .
وستعرف بعد قليل قيمة هذا الخلاف ، المهم هنا أن بذل التسليم من قبل الزوجة ، أو طلبه من قبل الزوج شرط لاستحقاق النفقة فى القانون المصرى ، وسنعرف موقف التقنينات العربية قريبا .
3- أن تكون الزوجة فى طاعة الزوج على الوجه المشروع .
وهذا الشرط لازم لوجوب النفقة ابتداء وبقاء ، ويعبر عنه فقها بشرط الاحتباس ، أو التمكين .
وعليه فإنه متى فوتت المرأة على زوجها حقه فى الاحتباس لم تجب لها نفقة ، بشرط ألا يكون تفويتها هذا مستندا إلى حق شرعى أو عذر مقبول ، فإن كان التفويت لحق أو بعذر فلا " تعد به المرأة ناشزا ، وتستحق نفقتها كاملة ، كما لو منعت نفسها من دخول زوجها بها لحيض أو نفاس ، أو فى نهار رمضان ، أو خرجت من منزل الزوجية بسبب طرد الزوج لها ، أو هربا من اعتدائه عليها بالضرب ، أو نحو ذلك ، أو حجت لأول مرة مع ذى رحم محرم منها " … وتقدير ما إذا كان تفويت الاحتباس بحق أو بعذر أمر يرجع إلى قاضى الموضوع " ( ) وأما إن كان تفويتها لحق الاحتباس بغير حق أو عذر ، فقد رأينا أن جمهور الفقهاء يقولون بسقوط حقها فى النفقة لنشوزها ، وخالف فى ذلك أهل الظاهر وبعض المالكية ، وهو أحد قولى الإمام الشوكانى من المتأخرين .
وقد أخذت عامة التقنينات بقول الجمهور ، وشذ القانون الليبى رقم 10 لسنة 1984 فمال إلى قول المخالفين ، ونص فى مادته 73 فقرة (ب) على أن " تلغى أحكام النشوز الصادرة قبل هذا القانون وتعتبر كأن لم تكن " . ونرجئ الكلام عما يعد نشوزا إلى موضعه من بيان مسقطات النفقة .
ثالثا : مشتملات النفقة
النفقة اسم من مصدر الإنفاق ، ولهذا الأصل فى اللغة معان أشهرها . الافتقار والإنفاد والرواج " يقال : أنفق الرجل إذا افتقر ، وأنفق ماله إذا أنفده ، وأنفقت سوق القوم إذا راجت ، وقال الزمخشرى " وكل ما جاء مما فاؤه نونا ، وعينه فاء فدال على معنى الخروج والذهاب ونحو ذلك " ( ) .
وللنفقة عند الفقهاء تعريفات منها : أنها "الإدرار على الشئ بما به بقاؤه " أو " ما يتوقف عليه بقاء شئ من نحو مأكول وملبوس وسكنى " ( ) والظاهر من آية الطلاق " اسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن " ( ) أن النفقة أصل فى الطعام مجاز فى غيره ( ) لأن الله ذكر الإسكان والنفقة ولو كان الإسكان منها أصلا وحقيقة لما أفرده بالذكر .
وعل كل حال فإن الفقهاء ذكروا ما يجب للمرأة على زوجها على وجه النفقة ، فأجمعوا على أشياء ، واختلفوا فى أخر ، فأجمعوا على الطعام والكسوة( ) والسكنى والأثاث المنزلى ( ) واختلفوا فى نفقة الخادم والزينة والتطبيب .
1- نفقة الخادم
الخادم فى العرف الفقهى هو الآدمى الذى يقوم بالخدمة ، وهذا يعنى أنه
شئ غير الآلة ، كالمكنسة والمغسلة ونحوهما من الأدوات الكهربائية التى تغنى عن أكثر جهد الإنسان فى الخدمة ، وهذه الأدوات تعد تحقيقا من المتاع ، فتجب فى رأيى باعتبارها كذلك ، لا باعتبارها عوضا عن الخادم ( ) .
وفى الإلزام بالخادم اختلف الفقهاء :
فقال جمهورهم : يلزم إن كانت لا تخدم نفسها لمرض أو شرف ، واعتبروه من قبيل العشرة بالمعروف ، قال تعالى " وعاشروهن بالمعروف "( ) ومن العشرة بالمعروف أن يقيم لها خادما ، ولأنها مما تحتاج إليه فى الدوام فأشبه النفقة ( ) .
ونفى ابن حزم والشوكانى إيجاب ذلك على الزوج ، وهو قول أبى حنيفة – فى رواية الحسن عنه – فى الزوج المعسر ( ) .
ووجه النفى بإطلاق : أنه " ليس فى الأدلة ما يدل على إيجاب ذلك على الزوج ، وإن كان مما يدخل فى حسن العشرة وتحت الإمساك بمعروف ، وتحت قوله " ولا تنسوا الفضل بينكم " ( ) ولكن ليس ذلك بحتم على الزوج ، على تقدير أن الزوجة ممن تعتاد ذلك " ( ) .
ووجه قول أبى حنيفة فى المعسر : أن الواجب على الزوج المعسر من النفقة أدنى الكفاية ، وقد تكفى المرأة بخدمة نفسها ، فلا يلزمه نفقة الخادم .
والحقيقة أن ابن حزم وإن نفى وجوب الخادم إلا أنه ذكر أن على الزوج " أن يقوم لها بمن يأتيها بالطعام والماء ، مهيأ ممكنا للأكل ، غدوة وعشية ، وبمن يكفيها جميع العمل من الكنس والفرش ، وعليه أن يأتيها بكسوتها كذلك"( ) ولا نرى للخدمة معنى إلا القيام لها بما ذكر .
وعلى ذلك فإن للمرأة على زوجها خدمتها إن كانت تحتاج إلى خدمة تعجز عن القيام بها ، وعليه نفقة خدمتها إن كان موسرا ، وكانت هى ممن اعتاد أن يخدم ، والأفضل لها ديانة أن تقوم بأمر البيت بنفسها ، فقد أمر النبى  فاطمة ( ) بذلك ، وضربت أسماء بنت أبى بكر المثل فى خدمتها لزوجها الزبيربن العوام ( )  . فليكن تشريع نفقة الخدمة فى إطار قوليه تعالى "وعاشروهن بالمعروف " و " ولا تنسوا الفضل بينكم " .
2- الزينة والطيب
تتزين المرأة بالثياب وأدوات الزينة ، وما تصنعه بنفسها من الاغتسال
والامتشاط ، والاختضاب – صبغ الشعر ونحوه بالحناء – وتتطيب بالعطر ونحوه.
ولا شك أن الثياب لازمه على مثل الزوج لمثلها بالإجماع ( ) كما لاشك أن الزوج يلزمه ما تحتاجه للنظافة والاغتسال ، وما يلزم لامتشاطها بحسب العرف ( ) لأن الشرع أمر بالنظافة ، وإكرام الشعر . ولكن هل يجب لها عليه ما تتزين به النساء – ومثاله عند الفقهاء الخضاب- ويمكن أن نمثل له فى عصرنا بالماكياج ؟
الظاهر من قول جمهور الفقهاء : انهم لا يرون لها ذلك لعدم الدليل على
أنها تلزم الزوج ، ولأنها ليست مما تدعوا إليها الضرورة ، أو لأن الزينة تراد للزوج ، فإن طلب منها التزين على هذا النحو وجب عليه نفقته ، وإن لم يطلبه فلا يلزمه ( ) .
وجاء فى عبارة المالكية : ويفرض لها " … وزينة تستضر أى يحصل لها ضرر عادة بتركها ككحل ودهن معتادين ، وحناء لرأسها اعتيد ، لا لخضابها ولا ليديها ، ومشط – بفتح الميم – وهو ما يخمر به الرأس من دهن وحناء وغيرهما " ( ) .
والضرر المذكور بالمثال كما فسره الدسوقى " ما يحصل به الشعث – عيب فى الشعر – عند تركه " ويمكننا أن نمثل له بخشونة الشعر أو هيجانه .
ولا شك أن إكرام الشعر على هذا النحو ، والكحل والدهن من قبيل الزينة وهذا يعنى أن الزينة ما يلزم الزوج ، وقيده أن تكون زينة معتادة .
والحق أننى أجد فى هدى الإسلام ما يوجب على المرأة أن تتزين لزوجها حتى تسره كما جاء فى الحديث ، ورأينا النبى  يأمر المرأة أن تغير من كفها بالخضاب ، وقال منتقدا حالها " يد امرأة هذه أم كف سبع ؟ " وأمر بالتطيب من الحيض ، وأمر بالسواك ، ونهى الرجال أن يفاجئوا النساء وقال "أمهلوا " وعلل ذلك بقوله " حتى تمتشط الشعثة وتستحد أى تزيل الشعر الذى يكرهه الرجل فى المرأة .
وقد نقل عن الإمام السيوطى قوله – فى كتابه الإيضاح فى علم النكاح ورقة 5 – إن الفقهاء أكثروا من نصح النساء بتسريح الشعر وتزيينه ، والتطيب بالطيب أمام الزوج حتى يطيب قلبه " ( ) .
وفيما روى عن السلف الصالح أن الزينة كانت مألوفة عند نساء الصحابة ، حتى أن تبذل – ترك الزينة – المرأة كان مدعاة للسؤال والاستفهام ، ومن ذلك ما أخرج أحمد أن زوجة عثمان بن مظغون كانت تختضب ، وتتطيب، ثم تركت ذلك ، فدخلت على عائشة يوما بدون طيب ولا خضاب ، فعجبت عائشة ، فسألتها : ما حملك على هذا ؟ فقالت : يا أم المؤمنين ، إن عثمان لا يريد الدنيا ، ولا يريد النساء . فدخل رسول الله  فأخبرته عائشة بذلك ، فدعا عثمان فقال " يا عثمان تؤمن بما نؤمن به ؟ قال نعم ، قال " فأسوة لك بنا " ( ) وإنما أنكر عليه لزهده فيها حتى انعكس ذلك عليها ، ولو كانت هى البادءة لأمرها أن تغير ، كما فعل مع غيرها .
وقصة أم الدرداء معروفة ومشتهرة ، فما نبه سلمان الفارسى إلى تقصير أبى الدرداء فى حقها إلا تبذلها ( ) .
وفى وصية عبد الله بن جعفر ابنته قال " …… وعليك بالكحل فإنه أزين الزينة ، وأطيب الطيب الماء " ( ) .
وفوق هذا كله قول الله تعالى " ولا يبدين زينتهن .. الآية " ( ) يعنى أنهن يتزين أم لم يكن طبعا ، فغرضا لاستمالة الرجل ، ودعوته الحيية إلى التمسك بها ، وقضاء حاجته وحاجتها .
وقد ثبت بيقين أن من أسباب هجران الرجال لبيوتهم ، وامتداد أعينهم إلى غير زوجاتهم ، أن يجدوا فيهن ما ليس فى زوجاتهم .
أمام هذا كله ، وباعتبار أن الله أمر كلا الزوجين بالسكن ، فإنه لمن الصعب على النفس أن تنكر على المرأة حقها فى نفقة الزينة متى أوجبها الشرع عليها استبقاء لود الأزواج ومحبتهم ، مع مراعاة أن الزينة المشروعة ما كانت للزوج ، وفى إطار ما رسم الشرع .
وقد صرح الماوردى بذلك قال مبررا وجوب الدهن والمشط " وإن من حقوقه عليها استعمال الزينة التى تدعوه إلى الاستمتاع بها ، وذلك معتبر بعرف بلادها ، فمنها ما يدهن أهله بالزيت كالشام فهو المستحق لها ، ومنها ما يدهن أهله بالشيرج كالعراق فهو المستحق لها ، ومنها ما لا يستعمل أمثالها فيه إلا ما طيب من الدهن بالبنفسج والورد ، فتستحق فى دهنها ما كان مطيبا " ( ) وقد ورد فى عبارة ابن عابدين الحنفى والماوردى الشافعى ، وابن قدامة الحنبلى أن الرجل يلزمه من الطيب ما كان مزيلا لسهوكة الجسد ، والسهك هو ريح العرق( ).
نفقة التطبيب والعلاج
وهو ما يلزم الزوجة ذاتها( ) من تداو وعلاج وما يقتضيه ذلك من نفقة وجمهور العلماء يقولون : لا يلزمه ، لأنه يراد لإصلاح الجسم فلا يلزمه كما لا يلزم المستأجر بناء ما يقع من الدار وحفظ أصولها( ).
وقال ابن عبد الحكم من المالكية والزيدية تلزمه ، قال ابن سلمون الكنانى " وقال ابن عبد الحكم عليه أجرة الطبيب إن احتاجت إليه ، وفى أجرة القابلة – المولدة – قولان : أظهرهما وجوبها عليه " ( ) .
وفى متن الأزهار للزيدية " على الزوج كيف كان لزوجته كيف كانت كفايتها كسوة ونفقة وإءاما وداوء " ( ) .
وبقول الزيدية وابن عبد الحكم يقول المعاصرون من علمائنا ، ويستحسنون النص عليه فى القوانين ، ونحن معهم فى ذلك للأدلة الشرعية التى تشهد لوجوب التداوى ، ومنها ما روى عن أسامة بن شريك قال : شهدت الأعراب يسألون النبى  هل علينا جناح أن لا نتداوى ؟ فقال  " تداووا عباد الله ، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء إلا الهرم " .
وما روى أحمد أن رسول الله  عاد رجلا به جرح ، فقال رسول الله  " ادعوا لى طبيب بنى فلان " .
وعن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله  كان يسقم عند آخر عمره، أو فى آخر عمره ، وكانت تقدم عليه وفود العرب من كل وجه فتنعت له الأنعات ، وكنت أعالجها له " .
فهذا رسول الله  يتداوى ، ويأمر بالطبيب للتداوى ، ويأمر عباد الله بالتداوى ، والأمر يفيد الوجوب إلا ما صرفته عنه صارفة . ( ) .
وإنما تمسكنا بذلك لأن أساس قول الجمهور أن المرء لا يجب عليه تطبيب نفسه ، لكون فائدة التطبيب غير متيقنة ، فلا يجب عليه تطبيب زوجته( )
وقد ظهر من الأدلة الشرعية خطأ فكرتهم عن الطب ، أو على الأقل تخطى مرحلة التداوى البدائية ذات النتائج المتوهمة .
وقد أحسن الإمام الشوكانى إذ سوغ نفقة العلاج بالقياس على الطعام والإدام ونحوهما مما يحفظ صحتها ، قال " وأما إيجاب الدواء فوجهه : أن وجوب النفقة عليه هى لحفظ صحتها ، والدواء من جملة ما يحفظ به صحتها"( ).
وبذلك يتضح أن ما ذهبت إليه القوانين المعاصرة ( ) من اعتبارها " مصاريف العلاج وغير ذلك مما يقضى به الشرع " له أسس من الشرع والفقه .
وبخصوص القانون المصرى فإن مذكرته الإيضاحية – للقانون 100 لسنة 1985 – قد أحالت فيه إلى فقه المالكية وفقة الزيدية ، وهذا صحيح وقد بينا مصدره ، وليسا خلوين منه كما زعم البعض ذلك ( ) كما أن عبارة " وغير ذلك مما يقضى به الشرع " ليست بدعة ، وإن أريد بها لوازم الزينة ، بعد أن أثبتنا كم حض الشرع عليها استمالة لقلب الزوج ، فظهر أنها من قبيل "ما لا يتم الواجب إلا به " وقد يفاجأ القارئ إذ يعلم أن " الأصح – فى مذهب الشافعى – وجوب أجرة حمام بحسب العادة ، إن كانت عادتها دخوله للحاجة إليه عملا بالعرف ، وذلك فى كل شهر مرة ، كما قاله الماوردى ، وجرى عليه ابن المقرى ، لتخرج من دنس الحيض الذى يكون فى كل شهر غالبا " ( ) والحمام لمن لا يعرف هو " الساونا " فى زماننا .
وعلى ذلك فإننا لا نظن برجل تقى فقيه غير هياب فى الحق كالإمام الشيخ جاد الحق على جاد الحق شيخ الأزهر السابق أن يكون كما زعم البعض قد أضافها إرضاء لهوى امرأة ذات منصب ، تلهفا على المناصب التى وصل إليها ( ) …. وكان حريا بالزاعمين أن يعلموا علم الشيخ قبل أن يرموه بهذه الفرية ، رحم الله الجميع .
رابعا : تقـديـــــر النفقـــة
الأصل أن تكون الزوجة مع زوجها فى بيت واحد وتأكل مما يأكل وتسكن حيث يسكن ، والواجب أن يكسوها على نحو ما يكتسى ، وفى القرآن الكريم " أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم " ( ) وفى السنة المشرفة أن النبى  قال " أطعموهن مما تأكلون وأكسوهن مما تكتسون " ( ) ولا شك أن هذا هو حال البيوت عند الوفاق ، حيث يقوم الزوج على حاجة أهله جميعها ، وهو ما عرف فقها بنفقة التمكين ، بمعنى أن يوفر للزوجة كل أسباب النفقة دون تحديد ، وفى حالة الوفاق لا تثور مشكلة تقدير نفقة الزوجة أو فرضها بالتراضى أو التقاضى .
ولكن تثور المشكلة فى حال الخلاف الذى قد يكون مرده تقتير الزوج أو تقاعسه عن الوفاء بحاجات الزوجة ، وعندئذ يلزم فرض نفقة للزوجة تراضيا ، أو تقاضيا ، وتسمى فى هذه الحالة بنفقة التمليك ، وفيها تثور مشكلة أخرى هى : هل تلزمه أعيان النفقة أم أبدالها أى قيمتها ؟
1-أساس تقدير النفقة
ورد فى النفقة أدلة متعددة منها :
قول الله تعالى " لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما أتاها " ( ) وواضح أن المراعى فيه حال المنفق .
وفى آية الرضاع " وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف " ( ) وفى حديث هند " خذى ما يكفيك وولدك بالمعروف " وفى خطبة حجة الوداع " ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف " وكل ذلك يشير إلى اعتبار حال المرأة فى النفقة .
ومن هنا اختلف الفقهاء فى تأسيس التقدير إجمالا ، وفى التفصيلات .
ففى الإجمال .
1- ذهب بعض الحنفية والمالكية والحنابلة والزيدية إلى أن النفقة تقدر بحال الزوجين معا جمعا بين الأدلة ( ) .
2- والشافعية وبعض الحنفية ، وبعض المالكية فى المعسر ، وأهل الظاهر والشوكانى . يعتبر فى التقدير حال الزوج ، لصريح قول الله تعالى "لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما أتاه الله " قال الماوردى " فدلت هذه الآية على اعتبار النفقة بالزوج ، واختلافها بيساره وإعساره ، فسقط بذلك اعتبار كفايتها ، ……. ولأن اعتبارها بالكفاية مفض إلى التنازع فى قدرها" لأن الزوج يدعى إنها تلتمس فوق كفايتها ، وهى تزعم أن الذى تطلب تطلبه قدر كفايتها( ) .
وقد حدا هذا بالشافعى رحمه الله أن قدر النفقات كما تقدر الكفارات، فاعتبر نظير أعلى الكفارات فى نفقة الموسر ، ونظير أدناها فى نفقة المعسر ، وما بينهما فى نفقة المتوسط .
وأهل الظاهر وبقية من معه لم يقدروا ، ولكن قالوا ينفق بحسب حاله .
3- وحكى عن أبى حنيفة أنه قال : يعتبر حال المرأة على قدر كفايتها( ).
وقد نبه الإمام السرخسى الحنفى إلى أن كفاية الزوجة مقيدة بالمعروف قال " يفرض بمقدار ما يعلم أنه تقع به الكفاية ، ويعتبر المعروف فى ذلك ، وهو فوق التقتير ودون الإسراف ، لأنه – أى المفرض – مأمور بالنظر من الجانبين ، وذلك فى المعروف .( )
ومعنى هذا أن للنفقة حدا لا ينبغى أن تنزل عنه .
وإذا ضمت الأدلة إلى بعضها ظهر أن أقل الواجب هو ما يفى بالحاجة الضرورية ، أما أكثره فهو ما يناسب حال المنفق دون إسراف ، وذلك حتى نتحاشى التبذير والضياع .
وهذا ما أخذت به أكثر التقنينات ، وانتهى إليه العمل فى مصر حيث نص فى المادة 16/1 من المرسوم بقانون 25 لسنة 1929م والمستبدلة بالقانون رقم 100 لسنة 85 م على أن " تقدر نفقة الزوجة بحسب حال الزوج وقت استحقاقها يسرا وعسرا على ألا تقل النفقة فى حال العسر عن القدر الذى يفى بحاجاتها الضرورية " .
واختار التقنين الأردنى حصر الحد الأدنى فى " القوت والكسوة الضروريين للزوجة " (م 70) .
أما التقنين السورى فاستبدل قيد الحاجة الضرورية بـ " حد الكفاية للمرأة" ( م 76 ) .
وجاء نص القانون الليبى خلوا من ذكر الحد الأدنى ( م 63 ) ، وكذلك القانون السودانى ( م 66 ) .
وقد أخذ القانونان اللبنانى والعراقى باختيار الخصاف من اعتبار حال الزوجين معا فى تقدير النفقة ( م 92 لبنانى 27 عراقى ) غير أن ظاهر النص اللبنانى أن النفقة مقيدة بقدر الكفاية لا تجاوزه ولا تنزل عنه ، ولفظ عبارته " النفقة تصير لازمة الأداء بتراضى الزوجين على شئ معين ، أو بحكم قاضى ، والنفقة المقدرة بهذه الصورة يجوز زيادتها ونقصها بتغير الأسعار ، أو بتبدل أحوال الزوجين عسرا أو يسرا ، وبتحقق أنها أقل أو أكثر من قدر الكفاية " .
2-النفقة المقدرة مؤقتة بطبيعتها :
رأينا أن القرآن الكريم أوجب النفقة على أساس حال المنفق ، وقد ختمت آية النفقة بقوله تعالى " سيجعل الله بعد عسر يسراً " ( ) وهذه إشارة إلى أن الحال الواحد لا يبقى على الدوام فقد يوسع الله على المعسر ، وقد يختبر الموسر، ومن هنا استقر رأى العلماء على أن النفقة المقدرة مؤقتة بطبيعتها ، لأنها مبنية على أساس حال المنفق وقت الاستحقاق ، فإن تغير حالة من بعد صح أن يتغير هذا التقدير ، فإن أعسر المنفق جاز له أن يطلب التخفيض ، وإن أيسر جاز للزوجة أن تطلب الزيادة ، وينبغى أن يكون الحكم كذلك إن جدت لها حاجة ضرورية معتبرة .
جاء فى نفقات الخصاف وشرحه " قلت : فما تقول إن صالحت المرأة زوجها – أى تراضت معه – على شئ معلوم كل شهر ، ثم رفعته إلى القاضى وقالت : لا تكفينى هذه النفقة ؟ قال : يزداد لها بقدر الحاجة ، قال : وكذلك لو كان القاضى فرض لها فريضة والسعر رخيص ثم غلا ، فإنه يزيد لها فى الفرض"( ).
ولكن ما هو وقت الاستحقاق ؟ هل وقت تغير الحال ، أم وقت الطلب ؟
مذهب الحنفية وإحدى الروايتين عن أحمد أن التقدير لا يغير إلا من وقت المخاصمة والطلب ، لأنها نفقة تجب يوما بيوم فتسقط بتأخيرها ( ) والأصل فيه : حديث هند زوج أبى سفيان فقد قضى لها النبى  أن تأخذ فى المستقبل قدر الكفاية ، ولم يجوز لها أخذ ما مضى ( ).‏
وقياس قول الجمهور أن العبرة بالاستحقاق لا بالطلب ووجهه: أن الواجب حق يجب مع اليسار والإعسار ، فإن أيسر فعليه النفقة بكمالها ، وإن أعسر سقط الزائد بإعساره ( ).
وسيأتى بسط دليلى الفريقين فى بيان الامتناع عن النفقة ، والمهم هنا إن النفقة إن كانت مفروضة مياومة فالأمر سهل ، وكذلك إن كانت مشاهرة ، إذ لا يظن بالأحوال أن تتقلب تماما على وجه الفجاءة .
ولكن المشكل فى الأمر أن القوانين السورى والأردنى والسودانى قد نصت على أنه " لا تقبل دعوى الزيادة أو النقص فى النفقة المفروضة قبل مضى ستة أشهر على فرضها إلا فى الطوارئ الاستثنائية " ونص القانون المغربى على أن الطلب – الدعوى – لا يقبل قبل سنة ، وبمدة الستة أشهر أخذ مشروع القانون العربى الموحد ( ) وقد عللته المذكرة الإيضاحية بأنه " قطعا لسبيل الدعاوى الكيدية ، أخذت اللجنة بتقدير مدة أقلها ستة أشهر شمسية لا يجوز خلالها تعديل فى النفقة المفروضة ، وهذه فترة معقولة لا يطرأ فيها تغيير يذكر فى أغلب الأحوال ، ما لم تطرأ ظروف استثنائية مفاجئة كإفلاس أو حريق أو ميراث ، فحينئذ يمكن طلب التعديل إثر هذه الطوارئ ، ولو لم تمض الفترة المشروطة ".
وفى رأيى : أن مدة الستة أشهر مدة طويلة ، وكثيرا ما تستغرق مثلها أو أكثر منها ، الأمر الذى يزيد من معاناة المحتاجة طالبة الزيادة ، أو يثقل كاهل الملتزم طالب الانتقاص ، لذا فالأفضل فى رأيى ألا يحدد للمخاصمة وقت .
وهذا ما أخذت به التقنينات العربية الأخرى ( ) ، والقانون المصرى وإن لم ينص صراحة على زيادة المفروض وإنقاصه إلا أن العمل عندنا مستقر على ذلك ، وقد قضى بأن " المنصوص عليه فى النفقة أن نفقة الزوجة لا تزاد إلا من وقت الطلب والمخاصمة ، ولا يجوز أن تكون من تاريخ حصول اليسار ، والمخاصمة لا تتحقق إلا من تاريخ الإعلان بالدعوى "( )
3-الواجب فى النفقة المقدرة :
الأصل أن تجب النفقة على الزوج بطريق التمكين ، ولكن عند الخلاف يصار إلى التمليك ، فهل يملكها أعيانا أم أبدالا ؟
يرى الحنفية : أن ذلك إلى القاضى ، إن شاء فرضها أصنافا ، وإن قومها بالأثمان ( ).
ومذهب الشافعى : أن المعتبر الأعيان لا الأثمان ( ).
وعند المالكية والحنابلة : الأصل الأعيان ، ولكن إن تراضيا على بدل جاز ( ).
والأقرب إلى الأدلة هو الأخير ، لأن الله سبحانه وتعالى قال " اسكنوهن من حيث سكنتم " وقال النبى  " تطعمها مما تأكل ، وتكسوها مما تلبس " فذكر أعيانا ولم يذكر أبدالاً ، فإن تراضيا على البدل فهذا شأنهما( ).
والظاهر من النصوص القانونية التى بين أيدينا أنها تأخذ بمذهب الحنفية لأنها تناولت ذكر النفقة ببيان أعيانها ، وأشارت فى التقدير إلى مراعاة تغير الأسعار .
وقد صرح مشروع القانون العربى الموحد فى مادته الخمسين بهذا العمل ونصها " تفرض النفقة الزوجية أصنافا عينية ، أو تقدر بالنقود ".
4-مسكن الزوجية كأهم مشتملات النفقة :
حاجات الحياة الأساسية ثلاث : الغذاء لإقامة البنية ، والكسوة لوقايتها الخارجية وستر العورة ، والمأوى للراحة والسكن ، وقد رأينا أن العلماء أجمعوا على هذه الثلاث للزوجة .
وفى تصورى أن المسكن يأتى على قمة الحاجات خاصة للمرأة ، لأن مبنى حالها فى الإسلام على القرار فكان لها حاجة دائمة ، أما الغذاء فحاجة متقطعة ، فضلا عن أن حاجة الجائع يسهل على الناس سدها وليست كذلك حاجة المأوى ، وبالاستتار عن الأعين يكفى من اللباس أقله .
ولعله لهذه الأهمية أفرد الله السكن فى الذكر الحكيم ونص عليه فى المطلقات خاصة ليكون للزوجات ألزم ، ونهى عن المضارة به والتضييق فيه قال " تعالى " أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن "( ).
وعلى أساس هذه الآية الكريمة اجتهد الفقهاء فى المسكن الواجب للزوجة، وانتهوا إلى أنه يجب فيه ما يلى :
الشرط الأول : أن يكون ملائما لحال الزوج المالية .
الشرط الثانى : أن يكون المنزل مستقلا بها ليس فيه أحد من أهله أو من أهلها ، ومن باب أولى لا تشاركها فيه ضرتها ( ).
وقد استثنى الحنفية من أهل الزوج ولده الصغير الذى لم يبلغ سن التمييز، لأنه لا يخشى منه على نفس أو مال ، ولا يفوت بوجوده تمام العشرة الزوجية( ).
والمالكية أكثر توسعا فى هذا الباب ( ) إذ يجيزون سكنى الربيب – ولد الزوجة من الزوج آخر – وولد الزوج من غيرها فى مسكن الزوجية ، وليس لأحدهما أن يعترض إن لم يكن لهذا الصغير أو ذاك حاضن ، سواء علم المعترض – من الزوجين – بوجود الصغير عند العقد على الزوجة أو يعلم .
وإن كان للصغير حاضن آخر يمكن أن ينتقل إليه فإن شرط عدم الاعتراض على إقامته بمسكن الزوجية أن يكون الطرف الآخر عالما بوجوده عند العقد ورضى به ، لأن علمه به من أول الأمر وسكوته عنه ، يقوم مقام الشرط فى العقد .
وفضلا عن الصغير فإن المالكية يجيزون سكنى أقارب الزوج مع الزوجة ولو مع غير شرط ، إذا كانت رقيقة الحال ، ما دام فى البيت متسع ، ولم يثبت تضررها منهم بتتبعهم عوراتها ، فإن ثبت تضررها كان لها الحق فى الانتقال .
وكيف كانت المرأة – ذات قدر أو وضيعة – فإنه إذا شرط عليها عند العقد أن تسكن مع أقاربه كوالديه وأخوته ، فإنه يلزمها أن تسكن معهم ، وليس لها المطالبة بمسكن منفرد ، لأن المسلمين عند شروطهم ، ما لم يثبت تضررها من السكنى معهم وعلى ذلك يكون سكنى الغير فى مسكن الزوجية مشروط عند المالكية بالأتى : ( )
أ-أن يكون إسكانهم واجبا على الزوج شرعا.
ب-أن يكون للزوجة محل خاص بها ، بحيث لا يمكن لأحد من أقارب الزوج الاطلاع على أسرارها وما تريد إخفاءه عنهم .
حـ –ألا يلحق الزوجة منهم ضرر يعكر عليها صفو حياتها معهم .
دـ وفى خصوص الصغير يشترط أن لا يكون له حاضن آخر ، فإن كان فالشرط أن تعلم الزوجة ، فشرط إلزام الزوج بإقامته معهما ألا يكون للصغير حاضن آخر ، أو يكون إلا أنه علم عند العقد ورضى بذلك.
ولا شك أن مذهب المالكية أرفق بالمحتاجين وذى العالة ، ولكنه عند التحقيق ينتهى بالحكم إلى ما انتهى إليه الحنفية لأن " عبارة المتون تجعل الغرفة التى لها غلق مسكنا شرعيا ، ولو كان بجوارها غرفة ضرتها أو حماتها ، فأولى أن تكون الشقة كذلك ، إلا إذا آذوها بالقول أو الفعل إيذاء بينا قام الدليل عليه "فعندئذ لها أن تعترض لا " لنقصان المسكن وعدم كفايته ، بل لأنها بين جيران غير صالحين ، ومن المقرر – كما سيأتى – أن المسكن إذا كان بين جيران غير صالحين يكون على الزوج أن ينقلها إلى غيره أيا كان هؤلاء الجيران "( ).
وقد اتفقت التقنينات ( ) على استثناء ولد الزوج الصغير غير المميز من دائرة المنع ، أما غيره من الأقارب فقد اختلف قولها فيهم ، وأقربها إلى مذهب المالكية القانون السورى حيث نص على أنه " ليس للزوج إسكان أحد من أقاربه مع زوجته سوى ولده الصغير غير المميز إذا ثبت إيذاؤهم لها " فشرط المنع من إسكان الأقارب بثبوت إيذائهم للزوجة ، فإن لم يكن إيذاء فلا منع .
والظاهر من خطة القانون السودانى ( ) أنه على هذا النهج ، حيث حظر على الزوج أن يسكن مع زوجته ضرة لها فى دار واحدة إلا إذا رضيت بذلك وسكت عن الأهل ، ولم ينص على شرط الاستقلال ، ولكنه أبرز شرط أن يكون المسكن آمنا ، فإن تحقق الأمن بعدم الإيذاء كان المسكن شرعيا صالحاً وإن كان معها الأهل فيه .
والقانون الليبى كالقانون السورى إلا أنه تزيد فى موضعين ( ).
أولهما: أنه جعل إسكان الأهل الذين تجب نفقتهم شرعا حقا لكلا الزوجين ، مما يعنى أن للزوجة أن تسكن معها والديها إذا كانا فقيرين ، ولزمتها نفقتهما ، وهذا لا دليل عليه فى الشرع ، وفيه إلزام ما لا يلزم .
والثانى : أنه منع من هذا الحق متى ثبت الإيذاء من المشاركة فى السكن بحكم من المحكمة المختصة ، وهذا فتح لباب التخاصم ، فضلا عن أن الإيذاء من المشاركة فى السكن أمر قد لا يسهل إثباته أو نفيه فى أغلب الأحوال ( ).
واستثنى القانون الأردنى أبوى الزوج الفقيرين العاجزين عن الكسب ، إذا لم يمكنه الإنفاق عليهما استقلالا ، وتعين وجودهما عنده دون أن يحول ذلك من المعاشرة الزوجية ، فهذان لهما السكنى مع الزوج فى المسكن الذى هيأه لزوجته دون توقف على رضاها ، بالشروط التى ذكرها ، وهى وإن كانت قاسية إلا أن مفهوم الشرط الأخير يفيد أن حكمه ينصرف إلى مسكن ذى منافع مشتركة لا تستقل الزوجة فيه إلا بغرفة ، ومثل هذه الحالة تقتضى التشدد.
وأبعد التقنينات – فى رأيى – عن مراعاة المعروف ، التقنين العراقى لأنه يمنع إسكان أحد من أقارب الزوج – باستثناء الصغير غير المميز – مع الزوجة فى دار واحدة إلا برضاها ، وهذا إن لاق بالموسرين فإنه لا يليق بالمعسرين ، لأن الدار تضم بيوتا وقد تتعدد مرافقها وإلزام عامة الأزواج بهذا فيه عسر ومشقة .
وفى مصر يجرى العمل على الراجح من مذهب الحنفية ، ومقتضاه كما فى مرشد الحيران :
1- تجب السكنى للمرأة على زوجها فى دار على حدتها إن كانا موسرين، وإلا فعليه إسكانها فى بيت من دار على حدته ، به المرافق الشرعية، وله جيران بحسب حال الزوجين (م 184).
2- ليس للزوج أن يجبر المرأة على إسكان أحد معها من أهله ، ولا من أولاده الذين من غيرها سوى ولده الصغير الغير المميز ، وليس لها أن تسكن معها فى بيت الزوج أحدا من أهلها ، ولو ولدها الصغير من غيره ، ولا يكون ذلك إلا بالرضا. (م 185)
3- إذا أسكن الزوج امرأته فى مسكن على حدته من دار فيها أحد من أقاربه فليس لها طلب مسكن غيره إلا إذا كانوا يؤذونها فعلا أو قولا ، ولها طلب ذلك مع الضرة، فإن كان فى نفس المسكن المقيمة هى به ضرة لها أو أحد أقارب زوجها فلها طلب مسكن غيره ولو لم يؤذوها فعلا أو قولا (م 186).
وفى رأى أستاذنا الدكتور العطار فإن تضررها من سكنى الغير يجب ألا يكون مشوبا بإساءة استعمال الحق .( )
الشرط الثالث : أن يكون المسكن بين جيران صالحين ( ).
فإن كان موحشا ، وليس للزوجة من يؤنس وحشتها ، أو كان بين جيران يؤذونها بالقول أو الفعل – ولو كانوا من أهل الزوج كما رأينا – فإن لها أن ترفض الدخول فيه ، أو تطلب النقلة منه .
الشرط الرابع : أن يكون المسكن مؤثثا مفروشا مشتملا على مرافق الحياة الضرورية بحسب مكانة أمثال الزوج الاجتماعية ، وفى حدود حالة الزوج يسرا وعسرا ، وقد علمت عند حديثنا فى الجهاز أن متاع البيت على الزوج عند جمهور الفقهاء ، وشذ المالكية فقالوا تتجهز المرأة فى حدود ما نقدها من صداقها بما يتجهز به مثلها ، وهو قول مهجور فى كافة التقنينات المعاصرة .
فإن توافرت فى المسكن الشروط المذكورة وجب على الزوجة الانتقال إليه ، وإلا اعتبرت ناشزا ما لم يكن امتناعها لسبب آخر ، وإن اختلت هذه الشروط أو بعضها فلا إجبار على الزوجة فى الدخول فى الطاعة ، وعلى الزوج نفقتها ، لأن امتناعها عن النقلة إليه ، أو القرار فى بيته امتناع بحق .
خامسا : مشكلات النفقة
تبرز القوانين جملة من المشكلات المتعلقة بالنفقة مما يكثر حصوله فى الواقع . وهذه المشكلات هى : -
1- نفقة زوجة الغائب
يقصد بالغائب من يتعذر إحضاره إلى مجلس القضاء لمخاصمته فى النفقة التى تطالب بها زوجته ، ويستوى أن يكون مسافرا سفرا بعيدا ، أو مختفيا ولو فى البلد الذى تقيم فيه زوجته .
وفى القضاء على الغائب يفرق بين ثلاث حالات :
الحالة الأولى : إذا لم يترك الغائب مالا ظاهرا ، ويقصد بالمال الظاهر المال الحاضر الموجود ، وفى هذه الحالة إن طلبت الزوجة فرض نفقة لها ، كان على القاضى أن يفرض لها النفقة على زوجها ، ثم يأذن لها بالاستدانة عليه ، وتلزم إدانتها من تلزمه نفقتها من أقاربها بفرض كونها غير متزوجة ، على أن يرجع الدائن على الزوج عند حضوره .
وعلى القاضى استيثاقا لحق الزوج أن يتثبت من الزوجية ، وأن يحلف الزوجة يمينا تسمى يمين الاستيثاق ؛ أنها زوجته تستحق النفقة عليه ، وليست ناشزا ، ولا مطلقة انقضت عدتها ، وعلى القاضى أيضا أن يأخذ منها كفيلا بما تستدينه على زوجها ، حتى يكون للدائن حق الرجوع على الكفيل إن ظهر أنها لا تستحق نفقة ( )
والمادة الخامسة من القانون المصرى لم تشر إلى حالة ما إذا طلبت زوجة الغائب الذى ليس له مال ظاهر النفقة أو الإذن لها بالاستدانة ولم تطلب التطليق لعدم الإنفاق ، والواجب طبقا للمادة 280 من لائحة الأحكام الشرعية أن يطبق الراجح من مذهب الحنفية على أساس أن هذه الحالة غير منصوص عليها، علما بأن مذهب المالكية الذى أخذت منه المادة الخامسة يجيز لزوجة الغائب أن تنفق على نفسها وترجع بذلك على زوجها ، جاء فى العقد المنظم للأحكام " وأما إن علم ملاؤه فى غيبته فإنها تتبعه بنفقتها ، وتكون دينا عليه لها ، وتحاص به الغرماء ، ويفرضها الحاكم لها عليه ، قال ابن هشام ولا يؤجل " ( ) والفتوى فى مذهب الحنفية على قول زفر ( ) وهو كقول المالكية إلا أنه لايقيد بالعلم بالملاءة.
الحالة الثانية : إذا ترك الزوج الغائب مالا ظاهرا من جنس النفقة ( ) .
ومثاله كل مال يؤخذ فى النفقة بلا بيع ، كالطعام والنقود وفى هذه الحالة إن كان المال المتروك فى متناول الزوجة قضى لها بالنفقة فيه بلا خلاف .
وإن كان هذا المال وديعة تحت يد شخص أو دينا على شخص ما فجمهور الحنفية يقولون : إن كان الوديع أو المدين مقرا بالمال والزوجية ، أو منكرا لهما أو لأحدهما غير أن القاضى يعلم ، فإن القاضى يفرض لها النفقة ، ويأمر الوديع أو المدين بتسليم ما فرض لها مما عنده للزوج ، وليس هذا من قبيل قضاء القاضى بعلمه ، وإنما هو إعانة صاحب الحق على الوصول إلى حقه ، وإن كان من عنده المال ينكر ولا علم للقاضى فلا تسمع دعوى الزوجة .
وقول زفر ومذهب المالكية : أن الدعوى تسمع وتطلب منها البينة على المنكر ، فإن أثبتت الزوجية والوديعة أو الدين قضى لها بالنفقة فى المال المودع أو المستحق دينا .
الحالة الثالثة : إذا كان للزوج الغائب مال ليس من جنس النفقة ( ) فعلى القاضى أن يفرض لها نفقة على زوجها ، ولكن : هل يوفيها النفقة من ثمن هذا المال أو من ريعه ؟
مذهب الحنفية : تستوفى نفقتها من ريعه فلا يباع ، ومذهب المالكية وجمهور العلماء : يباع وإن كان عقارا إن لم يكن له مال غيره ، قال الدردير "وبيعت داره فى نفقتها إن لم يكن له مال غيرها ، ولو احتاج إليها لسكناه " ( ) .
وقد أخذ القانون المصرى بمذهب المالكية فى القضاء على الغائب الذى له مال ، وسوى فى الحكم بينه وبين الحاضر الذى له مال ظاهر وهو ممتنع عن النفقة ، وقرر فى الحالتين نفاذ الحكم عليه بالنفقة فى ماله.
وقد هجر القانون مذهب الحنفية إلى مذهب المالكية ، لما فى مذهب الحنفية من تشقيق ( ) ، وقد ظهر لك ذلك فى تعداد الحالات ، فضلا عن أن مذهب المالكية يجيز التطليق للإعسار على خلاف مذهب الأحناف ، وهى قضية سنتعرض لها فى الكتاب الثانى إن شاء الله .
وما أخذ به القانون المصرى فى نفقة زوجة الغائب الذى له مال ظاهر سواء كان تحت يد الزوجة أو بيد الغير أو بذمته أخذ به القانون اللبنانى (م 99) والأردنى (م 77)، والسودانى (174 ، 179) .
1- دين النفقة
إذا لزمت النفقة الزوج بالتراضى أو بالتقاضى ثبتت دينا فى ذمته لا يسقط إلا بالأداء أو الأبراء ( ) ، ولكن ماذا لو امتنع الزوج عن الإنفاق على زوجته مدة ما ثم رافعته إلى القاضى تطلب نفقة المستقبل ومتجمد ما مضى ؟
نوهنا من قبل أن العلماء فى هذه المسألة على فريقين :-
فالحنفية والإمام أحمد فى رواية : على أن النفقة تسقط بتأخيرها إذا لم يفرضها الحاكم ، لأن نفقة الماضى قد استغنى عنها بمضى وقتها ( ) .
وجمهور العلماء ( ) على أن ما وجب للزوجة لم يسقط بالتأخير ، وكان دينا فى ذمة الزوج ، سواء تركه لعذر أو بغير عذر ، إلا أن المالكية وابن حزم قالوا : إن تركها للإعسار سقطت ، وإن كان موسرا لا تسقط وتكون دينا فى ذمته ، دون توقف على تراض أو تقاض ( ) .
وقد بالغ الإمام ابن القيم فى الانتصار لقول الحنفية وما روى عن أحمد فى سقوط ما مضى " لأنها وجبت مواساة لإحياء نفس من هى فى حبسه ، فإذا استغنى عنها بمضى الزمان فلا وجه لإلزام الزوج بها ، وأى معروف فى إلزامه نفقة ما مضى ، وحبسه على ذلك …. ثم يقول وذلك منشأ العداوة والبغضاء بين الزوجين ، وهو ضد ما جعله الله بينهما من المودة والرحمة"( ).
وبنفس الحمية رد الإمام الشوكانى مؤيدا قول الجمهور فقال ؛ " وجبت نفقة الزوجة على زوجها بالنص والإجماع ، فمن ادعى أنه إذا مطلها وعصى الله بمطلها ، وخالف ما أوجبه الله عليه يكون ذلك مسقطا لما هو واجب عليه بيقين فقد ركب شططا ، وقال غلطا ، واخذ بطرف من تحسين الكلام وترويق العبارة كما فعله ابن القيم فى الهدى وتابعه على ذلك من اطلع على كلامه ، ثم هذه المراة المسكينة الممطولة مما فرضه الله لها ، وجعله حقا على زوجها لا يخلو إما أن تنفق على نفسها فى أيام المطل من مالها ، وذلك مما لم يوجبه الشرع عليها على تقدير أن لها مالا ، أو تنفق على نفسها دينا من مال غيرها ، فكيف يجب عليها قضاء ما هو حق على الزوج بالشرع الواضح والإجماع الصحيح؟"( ).
والحق مع الجمهور لأن النفقة حق ثابت فلا يتوقف على قضاء أو تصالح وقد انقسمت التقنينات العربية فى الأخذ بأى الاتجاهين :-
1- فالقانونان اللبنانى والأردنى ( ) أخذا بمذهب الحنفية ، فقررا أن " تلزم النفقة إما بتراضى الزوجين على قدر معين ، أو بحكم القاضى ، وتسقط نفقة المدة التى سبقت التراضى أو الطلب من القاضى .
2- بينما أخذت عامة التقنينات ( ) بمذهب الجمهور ، فقررت أن " يحكم للزوجة بالنفقة من تاريخ امتناع الزوج من الإنفاق الواجب عليه " .
ولكن هذه التقنينات عمدت إلى حصر المدة السابقة عن الطلب ، على أساس من فقه الواقع ، وأعملت فى ذلك القاعدة الشهيرة المعروفة بحق تخصيص القضاء ، وذلك بالمنع من سماع الدعوى عن أكثر من مدة معينة ، أو عدم الحكم بنفقة أكثر منها .
والغرض من هذا التقييد إغلاق باب الإدعاء الكاذب الذى قد لا تعدم الزوجات عليه دليلا ، والحيلولة دون تعسف الزوجات مع أزواجهن بإرهاقهم وإزعاجهم ، وذلك بالسكوت عن المطالبة بالنفقة لفترة طويلة ، ثم المطالبة عن كل ما يستحق عن كل هذه المدة ( ) .
وقد اختارت القوانين المقيدة للمدة أحد طريقين : -
أولهما :
المنع من سماع الدعوى عن مدة أكثر من سنة غايتها تاريخ رفع الدعوى، وبه أخذ القانون المصرى (م 1/7) .
والثانى :
عدم الحكم بأكثر من المدة المقررة ، ونص عليه فى القانونين السورى ، والسودانى ، غير أن الأول اعتبر أقصى مدة سابقة على الإدعاء أربعة أشهر ، والثانى : اعتبر أقصى مدة ثلاث سنوات ما لم يتفق الزوجان على خلاف ذلك. وزيادة على ذلك أوجب القانون السودانى شرطا للقضاء بنفقة ما مضى ألا وهو يسار الزوج . هذا بينما لم يحد القانون العراقى مدة للقضاء بنفقة ما مضى .
ولا شك أن هذا هو الأقرب للعدل ، وإن كان فى التقييد مزية احتياطا لحق الأزواج فإنه ينبغى ألا يصل إلى حد إهدار الحقوق بإغلاق باب القضاء دون أصحابها ، وقد اقترح أستاذنا الدكتور العطار ( ) تعديل نص القانون المصرى بعبارة " ويجوز للقاضى ألا يسمع دعوى النفقة عن مدة ماضية … إلخ " ليكون لقضائه أساس من خلو الدعوى من دليل يتعذر لتخلفه الوصول إلى الحقيقة ، واقترح أن يصاغ النص على غرار المادة 99 من اللائحة وهو " لا تسمع عند الإنكار دعوى إلخ " فيترك الباب مفتوحا أمام الزوج المدين للإقرار بما عليه من دين نفقة لمدة أطول من السنة .
وعلى كل حال فإن المنع من سماع الدعوى هنا قصر على نفقة الزوجية دون غيرها من النفقات الأخرى ( ) .
أثر القضاء بمتجمد النفقة :
إذا قضى للزوجة بنفقتها أو بمتجمد نفقتها ، ولم يقم الزوج بالأداء فما يحق للزوجة ؟
ذكر العلماء فى ذلك أمورا ( ) :
أولها :
" لا يلزمها تمكينه من الاستمتاع ، لأنه لم يسلم إليها عوضه فلم يلزمها تسليمه ، كما لو أعسر المشترى بثمن المبيع لم يجب تسليمه إليه ، وعليه تخلية سبيلها لتكتسب لها وتحصل ما تنفقه على نفسها ، لأن فى حبسها بغير نفقة إضرارا بها ، ولو كانت موسرة لم يكن له حبسها ، لأنه إنما يملك حبسها إذا كفاها المؤنة وأغناها عما لابد منه ، ولحاجته إلى الاستمتاع الواجب عليها ، فإذا انتفى الأمران لم يملك حبسها " ( ) .
وواضح فى هذا الحكم قياس الإعسار بالنفقة على الإعسار بالصداق ، يجامع أن امتناعها فى الحالتين امتناع بحق ، وقد اختصر الشوكانى تعليله فقال "وجوب طاعتها له وامتثال ما يأمر به ويطلبه منها إذا كان ممسكا لها بمعروف ، وإلا كان لها الامتناع حتى تخلص من حباله " ( ) .
ولا تعد بذلك ناشزا ، وقد سئل سنحون عن المرأة تنشز من زوجها الأيام بغضة له ؟ فأجاب : أن عليه النفقة ما غابت ، بمنزلة العبد الآبق على سيده نفقته فى إباقه ( ) وهذا على مذهبهم ما لم يكن معسرا بالنفقة .
وفرق الماوردى – فى مدة الإنظار – بين الليل والنهار ، فقال : لا يمنعها الخروج نهارا للتكسب ، وعليها أن ترجع إلى بيته ليلا ، لأن الليل زمن الإيواء ، ولا تمتنع عليه فى الليل ، وإلا صارت ناشزا ( ) .
ولم أقف على قول للحنفية فى ذلك ( ) وقياس المذهب أن النفقة صلة لا عوض ، فلا تمتنع عليه بإزائها ، لكنهم ذكروا أنها لا تخرج إلا لحق لها أو عليها( ) وبدهى أنه متى منعها كان لها أن تخرج بغير إذنه لطلب الرزق .
وقد أخذ فى مصر ( ) بقول الجمهور ، واعتبرت المذكرة الإيضاحية للقانون 100 لسنة 1985 أن خروج المرأة الذى تقضى به الضرورة كإشراف المنزل على الإنهدام ، أو الحريق ، أو إذا أعسر بنفقتها ، لا يعتبر سببا مسقطا لنفقتها ، ولا تعد به ناشزا .
وهذا فى رأيى صحيح إذا أعسر الزوج بالنفقة الحالة ، أما النفقة المتجمدة فقد صارت دينا فى ذمته ، فإن علم من حاله المماطلة كان لها كما قال الشوكانى " الامتناع حتى تخلص من حباله " وإن كان امتناعه لإعساره فقد أوجب الله سبحانه وتعالى إنظار المعسر ، وعليه لا يحق لها الخروج عن طاعته، وأرى أن امتناعها عندئذ إساءة لاستعمال الحق ( ) .
والثانى :
للزوجة أن تطلب الحجز على أموال زوجها بالنفقة الحاضرة ومتجمد النفقة ، ولها حق امتياز على جميع أموال زوجها بكل النفقة المستحقة ، وقد قدم القانون مرتبة هذا الامتياز على ديون النفقة الأخرى ، وهذا – كما تقول المذكرة الإيضاحية – أمر تقره قواعد فقه المذهب الحنفى ( ) .
الثالث :
إذا كانت الزوجة مدينة لزوجها بدين ، فإنه لا يقبل من الزوج أن يتمسك بالمقاصة بين نفقة الزوجة وبين دين له عليها مستحق الأداء إلا فيما يزيد على ما يفى بحاجتها الضرورية .
وهذا عند جمهور العلماء ( ) بخلاف الحنفية ، قال فى المبسوط " وإذا كان للزوج عليها دين فقال احسبوا لها نفقتها منه ، كان له ذلك ، لأن أكثر ما فى الباب أن تكون النفقة لها دينا عليه ، فإذا التقى الدينان تساويا قصاصا ، ألا ترى أن له أن يقاص بمهرها فالنفقة أولى "( ).
بل إن المذهب أنها لو طلبت هى التقاص لا تجب إلا برضا الزوج لسقوط دين النفقة – عندهم - بموت أحدهما ، وليس كذلك دينه فلا يتساويان ، وشرط التقاص التساوى ( ).
والصحيح هو قول الجمهور ، قال الماوردى " وإن كانت معسرة بالديون لم يجز أن يجعله قصاصا من نفقتها" لأمرين :
أحدهما : أن " المعسر بالدين يجب إنظاره إلى ميسرته ".
والثانى : أن عليه أن يقضيها بما فضل عن قوت يومه وليلته ( )، وقال ابن قدامة " ولأن قضاء الدين يجب فى الفاضل من قوته ، وهذا لا يفضل عنها"( ).
والرابع :
أن للزوجة أن تطلب إكراه الزوج بدنيا على الوفاء بالنفقة الحاضرة والمتجمدة ، وذلك بطلب تتقدم به إلى المحكمة المختصة ، وعندئذ يأمره القاضى بالوفاء بما لها من نفقة ، وأنه إذا لم يمتثل حكم بحبسه .
والحكم بحبس المدين المتعنت فى الوفاء مستساغ شرعا على أنه نوع عقوبة ، القصد منها حمله على الوفاء بالنفقة إن كان يملك ، أو الجد فى التكسب للأداء إن كان غير مالك .
وقد قال ابن حزم – وهو أشد الناس منعا من حبس المدين – " فإن كانت الحقوق من نفقات ، أو صداق ، أو ضمان ، أو جناية ، فالقول قوله مع يمينه فى أنه عديم ، ولا سبيل إليه ، حتى يثبت خصمه أن له مالاً ، لكن يؤاجر – لخصومه، أى إن لم يكن من سبيل لاستيفاء ما عليه من دين إلا أن يخدم صاحب الحق كأجير أوجر - .
وإن صح أن له مالا غيبه أدب وضرب حتى يحضره أو يموت ، لقول الله تعالى " كونوا قوامين بالقسط شهداء لله " ( ) وقال أبو سعيد الخدرى سمعت رسول الله  يقول " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده – الحديث ) وعن أبى بردة الأنصارى " أنه سمع رسول الله  يقول " لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا فى حد من حدود الله ".
فأمر رسول الله  بتغيير المنكر باليد ، ومن المنكر مطل الغنى ، فمن صح غناه ومنع خصمه فقد أتى منكرا وظلما ، وكل ظلم منكر ، فواجب على الحاكم تغييره باليد ، ومنع رسول الله  من أن يجلد أحد فى غير حد أكثر من عشرة أسواط ، فواجب أن يضرب عشرة ، فإن أنصف فلا سبيل إليه ، وإن تمادى على المطل فقد أحدث منكرا آخر غير الذى ضرب عليه فيضرب عشرة ، وهكذا أبدا حتى ينصف ويترك الظلم ، أو يقتله الحق وأمر الله تعالى "( ).
وواضح أن ابن حزم وإن منع الحبس إلا أنه أشد فى الحكم على المدين من جمهور العلماء الذين قالوا بإيقاعه عليه ( ).
ويجرى العمل فى مصر على النحو الآتى ( ): -
1- دعوى الحبس من اختصاص المحكمة الجزئية التى أصدرت الحكم ، أو التى بدائرتها محل التنفيذ .
2- يجب أن يثبت أمام القاضى امتناع المدعى عليه من تنفيذ الحكم ، الصادر بالنفقة .
3- لا يكون الحكم إلا فى النفقات وأجرة الحضانة أو الرضاع أو المسكن .
4- يجب أن يثبت أمام القاضى أن المدعى عليه قادرا على القيام بأداء ما حكم عليه من نفقة للمدعية ، واليسار الوارد بحكم النفقة يكون قرينة على قدرة المحكوم عليه .
ولا يؤخذ بهذه القرينة إلا فى فى حالتين : -
الأولى : غياب المدعى عليه فى دعوى الحبس .
الثانية : حضوره الدعوى دون أن يعترض على اليسار المنسوب له فى حكم النفقة ، أما إذا ادعى الإعسار وأثبته ، فإن القاضى يمهله ، ولا يكفى مجرد ادعاء الإعسار .
5- لا يجوز أن تزيد مدة الحبس عن ثلاثين يوما ( ) أما إذا أدى المحكوم عليه ما حكم به ، أو أحضر كفيلا ، فإنه يخلى سبيله ( ) .
6- رفع دعوى الحبس لا يمنع تنفيذ حكم النفقة بالطرق الاعتيادية .
7- دعوى الحبس ليست وسيلة من وسائل تنفيذ حكم النفقة ، وإنما هى دعوى للوصول إلى المقضى به نفقة ، ولم يجد التنفيذ فى الوصول إليه ، وفيها يتحقق القاضى من حالة الزوج الممتنع عن التنفيذ ، وهذا من الوقائع التى لا تبحث عند التنفيذ ، ولذلك يتعين عدم البدء بدعوى الحبس قبل أن تبدأ إجراءات التنفيذ أولا .
3- القضاء بنفقة مؤقتة .
استحدث المقنن المصرى فى القانون 100 لسنة 1985 ( ) والذى عدل به القانون 25 لسنة 1929 حكما مقررا منذ زمن فى القوانين العربية ( ) ألا وهو فرض نفقة مؤقتة للزوجة ولصغارها منه ، ونص عليه فى المادة 16 فقرة 2،3 على النحو التالى : " وعلى القاضى فى حالة قيام سبب استحقاق النفقة وتوفرت شروطه أن يفرض للزوجة ولصغارها منه فى مدى أسبوعين على الأكثر من تاريخ رفع الدعوى نفقة مؤقتة بحاجتها الضرورية بحكم غير مسبب واجب النفاذ فورا إلى حين الحكم بالنفقة بحكم واجب النفاذ .
وللزوج أن يجرى المقاصة بين ما أداءه من النفقة المؤقتة وبين النفقة المحكوم بها عليه نهائيا ، بحيث لا يقل ما تقبضه الزوجة وصغارها عن القدر الذى يفى بحاجتهم الضرورية" .
وتبرر المذكرة الإيضاحية هذا الحكم بأن ملحظه " ألا تترك الزوجة مدة قد يطول فيها التقاضى دون أن يكون لها مورد تعيش منه ، فكان من واجبات القاضى أن يبادر إلى تقرير النفقة المؤقتة بالمقدار الذى يفى بحاجتها فى ضوء ما استشفه من الأوراق والمرافعة ، ما دامت قد توافرت أمامه أسباب استحقاق الزوجة النفقة وتحققت الشروط " .
وقد طلبت هذا الحكم فى مظانه – مما أتيح لى من المصنفات الفقهية – فلم أقف عليه ، ولكنه يشبه – فى نظر البعض – أن يكون من قبيل تعجيل جزء من المستحق كنفقة زوجية ، أو نفقة صغار ، واستعجال أدائه ( ) وقد أجاز الحنفية التعجيل ( ) وهو قول جميع أهل العلم إن تراضيا عليه ( ) وقولهم أيضا فى الكسوة ونحوها مما يلزم أداؤه فى أول وقت الوجوب ( ) أما نفقة الطعام – وهو هنا الحاجة الضرورية – ففرضها لشهر هو قول الحنفية ( ) والحنابلة والشافعية وابن حزم وغيرهم على أنها تجب مياومة ( ) وقال المالكية تتعجل أولا بحسب حال الزوج ( ) .
وفى رأيى أن النفقة المؤقتة من قبيل دفع رمق المضطر ( ) ، لأن النفقة كحق محل منازعة ، وقد يكون الزوج ممتنعا عن الإنفاق لنشوز الزوجة ، فلا يكون القضاء بها تعجيلا لنفقة واجبة ، لأن الاستعجال فى الحكم بها لا يتيح الفرصة للقاضى أن يحقق الدعوى تحقيقا وافيا ، بل لا يلزمه ذلك ، إذ مبنى حكمه كما تفصح المذكرة الإيضاحية ما يستشف من الأوراق والمرافعة .
وعلى كل حال فإن النص شرط للحكم بالنفقة المؤقتة شروطا ( ) هى:
1- أن يتوافر شروط استحقاق النفقة بالنسبة للزوجة والصغار ، وهى – على المعمول به – الزواج الصحيح ، والبقاء فى العصمة ، والاحتباس على ذمة الزوج حقيقة أو حكما ، وصلاحية الزوجة للدخول بها ، وثبوت نسب الصغار من الزوج ، واحتياجهم .
2- أن تطلب الزوجة فى صحيفة دعواها صراحة فرض نفقة ضرورية مؤقتة .
3- أن تكون حالة الزوجة وصغارها من الزوج تستدعى فرضها ، وهذا الشرط خاصة هو ما يجعلنا نميل إلى اعتبارها من قبيل سد رمق المضطر .
4- أن يكون قد تم إعلان الزوج بطلب تقدير النفقة المؤقتة إعلانا قانونيا صحيحا.
وهذا الشرط الأخير بالذات يصرف الميعاد المنصوص عليه فى المادة 16/2 من إصدار الحكم بالنفقة المؤقتة فى مدى " أسبوعين على الأكثر من تاريخ رفع الدعوى " عن حقيقته ، إذ لا يتحتم أن يصدر الحكم فعلا خلال هذا الميعاد نظرا لظروف العمل ( ) ومقتضيات الإعلان ومواعيد الحضور ( ) وعليه لا يعدو هذا الميعاد أن يكون ميعاداً تنظيميا لا يترتب على مخالفته أى بطلان .
سادسا : مسقطات النفقة :
إذا ثبتت نفقة المرأة على زوجها فإنها لا تسقط فى قول عامة العلماء إلا بالنشوز على خلاف قول ابن حزم وبعض المالكية .
وفى رأى الحنفية فإن النفقة صلة والصلات ضعيفة فتحتمل السقوط بالموت والطلاق .
وفى رأى المالكية وابن حزم فإن من شرط وجوب النفقة يسار الزوج ، وعليه فإن أعسر الزوج بالنفقة سقطت عنه مدة إعساره ولا خلاف فى قول الجميع أن النفقة تسقط بالأداء والإبراء .
وفيما يلى نعالج أثر النشوز ، والموت ، والطلاق ، والإعسار على نفقة الزوجة .
أولا : النشوز
النشوز هو العصيان ، مأخوذ من النشز وهو ما أرتفع من الأرض والمرأة الناشز هى تستصعب على بعلها ، وأهل العلم على أن الناشز لا نفقة لها إلا أن تكون حاملا ، لأن النفقة عندئذ للحمل ، وهى واسطة ( ) .
والعلة فى قطع نفقتها أن الله سبحانه وتعالى أجاز للزوج معاقبة الناشز بالهجر والضرب ، وقطع حظها فى الصحبة – المعاشرة – بالهجر يجيز قطع كفايتها فى النفقة بطريق الأولى ، لأن الحظ فى الصحبة لهما وفى النفقة لها خاصة ( ) . أو يقال لأنها تركت ما هو حق عليها من الطاعة فجاز له أن يترك ما هو حق عليه من النفقة ( ) ، وذهب الحكم بن عتيبة من التابعين ، وابن القاسم من المالكية ، وابن حزم الظاهرى ، إلى أن النشوز لا يسقط النفقة ، بحجة أنه لم يرد فى الأدلة ما يدل على أن الزوجة إذا عصت زوجها سقطت نفقتها ( ) وقد ظهر من استدلال الجمهور رد هذا الزعم .
ومع هذا فإن القانون الليبى أخذ بقول ابن حزم ومن معه ، وهو مسبوق فى ذلك بمدونة الأحوال الشخصية المغربية التى ترى أن النشوز فى ذاته لا يسقط النفقة ، ونص الفصل 123 :
1- نشوز الحامل لا يسقط نفقتها .
2- نشوز غير الحامل لا يسقط نفقتها . غير أن للقاضى إيقاف نفقتها إذا حكم عليها بالرجوع إلى بيت الزوجية أو الفراش وامتنعت ، ولا يجوز الاستئناف فى إيقاف النفقة ما لم يقض بإلغاء الحكم ، وأخذت التقنينات العربية الأخرى بقول الجمهور فى النشوز ( ) وإن وقع بينها خلاف فى بعض صوره ، ولكن يبقى المفهوم المشترك للنشوز عندها وهو تفويت حق الزوج بغير عذر شرعى.
والمنصوص عليه فى مصر أنه :
1- لا تجب النفقة للزوجة إذا ارتدت ، أو امتنعت مختارة عن تسليم نفسها دون حق ، أو اضطرت إلى ذلك بسبب ليس من قبل الزوج .
2- ولا يعتبر سببا لسقوط نفقة الزوجة خروجها من مسكن الزوجية دون إذن زوجها فى الأحوال التى يباح فيها ذلك بحكم الشرع ، مما ورد به نص ، أو جرى به عرف ، أو قضت به ضرورة ، ولا خروجها للعمل المشروع ما لم يظهر أن استعمالها لهذا الحق مشوب بإساءة استعمال الحق ، أو مناف لمصلحة الأسرة ، وطلب منها الزوج الامتناع عنه .
ولم تنص التقنينات العربية – التى بين أيدينا – على الردة ، ولكن نظمها لن تخرج فى التطبيق على النهج المصرى ، لأن حكم الردة لا يختلف فيه ، قال الماوردى " ولا نفقة لها فى زمان الردة قولا واحداً ، لأن التحريم من قبلها بما لا يقدر الزوج على تلافيه ، فكان أسوأ حالاً من النشوز ، فإن لم تسلم حتى مضت العدة بطل النكاح ، وإن أسلمت قبل انقضائها كانا على النكاح واستحقت نفقة المستقبل بعد الإسلام "( ).
وقد نصت جميعها على امتناع الزوجة عن النقلة إلى بيت الزوج دون حق كسبب مانع من وجوب النفقة ( ).
ولكن التسوية بين الامتناع الإرادى والمنع من قبل الغير أو الامتناع اضطرارًا بسبب ليس من قبل الزوج لم يظهر إلا فى القانون المصرى والقانون العراقى الذى نص فى المادة 25/2 على أنه " لا نفقة للزوجة فى الأحوال الآتية ………. 1-إذا حبست فى جريمة أو دين " فأخذ القانونان فى ذلك بمذهب الحنفية( ).
بينما يبدو من التقنينات الأخرى أنها عزفت عن اعتبار هذا السبب أخذا بمذهب مالك من أن منعه من الاستمتاع لسبب ليس من جهتها كالحبس لا يسقط نفقتها ( ).
وأرى أن يعتد بالمانع الذى ليس من جهتها إن كانت ظالمة فى التسبب إليه ، فإن كانت معذورة فلا اعتداد به .
عمل المرأة خارج البيت
من أخطر القضايا التى تثير اللجج قضية عمل المرأة خارج البيت ، حيث يقتضى عملها هذا تفويت حق الزوج فى الاحتباس التام ، نتيجة غيابها عن البيت ساعات من النهار أو الليل بحسب ظروف العمل .
ولا يختلف قول الفقهاء أنها إن عملت بإذنه ورضاه فعملها لا يسقط من نفقتها شيئا ، لرضاه بالاحتباس الناقص ، كما لا يختلف قول الجمهور أنه إذا تزوجها وهى لا تعمل ثم عملت بعد زواجها دون إذنه أن ذلك يسقط نفقتها .
ولكن المشكل فى الأمر أن يتزوجها وهى عاملة ، أو يأذن لها فى العمل ابتداء ثم يطالبها بالقرار بالبيت بعد ذلك فترفض ، ما أثر ذلك على نفقتها ؟
أولاً : برز فى بعض مصنفات الفقه الحنفى أن المرأة إن كانت قابلة أو غاسلة أنها تخرج ولو بغير إذن زوجها ، ولا يسقط ذلك نفقتها ( )، ولكن هذا الحكم معلل بأنه خروج لفرض الكفاية ، أى الصالح العام ، والخروج للفروض الكفائية خروج بحق شرعى ( ).
وبغض النظر عن كون هذا الرأى مرجوح فى الفقه الحنفى لأن حق الزوج فرض عين ، فيقدم على الحق الكفائى ، فإن بعض علمائنا يرى أن ثمة "فرق بين الخروج والنفقة ، فإن النفقة جزاء الاحتباس ، وهو لا يتحقق ولو كان الخروج لفرض ، أما كون الخروج معصية أو طاعة فأمر أخر "( ).
والحق أننى لا أستطيب هذه التفرقة ، لأن الاحتباس يفوت بمشروع كالعبادات المفروضة ، والحقوق الواجبة ، والضرورات الداعية فلا تسقط النفقة وإن فات بغيرها سقطت ، إذن هناك ثمة ارتباط بين الداعى إلى التفويت وبقاء أو سقوط النفقة .
ثانياً : برز فى فقه الشافعية والحنابلة أن العلة فى سقوط نفقة الحرة بعملها خارج البيت أن الحرة يلزمها تمكين الزوج من نفسها ليلا ونهاراً ، فتكون بعملها مفوتة لحقه فيها ( ).
جاء فى عبارة الماوردى " والحرة بخلاف الأمة ، لأنه لم يشارك الزوج مستحق للخدمة ، فلذلك وجب عليها تسليم نفسها ليلاً ونهاراً .
فإن قيل – فهى – أى الحرة – مالكة لخدمة نفسها ، فهلا استحقت منع الزوج من نفسها فى زمان الخدمة ، وهو النهار كالأمة ؟
قيل : لأن الخدمة غير مملوكة عليها ، فصار فى تزويجها تفويت لحقها من الخدمة ، فخالف الأمة التى قد ملك منها الخدمة .
فإن قيل : فإن كانت الحرة قد أجرت نفسها للخدمة ثم تزوجت ، أيكون نهار الخدمة خارجا من استمتاع الزوج ، ويختص استمتاعه بالليل دون النهار ؟
قيل : نعم
ولو رامت – أى أرادت – الزوجة أن تؤجر نفسها بعد التزويج لم يجز لها ، لأنها قبل التزويج مملوكة الاستخدام ، وهى بعد التزويج مفوتة لحقها منه .
وإذا تقدمت الإجارة وكان الزوج عالما بها فلا خيار له ، وإن لم يكن عالما ، فله الخيار بين قيامه على النكاح وبين فسخه ، لأن تفويت الاستمتاع فى النهار عيب فاستحق به الفسخ ، فلو مكن المستأجر من الاستمتاع بها فى النهار ، لم يسقط حقه من الخيار ، لأن المستأجر متطوع بالتمكين ، فلم يسقط بتطوعه خيار مستحق "( ).
ومعنى كلام الماوردى التفرقة بين من تزوجت عاملة ، ومن تزوجت مخدرة – غير عاملة – فالأولى احتباسها ناقص ، والثانية احتباسها تام .
ويفرق فى حق زوج العاملة بين علمه المسبق بعملها ، وعدم علمه ، فيخير فى حال عدم العلم ، ولا خيار له فى حال العلم .
وواضح من كلامه أنه يرى الحرة التى تقدمت إجارتها – أى تزوجت عاملة – كالأمة ، وفى نفقتها وجهان ، الأظهر – منها – عنده أن عليه من نفقتها بقسطه من زمان الاستمتاع ، وهو قول الحنابلة فى نفقة الأمة ( ).
ثالثاً : وفى فقه أحمد إن اشترطت عليه ما ينقص الاحتباس فالشرط باطل، والعقد صحيح ، ونقل عنه الأثرم أن الشرط جائز ، ونقل عنه المروزى فى النهاريات والليليات ( ) قوله : ليس هذا نكاح أهل الإسلام .
وحكى ابن قدامة أن الحسن وعطاء كانا لا يريان بنكاح النهاريات بأساً.
وحقق القاضى مذهب أحمد فى نكاح النهاريات فقال : إنما كره أحمد هذا النكاح لأنه يقع على وجه السر ، ونكاح السر منهى عنه ( ).
ومعنى هذا أن اشتراط الاحتباس الناقص إن وقع على وجه العلن فإن الإمام أحمد لا يكرهه ، ويلزم الزوج على مذهبه الوفاء بشرطها لقول النبى  " إن أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج " وقول عمر  "مقاطع الحقوق عند الشروط "( ).
رابعاً : وفى مذهب الإمام مالك " محل سقوط النفقة عنه إن انتفت قدرته على ردها – يعنى الخارجة من البيت بلا إذن – ولو بالحكم ، وإن تمكن ولو بالحكم وفرط وجبت عليه النفقة ، وبقى من الشروط أيضا أن تكون ظالمة ، لا إن خرجت لظلم ركبها ، فلها النفقة ، ولا تسقط "( ) أقول : أليس من الممكن أن يقال إن ضعف قدرة الزوج على الوفاء بحاجات البيت نوع من الظلم ؟
وحاصل ما تقدم
أن من الحنفية من يرى أن عمل الزوجة الذى تقتضيه المصلحة العامة مشروع ، وخروجها إليه لا يسقط نفقتها .
ومن الشافعية من يرى أن من تزوج عاملة فقد رضى باحتباس ناقص ، ويلزمونه فى المقابل بنفقة ناقصة ، وهو قياس قول الحنابلة .
وأن فى مذهب أحمد من تزوج على الاحتباس الناقص لزمه ما تزوج عليه ، وبه قال الحسن وعطاء .
وقياس قول المالكية أن عمل المرأة خارج البيت إن دعت إليه الحاجة فلا تعد به ناشزة .
وعلى ذلك فإن ثمة اتجاهات فى المذاهب الأربعة لا يرى فى خروج المرأة للعمل المشروع افتياتا على حق الزوج.
وفى رأيى : أن التهوين من مصلحة البيوت مفسدة ، والتهويل من عمل المرأة فى شتى المجالات ، وفى كل الظروف إهدار للواجب الأهم ، ويبقى ما بين الإفراط والتفريط العدل ، والعدل كما أراه أن حاجة البيت إن سمحت بعمل المرأة فيما يحتاجه المجتمع فالمنع منه تعنت يأباه مبنى الشرع على التعاون ، والزواج على المسامحة والمكارمة ( ) ، وإن كان البيت فى حاجة إلى سيدته أو كان فى عملها امتهان لآدميتها وعفتها كمسلمة ، فخروجها إليه تفريط فى الأولويات ، واعتداء على الحرمات ( ) .
أما النفقة فإننى أرى أن أقرب الآراء إلى حكم الاحتباس هو ما اختاره الماوردى ، بمعنى أن عليها أن تسهم فيها بقدر ما انتقصت من احتباسها ( ) .
ويبقى فى القضية أهم مداخلها ، وهو أن تؤمن المرأة أن القرار فى البيت وتولى شئونه هو ما كرمت به ، وما جعلت الجنة تحت أقدامها إلا لدورها هذا ، أما عملها خارج البيت فهو عبء كفاها الشرع مؤنته ، ، وإنى لأتصورها كما تقول الدكتورة بنت الشاطئ رحمها الله غافلة عما يكاد لها باندفاعها المحموم إلى مزاحمة الرجال .
موقف القوانين
القانونان السورى والأردنى ينصان على أن " يسقط حق الزوجة فى النفقة إذا عملت خارج البيت دون إذن زوجها " ( ) والذى أفهم من هذا النص أن الزوج متى رجع عن إذنه ، كان خروج المرأة إلى العمل بغير إذن فتسقط نفقتها، لأن النص لم يحد ما إذا كان الإذن شرطا ابتداء ، أم شرطا بقاء ، ولما كان العمل دوريا والخروج إليه كذلك فإن مقتضى التجدد أن تكون الحاجة إلى الإذن متجددة.
واختار القانون السودانى كون عمل المرأة خارج البيت دون موافقة زوجها مسقطا لنفقتها ، ما لم يكن متعسفا فى منعها من العمل " م 75/ د " .
ومعنى ذلك أن عمل المرأة المشروع الذى لا يتعارض مع التزامات الزوجة المنزلية لا يسقط نفقتها وإن عارض الزوج فيه ، لأن معارضته عندئذ تعد من قبيل إساءة استعمال الحق ، وضابطها وفقا للمادة 29/2 مدنى سودانى "ج- إذا كانت المنفعة من استعمال الحق لا تتناسب مع ما يصيب الغير من ضرر. " " د- إذا تجاوز – استعمال الحق – ما جرى عليه العرف والعادة". علما بأن من القواعد التى ارتضاها قانون الأحوال الشخصية السودانى وأوجب مراعاتها فى العمل قاعدة " من سعى فى نقض ما تم من جهته فسعيه مردود عليه " ( م 6/ ل ) وإعمالها هنا يعنى إبطال كل تصرف يرمى إلى نقض الموافقة السابقة ، كطلب الزوج تغيير مواعيد عمله هو تحايلا على طلب احتباس الزوجة فى البيت وقت راحته ، على النحو الذى يتعارض مع مواعيد عملها .
وفى مصر اعتبرت المادة الأولى من القانون 25 لسنة 1920 والمستبدلة بالقانون 100 لسنة 1985 فى فقرتها الخامسة خروج المرأة للعمل المشروع من قبيل الخروج الجائز الذى لا يسقط نفقتها " ما لم يظهر أن استعمالها لهذا الحق المشروط مشوب بإساءة استعمال الحق ، أو مناف لمصلحة الأسرة وطلب الزوج الامتناع منها " .
وفسرت المذكرة الإيضاحية لفظة المشروط بأنه " إذا أذنها الزوج بالعمل ، أو عملت دون اعتراض منه ، أو تزوجها عالما بعملها " وعلى ذلك يكون عمل الزوجة جائزا فى مصر بالشروط الآتية ( ) :-
1- أن يكون العمل مشروعا ، ووصف المشروعية مسكوت عن تفسيره فيرجع فيه إلى أرجح الأقوال فى المذهب الحنفى .
2- ألا يكون خروج الزوجة لهذا العمل مشوبا بإساءة استعمال الحق ، ومن صور الإساءة أن تفرط فى حشمتها عند خروجها ، أو يكثر خروجها بحجة العمل لغير سبب مقنع .
3- ألا يكون فى خروجها منافاة لمصلحة الأسرة .
4- إن يثبت حق الزوجة فى العمل باشتراطه فى عقد زواجها ، أو بعلم الزوج بعملها ورضاه به صراحة أو ضمنا ، ومن قبيل الرضا أن يتزوجها عالما بكونها عاملة ، أو عملت بعد الزواج دون أن يبدى اعتراضا .
فإذا اختلت هذه الشروط أو بعضها وطلب الزوج امتناعها عن العمل ، أجابه القضاء إلى ذلك إذا ثبت عنده ما يدعى .
ومن أحدث التطبيقات القضائية فى هذا الخصوص ، ما قضت به محكمة القضاء الإدارى ( ) – الدائرة الأولى – فى الدعوى رقم 8242 لسنة 53 ق بجلستها فى 20/7/1999 ، وقد جاء فيه "إن الدستور أقر حرية المواطن فى التنقل من مكان إلى آخر ومن جهة إلى أخرى داخل البلاد أو السفر خارج البلاد، إلا أن هذه الحرية ليست مطلقة وإنما يجب أن تمارس فى حدود التشريعات المنظمة لهذا الحق نزولاً على مقتضيات المحافظة على صالح الدولة ، والمتثمل فى وجوب اتخاذ الإجراءات الواجبة للمحافظة على أمنها فى الداخل والخارج ، وفى وجوب أن تكون علاقاتها الخارجية طيبة مع الدول الأجنبية ، لذا خول المشرع وزير الداخلية سلطة إصدار قرار برفض منح جواز السفر أو تجديده أو سحبه بعد إعطائه بشرط أن يكون قراره فى هذا الصدد قائماً على أسباب هامة ، وحيث أنه وإن كان وزير الداخلية يتولى فى هذا الشأن سلطة تقديرية واسعة إلا أن هذه السلطة ليست مطلقة ، بل تخضع لرقابة القضاء للتثبت من أن استخدامها إنما قصد به تحقيق المصلحة العامة ، وأن الأسباب التى استند إليها القرار لها أصول ثابتة فى الأوراق تنتجها مادياً وقانونياً .
ومن حيث أن وزير الداخلية قد أصدر القرار رقم 2937 لسنة 1996 متضمناً أنه يشترط لمنح الزوجة جواز سفر أو تجديده موافقة زوجها على سفرها إلى الخارج ، وحيث أن هذا القرار مستمد من حكم الشريعة الإسلامية التى أوجبت ألا تخرج الزوجة من منزل الزوجية إلا بإذن زوجها .
ومن حيث إن الشريعة الإسلامية قد أقامت توازناً دقيقاً - بالنسبة للحقوق والالتزامات المترتبة على عقد الزواج – حينما جعلت حقوق الزوجية وواجباتها متقابلة ، وإذا فرضت على الزوج التزاماً بالإنفاق على زوجته فى حدود استطاعته أوجبت فى مقابل ذلك على الزوجة طاعته ، ومن مظاهر هذه الطاعة أن تقيم معه بالمسكن الذى أعده لها ، طالما توافرت فيه الشروط الواجب توافرها فى المسكن الشرعى ، ويشترط أن يقيم زوجها معها فى هذا المسكن .
ومن حيث أن حق العمل مكفول فى الشريعة الإسلامية سواء للرجل أو للمرأة على حد سواء حفاظاً للكرامة الاقتصادية لكل منهما ، بشرط أن يكون عملاً شريفاً ، وفى استطاعته أن يقوم بهذا العمل ويناسبه ، وأن يقصد الخير ، ولا ينتج عنه أى شر ، تطبيقاً لقول الله تعالى سبحانه وتعالى " ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون " (سورة النحل آية 97) ومن ثم يجوز للمرأة المسلمة أن تمارس أى مهنة شريفة سواء داخل منزلها ، أو خارجه بشرط التزامها بآداب الشريعة الإسلامية ، إلا أنه بالنسبة للزوجة المسلمة فالأصل أن لا يجوز لها الخروج إلى العمل إلا بعد حصولها على إذن زوجها ، لكون استقرارها فى منزلها أفضل ، حتى تتفرغ لتربية أولادها ورعاية شئون أسرتها ، وتنفيذاً لواجبها نحو حق زوجها عليها فى الاحتباس الكامل ، ومن الجدير بالذكر أن حق الزوج سالف الذكر الذى قررته له الشريعة الإسلامية لا يراد به حبس الزوجة فى المنزل ، أو التضييق عليها ، وإنما الهدف منه حماية الأسرة المسلمة من التفكك والانحلال ، والقضاء على التبرج وفساد الأخلاق ، ولحفظ الأنساب فضلاً عن حفظ الزوجة المسلمة من الآفات والأمراض الاجتماعية السائدة فى المجتمع ، فملازمتها لمنزلها يخلصها من تلك البلايا - ولكن لا يعنى ذلك عدم خروجها بدون إذن زوجها ، وذلك فى حالات الضرورة التى تدعوها للخروج من منزلها، بشرط ألا تخرج على وجه ينافى الآداب ويجافى الفضيلة .
ومن حيث أن الشريعة الإسلامية أجازت للزوج أن ينتقص من حقه على زوجته فى الاحتباس الكامل، وذلك إذا ما ارتضى صراحة أو ضمناً خروج زوجته للعمل ، ومكتفياً بهذه الصورة من الاحتباس الناقص لتحقيق مقاصد النكاح ، فإن استمرار الزوجة فى العمل يكون حقاً مكفولاً لها ، إلا أن استمرارها فى مباشرة عملها يدور وجوداً وعدماً مع كون عملها مشروعاً فى ذاته ، وأن تكون ملتزمة بآداب الشريعة الإسلامية، ومحتشمة فى مظهرها ومسلكها ، ولا تتعمد الإثارة أو تنشد الفتن ، وألا يكون استعمالها لهذا الحق مشوباً بإساءة استعمال الحق ، وأن لا يكون عملها منافياً لمصلحة الأسرة ، وذلك على النحو الذى قررته المادة الأولى من القانون رقم 25 لسنة 1920م المعدل بالقانون رقم 100 لسنة 1985م سالف الذكر - ومن لا يجوز للزوج الرجوع فى موافقته على خروج زوجته للعمل بغير مسوغ شرعى ، طبقاً لنص المادة سالفة الذكر ، حيث أن الشريعة الإسلامية أوجبت ألا تستخدم الحقوق الزوجية بقصد المضارة ، أى أن يلحق أحد الزوجين الضرر بالآخر .
ومن حيث أنه متى ثبت من ظاهر الأوراق أن المدعية كانت تعمل بوظيفتها (سالفة الذكر) قبل زواجها بالمدعى عليه الثالث ، والذى وافق على استمرارها فى عملها ، حيث ثبت فى قسيمة عقد الزواج أنها تعمل موظفة ، واستمرت محتفظة بعملها بعد زواجها ، واستخرجت جوازى سفر باسمها أثناء قيام رابطة الزوجية بينهما ، وثابت فيهما وظيفتها المذكورة ، مما يدل على أن هناك موافقة صريحة من الزوج بعمل زوجته وبرضائه بهذا العمل ، وقبوله بالاحتباس غير الكامل لزوجته ، فضلاً عن علمه التام بطبيعة عمل زوجته ومقتضياته ، وأن مباشرتها لهذا العمل لا تتعارض مع قيامها بواجباتها نحوه ، بدليل أنه قد وافق على استخراج جواز سفر لها ، والذى يبين من مطالعته تعدد سفرياتها إلى العديد من الدول ، ثم اهتز حبل المودة بين المدعية وزوجها وأوصلتهما الخلافات إلى تقدمها ببلاغ ضده إلى النائب العام كما سلف البيان ، وكرد فعل لهذا المسلك من جانبها تقدم المدعى عليه الثالث عن طريق وكيله إلى مصلحة وثائق السفر والهجرة والجنسية لسحب موافقته السابقة على استخراج جواز سفر زوجته ، مما يدل على أن هذا المسلك من جانبه لم يكن مبعثه مصلحة الأسرة، ورغبته من أن تتبعه زوجته إلى مكان إقامته الجديد ، على النحو الذى صوره فى مذكرة دفاعه آنفة الذكر .
وبذلك يكون القرار المطعون فيه بحسب الظاهر من الأوراق غير قائم على سبب صحيح يبرره شرعاً وقانوناً ، مما يرجح الحكم بإلغائه عند نظر موضوع الدعوى ، الأمر الذى يتوافر معه ركن الجدية فى طلب وقف تنفيذه فضلاً عن توافر ركن الاستعجال ، لكون الاستمرار فى تنفيذ القرار الطعين يترتب عليه إصابتها بضرر جسيم يتعذر تداركه ، يتمثل فى فصلها من وظيفتها نتيجة استمرار انقطاعها عن عملها ، وضياع حقوقها المالية مما يعرضها لخسارة مادية جسيمة ، فضلاً عن صعوبة حصولها على عمل مماثل ".
ثانياً : أثر الموت على النفقة
لا شك أن نفقة الزوجة الحالة تسقط بموتها هى ، ولكن هل تسقط كل نفقتها الحالة بموت زوجها ؟ وما أثر موت أيهما على متجمد النفقة السابقة ؟
1-إذا مات الزوج لزم الزوجة عدة الوفاء ، وأول واجبات المتوفى عنها زوجها التربص أربعة أشهر وعشرا إن كانت حائلا وحتى تضع حملها إن كانت حاملاً .
وقد فسر التربص : بالتأنى والتصبر عن النكاح ، وترك الخروج عن مسكن النكاح ، وذلك بألا تفارقه ليلا ( ).
ومذهب الحنفية أن المتوفى عنها زوجها لا نفقة لها فى مطعم أو مسكن، حاملا كانت أو حائلا ، وبه قال جمهور العلماء فى غير المسكن ( ).
ووجهه : أن النفقة حق شخصى مستمد من العقد ، وقد انتهى العقد بوفاة الزوج ، فلا مسوغ لإيجاب النفقة عليه ، أما السكنى فهى حق الشرع لأنها تلزم للتربص فلا تلزم فى تركة الزوج .
وعلى ذلك إن كان نصيب الزوجة فى بيت زوجها يكفيها لسكناها فى العدة ، أو لا يكفيها ولكن رضى ورثة الزوج بسكناها ، دون أن يكون فى ذلك خلوة بأجنبى ، اعتدت فى مسكن الزوجية ، كما لها أن تعتد فى مسكن الزوجية إن كان مكرى – مستأجرا – وكان الزوج قد عجل الكراء بما يستغرق مدة العدة، على أساس أن النفقة المعجلة لا تسترجع .
وذهب الهادى وجماعة إلى أن للمتوفى عنها زوجها كامل نفقتها فى تركته ، تستوفيها قبل الميراث ( ) ، ودليلهم على ذلك قول الله تعالى " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج"( ).
قالوا : نسخ من هذه الآية ما زاد على مدة التربص بقول الله تعالى "يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا "( ) ولم ينسخ حكم النفقة المقرر بقوله تعالى " متاعا ".
وقالوا : ولأنها محبوسة بسببه فتجب نفقتها ( ).
وحكى عن الجعفرية التفرقة بين الحامل والحائل ، أما الأولى فلها النفقة للحمل ، وأما الثانية فلا نفقة لها ( ).
أما المسكن :
فمقابل الأظهر عند الشافعية ، ورواية عن أحمد ، وهو قول بعض الصحابة ، كقول الحنفية ، على اعتبار أن السكنى تجرى مجرى النفقة ، والنفقة لا تجب فكذلك السكنى ( ) .
وقول مالك وأظهر قولى الشافعى ورواية عن أحمد وكثير من الصحابة والتابعين والفقهاء أن لها السكنى ( ) لما جاء فى حديث الفريعة أن النبى  قال لها " أمكثى فى بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله " ( ) فأمرها بالسكنى فى بيتها من غير استئذان الورثة ، ولو لم تجب السكنى لم يكن لها أن تسكن إلا بإذنهم ، كما أنها ليس لها أن تتصرف فى شئ من مال زوجها بغير إذنهم .
وعلى قول الجمهور : يتقدم حق الزوجة فى السكنى على حق الورثة والغرماء حتى تنقضى عدتها ، وإن تعذر ذلك المسكن فعلى الوارث أن يكترى لها مسكنا من مال الميت ، فإن لم يفعل أجبره الحاكم ، وليس لها أن تنتقل من مسكنها إلا لعذر .
وقد خلت أكثر القوانين من النص على نفقة المتوفى عنها زوجها ، ومن ثم يطبق الراجح فى المذهب الحنفى ، وقد علمت أنه لا يوجب لها نفقة ولا سكنى، ولم يخالف فى ذلك فيما طالعت إلا القانون السودانى الذى نص على أن " تستحق معتدة الوفاة السكن فى بيت الزوجية مدة العدة ، ما لم تخرج منه برضاها " (م74) وأشار بعض الباحثين ( ) إلى أن القانون الأردنى كالقانون السودانى .
2- أثر الوفاة فى دين النفقة
عرفنا فيما سبق أن الأحناف ورواية عن أحمد يقولون لا تلزم النفقة إلا بالتراضى أو التقاضى ، بخلاف جمهور العلماء ، ومبنى قول الحنفية أن النفقة صلة والصلات لا تلزم بنفسها ، وإنما يجب أن تتقوى بتراض أو تقاض .
وإن لزمت بالتراضى أو التقاضى فقد قالوا إن أمرها الزوج أو القاضى بالاستدانة فاستدانت فدينها لا يسقط إلا بالأداء أو الإبراء ، لأن استدانتها وقعت نيابة عنه فتلزمه .
وإن لم يكن أمر بالاستدانة فأنفقت من مالها أو استدانت فدينها ضعيف فيسقط بالموت ( ) وجمهور العلماء على أن دين النفقة قوى لا يسقط إلا بالأداء أو الإبراء ( ) .
وقد هجرت التقنينات الحديثة مذهب الحنفية إلى مذهب الجمهور ولم يشذ منها فيما طالعت إلا القانونان المغربى والسودانى ( ) اللذين نصا على انقضاء الالتزام بنفقة الزوجة فى حالات : "الأداء ، والابراء ، وفاة أحد الزوجين" . ولم يرد فى القانونين ما يشير إلى التفرقة بين النفقة الحالة والقدر المتراكم من النفقة .
ثالثا : الطلاق
سيأتى الكلام مفصلا فى نفقة المطلقة الحالة ، أما متجمد نفقتها ، فالجمهور على أنه لا يسقط بالطلاق ( ) ، واختلف فى حكمه الحنفية ، فرجح بعضهم سقوط المتراكم بالطلاق كالموت ما لم يكن مستدانا ، ورجح بعضهم عدم السقوط مطلقا ، وأفتى البعض بعدم السقوط بالطلاق الرجعى كى لا يتخذ الناس ذلك حيلة ( ) .
وعلى كل حال فإن التقنينات الحديثة هجرت مذهب الحنفية فى هذا الباب تماما ، مع ملاحظة أن بعضها كالقانون السورى واللبنانى والأردنى يشترط لعدم السقوط أن تكون النفقة مفروضة ، فإن لم تكن فإنها تسقط ( ) .
رابعا : الإعسار
إن أعسر الزوج بنفقة زوجته سقطت عنه فى قول مالك وأهل الظاهر( ) لقول الله تعالى " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " ( ) وقوله " لا يكلف الله نفسا إلا ما أتاها " ( ) قال ابن حزم " فصح يقينا أن ما ليس فى وسعه ، ولا أتاه الله تعالى إياه ، وما لم يكلفه الله تعالى فهو غير واجب عليه ، وما لم يجب عليه فلا يجوز أن يقضى عليه به أبدا ، أيسر أو لم يوسر ".
وقال جمهور العلماء ( ) تجب دينا فى ذمته ، لأنها حق يجب مع اليسار والإعسار ، ولأنها عوض واجب فأشبهت الأجرة ، وغاية ما أمر الله به فى المعسر إنظاره ، قال تعالى " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " ( ) .
وعلى قول الجمهور فإنها تلزم بمجرد الامتناع ، وقال الحنفية ورواية عن أحمد ، لا تلزم إلا أن يفرضها الحاكم .
وفى رأيى : أن قول الجمهور أقوى ، لأن ظاهر قول الله تعالى " لا يكلف الله نفسا إلا ما أتاها " فى قدر النفقة لا فى أصلها فالموسع ينفق من سعته ، ومن قدر عليه رزقه ينفق مما آتاه الله .
على أن القول بعدم سقوط النفقة يحث المعسر على الكسب للوفاء بدينه ، والزوجة على الصبر طمعا فى الاستيفاء .
وينبغى أن يعلم أن مذهب المالكية وابن حزم سقوط النفقة الحالة بالإعسار ، أما النفقة الماضية إن لزمت فى اليسر فإنها لا تسقط وإن
أعسر من بعد .
ولم يأخذ بمذهب مالك وأهل الظاهر إلا القانونان الليبى والسودانى ، بل غالى القانون الليبى فأوجب على الزوجة الموسرة الإنفاق على زوجها المعسر ، وقد تقدم ذكر ذلك .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واهتدى بهديه إلى يوم الدين . .
BAHRAIN LAW
مدير الموقع
مدير الموقع
 
مشاركات: 758
اشترك في: الأربعاء سبتمبر 17, 2008 5:36 pm
الجنس: ذكر


العودة إلى مسائل الاحوال الشخصية

 


  • { RELATED_TOPICS }
    ردود
    مشاهدات
    آخر مشاركة

الموجودون الآن

المستخدمون المتصفحون لهذا المنتدى: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين و 25 زائر/زوار